9 مصاحف

9 و 12 مصحف

 

Translate

الخميس، 31 ديسمبر 2020

ذكر الموت



ذكر الموت ما من شك أن ذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويوقظ القلوب الغافلة، ويقصر العبد أمله في الدنيا، ويحمله على الطاعة والانقياد لأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم. والغفلة عن ذكر الموت يحمل العبد على الجرأة على الله، فيبارزه بالمعاصي، حتى يقسو قبله قسوة مخيفة لا يفهم بعدها موعظة أو نصيحة، وهنا الخطر. والمرأة الصالحة هي التي تنظر إلى الموت نظرة المعتبرة المتذكرة لنهايتها في هذه الدنيا، فتستقيم جوارحها بطاعة الله تعالى. قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]. وقال تعالى أيضًا: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99 - 100]. وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك[1]. وينصحنا أويس القرني فيقول: يا أهل الكوفة توسدوا الموت إذا نمتم، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم. وهذا الحسن البصري يقول: المبادرة المبادرة، فإنما هي الأنفاس، لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم، إنكم أصبحتم في أجل منقوص، والعمل محفوظ، والموت -واللهِ- في رقابكم أو النار بين أيديكم، فتوقعوا قضاء الله عز وجل في كل يوم وليلة. لقد فضح الموت الدنيا، فلم يترك لذي لب فرحًا. وإن أمرًا هذا الموت آخره، لحقيق أن يزهد في أوله. وإن أمرًا هذا الموت أوله، لحقيق أن يخاف آخره. وعندما ننصح المرأة الصالحة بتذكر الموت، فإن ذلك لا يعني أنها ستعيش مهمومة حزينة طيلة حياتها، لا تتمتع بما أحل الله تعالى لها من الطيبات؛ لا، بل ذكر الموت المراد منه جمح الجوارح عن المعاصي وتقييدها بطاعة الله. وصدق الحسن البصري إذ يقول: إنك - والله - لأن تصحب أقوامًا يخوفونك حتى تدرك أمنًا، خير لك من أن تصحب أقوامًا يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف. وكذلك يقول ابن الجوزي رحمه الله: إذا رأينا أرباب الدنيا غلبت آمالهم، وفسدت في الخير أعمالهم، أمرناهم بذكر الموت إلى كم أقول ولا أفعلُ؟ وكم ذا أحوم ولا أنزلُ؟ وأزجر عيني فلا ترعوي وأنصح نفسي فلا تقبل وكم ذا تعلل لي ويحها بعل وسوف وكم تمطل؟ وكم ذا أؤمل طول البقا وأغفل والموت لا يغفل وفي كل يوم ينادي بنا منادي الرحيل ألا فارحلوا كأن وشيكًا إلى مصرعي يساق بنعشي ولا أمهل فعلى المرأة المسلمة المبادرة بالتوبة من الذنوب الماضية والحاضرة، صغيرها وكبيرها، وتتفكر فيما يقربها إلى الله، وتنجو به في الدار الآخرة، ولتكثر من ذكر الله تعالى، وتجتنب المناهي كلها، وتصبر نفسها، وتسأل الله الثبات بالقول الثابت حتى الممات. فبادر متابًا قبل يغلق بابه تطوى على الأعمال صحف التزود ومثل ورود القبر مهما رأيته ♦♦♦ لنفسك نفاعًا فقدمه تسعد والخوف من سوء الخاتمة أيضًا يحمل المسلمة على المسارعة إلى العمل الصالح، فهي لا تدري بم يختم لها. (وقد خذل كثير عند الموت، فمنهم من أتاه الخذلان من أول مرضه، فلم يستدرك قبيحًا مضى، وربما أضاف إليه جور في وصيته، ومنهم من فاجأه الخذلان في ساعة اشتداد الأمر: فمنهم من كفر، ومنهم من تعرض وتسخط، نعوذ بالله من الخذلان. وهذا معنى سوء الخاتمة، وهو أن يغلب على القلب عند الموت الشك أو الجحود، فتقبض النفس على تلك الحالة، ودون ذلك أن يتسخط الأقدار)[2]. وسوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهرها، وصلح باطنها، وإنما يكون لمن كان لها فساد في العقل، أو إصرار على الذنب، أو إعراض عن الحق، وربما غلبها ذلك، وهي لا تزال تؤمل في الدنيا، حتى ينزل بها الموت قبل التوبة وتدارك ما فات. فمن أرادت طريق السلامة فعليها بتقوى الله، والحذر من أسبابها، وإصلاح نفسها، والمسارعة بالتوبة والعمل الصالح، فإن العمر قصير، وكل نفس من أنفاسك بمنزلة خاتمتك. [1] رواه البخاري وغيره. [2] الثبات عند الممات لابن الجوزي رحمه الله
.من الالوكة

لحظات قبل الموت

لحظات قبل الموت


لا يهمُّه المكان؛ فالأرضُ أرض الله، وكلُّ مَن مشى فوقها اليوم، غدًا يَصير تحتها، لا حول له ولا قوَّة!



ولا يهمُّه الزَّمان؛ فمهما طال سيَنقضي، وحين يَنقضي لا يَنفع ندَم، ولا تُعيد الأملَ الحسراتُ؛ فهو الآن في وضعٍ أقصى ما يفكِّر فيه هو نفسه.



عادَت ذاكرتُه إلى الوراء؛ فرأى مرآةَ حياته تتجلَّى بين عينيه كالشَّمس في كبِد السَّماء، رأى حالَه حين احتقَر المعاصي، وارتكب الفظيعَ من الذُّنوب، ولم تحدِّثه نفسُه بالتوبة؛ فها هو ذا قد اختلى بفتاة، ويَعلم الله ما يَفعلان، وقد علَت أساريره ابتسامةٌ، متناسيًا يوم الحساب، يَندم الآن، وما يَنفع النَّدَم، فيا ليت شِعري! ويا ليتني لم أختَلِ!



تعدَّدَت في عينيه المصائبُ والطامَّات، تبدو له كأنَّها صفائح من حديدٍ تكوي جبينَه وتقرضُه، تمنَّى لو كانت الدنيا رحيمةً، وما هي برَحيمة، حتى تعود لأجله وتنفِّس بجميلها عن كربه، فيعدل عمَّا فعَل، لكن وا أسفاه!



ها هو ذا يرى نفسَه قد جشمَته الذُّنوبُ، لم يستَحِ من الله، وما استحى من أمِّه وأبيه، وزوجه وبنيه، ويا ليته تزوَّج فأُحصِن، فتستَّر بسِتار العَفاف والطَّهارة فغَضَّ الطَّرْفَ، وأسدل عليه برنسَ التقوى؛ لكنَّه مسكين بالِغ لم تَكد حاسبة عمره تتعدَّى الثامنة عشرة، فشاء الله له أن تَصدمه السيَّارة، فيا ليتها عظُمَت، وما بلاء وعظَمُ بلاء السيارة ذي بجَلَلٍ؛ بل إنَّ الدنيا لأَعظم حادثة تَحصل، فتصدم التقيَّ بفِتنتها، وتوقِع المستقيمَ في مكايدها، وتطيل الأمدَ في أعين الغافلين، وتطفئ إنارةَ المستبصرين، أليست هذه أعظم حادِثة؟!



الشاب يلفظ أنفاسَه الأخيرة، وهو متحسِّر وما تَنفع حسرتُه، ذليلٌ وقد كان يظنُّ العزَّةَ، بخيل كان يَضنُّ على الصَّلاة فلا يقيمها، فاليوم تموتُ وأنت حَسير، وتموت والنَّاس ترثيك؛ هذا فلان كان في الدنيا نشيطًا، كان فلان لا يمرُّ على مَجلس إلَّا وأضحك القومَ، فاليوم غِبتَ عنهم، وذهبتَ مسافرًا بلا رجعة، فيدفنونك وتُقبَر، وحياتك للنَّاس بعد موتك عِبرة، وتذرف الأنامُ عليك الدموعَ، وتوقظ سيرتُك في قلوبهم الشموع، فما يَنفعك أن تكون للناس جسرًا، يمرُّون عليه فيهوي.



وأخيرًا، وبدون عناء دائم أو عذاب، فالموتُ واحِد وقد تعدَّدَت الأسباب، أخذَت الجندُ الروحَ، وبقيَت جثَّته هامِدة سامدة، نتنةً سمجة، ويا ليته يَعلم أنَّ حياته الحقيقية قد بدأَت للتوِّ، فما عاش إلَّا التمهيد.



ليتنا لا نكون مثل هذا الذي مات، ليتَنا لا نكون كسائر العُصاةِ، ليتنا إذا قارَفنا ذنبًا استشعَرنا اللهَ، وإذا خلَونا قلنا: علينا رقيبٌ.



بالله عليك أيها الشابُّ التائه، الذي في ظُلمات الشَّهوات قد تاه، لا يلهينَّك - وإيَّاي - طولُ الأمَد، ولا تَجعل الدنيا أكبرَ همِّك؛ فإنَّها كالتي تَكفر العَشير، فاحذر وابتغِ طلبها لأجل الزَّاد، وأن تكون جسرًا تَعبر به إلى الجنَّة، سبيلًا.



فكم من مذنِب أذنب وأطنَب في ذلك، حتى أتَت زفراتُه الأخيرة تَحمل في طيَّاتها ما خزنه الدَّهر! فلِم التأخُّر؟! بل عجِّل بالتَّوبة إن كنتَ تقرأ، فلا أعلم ولا تَعلم متى نَموتُ، ولا أين نموت، ولا كيف سنموتُ؟! بل كل ما نَعلمه أنَّ غدًا أو في هذه اللحظة يُطفأ زِرُّ حياتنا، ليُفتح مقبسٌ آخر يريك مسارَك الجديد، حياة جديدة، فيها اثنان لا ثالث لهما؛ إمَّا نعيم الجنَّة، أو سعير النَّار.


خطبة قصيرة عن الموت

 من الالوكة

   خطبة قصيرة عن الموت




الْخُطْبَةُ الْأُولَى

عِبَادَ اللهِ! حَدِيثُنَا الْيَوْمَ عَنْ سَاعَةٍ وَلَحْظَةٍ حَاسِمَةٍ لَا تَتَكَرَّرُ، سَيَمُرُّ بِهَا كُلٌّ مِنَّا، شَاءَ أَمْ أَبَى! إِنَّهَا سَاعَةُ الْـمَوْتِ! وَالِانْتِقَالُ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ، قَالَ اللهُ - جَلَّ فِي عُلَاهُ -: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185]؛ فَالْمَوْتُ نِهَايَةُ كُلِّ مَخْلُوقٍ:

كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ *** يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ



فَسَاعَةُ الْمَوْتِ، سَاعَةٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ - كَائِنًا مَنْ كَانَ - أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَلَوْ لِسَاعَةٍ، حَتَّى يَتَدَارَكَ مَا فَاتَهُ، وَيُصَحِّحَ مِنْ أَوْضَاعِهِ، قَالَ اللهُ: ﴿ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [يس: 50]؛ فَهِيَ تَأْخُذُهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ فِي جِدَالِـهِمْ وَخِصَامِهِمْ فِي مُعْتَرَكِ الْحَيَاةِ، لَا يَتَوَقَّعُونَهَا، وَلَا يَحْسِبُونَ لَهَا حِسَابًا، فَإِذَا هُمْ مُنْتَهُونَ، كُلٌّ عَلَى حَالِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوصِيَ لِـمَنْ بَعْدَهُ، وَلَا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَيُوصِيهِمْ بِمَا فِيهِ مَصَالِـحِهِ وَإِنْقَاذِ نَفْسِهِ.



وَهَذَا إِنْذَارٌ لِأَهْلِ الْغَفْلَةِ الَّذِينَ غَفَلُوا عَنِ الْمَوْتِ، وَشَغَلَتْهُمُ الدُّنْيَا عَنْ تَذَكُّرِهِ، فَفَاجَأَهُمُ الْمَوْتُ؛ فَلَا يُسْعِفُهُمُ الْوَقْتُ لِيُصْلِحَ مَا يُمْكِنُ إِصْلَاحُهُ؛ فَالْمَوْتُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَبْطِئَهُ مِنَّا أَحَدٌ؛ فَلَا أَحَدَ يَعْلَمُ مَوْعِدَ رَحِيلِهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ عَمَلٍ وَلَا تَوْبَةٍ وَلَا اسْتِدْرَاكِ شَيْءٍ وَلَا تَصْحِيحِ وَضْعٍ.



سُبْحَانَ اللهِ! إِذَا نَزَلَ الْمَوْتُ لَا يَسْتَطِيعُ الْوَاحِدُ مِنَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ، فَكَيْفَ إِلَى فِعْلٍ يَحْتَاجُ إِلَى زَمَانٍ طَوِيلٍ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَرَدِّ الْـمَظَالِـمِ، وَاخْتِيَارِ التَّوْصِيَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكَلِمَاتِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَهَمِّ الْكَلِمَاتِ؛ فَإِنَّ الْحَاجَةَ فِي وَقْتِ الْـمَوْتِ إِلَى التَّوْصِيَةِ أَمَسُّ وَالتَّنْكِيرَ فِي التَّوْصِيَةِ لِلتَّعْمِيمِ؛ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَوْصِيَةٍ مَا، وَلَو كَانَت بِكَلِمَةٍ يَسِيرَةٍ، وَلأَنَّ التَّوْصِيَةَ قَدْ تَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ، فَالْعَاجِزُ عَنْهَا عَاجِزٌ عَنْ غَيْرِهَا، قَالَ - تَعَالَى -: ﴿ وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾، بَيَانٌ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى التَّوْصِيَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَرْجُو الْوُصُولَ إِلَى أَهْلِهِ قَدْ يُمْسِكُ عَنِ الْوَصِيَّةِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ مَعَ الْحَاجَةِ دَلَّ عَلَى غَايَةِ الشِّدَّةِ.



وَقَالَ - تَعَالَى -: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]، فَسُؤَالُ الرَّجْعَةِ فِي الْآيَةِ لَيْسَ خَاصًّا بِالْكَافِرِ، بَلْ يَعُمُّ كُلَّ مُفَرِّطٍّ، فَيُخْبِرُ اللهُ - تَعَالَى - عَنْ حَالِ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، مِنَ الْمُفَرِّطِينَ الظَّالِمِينَ، أَنَّهُ يَنْدَمُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، إِذَا رَأَى مَآلَهُ، وَشَاهِدَ قُبْحَ أَعْمَالِهِ فَيَطْلُبُ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا، لَا لِلتَّمَتُّعِ بِلَذَّاتِهَا وَاقْتِطَافِ شَهَوَاتِهَا وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: ﴿ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 100] مِنَ الْعَمَلِ، وَفَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ. ﴿ كَلَّا ﴾، أَيْ: فَلَا رَجْعَةَ لَهُ وَلَا إِمْهَالَ، فَقَدْ قَضَى اللهُ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ، ﴿ إِنَّهَا ﴾، أَيْ: مَقَالَتُهُ الَّتِي تَمَنَّى فِيهَا الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا، ﴿ كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ﴾، أَيْ: مُجَرَّدُ قَوْلٍ بِاللِّسَانِ، لَا يُفِيدُ صَاحِبَهُ إِلَّا الْحَسْرَةَ وَالنَّدَمَ.



﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 100]، أَيْ: حَاجِزٌ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي هَذَا البَرْزَخِ، يَتَنَعَّمُ الْمُطِيعُونَ، وَيُعَذَّبُ الْعَاصُونَ، مِنِ ابْتِدَاءِ مَوْتِهِمْ وَاسْتِقْرَارِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَلْيَعُدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، وَلْيَأْخُذُوا لَهُ أُهْبَتَهُ.



فَفَكِّرْ يَا عَبْدَ اللهِ! فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ شَهْوَتِكَ وَمَحَابِّكَ، وَانْقَطَعَتْ عَنْكَ فُرْصَةُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهَجَمَتْ عَلَيْكَ الشَّدَائِدُ الْعِظَامُ، وَوَقَعْتَ فِي الْأَخْطَارِ الْجِسَامِ، فَنَادَيْتَ عِنْد ذَلِكَ نَادِمًا: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99، 100] فَلَمْ يُجَبْ نِدَاؤُكَ، وَلَمْ تُعْطَ سَاعَةً وَاحِدَةً تَتُوبُ فِيهَا إِلَى اللهُ - تَعَالَى - وَتَسْتَرْضِيهِ.



وَلْيَكُنْ يَا عَبْدَ اللهِ! هَذَا النِّدَاءُ ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾ عَلَى بَالِكَ طَالَمَا أَنَّكَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ؛ لَا تَغْفَلْ عَنْهُ أَبَدًا؛ فَإِنَّهُ إِذَا بَاشَرَ الْقَلْبَ أَحْدَثَ فِيهِ خَوْفًا شَدِيدًا؛ فَحَصَّلَتْ بِعَوْنِ اللهِ -تَعَالَى - التَّقْوَى، وَانْخَلَعَ الْعَبْدُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَبَادَرَ بِالصَّالِحَاتِ سَاعَةَ الْأَجَلِ.



وَقَالَ - تَعَالَى -: ﴿ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ﴾ [المنافقون: 11]، فَالْآجَالُ لَا مَجَالَ فِيهَا لِلتَّأْجِيلِ؛ فَهِيَ مَحْتُومَةٌ، مُحَدَّدَةٌ مَوْقُوتَةٌ، فَكُلُّ غَافِلٍ وَمُفَرِّطٍ يَنْدَمُ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ، نَدَمًا لَا يُجْدِي، وَيَسْأَلُ أَنْ يُطَالَ فِي عُمُرِهِ، وَلَوْ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ؛ لِيَسْتَدْرِكَ مَا فَاتَهُ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! وَكَانَ مَا كَانَ، وَأَتَى مَا أَتَى وَكُلٌّ بِحَسَبِ تَفْرِيطِهِ، وَمُحْتَضِرٌ يَفِيقُ إِفَاقَةً وَيَنْتَبِهُ انْتِبَاهًا لَا يُدْرِكُهُ مَنْ حَوْلَهُ، انْتِبَاهٌ لَا يُوصَفُ، وَيَقْلَقُ قَلَقًا لَا يُتَصَوَّرُ، وَيَتَلَهَّفُ حَسْرَةً عَلَى زَمَنِهِ الْمَاضِي، وَيَتَمَنَّى لَوْ تُرِكَ كَيْ يَتَدَارَكَ مَا فَاتَهُ بِإِعْلَانِ تَوْبَةٍ، لَعَلَّهَا تُنْقِذُهُ وَمِنْ عَذَابِ اللهِ تُخَلِّصُهُ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! لَقَدْ فَرَّطَ فِي زَمَنِ الْعَمَلِ، وَتَسَاهَلَ فِي فَتْرَةِ الزَّرْعِ، مَعَ أَنَّ النَّذِيرَ قَدْ جَاءَهُ وَالتَّحْذِيرَ قَدْ وَصَلَ إِلَى مَسَامِعِهِ، وَلَكِنَّ التَّسْوِيفَ وَالتَّأْجِيلَ وَطُولَ الْأَمَلِ وَالْخُضُوعَ لَإِبْلِيسَ، حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ وَسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ وَالرَّجْعَةِ!



وَلَوِ اسْتَشْعَرَ الْعَاقِلُ وَهُوَ فِي أَوَانِ عَافِيَتِهِ تِلْكَ السَّاعَةَ، لَحَصَلَ كُلُّ مَقْصُودٍ، وَنَالَ كُلَّ مَطْلُوبٍ، فَطَالَـمَا نَعْلَمُ أَنْ سَنَنْدَمَ عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي جَنْبِ اللهِ، وَأَنَّنَا سَنَتَحَسَّرَ عَلَى ذُنُوبِنَا؛ فَلِمَاذَا لَا نُبَادِرُ قَبْلَ الْفَوَاتِ؟ وَنَسْتَعِدُّ لَهُ غَايَةَ الِاسْتِعْدَادَ.








الَّلهُمَّ أَحْسَنْ خَاتِمَتَنَا وَتَوَفَّنَا وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا غَيْرَ غَضْبَانَ، الَّلهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.



الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

عباد الله! عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَعِدَّ لِلْمَوْتِ حَقَّ الِاسْتِعْدَادِ، وَأَنْ نَصْحَى مِنْ هَذِهِ الْغَفْلَةِ وَنَفِيقُ مِنْ هَذِهِ الْغَفْوَةِ، وَقَدْ نَبَّهَنَا اللهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 1]، فَالْآيَاتُ فِيهَا النَّذْرُ وَالْحَسْرَةُ مِنَ الظَّالِمِ عِنْدَ اقْتِرَابِ الْمَوْتِ وَرُؤْيَةِ الْعَذَابِ تَتَابَعَتْ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: ﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 44]، فَيَا لَهُ مِنْ مَرْأًى وَمَنْظَرٍ فَظِيعٍ وَصَعْبٍ شَنِيعٍ، بِظُهُورِ النَّدَمِ الْعَظِيمِ، وَالْحُزْنِ الَّذِي لَا يُضَاهِيهِ حُزْنٌ عَلَى مَا سَلَفَ، يَا لِعِظَمِ تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ: ﴿ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ﴾، أَيْ: هَلْ لَنَا مِنْ طَرِيقِ أَوْ حِيلَةٍ حَتَّى نَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا لِنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ طَلَبٌ مُحَالٌ أَنْ يَتَحَقَّقَ أَجَارَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ ذَلِكَ.



فَأَدِمْ - أَيُّهَا الْمُسْلِمُ - التَّفَكُّرَ فِي الْمَوْتِ، وَاجْعَلْ تَحْتَ نَاظِرَيْكَ النَّارَ، وَسَتَرَاهَا عَيَانًا يَنْخَلِعُ مِنْهَا الْقَلْبُ؛ فَأَنْتَ - أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ - موقنٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتَعَلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، فَتَيَقَّظْ قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئَكَ هَوْلُ الْمَوْتِ وَسَكْرَتُهُ، وَيَحُلُّ بِكَ أَلَمُ الْفَوْتِ وَحَسْرَتُهُ، وَتُوضَعُ فِي حُفْرَةٍ، إِمَّا أن تكون مُنِيرَةً أَوْ مُظْلِمَةً، إِنَّ هُنَاكَ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يُحِبُّ ذِكْرَ الْمَوْتِ وَلَا ذِكْرَ الْقُبُورِ، وَذَاكَ وَرَبِّي مِنْ تَلْبِيسِ إِبْلِيسَ، حَتَّى يَعِيشَ فِي غَفْلَةٍ؛ لِذَا: يَقُول الرَّسُول - صَلَّى اللهُ عَلَيْه - فِي الحَدِيث الصَّحِيح: «فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ»؛ فَلَا يَعْبَثَنَّ بِكَ الشَّيْطَانُ، فَالْقَبْرُ لَا بُدَّ أَنْ تَأْتِيَهُ شِئْتَ أَمْ أَبِيْتَ؛ فَلَا تَخْدَعْ نَفْسَكَ، وَلَا تَغُضَّ الطَّرْفَ عَنْ حَقِيقَةِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَاثِلَةً أَمَامَ عَيْنَيْكَ.



أَحْسَنَ اللهُ خَاتِمَتَنَا.
 


في الحياة.. والموت
الموتة الصغرى (النوم)
هو الموت ( خطبة )
لحظات قبل الموت
ذكر الموت
الموت (خطبة)
آيات عن الموت
رحلة الموت كيف نفهمها؟
حكم قول {ياأيتها النفس المطمئنة} عند موت شخص
المعتصم بن صمادح على فراش الموت
ما يفعله من كان عند المحتضر


أنواع الخطابة(مقالة - آفاق الشريعة)
خطبة صلاة الكسوف(مقالة - موقع الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك)
خطبة وعظية من خطب مأثورة(مقالة - آفاق الشريعة)
خطب الاستسقاء (10): من حكم حبس القطر (خطبة)(مقالة - موقع الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل)
الكسوف: أحكام وعبر وآيات مع ذكر الرواية الكاملة لصلاة وخطبة الكسوف (خطبة)(مقالة - موقع الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري)
بعد خطبة 3 سنوات يريد فسخ الخطبة(استشارة - الاستشارات)
طالوت وجالوت (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
الخطب المحفلية (خطب المحافل)(مقالة - آفاق الشريعة)
أنواع الخطب(مقالة - آفاق الشريعة)
الخطبة واختيار الزوجة (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة

 

مواعظ لابن الجوزي في الموت



ستون موعظة لابن الجوزي


ستون موعظة لابن الجوزي 

الذنوب تغطي على القلوب، فإذا أظلمت مرآة القلب لم يبن فيها وجه الهدى، ومن علم ضرر الذنب استشعر الندم. 2- يا صاحب الخطايا أين الدموع الجارية، يا أسير المعاصي إبك على الذنوب الماضية، أسفاً لك إذا جاءك الموت وما أنبت، واحسرة لك إذا دُعيت إلى التوبة فما أجبت، كيف تصنع إذا نودي بالرحيل وما تأهبت، ألست الذي بارزت بالكبائر وما راقبت؟ 3- أسفاً لعبد كلما كثرت أوزاره قلّ استغفاره، وكلما قرب من القبور قوي عنده الفتور. 4- اذكر اسم من إذا أطعته أفادك، وإذا أتيته شاكراً زادك، وإذا خدمته أصلح قلبك وفؤادك. 5- أيها الغافل ما عندك خبر منك! فما تعرف من نفسك إلا أن تجوع فتاكل، وتشبع فتنام، وتغضب فتخاصم، فبم تميزت عن البهائم! 6- واعجباً لك! لو رأيت خطاً مستحسن الرقم لأدركك الدهش من حكمة الكاتب، وأنت ترى رقوم القدرة ولا تعرف الصانع، فإن لم تعرفه بتلك الصنعة فتعجّب، كيف أعمى بصيرتك مع رؤية بصرك! 7- يا من قد وهى شبابه، وامتلأ بالزلل كتابه، أما بلغك أن الجلود إذا استشهدت نطقت! أما علمت أن النار للعصاة خلقت! إنها لتحرق كل ما يُلقى فيها، فتذكر أن التوبة تحجب عنها، والدمعة تطفيها. 8- سلوا القبور عن سكانها، واستخبروا اللحود عن قطانها، تخبركم بخشونة المضاجع، وتُعلمكم أن الحسرة قد ملأت المواضع، والمسافر يود لو أنه راجع، فليتعظ الغافل وليراجع. 9- يا مُطالباً بأعماله، يا مسؤولاً عن أفعاله، يا مكتوباً عليه جميع أقواله، يا مُناقَشاً على كل أحواله، نسيانك لهذا أمر عجيب! 10- إن مواعظ القرآن تُذيب الحديد، وللفهوم كل لحظة زجر جديد، وللقلوب النيرة كل يوم به وعيد، غير أن الغافل يتلوه ولا يستفيد. 11- كان بشر الحافي طويل السهر يقول: أخاف أن يأتي أمر الله وأنا نائم. 12- من تصور زوال المحن وبقاء الثناء هان الابتلاء عليه، ومن تفكر في زوال اللذات وبقاء العار هان تركها عنده، وما يُلاحظ العواقب إلا بصر ثاقب. 13- عجباً لمؤثر الفانية على الباقية، ولبائع البحر الخضم بساقية، ولمختار دار الكدر على الصافية، ولمقدم حب الأمراض على العافية. 14- قدم على محمد بن واسع ابن عم له فقال له: من أين اقبلت؟ قال: من طلب الدنيا، فقال: هل أدركتها؟ قال لا، فقال: واعجباً! أنت تطلب شيئاً لم تدركه، فكيف تدرك شيئاً لم تطلبه. 15- يُجمع الناس كلهم في صعيد، وينقسمون إلى شقي وسعيد، فقوم قد حلّ بهم الوعيد، وقوم قيامتهم نزهة وعيد، وكل عامل يغترف من مشربه. 16- كم نظرة تحلو في العاجلة، مرارتها لا تُـطاق في الآخرة، يا ابن أدم قلبك قلب ضعيف، ورأيك في إطلاق الطرف رأي سخيف، فكم نظرة محتقرة زلت بها الأقدام. 17- يا طفل الهوى! متى يؤنس منك رشد، عينك مطلقة في الحرام، ولسانك مهمل في الآثام، وجسدك يتعب في كسب الحطام. 18- أين ندمك على ذنوبك؟ أين حسرتك على عيوبك؟ إلى متى تؤذي بالذنب نفسك، وتضيع يومك تضييعك أمسك، لا مع الصادقين لك قدم، ولا مع التائبين لك ندم، هلاّ بسطت في الدجى يداً سائلة، وأجريت في السحر دموعاً سائلة. 19- تحب أولادك طبعاً فأحبب والديك شرعاً، وارع أصلاً أثمر فرعاً، واذكر لطفهما بك وطيب المرعى أولاً وأخيراً، فتصدق عنهما إن كانا ميتين، واستغفر لهما واقض عنهما الدين. 20- من لك إذا ألم الألم، وسكن الصوت وتمكن الندم، ووقع الفوت، وأقبل لأخذ الروح ملك الموت، ونزلت منزلاً ليس بمسكون، فيا أسفاً لك كيف تكون، وأهوال القبر لا تطاق. 21- كأن القلوب ليست منا، وكأن الحديث يُعنى به غيرنا، كم من وعيد يخرق الآذانا.. كأنما يُعنى به سوانا.. أصمّنا الإهمال بل أعمانا. 22- يا ابن آدم فرح الخطيئة اليوم قليل، وحزنها في غد طويل، ما دام المؤمن في نور التقوى، فهو يبصر طريق الهدى، فإذا أطبق ظلام الهوى عدم النور. 23- انتبه الحسن ليلة فبكى، فضج أهل الدار بالبكاء فسألوه عن حاله فقال: ذكرت ذنباً فبكيت! يا مريض الذنوب ما لك دواء كالبكاء. 24- يا من عمله بالنفاق مغشوش، تتزين للناس كما يُزين المنقوش، إنما يُنظر إلى الباطن لا إلى النقوش، فإذا هممت بالمعاصي فاذكر يوم النعوش، وكيف تُحمل إلى قبر بالجندل مفروش. 25- ألك عمل إذا وضع في الميزان زان؟ عملك قشر لا لب، واللب يُثقل الكفة لا القشر. 26- رحم الله أعظماً نصبت في الطاعة وانتصبت، جن عليها الليل فلما تمكن وثبت، وكلما تذكرت جهنم رهبت وهربت، وكلما تذكرت ذنوبها ناحت عليها وندبت. 27- يا هذا لا نوم أثقل من الغفلة، ولا رق أملك من الشهوة، ولا مصيبة كموت القلب، ولا نذير أبلغ من الشيب. 28- إلى كم أعمالك كلها قباح، أين الجد إلى كم مزاح، كثر الفساد فأين الصلاح، ستفارق الأرواح الأجساد إما في غدو وإما في رواح، وسيخلو البلى بالوجوه الصباح، أفي هذا شك أم الأمر مزاح. 29- فليلجأ العاصي إلى حرم الإنابة، وليطرق بالأسحار باب الإجابة، فما صدق صادق فرُد، ولا أتى الباب مخلص فصُد، وكيف يُرد من استُدعي؟ وإنما الشأن في صدق التوبة. 30- إخواني: الأيام مطايا بيدها أزمة ركبانها، تنزل بهم حيث شاءت، فبينا هم على غواربها ألقــتهم فوطئتهم بمناسمها. 31- النظر النظر إلى العواقب، فإن اللبيب لها يراقب، أين تعب من صام الهواجر؟ وأين لذة العاصي الفاجر؟ فكأن لم يتعب من صابر اللذات، وكأن لم يلتذ من نال الشهوات. 32- حبس بعض السلاطين رجلاً زماناً طويلا ثم أخرجه فقال له: كيف وجدت محبسك؟ قال: ما مضى من نعيمك يوم إلا ومضى من بؤسي يوم، حتى يجمعنا يوم. 33- جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، فواعجباً ممن لم ير محسناً سوى الله عز وجل كيف لا يميل بكليته إليه. 34- احذر نفار النعم فما كل شارد بمردود، إذا وصلت إليك أطرافها فلا تُنفر أقصاها بقلة الشكر. 35- اجتمعت كلمة إلى نظرة على خاطر قبيح وفكرة، في كتاب يًحصي حتى الذرة، والعصاة عن المعاصي في سكرة، فجنوا من جِنى ما جنوا، ثمار ما قد غرسوه. 36- يا هذا! ماء العين في الأرض حياة الزرع، وماء العين على الخد حياة القلب. 37- يا طالب الجنة! بذنب واحد أُخرج أبوك منها، أتطمع في دخولها بذنوب لم تتب عنها! إن امرأً تنقضي بالجهل ساعاته، وتذهب بالمعاصي أوقاته، لخليق أن تجري دائماً دموعه، وحقيق أن يقل في الدجى هجوعه. 38- أعقل الناس محسن خائف، وأحمق الناس مسيء آمن. 39- لا يطمعن البطال في منازل الأبطال، إن لذة الراحة لا تنال بالراحة، من زرع حصد ومن جد وجد، فالمال لا يحصل إلا بالتعب، والعلم لا يُدرك إلا بالنصب، واسم الجواد لا يناله بخيل، ولقب الشجاع لا يحصل إلا بعد تعب طويل. 40- كاتبوا بالدموع فجاءهم ألطف جواب، اجتمعت أحزان السر على القلب فأوقد حوله الأسف وكان الدمع صاحب الخبر فندم. 41- كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، كيف يلهو من يقوده عمره إلى أجله، وحياته على موته. 42- إخواني: الدنيا في إدبار، وأهلها منها في استكثار، والزارع فيها غير التقى لا يحصد إلا الندم. 43- ويحك! أنت في القب محصور إلى أن ينفخ في الصور، ثم راكب أو مجرور، حزين أو مسرور، مطلق أو مأسور، فما هذا اللهو والغرور! 44- بأي عين تراني يا من بارزني وعصاني، بأي وجه تلقاني، يا من نسي عظمة شأني، خاب المحجوبون عني، وهلك المبعدون مني. 45- يا هذا زاحم باجتهادك المتقين، وسر في سرب أهل اليقين، هل القوم إلا رجال طرقوا باب التوفيق ففتح لهم، وما نيأس لك من ذلك. 46- ألا رُب فرحٍ بما يؤتى قد خرج اسمه مع الموتى، ألا رُب معرض عن سبيل رشده، قد آن أوان شق لحده، ألا رُب ساعٍ في جمع حطامه، قد دنا تشتيت عظامه، ألا رُب مُجد في تحصيل لذاته، قد آن خراب ذاته. 47- يا مضيعاً اليوم تضييعه أمس، تيقظ ويحك فقد قتلت النفس، وتنبه للسعود فإلى كم نحس، واحفظ بقية العمر، فقد بعت الماضي بالبخس. 48- عينك مطلقة في الحرام، ولسانك منبسط في الآثام، ولأقدامك على الذنوب إقدام، والكل مثبت في الديوان. 49- كانوا يتقون الشرك والمعاصي، ويجتمعون على الأمر بالخير والتواصي، ويحذرون يوم الأخذ بالأقدام والنواصي، فاجتهد في لحاقهم أيها العاصي، قبل أن تبغتك المنون. 50- أذبلوا الشفاه يطلبون الشفاء بالصيام، وأنصبوا لما انتصبوا الأجساد يخافون المعاد بالقيام، وحفظوا الألسنة عما لا يعني عن فضول الكلام، وأناخوا على باب الرجا في الدجى إذا سجى الظلام، فأنشبوا مخاليب طمعهم في العفو، فإذا الأظافير ظافرة. 51- يا مقيمين سترحلون، يا غافلين عن الرحيل ستظعنون، يا مستقرين ما تتركون، أراكم متوطنين تأمنون المنون. 52- وعظ أعرابي ابنه فقال: أي بني إنه من خاف الموت بادر الفوت، ومن لم يكبح نفسه عن الشهوات أسرعت به التبعات، والجنة والنار أمامك. 53- يا له من يوم لا كالأيام، تيقظ فيه من غفل ونام، ويحزن كل من فرح بالآثام، وتيقن أن أحلى ما كان فيه أحلام، واعجباً لضحك نفس البكاء أولى بها. 54- إن النفس إذا أُطمعت طمعت، وإذا أُقنعت باليسير قنعت، فإذا أردت صلاحها فاحبس لسانها عن فضول كلامها، وغُض طرفها عن محرم نظراتها، وكُف كفها عن مؤذي شهواتها، إن شئت أن تسعى لها في نجاتها. 55- علامة الاستدراج: العمى عن عيوب النفس، ما ملكها عبد إلا عز، وما ملكت عبداً غلا ذل. 56- ميزان العدل يوم القيامة تبين فيه الذرة، فيجزى العبد على الكلمة قالها في الخير، والنظرة نظرها في الشر، فيا من زاده من الخير طفيف، احذر ميزان عدل لا يحيف. 57- سمع سليمان بن عبد الملك صوت الرعد فانزعج، فقال له عمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين هذا صوت رحمته فكيف بصوت عذابه؟ 58- يا من أجدبت أرض قلبه، متى تهب ريح المواعظ فتثير سحاباً، فيه رعود وتخويف، وبروق وخشية، فتقع قطرة على صخرة القلب فيتروى ويُنبت. 59- قال بعض السلف: إذا نطقت فاذكر من يسمع، وإذا نظرت فاذكر من يرى، وإذا عزمت فاذكر من يعلم. 60- قال سفيان الثوري يوماً لأصحابه: أخبروني لو كان معكم من يرفع الحديث إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟ قالوا: لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث إلى الله عز وجل. 61- كلامك مكتوب، وقولك محسوب، وأنت يا هذا مطلوب، ولك ذنوب وما تتوب، وشمس الحياة قد أخذت في الغروب فما أقسى قلبك من بين القلوب.

رابط المادة: http://iswy.co/e1282d


=============================
الخطبة الأولى
قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم
التفكر في الموت يورث التقوى والعمل الصالح
تزود من معاشك للمعاد
الخطبة الثانية
تذكر الموت علاج لقسوة القلوب
من حسن الخاتمة الموت على عمل صالح


الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ سورة آل عمران 102.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا سورة النساء 1.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا سورة الأحزاب 70-71.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم

أيها الإخوة المسلمون:

حديثنا في هذا اليوم عن أمر يكرهه الكثيرون، ولا يحب كثير من الناس سماعه، بل ويشردون عن مجالسه شرود البعير الضال عن أهله، وهو موضوع أيها الإخوة على جانب عظيم من الأهمية، أهميتها في نفس الكبار والصغار، والأغنياء والفقراء، وعامة الناس وعلمائهم، ودعاتهم ومدعويهم؛ لأن هذا الأمر أيها الإخوة جد خطير، وأمره على جانب عظيم من الأهمية، ونظراً لأن كثيراً من الناس ينفرون من سماعه، ويفرون من الحديث حوله، فإن الله جل وعلا قال لهم: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ سورة الجمعة 8. الناس أيها الإخوة يفرون من ذكر الموت، ويفرون من الموت، ويحسب الإنسان أنه إذا خنس من الموت بوسيلة، أنه قد فر منه، وأنه لن يقع فيه، وإذا هو يفر من سماع مواعظ الموت؛ لأنها تقطع عليه لذات الدنيا، وتجعله يعيش في مخاوف عظيمة، لذلك ترى أكثر الناس لا يحبون سماع مثل هذه المواعظ، ولكن الله جل وعلا أيها الإخوة قرر في قرآنه العظيم، وكتابه العزيز، حتى لا يظن ظان أنه بعيد عن هذا الموضوع، فقال جل وعلا: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ سورة آل عمران 185. فالحياة أيها الإخوة متاع الغرور، وكل شيء إلى الله صائر، ولا يبقى إلا وجه الله العظيم، رسول الله أعظم البشر، وأحب خلق الله إلى الله، وعظه الله بالموت فقال له: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ.


الحياة أيها الإخوة متاع الغرور، وكل شيء إلى الله صائر، ولا يبقى إلا وجه الله العظيم.

رسول الله أعظم البشر، وأحب خلق الله إلى الله، وعظه الله بالموت فقال له: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ.سورة الزمر 30. قال له: إنك ميت أنت يا محمد ﷺ لن تنجو من الموت كما لم ينجو أحد من الأنبياء من قبلك، وهذا الموت أيها الإخوة كتاب مؤجل، لا يستقدم عنه الميت لحظة ولا يستأخر، قال الله جل وعلا: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاًسورة آل عمران 145. ومهما حرص الحريصون على الفرار من الموت، وعلى الدخول في الأغطية والمحصنات من المباني، فإن الله جل وعلا : أَيْنَمَا تَكُونُواْUيخرج أرواحهم من داخل تلك المباني، قال  يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍسورة النساء 78. لو كان بناء حصينا فإن الله جل وعلا يدخل ملك الموت على الشخص الذي حان أجله فيقبضه ولو كان في برج مشيد.

التفكر في الموت يورث التقوى والعمل الصالح

أيها الإخوة:

إننا نحتاج حاجة عظيمة إلى التمعن والتفكر في هذه المسألة؛ لأنها أساس التقوى،  بأعمالUولب العمل الصالح، وهي دافع مهم من الدوافع على القدوم على الله  صالحة، إذا فكر الإنسان في الميت: يفكر كيف قد سالت العيون، وتفرقت الخدود، مساكين أهل القبور، عن يمينهم التراب، وعن يسارهم التراب، ومن أمامهم التراب، ومن خلفهم التراب، كانوا أهل الدور والقصور فصاروا أهل التراب والقبور، كانوا أهل النعمة فصاروا أهل الوحشة والمحنة، قد سالت العيون، وصدأة الجفون، وتقطعت الأوصال، وبطلت الآمال، وصار الضحك بكاء، والصحة داء، والبقاء فناء، والشهوة حشرات، والتبعات زفرات، فما بيدهم إلا البكاء والحسرات، نفدت الأعمار وبقيت الأوزار، لسان حالهم يقول: حسرتنا أن ندرك وقتاً نصلي فيه ركعتين، وأنتم تقدرون وهم لا يقدرون، ما حال أزواجهم؟ ما حال أيتامهم؟ ما عاقبة أموالهم؟ الأعمال قد انقطعت، والحسرات قد بقيت، والأموال قد فنيت، والأزواج قد نكحت، والدور قد خربت، قال أحد السلف: كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعداً، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً، وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفاً، فعلى ما تفرحون؟ وما عسيتم تنتظرون؟

فيا إخوتاه! سيروا إلى ربكم سيراً جميلاً، يا بن آدم لو رأيت قرب أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في زيادة عملك، ولقصرت عن حرصك وحيلك، وإنما يلقاك ندمك لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، إن المنهمك في الدنيا، المكب على غرورها، والمحب لشهواتها، يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت، فلا يذكره، وإذا ذكره كره منه ونفره، أولئك الذين قال الله فيهم: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَسورة الجمعة 8. لا بد أيها الإخوة أن نذكر أشكال الموت ومصارعه، الأموات الذين مضوا من قبلنا نتذكر موتهم، ومصارعهم تحت التراب، ونتذكر صورهم في مناصبهم، تذكر فلان الفلاني وفلان وفلان الذي كان يشغل منصب كذا، ومكان كذا، وله من الأموال كذا وكذا، أين هو الآن؟ إن هذا دار يقولون دار المرحوم فلان، وهؤلاء أولاد فلان، هكذا يعبرون عنهم، لا بد أن نفكر من الآن أيها الإخوة في ما استحال حسن صورهم تحت التراب، وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم، وخلت منهم مجالسهم وبيوتهم، وانقطعت آثارهم، وستكون عاقبتنا مثل عاقبتهم، لما سئل أحد السلف: ما أبلغ العظات؟ قال: النظر إلى الأموات، اعلم أن الموت هو الخطب الأفظع، والأمر الأشنع، والكأس الذي طعمها أكره وأبشع؛ لأنه هادم اللذات، وقاطع الراحات، وجالب الكريهات، فإنه أمر يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك، لهو الأمر الأفظع، والخطب الجسيم، وإن يومه لهو اليوم العظيم، جاء جبريل لرسولنا ﷺ فقال: "يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس" حديث صحيح.

هل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك؟ وانتقالك عن موضعك؟ إذا نقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأخذت من فراشك وغطائك إلى غرر، وغطوك من بعد لين لحافها بتراب ومدر، فيا جامع والمال، والمجتهد في البنيان، ليس لك من مالك والله إلا الأكفان، بل للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب، فأين المال الذي جمعته؟ هل أنقذك من هذه الأهوال؟.

تزود من معاشك للمعاد

يا أيها الناس: ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟! مَن الموت طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، كيف يكون حاله؟


أيها الناس: ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟!

مَن الموت طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، كيف يكون حاله؟.

مثل نفسك يا مغرور -الكلام لنا جميعا أيها الإخوة- مثل نفسك يا مغرور! وقد حلت بك السكرات، ونزل بك الأنين والزفرات، فمن قائل يقول: إن فلاناً قد أوصى، وماله قد أحصى، ومن قائل يقول: إن فلاناً ثقل لسانه فلا يعرف جيرانه، ولا يكلم إخوانه، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب ولا تقدر على رد الجواب، فخيل لنفسك يا ابن آدم! إذا أخذت من فراشك إلى لوح مغسلك فغسلك الناس، وألبست الأكفان، وأوحش منك الأهل والجيران، وبكى عليك الأصحاب والإخوان، أين الذي جمعته من الأموال؟ وأعددته للشدائد والأهوال؟ لقد أصبح كفك منه عند الموت خالية صفراً، وبدلت بعد غناك وعزك ذلاً وفقراً، فكيف أصبحت يا رهين أوزاره؟! ويا من سلب من أهله ودياره! ما كان أخفى عليك سبيل الرشاد، وأقل اهتمامك لحمل الزاد إلى سفرك البعيد، وموقفك الصعب الشديد، تزعم أن الخطب يسيراً، وأن هذا الأمر أمراً صغيراً، وتظن أن سينفعك حالك إذا كان ارتحالك، أو ينقذك مالك حين تهلكك أعمالك، أو تغني عنك إذا زلت بك قدمك، فلا والله! ساء ما تتوهم، ولا بد أنت تعلم، لا بالكفاف تقنع، ولا من الحرام تشبع، ولا للعظات تسمع، يعجبك التكاثر فيما لديك.

تزود من معاشك للمعاد وقم لله واعمل خير زاد
ولا تجمع من الدنيا كثيراً فإن المال يجمع للنفاد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد


مشيناها خطىً كتبت علينا ومن كتبت عليه خطىً مشاها
وأرزاق لنا متفرقات فمن لم تأته منها أتاها
ومن كتبت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها


الموت في كل يوم ينشر الكفنَ ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين هم كانوا لنا سكنا
سقاهم الموت كأساً غير صافية فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا


بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من المواعظ والآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

===================================================================

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله، ولي الصالحين المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الوعد، الأمين.

تذكر الموت علاج لقسوة القلوب

أيها الإخوة:

كلنا نعلم، وكلنا على يقين، بأننا نكره ذكر هذه المواعظ؛ لأنها إذا ذكرت حالت بيننا وبين لذائذ الدنيا، فتقسو القلوب، وينفر الناس عن مجالس الوعظ والتذكير، فما هو العلاج يا ترى لمثل هذا الحال؟ يقول رسول الله ﷺ في ، يقول: أكثروا ذكر هادمtالحديث الحسن الذي رواه بن حبان عن أبي هريرة  اللذات فما ذكره عبد قط وهو في ضيق إلا وسعه عليه ولا ذكره وهو في سعة إلا ضيقه عليهوهذا هو الحال فعلاً، فلا بد أيها الإخوة! أن نحيي في أنفسنا موعظة الموت حتى يوقن الإنسان من إقباله على الله كيف يكون:

أولاً: بحضور مجالس العلم، والوعظ، والتذكير، والتخويف، والترغيب، وأخبار الصالحين؛ فإنه مما يلين القلوب.

ثانياً: ذكر الموت الذي أوصى به رسول الله ﷺ، إذا كنت في كربة وضائقة وذكرت الموت علمت بأن هذه الدنيا زائلة فزالت عنك ضائقتك، وإذا كنت في بحبوحة ونعمة وانصراف إلى الدنيا والتهاء بها فذكرت الموت ضاقت عليك الدنيا ورجعت إلى طريقك المستقيم.

والأمر الثالث أيها الإخوة: مشاهدة المحتضرين، وزيارة القبور التي أوصى بها رسول الله ﷺ، وأخبر بأنها تذكر الآخرة، دخل الحسن البصري على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام يرحمك الله، فقال: "يا أهلاه! عليكم بطعامكم وشرابكم، والله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه".

من حسن الخاتمة الموت على عمل صالح

أيها الإخوة:

ذكر الموت يجعل النفس تصب عن لذائذ الحياة الدنيا، وهذا من الأمور المطلوبة، تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويذهب الفرح بالدنيا، ويهون المصائب، قال أحد السلف: "إن فارقني ذكر الموت ساعة فسد قلبي" ولذلك أيها الإخوة لا بد أن نعمل حتى يكون موت كل واحد منا على عمل صالح؛ لأن الموت على عمل صالح هو من علامات حسن الخاتمة، ولذلك يقول الله جل وعلا: وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ سورة آل عمران 157. القتل في سبيل الله أو الموت، الآية تقول: وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ يعني: أو متم في سبيل الله، وسبيل الله أيها الإخوة كثير، الجهاد على رأسه، والدعوة إلى الله جل وعلا، وتعلم العلم وتعليمه هي وظيفة الأنبياء، من قبلنا إذا مات الإنسان على عمل صالح فإنه يرجى أن يكون قد وقع أجره على الله؛ لأن الله يقول عن الهجرة: وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ سورة النساء 100. فالذي يموت وهو مهاجر في سبيل الله، خارج من بيته وأهله ووطنه، هذا من أعظم الأعمال الصالحة، ثم يموت فقد وقع أجره على الله، وكذلك أيها الإخوة! الذي يذهب يخرج من بيته مجاهداً أو حاجاً أو معتمراً ويموت في الطريق، أو يخرج وهو يسعى على عياله، كل ذلك في سبيل الله، تضمّن الله لمن خرج في الجهاد والحج والعمرة ومات في الطريق أن يعظم له الأجر، ويجزل له المثوبة، ويعظم له الثواب، الخروج إلى العمرة، والحج، والجهاد في سبيل الله، بجميع أنواع الجهاد، ومنها كذلك جهاد النفس في تعلم العلم، وإقامة النفس عليه، والدعوة إليه، والصبر على الأذى في سبيله، أيها الإخوة! والموت على هذه الحالة من أعظم أنواع الموت، هو موت عظيم وله أجر كبير عند الله جل وعلا، الموت على عمل صالح، يقول ﷺ في الحديث الحسن: من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة ومن صام يوما ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجن.

أيها الإخوة! لابد من العمل الصالح دائماً؛ لأن الإنسان لا يعلم متى يموت، فليكن موتنا على عمل صالح حتى نلقى الله جل وعلا، أنا وأنت، وهو وهم سيموتون، وينتقلون إلى تلك الدار، ولكن أيها الإخوة! هذه القضية غابت عن أذهاننا، وأصبحت مستغربة، وإذا ذكرت أمام الواحد يستبعد أن يموت، لذلك لا بد من الإكثار من ذكر الموت؛ لأن ذكر الموت من أعظم وسائل إصلاح النفس.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل ميتتنا على عمل صالح في سبيلك يارب العالمين، واجعلنا ممن أوقعت أجرهم عليك برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نعوذ بك من ميتة السوء ومن سوء الخاتمة، اللهم واجعل خروجنا من الدنيا على شهادة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وصلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وعن التابعين وتابعيهم إلى يوم الدين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.