المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام د.
جواد علي الجزء
الأول – الفصول 1-40*
مقدمة
الفصل الثاني الجاهلية و مصادر التاريخ الجاهلي
الفصل الثالث إهمال التأريخ الجاهلي و إعادة تدوينه
الفصل الرابع جزيرة العرب
الفصل الخامس طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها
الفصَلُ السادس صلات الحرب بالساميين
الفصل السابع طبيعة العقلية العربية
الفصل الثامن طبقات العرب
الفصل التاسع العرب العاربة والعرب المستعربة
الفصل العاشر أثر التوراة
الفصل الحادي عشر أنساب العرب
الفصل الثاني عشر طبقات القبائل
الفصل الثالث عشر تأريخ الجزيرة القديم
الفصل الرابع عشر العرب في الهلال الخصيب
الفصل الخامس عشر صلة العرب بالكلدانيين و الفرس
الفصل السَّادس عَشِر العرب والعبرانيون
الفصل السابع عشر العرب و اليونان
الفصل الثامن عشر العرب و الرومان
الفصل التاسع عشر الدولة المعينية
الفصل العشرون مملكة حضرموت
الفصل الثاني و العشرون مملكتا ديدان و لحيان
الفصل الثالث و العشرون السبئيون
الفَصْل الرَابع والعِشُرون ملوك سبأ
الفَصْل الخَامِس وَالعِشُرون همدان
الفَصْل ا لسَّادِس وَُالعشرُون أسر وقبائل
الفَصْل ا لسَابع وَالعِشُرون ملوك سبأ وذو ريدان
الفَصْل اَلثَامِن وَالعِشرُون سبأ وذو ريدان
الفَصْل التَاسِعَ وَالعِشرُون ممالك وإمارات صغيرة
الفَصْلُ الثًّلاَثون الحميريون
الفصل الحادي و الثلاثون سبأ و ذو ريدان و حضرموت و يمنت
الفصل الثاني والثلاثون إمارات عربية شمالية
الفصل الثالث و الثلاثون ساسانيون و بيزنطيون
الفصل الرابع والثلاثون مملكة النبط
الفصل الخامس والثلاثون مملكة تدمر
الفَصْل السّادِسُ والثَلاثون الصفويون
الفَصْلُ السَّابعُ والثلاثون مملكة الحيرة
الفَصْلُ الثَامِنُ والثَلاثون عمرو بن هند
الفَصْلُ التاَسِعُ واَلثَلاثون مملكة كنده.
الفصل الاربعون مملكة الغساسنة
مقدمة
هذا كتاب في تاريخ العرب قبل الإسلام، وهو في الواقع كتاب جديد، يختلف عن كتابي السابق الذي ظهرت منه ثمانية أجزاء. يختلف عنه في إنشائه، وفي تبويبه وترتيبه، وفي كثير من مادته أيضاً، فقد ضمّنته مادة جديدة،خلا منها الكتاب السابق، تهيأت لي من قراءاتي لكتابات جاهلية عُثر عليها بعد نشر ما نشرت منه، ومن صور كتابات أو ترجماتها أو نصوصها لم تكن قد نشرت من قبل، ومن مراجعاتي لموارد نادرة لم يسبق للحظ إن سعد بالظفر بها أو الوقوف عليها، ومن كتب ظهرت حديثاً بعد نشر هذه الأجزاء، فرأيت إضافتها كلها إلى معارفي السابقة التي جسدتها في ذلك الكتاب.
وقد رأى أستاذي العالم الفاضل السيد محمد بهجت الأثري تسميته: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، لما فيه من تفصيل لم يرد في الكتاب السابق، فوجدت في اقتراحه رأياً صائباً.ينطبق كل الانطباق على ما جاء فيه، فسميته بما سماه به، مقسماً إليه شكري الجزيل على هذا التوجيه الجميل.
وكتاباي هذان، هما عمل فرد عليه جمع المادة بنفسه، والسهر في تحريرها وتحبيرها،وعليه الإنفاق من ماله الخاص على شراء موارد غير متيسرة في بلاده، أو ليس في استطاعته مراجعتها بسبب القيود المفروضة على إعارة الكتب،أو لاعتبارات أخرى، ثم عليه البحث عن ناشر يوافق على نشر الكتاب، ثم عليه تصحيح المسودات بنفسه بعد نجاحه في الحصول على ناشر، إلى غير فلك من أمور تسلبه راحته وتستبد به وتضنيه. ولولا الولع الذي يتحكم في المؤلفين في هذه البلاد، لما أقدم إنسان على تأليف كتاب.
وإن عملاً تم بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة، لا يمكن إن يرضي المؤلف أو يسعده، لأنه عمل يعتقد إنه مها انفق فيه من جهد وطاقة واجتهاد، فلن يكون عل الشكل الذي يتوخاه أو يريده، والصورة التي رسمها في فكره وتصورها له. ولولا طمع المؤلف في كرم القراء بتبرعهم في تقويم عوجه وإصلاح أغلاطه و إرشاده إلى خير السبل المؤدية إلى التقويم والإصلاح، و لولا اعتقاده إن في التردد أو الإحجام سلبية لا تنفع، بل إن فيها ضرراً، وان كتابا يؤلَّف و ينشر عد ما يجمع من عيوب ونقائص خير من لا شيء، أقول:لولا هذه الاعتبارات لما تجرأت، فأخرجت كتاباً وعددتني مؤلفاً من المؤلفين.
وأنا إذ أقول هذا القول و أثبته، لا أريد إن أكون مرائيا لابساً ثوب التواضع لأتظاهر به على شاكلة كثير من المرائين. و إنما أقول ذلك حقا وصدقا، فأنا رجل اعتقد إن الإنسان مهما حاول إن يتعلم،فأنه يبقى إلى خاتمة حياته جاهلاً، كل ما يصل إليه من العلم هو نقطة من بحر لا ساحل له. ثم إني ما زلت أشعر أني طالب علم، كلما ضننت انتهيت من موضوع، و فرحت بانتهائي منه، أُدرك بعد قليل إن هنالك علما كثيراُ فاتني، و موارد جمة لم أتمكن من الظفر بها، فأتذكر الحكمة القديمة "العجلة من الشيطان".
و قد رأيت في هذا الكتاب شأني في الكتاب السابق، ألا أنصِّب نفسي حاكماً تكون وظيفته إصدار أحكام قاطعة، و إبداء آراء في حوادث تاريخية مضى زمن طويل عليها، بل أكتفي بوصف الحادث و تحليله كما يبدو لي. و قد لا تعجب طريقتي هذه كثيرا من القراء، و عذري أني لا أكتب لإرضاء الناس، و لا أدوّن لشراء العواطف، و إنما أكتب ما أعتقده و أراه بحسب علمي و تحقيقي، و الرأي عندي إن التاريخ تحليل و وصف لما وقع و يقع، و على المؤرخ إن يجهد نفسه كل الإجهاد للإحاطة به، بالتفتيش عد كل ما ورد عنه، و مناقشة تمحيصٍ و نقد عميقين، ثم تدوين ما يتوصل إليه بجده و اجتهاده تدويناً صادقا على نحو ما ظهر و ما شعر به، متجنباً إبداء الأحكام و الآراء الشخصية القاطعة على قدر الاستطاعة.
لقد قلت في مقدمة الجزء الأول من كتابي السابق: "و الكتاب بحث، أردت جهد طاقتي إن يكون تفصيليا، و قد يعاب عليّ ذلك، و عذري في هذا التفصيل أنني أريد تمهيد الجادة لمن يأتي بعدي فيرغب في التأليف في هذا الموضوع، وأنني أكتب للمتتبِّعين والمتخصصين، ومن حق هؤلاء المطالبة بالمزيد . وقد فعلت في هذا الكتاب ما فعلته في الأجزاء الثمانية من الكتاب السابق من تقصّي كل ما يرد عن موضوع من الموضوعات في الكتابات وفي الموارد الأخرى ، وتسجيله وتدوينه ، ليقدم للقارئ أشمل بحث وأجمع مادة في موضوع يطلبه ، لأن غايتي من هذا الكتاب أن يكون "موسوعة" في الجاهلية والجاهليين ، لا أدع شيئاً عنها أو عنهم إلا ذكرته في محله ، ليكون تحت متناول يد القارئ . فكتابي هذا وذاك هما للمتخصصين وللباحثين الذين يطمعون في الوقوف على حياة الجاهلية بصورة تفصيلية ، ولم يكتب للذين يريدون الإلمام بأشياء مجملة عن تلك الحياة.
والكتاب لذلك سيخرج في أجزاء ، لا أستطيع تحديد عددها ألان ، ولكني أقول بكل تأكيد إنها ستزيد على العشرة ، وأنها ستتناول كل نواحي الحياة عند ا لجاهليين: من سياسية ، و اجتماعية ، ودينية ، وعلمية ، وأدبية ، وفنية ، و تشريعية .
لقد أشار عليّ بعض الأصدقاء أن أدخل في العرب كل الساميّين ، وأن أتحدث عنهم في كتابي هذا كما أتحدث عن العرب ، لأن وطن الساميين الأول هو جزيرة العرب ، ومنه هاجروا إلى الأماكن المعروفة التي استقروا فيها ، فهم في ذلك مثل القبائل العربية التي تركت بلاد العرب ، واستقرت في العراق وفي بادية الشام وبلاد الشام ، لا يختلفون عنهم في شيء . ثم قالوا: فإذا كنتَ قد تحدثت عن تلك القبائل المهاجرة على أنها قبائل عربية، فلمَ تسكت عن أولئك السامين ، ولم تجعلهم من العرب? و جوابي أن القبائل العربية المهاجرة هي قبائل معروفة الأصل وقد نصت الكتابات والموارد الأخرى على عروبتها. ، ونسبت نفسها إلى جزيرة العرب، ولهجاتها لهجات عربية ، لا ريب في ذلك ولا نزاع ، و ثقافتها عربية . أما الشعوب السامية ، فليس بين العلماء، كما سترى، اتفاق على وطنها الأول، وليس بينها شعب واحد نسب نفسه إلى العرب ، وليس في الموارد التاريخية الواصلة إلينا مورد واحد يشير إلى أنها عربية؛ ولهجاتها وان اشتركت كلها في أمور، فإنها تختلف أيضاً في أمور كثيرة، هي أكثر من مواطن الاشتراك والالتقاء. ففرقٌ كبير إذن بين هذه الشعوب وبين القبائل العربية من حيث العروبة. ثم إن العروبة في نظري ليس بها حاجة إلى ضم هذه الشعوب اليها، لاثبات إنها ذات أصل تؤول اليه، فقد أعطى الله تلك الشعوب تاريخاً ثم محاه عنهم، وأعطى العرب تاريخاً أينع في القديم واستمر حتى لليوم،ثم إن لهم من الحضارة الإسلامية ما يغنيهم عن التفتيش عن مجد غيرهم وعن تركاتهم، لإضافتها إليهم. فليس في العرب مركب نقص حتى نضيف إليهم من لم يثبت انهم منهم، لمجرد أنهم كانوا أصحاب حضارة وثقافة، وأن جماعة من العلماء ترى أنهم كانوا من جزيرة العرب. والرأي عندي أن العرب لو نبشوا تربة اليمن و بقية الترب لما احتاجوا إلى دعوة من يدعو إلى هذا الترقيع. فأنا من أجل هذا لا أستطيع أن أضم أحدا من هؤلاء إلى الأسرة العربية بالمعنى الاصطلاحي المعروف المفهوم، من لفظة العرب عندنا ، إلا إذا توافرت الأدلة ، وثبت بالنص أنهم من العرب حقاً، وأنهم كانوا في جزيرة العرب حقاً.
نعم، لقد قلت إن مصطلح الشعوب العربية هو أصدق اصطلاح يمكن إطلاقه على تلك الشعوب ، وإن الزمان قد حان لاستبدال .مصطلح "عربي" و "عريية" ب "سامي" و "سامية" ، وقلت أشياء أخرى شرحتها في الجزء الثاني من الكتاب السابق في تعليل ترجيح هذه التسمية. ولكنى لم أقصد ولن أقصد أن تلك الشعوب هي قبائل عربية مثل الشعوب والقبائل العربية المعروفة. فالسامية وحدة ثقافية، اصطلح عليها اصطلاحاً، و العروبة وحدة ثقافية وجنسية وروابط دموية وتأريخية، و بين المفهومين فرق كبير.
إن مما يثير الأسف والله في النفوس ان نرى الغربيين يعنون بتأريخ الجاهلية و يجدّون في البحث عنه والكشف عن حلقاته وتركاته في باطن الأرض، ونشره بلغاتهم، ولا نرى حكوماتنا العربية ولا سيما حكومات جزيرة العرب، إلا منصرفة عنه، لا تعنى بالآثار العناية اللازمة لها، ولا تسأل الخبراء رسمياً وباسمها البحث عن العاديات والتنقيب في الخرائب الجاهلية لاستخراج ما فيها من كنوز،وجمعها في دار للمحافظة عليها ولاطلاع الناس عليها . وقد يكون عذر هذه الحكومات إن الناس هناك ينظرون إلى التماثيل نظرتهم إلى الأصنام والأوثان، والى استخراج الآثار والتنقيب عن العاديات نظرتهم إلى بعث الوثنية و إحياء معالم الشرك، وهي من أجل هذا تخشى الرأي العام، وإني على كل حال أرجو إن تزول هذه الأحوال في المستقبل القريب، وأن يدرك عرب الجزيرة أهمية الآثار في الكشف عن تاريخ هذه الأمة العربية القديم.
كذلك أرجو إن تنتبه حكومات جزيرة العرب لأهمية موضوع التخصص بتأريخ العرب القديم، وان تكلف شبانها دراسة علم الآثار ودراسة لهجات العرب قبل الإسلام والأقلام العربية الجاهلية، ليقوموا هم أنفسهم بالبحث والتنقيب في مواطن العاديات المنبثة في مواطن كثيرة من الجزيرة.
ورجاء آخر أتمنى على جامعة الدول العربية والدول العربية إن يحققوه، وهو إرسال بعثات من المتخصصين بالآثار وباللهجات والأقلام العربية القديمة إلى مواطن الآثار في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية والمواضع الأخرى من جزيرة العرب للتنقيب عن الآثار، والكشف عن تأريخ الجزيرة المطمور تحت الأتربة والرمال، ونشره نشرا علمياً، بدلاً من إن يكون اعتمادنا في ذلك على الغربيين. أفلا يكون من العار علينا إن نكون عالة عليهم في كل أمر، حتى في الكشف عن تاًريخنا القديم! وأضيف إلى هذا الرجاء رجاء آخر هو إن تقوم أيضاً بتدوين معجم في اللهجات العربية الجاهلية، تستخرجه من الكتابات التي عثر عليها، وبتأليف كتب في نحوها وصرفها، وترجمة الكتب، الأمهات التي وضعها المؤلفون الأجانب في تاريخ الجاهلية، ترجمة دقيقة تنأى عن المسخ الذي وقع في ترجمة بعض تلك المؤلفات فأشاع الغلظ ونشر التخريف.
لقد راجعت بعض المستشرقين الباحثين في تاريخ العرب القديم، وسالت بعض من ساح في جزيرة العرب في هذه الأيام، وبعض الشركات العاملة فيها، في آخر ما توصلوا إليه من بحوث، وعثروا عليه من عاديات، فوجدت منهم كل معونة، وأرسلوا وما برحوا يرسلون أجوبتهم إليّ بكل ترحاب ولطف، وكتبت إلى بعض حكومات جزيرة العرب والى بعض المسؤولين من أصحاب المكانة فيها والنفوذ مرارا، أسألها وأسألهم عن العاديات وعن الآثار التي عثر عليها حديثاً في بلادهم، فلم أسمع من الاثنين جوابا، وإني إذ أكتب هذه الملاحظة المرّة المؤسفة، إنما أرمي بها إلى التنبيه ولفت أنظار أولي الأمر أصحاب الحكم والسلطان. فمن واجب المسؤول إجابة الرسائل، ولا سيما إن القضية قضية تخص البلاد المذكورة بالذات والعرب عموماً، وقبيح إن ينبري الغريب، فيساعد طالب بحث عن تأريخ أمته واخوته، ويستنكف المسؤولون من أبناء هذه الأمة عن تنفيذ طلب لا يكلفهم شيئا، وهو خطير يتعلق بتأريخ هذه الأمة قبل الإسلام و إذاعته أولاً، وهو واجب من واجباتهم التي نصبوا من أجلها ثانياً.
لقد تمكن الباحثون في التاًريخ الجاهلي، من سياح وعلماء، من الارتقاء بتاريخ الجاهلية بمئات من السنين قبل الميلاد ، وذلك على وجه صحيح لا مجال للشك فيه، خ أن بحوثهم هذه لم تنزل سوى أمتار في باطن الآثار وفي أماكن محدودة معينة. وسوف يرتفع مدى هذا التأريخ إلى مئات أخرى، وربما يتجاوز الألفي سنة أو أكثر قبل الميلاد إذا أتيحت الفرص للعلماء في الحفر في مواضع، الآثار حفرا علمياً بالمعنى الحديث المفهوم من "الحفر" . وأنا لا أستبعد بلوغ هذا التاريخ الجاهلي في يوم من الأيام التأريخ الذي وصل إليه العلماء في مصر وفي العراق، أو في أماكن أخرى عرفت بقدم تاريخها، بل لا أستبعد أيضا أن يتقدم هذا التأريخ تأريخ بعض الأماكن المذكورة .
وبعد هذا ، لا بد لي هنا من الاعتراف بفضل رجل، له على هذا الكتاب وعلى الكتاب الأول يد ومنة، وله كذلك عد مؤلفهما فضل سابق، يسبق زمن تأليف كتابيه بأمد طويل ، هو فضل الإرشاد والتوجيه والتعليم. وأريد به الاستاذ العلامة الفاضل السيد محمد بهجت الأثري ، العضو العامل في مجمع اللغة العربية بالقاهرة وعضو المجمع العلمي العربي بدمشق، وعضو المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. فقد كان لي ولأمثالي من الدارسين والباحثين ولا يزال مرشدا وموجهاً ومشوقاً لدراسة التراث العربي والتراث الإسلامي والتأليف في ذلك، مذ كنت تلميذه في الإعدادية المركزية ببغداد أتلقى عنه في جملة من كانوا يتلقون سنه الأدب العربي، فكان يشوقنا بأسلوبه الجذاب ، وبتأثيره القوي المعروف، إلى التوسع في دراسة الأدب العربي وتاريخ الأمة العربية، وهو ما برح يحثني على الإسراع في إتمام هذا الكتاب و إخراجه للناس، قارئاً مسوداته، ومبدياً آراءه و إرشاداته وملاحظاته المهمة ،التي أفادتني ،والحق أقول، كثيراً. وهما فضلان لن ينساهما تلميذ يقدّر الفضل لأستاذ كريم يفني نفسه في تربية الأجيال ونشر الأدب والعلم.
وبعد، فهذا الكتاب هو جمعي وترتبي، فأنا المسؤول عنه وحدي، وليس لأحد محاسبة غيري عله، اجتهدت ألا اضمنه إلا الحق والصواب من العلم على قدر طاقتي واجتهادي، فإن أكن قد وفقت فيما قصدت اليه وأردته، فذلك حسبي و كفى، لا أريد عليه حمداً ولا شكرا، لأني قمت بواجب، وعملت عن شوق ورغبة وولع قديم بهذا الموضوع يرجع إلى أيام دراستي الأولى، فليس لي فضل ولا منة، وإن كان فيه حسناٌ فهو للعلماء الذين اعتمدت عليهم وأخذت منهم، وليس لي فيه غير الجمع والتأليف. وإن أخفقت فيه فذلك مبلغ علمي واجتهادي، أديته بعد تعب،لا أملك أكبر منه، وبغيتي حسن التوجيه والإرشاد وتقويم الأود، وتصحيح الأغلاظ، فالنقد العلمي الحق إنشاء وبناء، والمدح والإطراء في نظري ابعاد لطالي العلم من أمثالي عن العمل والتقدم،وسبب يؤدي إلى الخيلاء والضلال، وفوق كل ذي علم عليم.
جواد علي
الفصل الأول
تحديد لفظة العرب
نطلق لفظة "العرب" اليوم على سكّان بلاد واسعة، يكتبون ويؤلفون وينشرون ويخاطبون بالإذاعة و "التلفزيون" بلغة واحدة، نقول لها لغة العرب أو لغة الضاد أو لغة القرآن الكريم. وإن تكلموا وتفاهموا وتعاملوا فيما بينهم وفي حياتهم اليومية أدّوا ذلك بلهجات محلية متبابنة، ذلك لأن تلك اللهجات إذا أرجعت رجعت إلى أصل واحد هو اللسان العربي المذكور، وإلى ألسنة قبائل عربية قديمة، وإلى ألفاظ أعجمية دخلت تلك اللهجات بعوامل عديدة لا يدخل البحث في بيان أسبابها في نطاق هذا البحث.
و نحن إذ نطلق لفظة "عرب" و "العرب" على سكان البلاد العربية، فإنما نطلقها إطلاقاً عاماً على البدو وعلى الحضر، لا نفرق بين طائفة من الطائفتين، ولا بين بلد وبلد. نطلقها بمعنى جنسية وقومية وعلم على رسٍّ له خصائص وسمات وعلامات وتفكر يربط الحاضرين بالماضين كما يربط الماضي بالحاضر. و اللفظة بهذا المعنى وبهذا الشكل، مصطلح يرجع إلى ما قبل الإسلام،ولكنه لا يرتقي تاريخياً إلى ما قبل الميلاد، بل لا يرتقي عن الإسلام إلى عهد جدا بعيد. فأنت إذا رجعت إلى القرآن الكريم، والى حديث رسول الله، وجدت للفظة مدلولاً يختلف عن مدلولها في النصوص الجاهلية التيُ عثر عليها حتى الآن، أو في التوراة والإنجيل والتلمود وبقية كتب اليهود والنصارى وما بقي من مؤلفات يونانية ولاتينية تعود إلى ما قبل الإسلام. فهي في هذه أعراب أهل وبر، أي طائفة خاصة من العرب. أما في القرآن الكريم و في الحديث النبوي، وفي الشعر المعاصر للرسول، فإنها علَم على الطائفتين واسم للسان الذي نزل به القرآن الكريم، لسان أهل الحضر ولسان أهل الوبر على حد سواء. )ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشرٌ. لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين(، )ولو جعلناه، قرآناً أعجمياً لقالوا: لولا فصلت آياته أعجمي وعربي. قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد(.
وإذا ما سألتني عن معنى لفظة "عرب" عند علماء العربية، فإني أقول لك: إن لعلماء العربية آراء في المعنى، تجدها مسطورة في كتب اللغة وفي المعجمات. ولكنها كلها من نوع البحوث المألوفة المبنية على أقوال وآراء لا تعتمد على نصوص جاهلية ولا على دراسات عميقة مقارنة، وضعت على الحدس والتخمين، وبعد حيرة شديدة في إيجاد تعليل مقبول فقالوا ما قالوه مما هو مذكور في الموارد اللغوية المعروفة، وفي طليعتها المعجمات وكتب الأدب. وكل آرائهم في تفسير اللفظة وفي محاولة أيجاد أصلها ومعانيها، هو إسلامي، دوّن في الإسلام.
وترى علماء العربية حيارى في تعيين أول من نطق بالعربية، فبينما يذهبون إلى إن "يعرب" كان أول من أعرب في لسانه وتكلم بهذا اللسان العربي، ثم يقولون: ولذلك عرف هذا اللسان باللسان العربي، تراهم يجعلون العربية لسان أهل الجنة ولسان آدم، أي انهم يرجعون عهده إلى مبدأ الخليقة، وقد كانت الخليقة قبل خلق "يعرب" بالطبع بزمان طويل. ثم تراهم يقولون: أول من تكلم بالعربية ونَسِي لسان أبيه إسماعيل. أُلهم إسماعيل هذا اللسان،العربي إلهاماً. وكان أول من فُتق لسانه بالعربية المبينة، وهو ابن أربع عشرة سنة. و إسماعيل هو جد العرب المستعربة على حد قولهم.
والقائلون إن "يعرب" هو أول من أعرب في لسانه، وانه أول من نطق بالعربية، وان العربية إنما سميت به، فأخذت من اسمه، إنما هم القحطانيون. وهم يأتون بمختلف الروايات والأقوال لإثبات أن القحطانيين هم أول العرب، وأن لسانهم هو لسان العرب الأول، ومنهم تعلم العدنانيون العربية، ويأتون بشاهد من شعر "حسان بن ثابت" على إثبات ذلك، يقولون: إنه قاله، وان قوله هذا هو برهان على إن منشأ اللغة العربية هو من اليمن. يقولون إنه قال: تعلمتمُ من منطق الشيخ يعرب أبينا، فصرتم معربين ذوي نفر
و كنتم قديما ما بكم غير عجمة كلام، و كنتم كالبهائم في القفر
ولم يكن يخطر ببال هؤلاء إن سكان اليمن قبل الإسلام كانوا ينطقون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، وأن من سيأتى بعدهم سيكتشف سر "المسنَد"، ويتمكن بذلك من قراءة نصوصه والتعرف على لغته، وأن عربيته هي عربية تختلف عن هذه العربية التي ندوّن بها، حتى ذهب الأمر بعلماء العربية في الإسلام بالطبع إلى إخراج الحميرية واللهجات العربية الجنوبية الأخرى من العربية، وقصر العربية على العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وعلى ما تفرع منها من لهجات كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد. وهو رأي يمثل رأي العدنانيين خصوم القحطانيين.
والقائلون إن يعرب هو جدّ العربية وموجدها، عاجزون عن التوفيق بن رأيهم هذا ورأيهم في إن العربية قديمة قدم العالم، وأنها لغة آدم في الجنة، ثم هم عاجزون أيضاً عن بيان كيف كان لسان أجداد "يعرب"، وكيف اهتدى "يعرب" إلى استنباطه لهذه اللغة العربية، وكيف تمكن من إيجاده وحده لها من غير مؤازر ولا معين? إلى غير ذلك من أسئلة لم يكن يفطن لها أهل الأخبار في ذلك الزمن. وللإخباريين بعد كلام في هذا الموضوع طويل، الأشهر منه القولان المذكوران، ووفق البعض بينهما بأن قالوا: إن "يعرب" أول من نطق بمنطق العربية، و إسماعيل هو أول من نطق بالعربية الخالصة الحجازية التي أنزل عليها القرآن.
أما المستشرقون وعلماء التوراة المحدثون، فقد تتبعوا تأريخ الكلمة، وتتبعوا معناها في اللغات السامية،وبحثوا عنها في الكتابات الجاهلية وفي كتابات الآشوريين والبابليين واليونان والرومان والعبرانيين وغيرهم، فوجدوا إن أقدم نصّ وردت فيه لفظة "عرب" هو نص آشوري من أيام الملك "شلمنصر الثالث" "الثاني?" ملك آشور. وقد تبين لهم إن لفظة "عرب" لم تكن تعني عند الآشوريين ما تعنيه عندنا من معنى، بل كانوا يقصدون بها بداوة وإمارة "مشيخة" كانا تحكم في البادية المتاخمة للحدود الآشورية، كان حكمها يتوسع ويتقلص في البادية تبعاً للظروف السياسية ولقوة شخصية الأمير، وكان يحكمها أمير يلقب نفسه بلقب "ملك" يقال له "جنديبو" أي "جندب" وكانت صلاته سيئة بالآشوريين. ولما كانت الكتابة الآشورية لا تحرك المقاطع، صعُب على العلماء ضبط الكلمة، فاختلفوا في كيفية المنطق بها، فقرئت: "Aribi" و "Arubu" و "Aribu" و "Arub" و "Arai" و "Urbi" و "Arbi" إلى غير ذلك من قراءات. والظاهر إن صيغة "Urabi" كانا من الصيغ القليلة الاستعمال، ويغلب على الظن إنها استعملت في زمن متأخر، وأنها كانت بمعنى "أعراب" على نحو ما يقصد من كلمي "عُربي" و "أعربي" في لهجة أهل العراق لهذا العهد. وهي تقابل كلمة "عرب" التي هي من الكلمات المتأخرة كذلك على رأي بعض المستشرقين. وعلى كل حال فإن الآشوريين كانوا يقصدون بكلمة "عربي" على اختلاف أشكالها بداوة ومشيخة كانت تحكم في أيامهم البادية تمييزاً لها عن قبائل أخرى كانت مستقرة في تخوم البادية.
و وردت في الكتابات البابلية جملة "ماتواربي" "Matu A-Ra-bi" ، "Matu Arabaai" و معنى "ماتو" "متو" أرض، فيكون المعنى "أرض عربي" ، أي "أرض العرب" ، أو "بلاد العرب" ، أو "العربية" ، أو " بلاد الأعراب" بتعبير اصدق و أصح. إذ قصد بها البادية، و كانت تحفل بالأعراب. و جاءت في كتابة "بهستون" "بيستون" "Behistun" لدارا الكبير "داريوس" لفظة "ارباية" "عرباية" "Arabaya" و ذلك في النص الفارسي المكتوب باللغة "الأخمينية" ، و لفظة "Arpaya" "M Ar payah" في النص المكتوب بلهجة أهل السوس "Susian" "Susiana" و هي اللهجة العيلامية لغة عيلام.
ومراد البابليين أو الآشوريين أو الفرس من "العربية" أو "بلاد العرب"، البادية التي في غرب نهر الفرات الممتدة إلى تخوم بلاد الشام.
وقد ذكرت "العربية" بعد آشور وبابل وقبل مصر في نص "دارا" المذكور، فحمل ذلك بعض العلماء على إدخال طور سيناء فيَ جملة هذه الأرضين. وقد عاشت قبائل عربية عديدة في منطقة سيناء قبل الميلاد.
و بهذا المعنى أي معنى البداوة والأعرابية والجفاف والقفر، وردت اللفظة في العبرانية وفي لغات سامية أخرى. ويدل ذلك عذ أن لفظة "عرب" في تلك اللغات المتقاربة هو البداوة وحياة البادية، أي بمعنى "أعراب". وإذا راجعنا المواضع التي وردت فيها كلمة "عربي" و "عرب" في التوراة، نجدها بهذا المعنى تماماً. ففي كل المواضع التي وردت فيها في سفر "أشعياء" "Isaiah" مثلاً نرى أنها استعملت بمعنى بداوة و أعرابية، كالذي جاء فيه: "ولا يخيم هناك أعرابي" و "وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين" . فقصد بلفظة "عرب" في هذه الآية الأخيرة البادية موطن العزلة والوحشة والخطر، ولم يقصد بها قومية وعلية لمجلس معين بالمعنى المعروف المفهوم.
ولم يقصد بجملة "بلاد العرب" في الآية المذكورة والتي هي ترجمة "مسا ه -عراب" " Massa ha-Arab"، المعنى المفهوم من "بلاد العرب" في الزمن الحاضر أو في صدر الإسلام، وإنما المراد بها للبادية، التي بين بلاد الشام والعراق وهي موطن الأعراب.
وبهذا المعنى أيضاً وردت في "أرميا"، ففي الاية "وكل ملوك العرب" الواردة في الإصحاح الخامس والعشرين، تعني لفظة "العرب" "الأعرابي"، أي "عرب البادية". والمراد من "وكل ملوك العرب" و " كل رؤساء العرب" و "مشايخهم"، رؤساء قبائل ومشايخ، لا ملوك مدن وحكومات. وأما الآية: "في الطرقات جلست لهم كأعرابي في البرية"، فإنها واضحة، وهي من الآيات الواردة في "أرميا". والمراد بها أعرابي من البادية،لا حضري من أهل الحاضرة. فالمفهوم اذن من لفظة "عرب" في اصحاحات "أرميا" إنما هو البداوة والبادية والأعرابية ليس غير.
ومما يؤيد هذا الرأي ورود "ها عرابة ha'Arabah " في العبر انية، ويراد: بها ما يقال له: "وادي العربة"، أي الوادي الممتد من البحر الميت أو من بحر الجليل إلى خليج العقبة. وتعتي لفظة "برابة" في العبرانية الجفاف وحافة الصحراء وأرض محروقة، أي معاني ذات صلة بالبداوة والبادية. وقد أقامت في هذا الوادي قبائل بدوية شملتها لفظة "عرب". وفي تقارب لفظة "عرب" و "عرابة"، وتقارب معناهما، دلالة على الأصل المشترك للفظتين. ويعدّ وادي "العربة" وكذلك "طور سيناء" في بلاد العرب. و قصد ب "العربية" برية سورية في "رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطة".
وقد عرف علماء العربية هذه الصلة بين كلمة "عرب" و "عرابة" أو "عربة"، فقالوا: "إنهم سموا عربا باسم بلدهم العربات. وقال إسحاق بن الفرج: عربة باحة العرب، وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام". وقالوا:"وأقامت قريش بعربة فتنخت بها، و أنتشر سائر العرب في جزيرتها، فنسبوا كلهم إلى عربة، لأن أباهم اسماعيل، صلى الله عليه وسلم، نشأ وربى أولاده فيها فكثروا. فلما لم تحتملهم البلاد، انتشروا، وأقامت قريش بها. وقد ذهب بعضهم إلى أن عربة من تهامة، وهذا لا يخفي على كل حال وجود الصلة بين الكلمتين.
ورواية هؤلاء العلماء مأخوذة من التوارة، أخذوها من أهل الكتاب، ولا سيما من اليهود، وذلك باتصال المسلمين بهم: واستفسارهم منهم عن أمور عديدة: وردت في التوراة، ولا سيما في الأمور التي وردت مجملاً في القرآن الكريم والأمور التي تخص تأريخ العرب وصلاتهم بأهل الكتاب.
ويرى بعض علماء التوراة أن كلمة "عرب" إنما شاعت وانتشرت عند العبرانيين بعد ضعف "الاشماعيليين" "الاسماعيليين" وتدهورهم وتغلب الأعراب عليهم حتى صارت اللفظة مرادفة ضدهم لكلمة "اشماعيليين". ثم تغلبت عليهم، فضارت تشملهم، مع أن "الاشماعيليين" كانوا أعراباً كذلك، أي قبائل بدوية تتنقل من مكان إلى مكان، طلباً للمرعى ولماء. وكانا تسكن أيضاً في المناطق التي سكنها الأعراب، أي أهل البادية. ويرى أُولئك العلماء إن كلمة "عرب" لفظة متأخرة، اقتبسها العبرانيون من الآشوريين والبابليين، بدليل ورودها في النصوص الآشورية والبابلية، وهي نصوص يعود عهدها إلى ما قبل التوراة. ولشيوعها بعد لفظة "اشماعيليين"، ولأدائها المعنى ذاته المراد من اللفظة، ربط بينها وبين لفظة "اشماعيليين" ، وصارت نسباً، فصيُر جد هؤلاء العرب "إشماعيل"، وعدّوا من أبناء إسماعيل.
هذا ما يخص التوراة، أما "التلمود"، فقد قصدت بلفظة "عرب" و "عربيم" "Arbim" "عربئيم" "Arbi'im" الأعراب كذلك، أي المعنى نفسه الذي ورد في الأسفار القديمة، وجعلت لفظة "عربي" مرادفة لكلمة "إسماعيلي" في بعض المواضع.
وقبل أن أنتقل من البحث في مدلول لفظة "عرب" ضد العبرانين إلى البحث في مدلولها عند اليونان، أود أن أشر إلى أن العبرانيين كانوا إذا تحدثوا عن أهل المدر، أي الحضر ذكروهم بأسمائهم. وفي سلاسل النسب الواردة في التوراة، أمثلة كثيرة لهذا النوع، سوف أتحدث عنها.
وأول من ذكر العرب من اليونان هو "أسكيلوس، أسخيلوس" "أشيلس" "أخيلوس" "Aeschylus""، "525 - 456 قبل الميلاد" من أهل الأخبار منهم، ذكرهم في كلامه على جيش "أحشويرش" "Xeres"، وقال: انه كان في جيشه ضابط عربي من الرؤساء مشهور. ثم تلاه "هيرودوتس" شيخ المؤرخين "نحو 484 - 425 قبل الميلاد"، فتحدث في مواضيع من ناريخه عن العرب حديثاً يظهر منه انه كان على شيء من العلم بهم. وقد أطلق لفظة "Arabae" على بلاد العرب، البادية وجزيرة العرب و الأرضين الواقعة إلى الشرق من نهر النيل. فادخل "طور سيناء" وما بعدها إلى ضفاف النيل في بلاد العرب.
فلفظة "العربية" "Arabea" ضد اليونان والرومان، هي في معنى "بلاد العرب". وقد سملت جزيرة العرب وبادية الشام. وسكانها هم عرب على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم، على سبل التغليب، لاعتقادهم إن البداوة كانت هي الغالبة على هذه الأرضين، فأطلقوها من ثم على الأرضين المذكورة.
وتدل المعلومات الواردة في كتب اليونان و اللاتين المؤلفة بعد "هيرودوتس" على تحسن وتقدم في معارفهم عن بلاد العرب، وعلى أن حدودها قد توسعت في مداركهم فشملت البادية وجزيرة العرب وطور سيناء في أغلب الأحيان،فصارت لفظة "Arabae" عندهم علماً على الأرضين المأهولة بالعرب والتي تتغلب عليها الطبيعة الصحراوية، و صارت كلمة "عربي" عندهم علماً لشخص المقيم في تلك الأرضين، من بدو ومن حضر، إلاّ أن فكرتهم عن حضر بلاد العرب لم تكن ترتفع عن فكرتهم عن البدوي، بمعنى انهم كانوا يتصورون أن العرب هم أعراب..
ووردت في جغرافية "سترابون" كلمة "أرمبي" "Erembi"، ومعناها اللغوي الدخول في الأرض أو السكنى في حفر الأرض وكهوفها، وقد أشار إلى غموض هذه الكلمة وما يقصد بها، أيقصد بها أهل "طرغلوديته" "Troglodytea" أي "سكان الكهوف" أم العرب? ولكنه ذكر أن هناك من كان يريد بها العرب، وإنها كانت تعني هذا المعنى عند بعضهم في الأيام المتقدمة، ومن الجائز أن تكون تحريفاً لكلمة "Arabi" فأصبحت بهذا الشكل.
أما الإرميون، فلم يختلفوا عن الآشوريين والبابليين في مفهوم "بلاد العرب"، أي ما يسمى ب "بادية الشام" وبادية السماوة. وهي البادية الواسعة الممتدة من نهر الفرات إلى تخوم الشام. وقد أطلقوا على القسم الشرقي من هذه البادية، وهو القسم الخاضع لنفوذ الفرس، امم "بيت عرباية" "Beth 'Arb'aya" "باعرابية" و "Ba 'Arabaya" ،ومعناها "أرض العرب". وقد استعملت هذه التسمية في المؤلفات اليونانية المتأخرة. و في هذا الاستعمال أيضا معنى الأعرابية و السكنى في البادية.
و وردت لفظة "عرب" في عدد كبير من كتابات "الحضر". و وردت مثلا في النص الذي و سم ب "79" حيث جاء في السطرين التاسع و العاشر "وبجندا دعرب" ، "و بجنود العرب". و في السطر الرابع عشر: "و بحطر و عرب" ، أي "و بالحضر و بالعرب". و وردت في النص: "193": "ملكادي عرب" ، أي "ملك العرب" و في النص "194" و في نصوص أخرى. و قد وردت اللفظة في كل هذه النصوص بمعنى "أعراب" ، و لم ترد علما على قوم و جنس، أي بالمعنى المفهوم من اللفظة في الوقت الحاضر.
هذا و ليست لدينا كتابات جاهلية من النوع الذي يقول له المستشرقون "كتابات عربية شمالية" ، فيها أسم "العرب"، غير نص واحد، هو النص الذي يعود إلى "ارء القيس بن عمرو". و قد ورد فيه: "مر القيس بر عمرو، ملك العربكله، ذو استرالتج و ملك الأسدين و نزروا و ملوكهم و هرب مذحجو...". و لو و رد لفظة "العرب" في النص الذي يعود عهده إلى سنة "328 م" شأن كبير "غير أننا لا نستطيع إن نقول: إن لفظة "العرب" هنا، يراد بها العرب بدواً و حضراً، أي يراد بها العلم على قومية، بل يظهر من النص بوضوح و جلاء انه قصد "الأعراب"، أي القبائل التي كانت تقطن البادية في تلك الأيام.
أما النصوص العربية الجنوبية، فقد وردت فيها لفظة "اعرب" بمعنى "أعراب" و لم يقصد بها قومية، أي علم لهذا الجنس المعروف، الذي يشمل كل سكان بلاد العرب من بدو و من حضر، فورد: "و اعرب ملك حضرموت" أي "و أعراب ملك حضرموت"، و ورد: " واعر ملك سبا" ، أي "و أعراب ملك سبأ". و كالذي ورد في نص "أبرهة"، نائب ملك الحبشة على اليمن. ففي كل هذه المواضع و مواضع أخرى، وردت بمعنى أعراب. أما أهل المدن و المتحضرون، فكانوا يعرفون بمدنهم أو بقبائلهم، و كانت مستقرة في الغالب. و لهذا قيل "سبأ" و "هَمْدان" و "حمْيَرْ" و قبائل أخرى، بمعنى إنها قبائل مستقرة متحضرة، تمتاز عن القبائل المتنقلة المسماة "اعرب" في النصوص العربية الجنوبية، مما يدل على أن لفظة "عرب" و "العرب" لم تكن تؤدي معنى الجنس والقومية وذلك في الكتابات العربية الجنوبية المدونة والواصلة إلينا إلى قبيل الإسلام بقليل "449 م" "542م". والرأي عندي إن العرب الجنوبيين لم يفههوا هذا المعنى من اللفظة الا بعد دخولهم في الإسلام، ووقوفهم على القرآن الكريم، وتكلمهم باللغة التي نزل بها، وذلك بفضل الإسلام بالطبع. وقد وردت لفظ "عرب" في النصوص علماً لأشخاص.
وقد عرف البدو، أي سكان البادية، بالأعراب في عربية القرآن الكريم. وقد ذكروا في مواضع من كتاب الله: وقد نعتوا فيه بعوت سيئة، تدل على أثر خلق البادية فيهم. وقد ذكر بعض العلماء ان الأعراب بادية العرب، وانهم سكان البادية.
والنص الوحيد الوحيد الذي وردت فيه لفظة "العرب" علماً على العرب جميعاً من حضر وأعراب، ونعت فيه لسانهم باللسان العربي، هو القرآن الكريم. وقد ذهب "د. ه. ملر" إلى أن القرآن الكريم هو الذي خصص الكلمة وجعلها علماً لقومية تشمل كل العرب. وهو يشك في صحة ورود كلمة "عرب" علماً لقومية في الشعر الجاهلي،كالذي ورد في شعر لامرئ القيس، وفي الأخبار المدونة في كتب الأدب على ألسنة بعض الجاهليين. ورأي "ملر" هذا، رأي ضعيف لا يستند إلى دليل، إذ كيف تعقل مخاطبة القرآن قوماً بهذا المعنى لو لم يكن لهم علم سابق به? وفي الآيات دلالة واضحة لي أن القوم كان لهم إدراك لهذا المعنى قبل الإسلام، وانهم كانوا ينعتون لسانهم باللسان العربي، وانهم كانوا يقولون للألسنة الأخرى ألسنة أعجمية: )أ أعجمي وعربي? قل: هو للذين آمنوا هدى وشفاء(. )وكذلك أنزلناه حكماً عربياً(. )وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا(. )لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين(. ففي هذه الآيات وآيات أخرى غيرها دلالة على أن الجاهليين كانوا يطلقون على لسانهم لساناً عربياً، وفي ذلك دليل على وجود الحس بالقومية قبيل الإسلام.
ونحن لا نزال. نميز الأعراب عن الحضر، ونعتّدهم طبقة خاصة تختلف عن الحضر، فنطلق عليهم لفظة: "عرب" في معنى بدو وأعراب، أي بالمعنى الأصلي القديم، ونرى ان عشيرة "الرولة" وعشائر أخرى تقسم سكان الجزيرة إلى قسمين: حضر و "عرب". وتقصد بالعرب أصحاب الخيام أي المتنقلين. وتقسم العرب، أي البدو إلى "عرب القبيلة"، و "عرب الضاحية"، و هم العرب المقيمون على حافات البوادي والأرياف، أي في معنى "عرب الضاحية" و "عرب الضواحي" في اصطلاح القدامى.
ثم تقسم الحضر وتسمّيهم أيضا ب "أهل الطين" إلى "قارين"، و الواحد "قروني"،وهم المستقرون الذين لهم أماكن ثابتة ينزلونها ابدأ، وإلى "راعية" والمفرد راع، وهم أصحاب أغنام وشبه حضر، ويقال لهم "شوّاية" و "شيّان" و "شاوية" و "رحم الديرة" بحسب لغات القبائل.
وأشبه مصطلح من المصطلحات القديمة بمصطلح "شوّاية" و "شاوية"، هو "الأرحاء"، وهي القبائل التي لا تنتجع ولا تبرح مكانها، إلا أن ينتجع بعضها في البرحاء وعام الجدب.
وخلاصة ما تقدم إن لفظة "ع رب"، "عرب"، هي بمعنى التبدي و الأعرابية في كل اللغات السامية، ولم تكن نفهم إلا بهذا المعنى في أقدم النصوص التاريخية التي وصلت إلينا، وهي النصوص الآشورية. وقد عنت بها البدو عامة، مهما كان سيدهم أو رئيسهم. وبهذا المعنى استعملت عند غيرهم. ولما توسعت مدارك الأعاجم وزاد اتصالهم واحتكاكهم بالعرب وبجزيرة العرب، توسعوا في استعمال اللفظة، حتى صارت تشمل أكثر العرب على اعتبار انهم أهل بادية وان حياتهم حياة أعراب. ومن هنا غلبت عليهم وعلى بلادهم، فصارت علَمية عند أولئك ألأعاجم على بلاد العرب وعلى سكانها، وأطلق لذلك كتبة اللاتين واليونان على بلاد العرب لفظة "Arabae" "Arabia" أي "العربية" بمعنى بلاد العرب.
لقد أوقعنا هذا الاستعمال في جهل بأحوال كثير من الشعوب والقبائل،ذكرت بأسمائها دون أن يشار إلى جنسها. فحرنا في أمرها، ولم نتمكن من إدخالها في جملة العرب، لأن الموارد التي نملكها اليوم لم تنص على أصلها. فلم تكن من عادتها، ولم يكن في مصطلح ذلك اليوم كما قلت اطلاق لفظة "عرب" إلا على الأعراب عامة، وذلك عند جهل اسم القبيلة، وكانت تلك القبيلة بادية غير مستقرة،وقد رأينا إن العرب أنفسهم لم يكونوا يسمون أنفسهم قبل الميلاد، إلا بأسمائهم، ولولا وجودهم في جزيرة العرب ولولا عثورنا على كتابات أو موارد أشارت اليهم، لكان حالهم حال من ذكرنا، أي لما تمكناّ من إدخالهم في العرب. ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً تجاه القبائل المذكورة، وليس لنا إلا الانتظار، فلعل الزمن يبعث نصاً يكشف عن حقيقة بعض تلك القبائل.
هذا ويلاحظ أن عدداً من القبائل العربية الضاربة في الشمال والساكنة في العراق وفي بلاد الشام، تأثرت بلغة بني إرم، فكتبت بها، كما فعل غيرهم من الناس الساكنين في هذه اللأرضين، مع انهم لم يكونوا من بني إرم. ولهذا حسبوا على بني إرم، مع أن أصلهم من جنس آخر. وفي ضمن هؤلاء قبائل عربية عديدة، ضاع أصلها، لأنها تثقفت بثقافة بني إرم، فظن لذلك إنها منهم.
الآن وقد انتهيت من تحديد معنى "عرب" وتطورها إلى قبيل الإسلام، أرى لزاماً عليّ أن أتحدث عن ألفاظ أخرى استعملت بمعنى "عرب" في عهد من العهود، وعند بعض، الشعوب. فقد استعمل اليونان كلمة "Saraceni" و "Saracenes"، واستعملها اللاتين على هذه الصورة "Saracenus"، وذلك في معنى "العرب" وأطلقوها على قبائل عربية كانت تقيم في بادية الشام وفي طور سيناء، وفي الصحراء المتصلة بأدوم. وقد توسع مدلولها بعد الميلاد، ولا سيما في القرن الرابع والخامس والسادس، فأطلقت على العرب عامة، حتى أن كتبة الكنيسة ومؤرخي هذا.العصر قلما استعملوا كلمة "عرب" في كتبهم، مستعيضين عنها بكلمة "Saraceni". وأقدم من ذكرها هو "ديوسقوريدس "Dioscurides of Anazabos" الذي عاش في القرن الأول للميلاد. وشاع استعمالها في القرون الوسطى حيث أطلقها النصارى على جميع العرب، و أحيانا على جميع المسلمين. و نجد الناس يستعملونها في الانكليزية في موضع "عرب" حتى اليوم.
و قد أطلق بعض المؤرخين من أمثال "يوسبيوس" "أويسبيوس" "Eusebius" و "هيرونيموس" "Hieronymus" هذه اللفظة على "الاشماعيلين" الذين كانوا يعيشون في البراري في "قادش" في برية "فاران"، أو مدين حيث جبل "حوريب". و قد عرفت أيضا ب "الهاجرين" "Hagerene" ثم دعيت ب "Saracenes".
و لم يتحدث أحد من الكنيسة اليونان و الرومان و السريان عن أصل لفظة "Saraceni" "Sarakenoi". و لم يلتفت العلماء إلى البحث في أصل التسمية إلا بعد النهضة العلمية الاخيرة، و لذلك اختلفت آراؤهم في التعليل، فزعم بعضهم انه مركب من "سارة" زوج إبراهيم، ولفظ آخر ربما هو "قين"، فيكون المعنى "عبيد سارة". وقال آخرون: أنه مشتق من "سرق"، فيكون المواد من كلمة "Saraceni" "سراكين" "السراقين" أو "السارقين" إشارة إلى غزوهم وكثرة سطوهم. أو من "Saraka" بمعنى "Sherk" -أي "شرق"، ويراد بذلك الأرض التي تقع إلى شرق النبط. وقال "ونكلر" أنه من لفظة "شرقو"، وتعني "سكان الصحراء" أو "أولاد الصحراء". استنتج رأيه هذا من ورود اللفظة في نص من ايام "سرجون". ويرى آخرون انه تصحيف "شرقيين"، أو "شارق" على تحو ما يفههلى من كلمة "قدموني" "Qadmoni" في التوراة، بمعنى شرقي، أو أبناء الشرق "Bene Kedem"" "Bene Qedhem". وكانت تطلق خاصة على القبائل التي رجع النسابون العبرانيون نسبها إلى "قطورة".
وقد مال إلى هذا الرأي الأخير اكثر من بحث في هذه التسمية من المستشرقين، فعندهم ان "سرسين" أو "سركين" أو "Sarakenoi" من "شرق"، وان "Bene Kedem" و "Qadmooni" العبرانيتين هما ترجمتان للفظة "Saraceni". ولهذا يرجحون هذا الرأي ويأخذون به.
والقائلون ان "سارقين" من أصل لفظتين "سارة"، زوج إبراهيم، ومن "قين" بمعنى "عبد" وان المعنى هو "عبيد سارة"، متأثرون برواية التوراة عن سارة وبالشروح الواردة عنها. وليست لأصحاب هذا الرأي أية أدلة أخرى غير هذا التشابه اللفظي الذي نلاحظه بين "سرسين" وبين "سارقين"، وهو من قبيل المصادفة والتلاعب بالألفاظ ولا شك، وغير هذه القصة الواردة في التوراة: قصة "سارة" التي لا علاقة لها بالسرسين.
هذا وما زال أهل العراق يطلقون لفظة "شروك" و "شروكية" على جماعة من العرب هم من سكان "لواء العمارة" والأهوار في الغالب، وينظرون اليهم نظرة خاصة، ولا شك عندي ان لهذه التسمية علاقة بتلث الت!سمية القديمة. ويستعمل اهل العراق في الوقت الحاضر لفظة اخرى، هي "الشرجية"، أي "الشرقية"، ويقصدون بها جهة المشرق. وتقابل لفظة "بني قديم" في العبرانية،وهي من بقايا المصطلحات العراقية القديمة التي تعبر عن مصطلح "شركوني" و "بني قديم".
هذا وقد عرف العرب ان الروم يسمونهم "ساراقينوس"، فقد ذكر "المسعودي" ان الروم إلى هذا الوقت "أي إلى وقته" تسمي العرب "ساراقينوس". وذكر خبرا طريفاً عن ملك الروم "نقفور" المعاصر ل "هارون الرشيد". فقد زعم انه "أنكر على الروم تسميتهم العرب ساراقينوس. تفسير ذلك عبيد ساره، طعناً منهم على هاجر وابنها إسماعيل، وانها كانت امةّ لسارة، وقال: تسميتهم عبيد سارة، كذب.
وقد كانت منازل "القدمونيين"، "هقدمني"، "هاقدموني" "Kadmonites"، في المناطق الشرقية لفلسطين، أي في بادية الشام. ولما كان "قيدما" "kedemeh" هو أحد أبناء إسماعيل في اصطلاح "التوراة"، فيكون أبناء "قيدما" من العرب الاسماعيليين. وقد ذكر في موضع من التوراة انهم كانوا. يقطنون المناطق الشرقية لفلسطين قرب "البحر الميت" المعروف في العبرانية ب "هايم هقدموني"، أي "البحر القدموني" "البحر الشرقي". وقد كان "القدمونيون"، أي "بنو قديم" أعراباً يقطنون في بادية الشام. وأشباه أعراب، أي رعاة وأشباه حضريين، واللفظة لا تعني قبيلة واحدة معينة، أي علمية، ولا تعني قبائل معنية، وإنما هي لفظة عامة أطلقت على الساكنين في الأماكن الشرقية بالنسبة إلى العبرانيين.
ونجد في الكتب اليونانية لفظة لها علاقة بطائفة من العرب،هي "Senitae"، وقد أطلقت خاصة على أعراب بادية الشام. وقصد بها الأعراب سكان الخيام، أي "أهل الوبر" في اصطلاح العرب. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها من "الخيمة" التي هي منزل الأعرابي، لأن الخيمة هي "Skene" "skynai" في اليونانية. فالمعنى إذن "سكان الخيام".
وقد ذكر "سترابون" إن ال "Scenitae" كانوا نازلين سلى حدود "سورية" الشرقية، كما ذكر إن منهم من كان ينزل شمال "العربية السعيدة" وهم سكان خيام. وقد فرّق "سترابون" بينهم وبين البدو تفريقا ظاهراً، وميزهم عن غيرهم من الأعراب بسكناهم في الخيام. وقال عنهم في موضع آخر: انهم يمثلون بصورة عامة "بدو" العراق. وانهم يعتنون بتربية الإبل. وقد ذكرهم أيضاً في أثناء كلامه على ساحل "Maranitae" فقال: انه مأهول بالفلاحين وبال "Sceniae" وأراد بهم الأعراب الذين لا يسكنون إِلا الخيام ويعيشون على تربية الإبل، وقد ذكر انهم كانوا قبائل و مشيخات.
وقد ذكرهم "بلينيوس" كذلك، فدعاهم ب "Scenitae". وقد كانوا يقيمون في البادية. وقد حاربهم "سبتيموس سفيروس"، وسأتحدث عن ذلك فيما بعد، كما أشار غيره إليهم. والظاهر إن لفظة "Nomas" "Nomadas" التي تعتي "البدو" لا تؤدي معنى "Scenitae" أي سكان الخيام. إذ فرق الكتبة اليونان في مؤلفاتهم بين اللفظتين. وأغلب ظني إن المراد بسكان الخيام الأعراب المستقرون بعض الاستقرار، آي الذين عاشوا في مضارب عيشة شبه مستقرة: لهم خيامهم وإبلهم وحيواناتهم على مقربة من الريف والحضارة. أما ال"نومادس" "Nomades" "Nomadas" فقد كانوا قبائل رحلا يعشيون في البوادي لا يستقرون في مكان واحد، متى وجدوا فرصة اغتنموها فأغاروا على من بجدونهم أمامهم، للعيش على ما يقع في أيديهم. ولذلك كانت ظروف ضعف الحكومات أو انشغالها بالحروب من أحسن الفرص المناسبة لهم. ومن هنا فرّق الكتبة اليونان وغيرهم بين الجماعتين.
إننا لا نستطيع إن تحدد الزمان الذي ظهر فيه مصطلح "سكينيته" بين اليونان واللاتين. وقد يكون ترجمة للفظة أخذوها من الفرس أو الآشوريين أو غيرهم من الشعوب. ومصطلح "أهل الوبر"، هو مصطلح يقابل جملة "سكان الخيام" في نظري. أما مصطلح "أهل بادية" أو "أعراب بادية" أو "سكان البوادي"، فانه تعبير يقابل "Nomadas" عند اليونان.
وعرف العرب عند الفرس وعند بني إرم بتسمية أخرى، هي: "Tayo" و "Taiy". أما علماء عهد التلمود من العبرانيين، فأطلقوا عليهم لفظة "ط ي ي ع ا" "طيعا" و "طيايا" "طياية"2 وأصل الكلمتين واحد على ما يظهر، أخذ من لفظة "طيء" اسم القبيلة العربية الشهرة على رأي أكثر العلماء. وكانت تنزل في البادية في الأرضين المتاخمة لحدود امبراطورية الفرس، وكانت من أقوى القبائل العربية في تلك الأيام، ولهذا صار اسمها مرادفاً لفظة. "العرب" "عرب". وقد ذكر "برديصانِ" أسم "Tayae" "Tayoye" مع "Sarakoye".
وقد شاعت هذه التسمية قرب الميلاد، و انتشرت في القرون الأولى للميلاد، كما يتبين ذلك من الموارد السريانية والموارد اليهودية.
واستعملت النصوص "الفهلوية" "Pahlawi " " لفظة "تاجك" "Tadgik" "Tachik" "Tashik" في مقابل "عرب"، كما استعملت الفارسية لفظة "تازي" بهذا المعنى أيضاً. واستعمل الأرمن كلمة "تجك" "Tashi" في معنى عرب ومسملين، واستعمل الصينيون لفظة "تشي" "Tashi" لهذه التسمية. وقد عرف سكان آسية الوسطى الذين دخلوا في الإسلام بهذه التسمية، كما أطلق الأتراك على الإيرانيين لفظة "تجك"، من تلك التسمية، حتى صارت لفظة "تجك" تعني "الإيراني" في اللغة التركية.
ويرى بعض العلماء إن "تاجك" و "تجك" و "تازك"، هي من الأصل المتقدم. من أصل لفظة "طيء"3 ولكلمة "تازي" في الفارسية معنى "صحراوي"، من "تاز" "taz"، بمعنى الأرض المقفرة الخالية،ولذلك نسب بعض الباحثين كلمة "تازي" إلى هذا المعنى، فقالوا إنها أطلقت على العرب لما اشتهر عنهم أنهم صحراويون.
وقد زعم "حمزة الأصفهاني" إن الفرس أطلقوا على العرب لفظة "تاجيان"، نسبة إلى "تاج بن فروان بن سيامك بن مشى بن كيومرث"، وهو جد العرب.
وبعض هذه التسميات المذكورة، لا يزال حياً مستعملا"، ولكنه لم يبلغ مبلغ لفظة "عرب" و "العرب" في الشهرة و الانتشار. فقد صارت لفظة "عرب"، علماً على قومية وجنس معلوم، له موطن معلوم، وله لسان خاص به يميزه عن سائر الألسنة ، من بعد الميلاد حتى اليوم. وقد وسع الإسلام رقعة بلاد العرب، كما وسع مجال اللغة العربية، حتى صارت بفضله لغة عالمية خالدة ذات رسالة كبيرة، غمرت بفضل الإسلام بعض اللغات مثل الفارسية والتركية والأردية ولغات أخرى، فزودتها بمادة غزيرة من الألفاظ، دخلت حتى صارت جزءاً من تلك اللغات، يظن الجاهل إنها منها لاستعماله لها، ولكنها في الواقع من أصل عربي.
وربّ سائل يقول:لقد كان للعرب قبل الإسلام لغات، مثل المعينية والسبئية و الحمرية والصفوية والثمودية واللحيانية وأمثالها، اختلفت عن عربية القرآن الكريم اختلاقاً كبيرا، حتى إن أحدنا إذا قرأ نصاً مدوناً بلغة من تلك اللغات عجز عن فهمه، وظن إذا لم يكن له علم بلغات العرب الجاهليين أنه لغة من لغات البرابرة أو الأعاجم، فإذا سيكون موقفنا من أصحاب هذه اللغات، أنعدهم عرباً? والجواب إن هؤلاء، وإن اختلفت لغتهم عن لغتنا وباينت ألسنتهم ألست فإنهم عرب لحماً ودماً، ولدوا ونشأوا في بلاد العرب، لم يرسوا إليها من الخارج، ولم يكونوا طارئين عليها من أمة غريبة. فهم إذن عرب مثل غيرهم، و لغات العرب هيّ لغات عربية، وإن اختلفت وتباينت، وما اللغة التي نزل القرآن الكريم إلا لغة واحدة من تلك اللغات، ميزت من غيرها، واكتسبت شرف التقدم والتصدر بفضل الإسلام، وبفضل نزول الكتاب بها، فص "اللغة العربية الفصحى" ولغة العرب أجمعين.
وحكمنا هذا ينطبق على النبط أيضا وعلى من كان على شاكلتهم، عدهم علماء النسب والتاريخ واللغة والأخبار من غير العرب، وأبعدوهم العرب والعربية،فقد كان أولئك وهؤلاء عرباً أيضاً، مثل عرب اليمن المذكورين ومثل ثمود والصفويين واللحيانيين، لهم لهجاتهم الخاصة ؛ وإن تأثروا بالإرمية وكتبوا بها، فقد تكلم اليهود بالإرمية ونسي كثير منهم العبرانية، ولكن نسيا أولئك اليهود العبرانية، لم يخرجهم مع ذلك عن العبرانيين.
وسترد في بحثنا عن تاريخ الجاهلية أسماء قبائل عربية كثيرة عديدة لا عهد للإسلاميين بها، ولا علم لهم عنها، ذكروا في التوراة وفى كتب اليهود الأخرى وفي الموارد اللاتيننة واليوناينة والِكتابات الجاهلية. وإذا جاز لأحد الشك في أصل بعض القبائل المذكورة في كتب اليهود أو في مؤلفات الكتبة "الكلاسيكيين" على اعتبار أفها أخطأت في إدخالها في جماعة العرب، فإن هذا الجواز يسقط حتماً بالنسبة إلى القبائل المذكورة في الكتابات الجاهلية، وبالنسبة إلى القبائل الني دونت تلك الكتابات. فهي كتابات عربية، وإن اختلفت عن عربيتنا وباينت لغتها لغتنا، لأنها لهجة قوم عاشوا في بلاد العرب ونبتوا فيها، وقد كان لسانهم هذا اللسان العربي المكتوب.
فسبيلنا في هذا الكتاب إذن، هو البحث في كل العرب: العرب الذين تعارف العلماء الإسلاميون على اعتبارهم عرباً، فمنحوهم شهادة العروبة، بحسب طريقتهم في تقسيمهم إلى طبقات، وفي وضعهم في أشجار نسب ومخططات؛ والعرب المجهولين الذين لم يمنحوا هذه الشهادة بل حرموا منها، ونص على إخراجهم من العرب كالنبط على ما ذكرت، والعرب المجهولين كل الجهل الذين لم يكن للمسلمين علم ما بهم، ولم يكن لهم علم حتى بأسمائهم. سنتحدث عن هؤلاء جميعاً، عند اعتبار أنهم عرب، جهلهم العرب، لأنم عاشوا قبل الإسلام،أو لأنهم عاشوا في بقاع معزولة نائية، فلم يصل خبرهم إلى الإسلاميين، فلما شرع المسلمون في التدوين، لم يعرفوا عنهم شيئاً، فأُهملوا، ونسوا مع كثير غيرهم من المنسيين.
سئل أحد علماء العربية عن لسان حمير، فقال: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا . ولكن علماء العربية لم يتنصلوا من عروبة حمير، ولا من عروبة غيرهم ممن كان يتكلم بلسان آخر مخالف للساننا، بل عدوهم من صميم العرب ومن لبّها، ونحن هنا لا نستطيع إن ننكر على الأقوام العربية المنسية عروبتها، لمجرد اختلاف لسانها عن لساننا، ووصول كتابات منها مكتوبة بلغة لا نفهمها. فلغتها هي لغة عربية، ما في ذلك شك ولا شبهة، وإن اختلفت عن لسان يعرب أو أي جدّ آخر يزعم أهل الأخبار أنه كان أول من أعرب في لسهانه، فتكلم بهذه العربية التي أخذت تسميتها من ذلك الإعراب.
وبعد إن عرفنا معنى لفظة العرب والألفاظ المرادفة لها، أقول إن بلاد العرب أو "العربية"، هي البوادي والفلوات الني أطلق الآشوريون ومن جاء بعدهم على أهلها لفظة "الأعراب"، وعلى باديتهم "Arabeae" و "Arabae" وما شاكل ذلك. وهي جزيرة العرب وامتدادها الذي يكون بادية الشام حتى نهايتها عند اقتراب الفرات من أرض بلاد الشام، فالفرات هو حدها الشرقي. أما حدها الغربي، فارض الحضر في بلاد الشام. وتدخل في العربية بادية فلسطين و "طور سيناء" إلى شواطئ النيل. وقد أطلق بعض الكتاب اليونان على الأرضين الواقعة شرق ال "Araxe"، أي الخابور اسم "Arabia" كما أدخل "هيرودوتس" أرض طور سيناء إلى شواطئ نهر النيل في "العربية" "Arabia"أي بلاد العرب.
أما الآن، وقد عرفنا لفظة عرب، و كيف تحددت، وتطورت، أرى لزاماً علينا الدخول في صلب موضوعنا وهو تاريخ العرب، مبتدئين بمقدمة عن الجاهية وعن المواود التي استقينا منها أخبارها،. ثم بمقدمات عن جزيرة العرب وعن صبيعتها وعن الساميين وعقليتهم وعن العقلية العربية، تليها بحوث في أنساب العرب، ثم ندخل بعد ذلك في التاريخ السياسي للعرب، ثم بقية أقسام تاريخ العرب من حضارة ومدنية ودينية واجتماعية ولغوية.
ولما كان الإسلام أعظم حادث نجم على الإطلاق في تاريخ العرب، أخرجهم من بلادهم إلى بلاد أخرى واسعة فسيحة، وميزهم أمة تؤثر تأثيراً خطيراً في حياة الناس.. صار ظهوره نهاية لدور ومبدأً لتاريخ دور، ونهاية أيام عرفت ب "الجاهلية"، وبداية عهد عرف ب "الإسلام" ما زال قائماً مستمراً، وسيستمر إلى ما شاء الله، به أُرخ تاريخ العرب، فما وقع قبل الإسلام،عرف بتاريخ العرب قبل الإسلام، وما وقع بعده قيل له: تاريخ العرب بعد الإسلام.
وسيكون بحثنا هنا، أعني في هذه الأجزاء المتتالية في القسم الأول من تاريخ العرب، وهو قسم تاريخ العرب قبل الإسلام، أما القسم الثاني، وهو تاريخ العرب في الإسلام، فستأتي أجزاؤه بالتتالي أبضا بعد الانتهاء من هنا للقسم.
وبعد هذه المقدمة، فلنطوِ صفحات هذأ الفصل، ولننتقل إلى فصل جديد، هو الفصل الثاني من هذه الفصول، فصل: الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي.
الفصل الثاني
الجاهلية و مصادر التاريخ الجاهلي
اعتاد الناس إن يسموا تاًريخ العرب قبل الإسلام "التاريخ الجاهلي"، أو "تأريخ الجاهلية"، وان يذهبوا إلى إن العرب كانت تغلب عليهم البداوة، وانهم كانوا قد تخلفوا عمن حولهم في الحضارة، فعاش أكثرهم عيشة قبائل رحل، في جهل وغفلة، لم تكن لهم صلات بالعالم الخارجي، ولم يكن للعللم الخارجي اتصال بهم، أميوّن، عبدة أصنام، ليس لهم تاريخ حافل، لذلك عرفت تلك الحقبة التي سبقت الإسلام عندهم ب "الجاهلية".
و "الجاهلية" اصطلاح مستحدث، ظهر بظهور الإسلام، وقد أطلق على حال قبل الإسلام تمييزا وتفريقاً لها عن الحالة التي صار عليها العرب بظهور الرسالة، على النحو الذي محدث عندتا وعند غيرنا من الأمم من إطلاق تسميات جديدة للعهود القائمة، والكيانات الموجودة بعد ظهور أحداث تزلزلها وتتمكن منها، وذلك لتمييزها وتفريقها عن العهود التي قد تسميها أيضاً بتسميات جديدة. وفي التسميات التي تطلق على العهود السابقة، ما يدل ضمناً على شيء من الازدراء والاستهجان للأوضاع السابقة في غالب الأحيان.
وقد سبق للنصارى إن أطلقوا على العصور التي سبقت المسيح والنصرانية "الجاهلية"، أي "أيام الجاهلية"، أو "زمان الجاهلية"، استهجاناً لأمر تلك الأيام، وازدراءَ بجهل أصحابها لحالة الوثنية التي كانوا عليها، ولجهالة الناس إذ ذاك وارتكابهم الخطايا التي أبعدتهم، في نظر النصرانية، عن العلم، وعن ملكوت الله. "وقد أغش الله عن أزمنة هذا الجهل فيبشر الآن جميع الناس في كل مكان إلى إن يتوبوا".
وقد وردت لفظة "الجاهلية"، في القرآن الكريم،وردت في السور المدنية، دون السور المكية، فدل ذلك على إن ظهورها كان بعد هجرة الرسول إلى المدينة، وان إطلاقها بهذا المعنى كان بعد المجرة، وأن المسلمين استعملوها منذ هذا العهد فما بعده.
وقد فهم جمهور من الناس إن الجاهلية من الجهل الذي هو ضد العلم أو عدم اتباع العلم،ومن الجهل بالقراءة والكتابة، ولهذا ترجمت اللفظة في الإنكليزية ب "The Time of Ignorance"، وفي ا لألمانية ب "Zeit der Unwissenheit" وفهمها آخرون أنها من الجهل بالله وبرسوله وبشرائع الدين وباتباع الوثنية والتعبد لغير الله، وذهب آخرون إلى أنها من المفاخرة بالأنساب والتباهي بالأحساب والكبر والتجبر وغر ذلك من الخلال التي كانت من أبرز صفات الجاهلين. ويرى المستشرق "كولدتزهير" "Goldziher" إن المقصود الأول من الكلمة "السفه" الذي هو ضد الحلم، والأنفة والخفة والغضب وما إلى ذلك من معان، وهي أمور كانت جد واضحة في حياة الجاهليين، ويقابلها الإسلام، الذي هو مصطلح مستحدث أيضاً ظهر بظهور الإسلام، وعمادة الخضوع لله والانقياد له ونبذ التفاخر بالأحساب والأنساب والكبر وما إلى ذلك من صفات نهى عنها القرآن الكريم والحديث.
وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم في مواضع منه ،منها آية سورة الفرقان: )وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً( ، وآية سورة البقرة: )قالوا أتخذَنا هزواً? قال: أعوذ بالله إن أكون من الجاهلين( ، وآية سورة الأعراف: )خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين(، وآية هود: )أني أعظك إن تكون من الجاهلين(. وفي كل هذه المواضع ما ينم على أخلاق الجاهلية. وقد ورد في الحديث: )إذا كان أحدكم صائماً، فلا يرفث ولا يجهل(، وورد أيضاً: "إنك امرؤ فيك جاهلية" وبهذا المعنى تقريباً وردت الكلمة في قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علـينـا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي: لا يسفه أحد علينا، فنسفه عليهم فوق سفههم، أي نجازيهم جزاء يربي عليه.
واستعمال هذا اللفظ بهذا المعنى كثير.
وجاء في سورة المائدة: "أفحكم الجاهلية يبغون ومن احسن من الله حكماً لقوم يوقنون" أي أحكام الملة الجاهلية وما كانوا عليه من الضلال والجور في الأحكام والتفريق بين الناس في المنزلة والمعاملة.
وأطلقوا على "الجاهلية الجهلاء"، والجهلاء صفة للأولى يراد بها التوكيد، وتعني "الجاهلية القديمة". وكانوا إذا عابوا شيئاً واستبشعوه، قالوا: "كان ذلك في الجاهلية الجهلاء". و "الجاهلية الجهلاء" هي الوثنية التي حاربها الإسلام. وقد أنب القرآن المشركين على حميتهم الوثنية،فقال: )إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية(.
والرأي عندي إن الجاهلية من السفه والحمق والأنفة والخفة والغضب وعدم الانقياد لحكم وشريعة و إرادة إلهية وما إلى ذلك من حالات انتقصها الإسلام. فهي في معنى "اذهب يا جاهل" نقولها في العراق لمن يتسفه ويتحمق وينطق بكلام لا يليق صدوره من رجل، فلا يبالي أدبا ولا يراعي عرفاً، و "رجل جاهل" نطلقه على من لا يهتم بمجتمع ودين، ولا يتورع من النطق بأفحش الكلام. ولا يشترط بالطبع أن يكون ذلك الرجل جاهلا أميا، أي ليس له علم، وليس بقارئ كاتب.
وقد اختلف المفسرون في المراد من الجاهلية الأولى في قوله تعالى: )وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى(، فقيل: "الجاهلية الأولى التي ولد فيها إبراهيم، والجاهلية الأخرى التي. ولد فيها محمد". وقيل "الجاهلية الأولى بين عيسى ومحمد"، وقد أدى اختلافهم في مفهوم هذه الآية إلى تصور وجود جاهليتين جاهلية قديمة، وجاهلية أخرى هي التي كانت عند ولادة الرسول.
واختلف العلماء في تحديد بدأ الجاهلية، أو العصر الجاهلي، فذهب بعضهم إلى أن الجاهلية كانت، فيما بين نوح وإدريس. وذهب آخرون إلى أنها كانت بين آدم ونوح، أو إنها بين موسى وعيسى، أو الفترة التي كانت ما بين عيسى ومحمد. وأما منتهاها، فظهور الرسول ونزول الوحي عند الأكثرين، أو فتح مكة عند جماعة. وذهب ابن خالويه إلى أن هذه اللفظة أطلقت في الإسلام على الزمن الذي كان قبل البعثة.
والذي يفهم خاصة من كتب الحديث إن أصحاب الرسول كانوا يعنون به "الجاهلية" الزمان الذي عاشوا فيه قبل الإسلام، وقبل نزول الوحي، فكانوا بسألون الرسول عن أحكامها، وعن موقفهم منها بعد إسلامهم، وعن العهود التي قطعوها على أنفسهم في ذلك العهد، وقد اقر الرسول بعضها، ونهى عن بعض آخر، وذلك يدل على أن هذا المعنى كان قد تخصص منذ ذلك الحين، وأصبح للفظة "الجاهلية" مدلول خاص في عهد الرسول.
وأطلق بعض العلماء على الذين عاشوا بين الميلاد ورسالة الرسول "أهل الفترة" وهم في نظرهم جماعة من أهل التوحيد ممن يقر بالبعث، ذكروا منهم:"حنظلة ابن صفوان" نبي "أصحاب الرّس" وأصحاب الأخدود، وخالد بن سنان العبسي، و "وثاب السني" وأسعد أبا كرب الحميري، وقس بن ساعدة الإيادي وأمية بن أبي الصّلت، وورقة بن نوفل، وعداس مولى عتبة بن أبي ربيعة، وأبا قيس صربة بن آبي أنس من الأنصار، وأبا عامر الأوسي، وعبد الله بن جحش وآخرين. فهم إذن طبقة خاصة من الجاهليين، ميزوا عن غيرهم بهذه السمة، لأنهم لم يكونوا على ملة أهل الجاهلية من عبادة الأصنام والأوثان. فلفظة "الجاهلية" إذن نعت اسلامي، من نوع النعوت التي تطلق في العهود السابقة على حركة ما أو انقلاب. أطلقه المسلمون على ذلك العهد، كما نطلق اليوم نعوت وأسماء على العهود الماضية التي يثور الناس عليها، من مثل مصطلح "العهد المباد" الذي أطلق في العراق على العهد الملكي منذ ثورة 4 1 تموز 1958، ومثل المصطلحات الأخرى الشائعة في الأقطار العربية الأخرى، والتي أطلقت على العهود السابقة للثورات والانقلابات.
موارد التاريخ الجاهل
تاريخ الجاهلية هو أضعف قسم كتبه المؤرخون العرب في تاريخ العرب، يعوزه التحقيق والتدقيق والغربلة. وأكر ما ذكروه على انه تاريخ هذه الحقبة، هو أساطير، وقصص شعبي، وأخبار أخذت عن أهل الكتاب ولا سيما اليهود، وأشياء وضعها الوضاعون في الإسلام، لمآرب اقتضتها العواطف والمؤثرات الخاصة.
وقد تداول العلماء وغير أصحاب العلم هذه الأخبار على إنها تاريخ الجاهلية حتى القرن التاسع عشر. فلما انتهت إلى المستشرقين، شكّوا في أكثرها، فتناولوها بالنقد. استناداً إلى طرق البحث الحديثة التي دخلت على العلوم النظرية،وتفتحت بذلك آفاق واسعة في عالم التاريخ الجاهلي لم تكن معروفة،ووضعوا الأسس للجادات التي توصل عشاق التاريخ إلى البحث في تاريخ جزيرة العرب.
وكان أهم عمل رائع قام به المستشرقون هو البحث عن الكتابات العربية التي دوّنها العرب قبل الإسلام، وتعليم الناس قراءتها بعد أن جهلوها مدة تنيف على ألف عام. وقد فتحت هذه النصوص باب تاريخ الجاهلية، ومن هذا الباب يجب أن نصل إلى التاريخ الجاهلي الصحيح.
لقد كلف البحث عن هذه الكتابات العلماء والسياح، ثمناً غالياً كلفهم حياتهم في بعض الأحيان، ولم يكن من السهل تجول هؤلاء الأوروبيون بأزياء مختلفة في أماكن تغلب عليها الطبيعة الصحراوية للحصول على معلومات عن الخرائب والعاديات والحصول على ما يمكن الحصول عليه من نقوش وكتابات.
والتاريخ الجاهلي مع ذلك في أول مرحلة من مراحله وفي الدرجات الأولى من سلم طويل متعب. ولا ينتظر التقدم أكثر من ذلك،إلا إذا سهّل للعلماء التجوال في بلاد العرب، لدراستها من جميع الوجوه، و للبحث عن العاديات، ويسرت لهم سبل البحث، ووضعت أمامهم كل المساعدات الممكنة التي تأخذ بأيدهم إلى الكشف عن مواطن ذلك التاريخ والبحث عن مدافن كنوز الآثار تحت الأتربة واستخراجها وحلّ رموزها،لجعلها تنطق بأحوالها في تلك الأيام. وتلك مسؤولية لن تفُهم إلا إذا فهم العرب وعلى رأسهم الحاكمون منهم أن من واجبهم المحافظة على تأريخ العرب القديم بصيانة مواطن الآثار ومنع الاعتداء عليها، بإنزال أشد العقوبات بمن يحطم تمثالا، لاعتقاده بأنه صنم، أو بهدم أثراً للاستفادة من حجره، أو ما شابه ذلك من هدم وتخريب.
لم يطمئن المستشرقون إلى هذا المروي في الكتب العربية عن التاريخ الجاهلي ولم يكتفوا به، بل رجعوا إلى مصادر وموارد ساعدتهم في تدوين هذا الذي نعرفه عن تاريخ الجاهلية، وهو شيء قليل في الواقع، ولكَنه مع ذلك خير من هذا القديم المتعارف وأقرب منه إلى التأريخ، وقد تجمعت مادته من هذه الموارد: 1- النقوش والكتابات.
2- التوراة والتلمود والكتب العبرانية الأخرى.
3- الكتب اليونانية واللاتينية والسريانية ونحوها.
4- المصادر العربية الإسلامية.
1 - للنقوش وللكتابات
تعد النقوش والكتابات في طليعة المصادر التي تكوّن التاريخ الجاهلي، وهي وثائق ذات شاًن، لأنها الشاهد الناطق الحي الوحيد الباقي من تلك الأيام، وأريد أن أقسمها إلى قسمين: نقوش وكتابات غير عربية تطرقت إلى ذكر العرب كبعض النصوص الآشورية أو البابلية، ونصوص وكتابات عربية كتبت بلهجات مختلفة، منها ما عثر عليه في العربية الجنوبية، ويدخل ضمنها تلك التي وجدت في مصر أو في بعض جزر اليونان أو في الحبشة، وهي من كتابات المعينين والسبئين، ومنها ما عثر عليه في مواضع أخرى من جزيرة العرب، مثل أعالي الحجاز وبلاد الشام والعربية السعودية والكويت ومواضع أخرى، كل ما عثر أو سيعثر عليه من نصوص في جزيرة العرب مدوناً بلهجة من اللهجات الني تعارف علماء العرب أو المستشرقون على اعتدادها من لغات العرب.
وأغلب الكتابات الجاهلية التي عثر عليها هي و للأسف في أمور شخصية، ولذلك انحصرت فوائدها في نواح معينة، في مثل الدراسات اللغوية، وأقلها النصوص التي تتعرض لحالة العرب للسياسية، أو الأحوال الاجتماعية أو العلمية أو الدينية أو النواحي الثقافية والحضارية الأخرى، ولهذا بقيت معارفنا في هذه النواحي ضحلة غير عميقة. كل أملنا هو في المستقبل، فلعله سيكون سخيا كريما، فيمدنا بفيض من مدونات لها صلة وعلاقة بهذه الأبواب، وينقذنا بذلك من هذا الجهل الفاضح الذي نحن فيه، بتاريخ. العرب قبل الإسلام.
بل حتى النصوص العربية الجنوبية التي عثر عليها حتى الآن، هي في أمور شخصية في الغالب، من مثل إنشاء بيت، أو بناء معبد، أو يناء سور، أو شفاء من مرض، ولكنها أفادتنا، مع ذلك، فائدة كبيرة في تدوين تاريخ العرب الجنوبيين، فقد أمدتنا بأسماء عدد من الملوك، ولولاها لما عرفنا عنهم شيئاً. ونظراً إلى ما نجده في بعض النصوص من إشارات إلى حروب، ومن صلات بين ملوك الدول العربية الجنوبية، ونظرا إلى كون بعض الكتابات أوامر ملكية وقوانين في تنظيم الضرائب وتعيين حقوق الغرباء وفي أمور عامة أخرى لها علاقة بصلة الحكومات بشعوبها، و نظرا إلى ما عرفناه من ميل إلى الحضارة و الاستقرار و العمل و البناء، وفي حكوماتهم من تنظيم و تنسيق في الأعمال، فأننا نأمل الحصول في المستقبل على وثائق، تعطينا مادة جيدة عن تاريخ العرب % الجنوبيين و عن صلاتهم ببقية العرب أو العالم الخارجي، لأن جماعة تتهم هذا الاهتمام بالأمور المذكورة، لا يمكن إن تكون في غفلة عن اهمية تدوين التاريخ.
و تختلف الكتابات العربية الجنوبية طولاً و قصراً تبعاً للمناسبات و طبيعة الموضوع، وتتشابه في المضمون وفي إنشائها، الغالب، لأنها كتبت في أغراض شخصية متماثلة. ومن النصوص الطولية المهمة، نص رقمه العلماء برقم: "C.I.H. 1450" وقد كتب لمناسبة الحرب التي نشبت بين قبائل حاشد و قبائل حمير في مدينة "ناعط"، ونص رقمه "C..I.H 4334"، وقد أمر بتدوينه الملك "شعر أوتر بن علهان نهفان" "شعر أوتر بن علهن نهفن" ، "80-50ق.م"، ونص "أبرهة" نائب ملك الحبشة على اليمن "عزلي"، وهو يحوي كتابة مهمة تتألف من "136" سطراً، يرتقي تاريخها إلى سنة 658 الحميرية أو 543 م وقد كتب بحميرية رديئة ركيكة، ونص يرتقي تاريخه إلى سنة 554 م.
أما الكتابات المكتوبة باللهجات التي يطلق عليها المستشرقون اللهجات العربية الشمالية، فقليلة. ويراد بهذه اللهجات القريبة من عربية القرآن الكريم. وأما الكتابات التي وجد إنها مكتوبة بالثمودية أو اللحيانية أو الصفوية، فإنها عديدة، وهي قصيرة، وفي أمور شخصية، و قد أفادتنا في استخراج أسماء بعض الأصنام وبعض المواضع وفي الحصول على أسماء بعض القبائل وأمثال ذلك.
??تاريخ الكتابات
والكتابات المؤرخة قليلة. هذا أمر يؤسف عليه، إذ يكون المؤرخ في حيرة من أمره في ضبط الزمن الذي دوّن فيه النص، ولم نتمكن حتى الآن كل من الوقوف على تقويم ثابت كان يستعمله العرب قبل الإسلام، مدة طويلة في جزيرة العرب. والذي تبين لنا حتى الآن هو أنهم استعملوا جملة طرق في تأريخهم للحوادث، وتثبيت زمانها، فأرخوا بحكم الملوك، فكانوا يشيرون إلى الحادث بأنه حدث في أيام الملك فلان، أو في السنة كذا في حكم الملك فلان. وأرخوا كذلك بأيام الرؤساء وسادات القبائل وأرباب الأسر وهي طريقة عرفت عند المعينين والسبئين والقتبانيين وعند غيرهم في مختلف أنحاء جزيرة العرب.
والكتابات المؤرخة بهذه الطريقة، وان كانت أحسن حالاً من الكتابات المهملة التي لم يؤرخها أصحابها بتاريخ، إلا أننا قلما نستفيد منها فائدة تذكر، إذ كيف يستطيع مؤرخ أن يعرف زمانها بالضبط، وهو لا يعرف شيئاً عن حياة الملك الذي أرخت به الكتابة أو حكمه، أو زمانه، أو زمان الرجال الذين أرخ بهم? لقد فات أصحاب هذه الكتابات أن شهرة الإنسان لا تدوم، وأن الملك فلاناً، أو رب الأسرة فلانا، أو الزعيم فلاناً ربما لا يعرف بعد أجيال، وقد يصبح نسياً منسياً، لذلك لا يجدي التأريخ به شيئاً، وذاكرة الإنسان لا تعي إلا الحوادث الجسام. لهذا السبب لم نستفد من كثير من هذه الكتابات المؤرخة على وفق هذه الطريقة، وأملنا الوحيد هو أن يأتي يوم قد نستفيد فيه منها في تدوين التاريخ.
وترد التواريخ في الكتابات العربية الجنوبية، ولا سيما الكتابات القتبانية، على هذه الصورة: "ورخس ذو سحر خرف ...."، أو "ورخس ذو تمنع خرف ..."، أي: "وأرخ في شهر سحر من سنة...." و "أرخ في شهر تمنع من سنة....". ويلاحظ إن "ورخ" و "توريخ"، مثل "أرخ" و "تاريخاً"، هما قريبتان من استعمال تميم، إذ هي تقول: "ورخت الكتاب توريخاً" أي: "أرخت الكتاب تأريخاً". وأما حرف "السين" اللاحق بكلمة "ورخ"، فانه أداة التنكير. ويلي التاريخ أسم الشهر، مثل شهر "ذو تمنع" و "ذو سحر" وغير ذلك. وقد تجمعت لدينا أسماء عدد من الشهور في اللهجات العربية الجنوبية المختلفة تحتاج إلى دراسة لمعرفة ترتيبها بالنسبة إلى الموسم والسنة. ثم تلي الشهور في العادة كلمة "خرف" أي "خريف"، وهي في العربية الجنوبية، السنة أو العام أو الحول. وعندئذ يذكر اسم الملك أو الرجل الذي أرخ به، فيقال: "خرف شهر يكل" أي سنة "شهريكول"، وهو ملك من ملوك قتبان. وهكذا بالنسبة إلى الملوك أو غيرهم.
نرى من ذلك إن التاريخ بأعوام الرجال كان يتضمن شهوراً. غير إننا لا نستطيع أن نجزم بان هذه للشهور كانت ثابتة لا تتغير بتغير الرجال، أو إنها كانت تتبدل بتبدل الرجال. والرأي الغالب هو إنها وضعت في وضع يلائم المواسم وأوقات الزراعة. ويظهر انهم كانوا يستعملون أحياناً مع هذا التقويم تقويماً آخر هو التقويم الحكومي، وكان يستند إلى السنين المالية،أي سني جمع الضرائب. وتختلف أسماء شهور هذا التقويم عن أسماء شهور التقاويم التي تؤرخ بالرجال.
ويظهر أن العرب الجنوبيين كانوا يستعملون التقويم الشمسي في الزراعة، كما كانوا يستعملون التقويم القمري والتقويم النجمي أي التقويم الذي يقوم على رصد النجوم.
وقد اتخذ الحميريون منذ سنة "115 ق. م" تقويماً ثابتاً يؤرخون به، وهي السنة التي قامت فيها الدولة الحميرية -على رأي بعض. العلماء- فأخذ الحميريون يؤرخون بهذا الحادث، و اعتدوه مبدأً لتقويمهم. وقد درسه المستشرقون، فوجدوه يقابل السنة المذكورة قبل الميلاد.والكتابات المؤرخة بموجب هذه الطريقة، لها فائدة كبيرة جداً في تثبيت التاريخ.
وقد ذهب بعض الباحثين حديثاً إلى أن مبدأ تاريخ حمير يقابل السنة "109 ق.م" أي بعد ست سنوات تقريبا من التقدير المذكور، وهو التقدير المتعارف عليه. والفرق بين التقديرين غير كبير.
ومن النصوص المؤرخة، نص تأريخه سنة385 من سني التقويم الحميري. وإذا ذهبنا مذهب الغالبية التي تجعل بداية هذا التقويم سنة "115 ق. م"، عرفنا أن تاريخ هذا النص هو سنة 27 م تقريباً، وصاحبه هو الملك "يسر يهنعم" "ياسر يهنعم" "ياسر ينعم" ملك سبأ وذو ريدان و ابنه "شمر يهرعش". وللملك "ياسر يهنعم" نص آخر يعود تاريخه إلى سنة 374 من سني التقويم الحميري، % أي سنة "295 م".:و لشمير يهرعش" كتابة أمر بتدوينها سنة 396 للتقويم الحميري، أي سنة 281 م. وقد ورد اسمه في نصوص أخرى، وقد لقّب نفسه بلقب "ماك سباً وذو ريدان"، ولفب نفسه في مكان أخر بلقب "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت"، مما يدل على أنه كان قد وسعّ ملكه، وأخضع الأرضين المذكورة لحكمه، وهي نصوص متأخرة بالنسبة إلى النصوص الأخرى.
ولما أراد الملك "شرحبيل يعفر بن أبي كرب أسد" "ملك سباً وذو ريدان وحضرموت ويمنت و أعرابها في الجبال والسواحل" بناء السدّ، أمر بنقش تاريخ البناء على جداره. وقد عثر عليه، وإذا به يقول: إن العمل كان في سنة 564-565 الحميرية، وهذا يوافق عامي 449-450 من الأعوام الميلادية. وبعد ثماني سنوات من هذا التأريخ، أي في عام 457-458 من التأريخ الميلاديَ "572 - 573حميري"، وضع عبد كلال نصاً تاريخياً يذكر فيه أسم "الرحمن"، ولهذين النصين أهمية عظيمة جدا من الناحية الدينة. يذكر النص الأول "إله السماوات والأرضين"، ويذكر الثاني "الرحمن". وتظهر من هذه الإشارة فكرة التوحيد على لسان ملوك اليمن وزعمائها.
وقد عّر على نصين آخرين ورد فيهما اسم الملك "شرحب آل يكف" و "شرحبيل يكيف". تأريخ أحدهما عام 582الحمري "467 م"، وتأريخ النص الثاني هو سنة585 الحميرية، الموافقة لسنة 475 م.
ومن النصوص الآثارية المهمة، نص حصن غراب. وهذا النص أمر بكتابته "السميفع أشوى" "السميفع أشوع" وأولاده، تخليداً لذكرى انتصار الأحباش على اليمانيين في عام 525م "سنة 640 الحميرية". ويليه النص الذي أمر أبرهة حاكم اليمن في عهد الأحباش بوضعه على جدران سدّ مأرب لما قام بترميم السدّ و إصلاحه في عام 657 الحميري، الموافق لعام 542م.
وآخر ما نبده من نصوص مؤرخة، نص وضع في عام 669 لتقويم حمير "يوافق عام 554م". ولم يعثر المنقبون بعد هذا النص على نص آخر يحمل تاريخاً. نعم، عثروا على نصوص كثيرة تشابه في مضمونها وعباراتها، وألفاظها النصوص التي أقيمت في الفترة بن 439 م وسنة 554م، وهذا يبعث على احتمال كون هذه النصوص مكررة، وأنها من هذا العهد الذي بحثنا عنه آنفاً. هذا، وإن مما يلاحظ على الكتابات العربية الجنوبية أن التي ترجع منها إلى العهود القديمة من تاًريخ جنوب بلاد العرب، قليلة. وكذلك الكتابات التي ترجع إلى العصور الحميرية المتأخرة،أي القريبة المتصلة بالإسلام. ولذلك أصبحت أكثر الكتابات التي عثر عليها حتى الآن من العهود الوسطى المحصورة بن أقسم عهد من عهود تأريخ اليمن وبين أقرب عهود اليمن إلى تاًريخ الإسلام. وأكثرها خلو من التأريخ غير عدد منها يرد فيه لسماء ملوك وملكات أرخت بأيامهم. لكنّنا لا نستطيع تعيين تأريخ مضبوط لزمانهم، لعم وجود سلسلة لمن حكم أرض اليمن، ولعدم وجود جداول بمدد حكمهم،ولفقدان الإشارة إلى من كان يعاصرهم من الملوك والأجانب.
وقد كان ما قدمناه يتعلق بالكتابات العربية الجنوبية المؤرخة. أما الكتابات العربية الشمالية المؤرخة، فهي معدودة، وهي لا تعطينا هذا السبب فكرة علمية عن تاًريخ الكتابات في الأقسام الشمالية والوسطى من بلاد العرب. وقد أرخ شاهد قبر "امرئ القبس" في يوم 7 بكسلول من سنة 223 "328 م". وهذه السنة هي من سني تقويم بصرى Bostra، وكان أهل الشام وحوران وما يليهما، يؤرخون بهذا التقويم في ذلك العهد، ويبدأ بدخول بصرى في حوزة الروم سنة105 م.
وعثر على كتابة في خرائب "زيد" بين قنسرين ونهر الفرات جنوب شرقي حلب، كتبت بثلاث لغات: اليونانية والسريانية والعربية، يرجع تأريخها إلى سنة "823 للتقويم السلوقي"، الموافقة لسنة 512م. والمهم عندنا، هو النص العربي، ولا سيما قلمه العربي. أما من حيث مادته اللغوية، فان أكثر ما ورد فيه أسماء الرجال الذين سعوا في بناء الكنيسة التي وضعت فيها الكتابة.
وأرخت كتابة "حرّان" اليونانية بسنة أربع مئة وثلاث وستين من الأندقطية الأول، وهي تقابل سنة 568م، والأندقطية، هي دائرة ثماني سنين عند الروماينين، وكانت تستعمل في تصحيح تقويم السنة. أما النص العربي، فقد أرخ "بسنه 463 بعد مفسد خيبر بعم" "عام". ورأى الأستاذ "ليتمن" أن عبارة "بعد مفسد خيبر بعم"،تشير إلى غزوة قام بها أحد أمراء غسان لخيبر. وفي استعمال هذه الجملة التي لم ترد في النص اليوناني، دلالة على أن العرب الشماليين كانوا يستعملون التواريخ المحلية، كما كانوا يؤرخون بالحوادث الشهيرة التي تقع بينهم.
أما الكتابات الصفوية والثمودية واللحيانية، فإن من بينها كتابات مؤرخة، إلا ان توريخها لم يفدنا شيئاً أيضاً. فقد أرخت على هذا الشكل: "يوم نز هذا المكان" أو "سنة جاء الروم". ومثل هذه الحوادث مبهمة، لا يمكن أن يستفاد منها في ضبط حادث ما.
هذا وقد أشار "المسعودي" إلى طرق للجاهليين في توريخ الحوادث، تنفي مع ما عثر عليه في الكتابات الجاهلية المؤرخة، فقال: "وكانت العرب قبل ظهور الإسلام تؤرخ بتواريخ كثيرة، أما حمير وكهلان ابنا سبأ بن يشجب يعرب بن قحطان بأرض اليمن، فإنهم كانوا يؤرخون بملوكهم السالفة من التبابعة وغيرهم"، ثم ذكر أنهم أرخوا أيضاً بما كان يقع لديهم من أحدا جسيمة في نظرهم، مثل "نار صوان"، وهي نار كانت تظهر ببعض الحرار من أقاصي بلاد اليمن، ومثل الحروب التي وقعت بين القبائل والأيام الشهيرة وقد أورد جريدة بتواريخ القبائل إلى ظهور الإسلام. وذكر "الطبري" أن العرب "لم يكونوا يؤرخون بشيء من قبل ذلك، غير أن قريشا كانوا -فيما ذكر- يؤرخون قبل الإسلام بعام الفيل، وكان سائر العرب يؤرخون بأيامهم المذكورة، كتأريخهم بيوم جبلة وبالكلاب الأول والكلاب الثاني".
وقد ذكر المسعودي أن قدوم أصحاب الفيل مكة، كان يوم الأحد لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ثمانمائة واثنتين -وثمانين سنة للاسكندر، وست عشرة سنة ومئتين من تاريخ العرب الذي أوله حجة العدد "حجة الغدر"، ولسنة أربعين من ملك كسرى أنوشروان. ولم يشر المسعودي إلى العرب الذين أرخوا بالتقويم المذكور، غير أننا نستطيع أن نقول إن "المسعودي" قصد بهم أهل مكة، لأن حملة "أبرهة" كانت قد وجهت إلى مدينتهم، وأن الحملة المذكورة كانت حادثاً تاريخياً بالنسبة إليهم، ولذلك أرّخوا بوقت وقوعها.
ويرى كثير من المستشرقين والمشتغلين بالتقاويم وبتحويل السنين وبتثبيتها، وفقاً لها، أن عام الفيل يصادف سنة "570" أو "571" للميلاد، وذلك يمكن اتخاذ هذا العام مبدءاً نؤرخ به على وجه التقريب الحوادث التي وقعت في مكة أو في بقية الحجاز والتي أرّخت بالعام المذكور.
2 - للتوراة وللتلمود والتفاسير والشروح العبرانية
وقد جاء ذكر العرب في مواضع من أسفار التوراة تشرح علاقات العبرانيين بالعرب. والتوراة مجموعة أسفار، كتبها جماعه من الأنبياء في أوقات مختلفة، كتبوا أكثرها في فلسطين. وأما ما تبقى منها، مثل حزقيال والمزامير، فقد كتب في وادي الفرات أيام السبي، وأقدم أسفار التوراة هو سفر "عاموس" "Amos"، ويظن أنه كتب حوالي سنة 750 ق. م.
وأما آخر ما كتب منها، فهو سفر " دانيال" "Danial" والإصحاحان الرابع والخامس من سفر " المزامير". وقد كتب هذه في القرن الثاني قبل المسيح.
فما ذكر في التوراة عن العرب يرجع تاريخه إذن إلى ما بين سنة 750 والقرن الثاني قبل المسيح.
وقد وردت في التلمود " Talmud" إشارات إلى العرب كذلك. وهناك نوعان من التلمود الفلسطيني أو التلمود الأورشليمي "Yeruschalmi" كما يسميه العبرانيون اختصاراً، والتلمود البابلي نسبة إلى "بابل" بالعراق، ويعرف عندهم بأسم "بابلي" انتصاراً.
أما التلمود الفلسطيني، فقد وضع، كما يفهم من اسمه في فلسطين. وقد تعاونت على تحبير. المدارس اليهودية "Academies" في الكنائس " الكنيس". وقد كانت هذه مراكز الحركة العلمية عند اليهود في فلسطين، وأعظمها هو مركز "طبرية" "Tiberies" وفي هذا المحل وضع الحبر "رابي بوحان" "Rabbi Jochanan" التلمود الأورشليمي في أقدم صورة من صوره في أواخر القرن الثالث الميلادي وتلاه بعد ذلك الأحبار الذين جاؤوا بعد " يوحنان"،وهم الذين رضعوا شروحا وتفاسير عدة تكون منها هذا التلمود الذي اتخذ هيأته النهائية في القرن الرابع الميلادي.
وأما التلمود البابلي، فقد بدأ بكتابته -على ما يظهر- الحبر " آشي" "Rabbi Ashi" المتوفي عام 435 م، وأكمله الأحبار من بعده، واشتغلوا به حتى اكتسب صيغته النهائية في أوائل القرن السادس للميلاد. ولكل تلمود من التلمودين طابع خاص به، هو طابع البلد الذي وضع فيه، ولذلك يغلب على التلمود الفلسطبني طابع التمسك بالرواية والحديث. وأما التلمود البابلي، فيظهر عليه الطابع العراقي الحر وفيه عمق في التفكير، وتوسع في الأحكام والمحاكمات، وغنى في المادة. وهذه الصفات غير موجودة في التلمود الفلسطيني.
وبهذا يكمل التلمود أحكام التوراة، وتفيدنا إشاراته من هذه الناحية في تدوين تاريخ العرب. أما الفترة بين الزمن الذي انتهي فيه من كتابة التوراة والزمن الذي بدأ فيه بكتابة التلمود، فيمكن أن يستعان في تدوين تاريخها بعض الاستعانة بالأخبار التي ذكرها بعض الكتاب، ومنهم المؤرخ اليهودي " يوسف فلافيوس" " جوسفوس فلافيوس" "Josephus Flavius"، الذي عاش بين سنة 37 و 100 للمسيح تقريبا. وله كتاب باللغة اليونانية في تاريخ عاديات اليهود "Joudaike Archaioligia" تنتهي حوادثه بسنة 66 للميلاد، وكتاب أخر في تاريخ حروب اليهود "Peri tou Joudiaou Poemou" من استيلاء " انطيوخس افيفانوس" "Antiochus Epiphanos" على القدس سنة 170 قبل الميلاد إلى الاستيلاء طيها مرة ثانية في عهد "طيطس" "Titus" سنة 70 بعد الميلاد، وكان شاهد عيان لهذه الحادثة. وقد نال تقدير "فسبازيان" "Vespasian" و " طيطس" وأنعم عليه بالتمتع بحقوق المواطن الروماني.
وفي كتبه معلومات ثمينة عن العرب، وأخبار مفصلة عن العرب الأنباط، لا نجدها في كتاب ما أخر قديم. وكان الأنباط في أيامه يقطنون في منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات، فتتاخم بلاد الشام، ثم تنزل حتى تتصل بالبحر الأحمر. وقد عاصرهم هذا المؤرخ، غير أنه لم يهتم بهم إلا من ناحية علاقة الأنباط العبرانيين، ولم تكن بلاد العرب عنده إلا مملكة الأنباط.
هذا وان للشروح والتفاسير المدونة على التوراة والتلمود قديما وحديثا، وكذلك للمصطلحات العبرانية القديمة على اختلاف أصنافها أهمية كبيرة في تفهم تاريخ الجاهية، وفي شرح المصطلحات الغامضة التي ترد في النصوص العربية التي تعود إلى ما قبل الإسلام، لأنها نفسها و بتسمياتها ترد عند العبرانيين في المعاني التي وضعها الجاهليون لها. وقد استفدت كثيرا من الكتب المؤلفة عن التوراة مثل المعجمات في تفهم أحوال الجاهلية، وفي زيادة معارفي بها، ولهذا أرى أن من اللازم لمن يريد دراسة أحوال الجاهية، التوغل في دراسة تلك الموارد وجميع أحوال العبرانيين قبل الإسلام.
3-الكتب للكلاسيكية
وأتصد بالكتب " الكلاسيكية" الكتب اليونانية واللاتينية المؤلفة قبل الإسلام. ولهذه الكتب -على ما فيها من خطأ- أهمية كبيرة، لأنها وردت فيها أخبار تاريخية وجغرافية كبيرة الخطورة، ووردت فيها أسماء قبائل عربية كثيرة لولاها لم نعرف عنها شيئا: وقد استقى مؤلفوها وأصحابها معارفهم من الرجال الذين اشتركوا في الحملات التي أرسلها اليونان أو الرومان إلى بلاد العرب،ومن السياح الذين اختلطوا بقبائل بلاد العرب أو أقاموا مدة بين ظهرانيهم، ولا سيما في بلاد الأنباط، من التجار وأصحاب السفن الذين كانوا بتوغلون في البحار وفي بلاد العرب للمتاجرة. وتعد الإسكندرية من أهم المراكز التي كانت تعنى عناية خاصة بجمع الأخبار عن بلاد العرب وعادات سكانها وما ينتج فيها لتقدمها إلى من يرغب فيها من تجار البحر المتوسط. وقد استقى كثير من الكتاّب "الكلاسيكيين" معارفهم عن بلاد العرب من هذه المصادر التجارية العالمية.
وتتحدث الكتب الكلاسيكية جازمةً عن وجود علاقات قديمة كانت بين سواحل بلاد العرب وبلاد اليونان والرومان، وتتجاوز بعض هذه الكتب هذه الحدود فتتحدث عن نظرية قديمة كانت شائعة بين اليونان، وهي وجود أصل دموي مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان. وتفصح هذه النظرية، على ما يبدو منها من سذاجة، عن العلاقات العريقة في القدم التي كانت تربط سكان البحر المتوسط الشماليين بسكان الجزيرة العربية.
ومن أقدم من ذكر العرب من اليونانيين "أخيلس" "Aescylus" "525 -456 ق. م"، و " هيرودتس" " 480-425 ق. م" وقد زار مصر، وتتبع شؤون الشرق وأخباره بالمشاهدة والسماع، ودوّن ما. سمعه، ووصف ما شاهده في كتاب تاريخي. وهو أول أوربي ألّف كتابا بأسلوب منمق مبوب في التاريخ ووصل مؤلفه ألينا، وقد لقّبه " شيشرون" "Cicero" الشهير بلقب "أبي التاريخ".
تناول " هيرودتس" تاريخ الصراع بين اليونان والفرس، وان شئت فسمّه "النزاع الأوروبي الأسيوي"، فألّف عن تاريخه. والظاهر أنه لم يتمكن من إتمامه، ففيه فصول وضعت بعد وفاته. وهو أول كاتب يوناني اتخذ من الماضي موضوعا للحاضر ومادة لمناقشة، بعد أن كان البحث في أخبار الأيام السالفة مقصوراً على ذكر الأساطير والقصص الشعبية و الدينية. وهو مع حرصه على النقد والمحاكمة، لم يتمكن أن يكون بنجوة من الأفكار الساذجة التي كانت تغلب على ذلك العالم الابتدائي في ذلك العهد، فحشر في كتابه قصصا ساذجا وحكايات لا يصدقها العقل، متأثرا بعقلية زمانه في التصديق بأمثال هذه الأمور. ومنهم "ثيوفراستوس" "Theophrastus"، "حوالي371-287 ق. م"، مؤلف كتاب "Historia Plantarum" وكتاب "De Causis Plantarum". وفي خلال حديثه عن النبات تطرق إلى ذكر البقاع العربية الني كانت تنمو بها مختلف الأشجار،ولا سيما المناطق الجنوبية التي كانت تصدر التمر واللبان والبخور والأفاويه. و " ايراتو ستينس" "Eratostenes" " 276 -194ق. م". وقد استفاد الكتاب اليونانيون الذين جاؤوا من بعده من كتاباته،ونجد في مواضع مختلفة من جغرافية "سترابون أقوالا معزوّة إليه".
و نضيف الى من تقموا "ديدورس الصقلي" "Diodorus Sicus" "40 ق.م.". وقد ألف بالغة اليونانية تاريخا عاما سماه "المكتبة التاريخية" "Bibliothke Historrike" ، تناول تاريخ العالم من عصر الأساطير حتى فتح "يوليوس قيصر" لأقليم "الغال". وهو في أربعين جزءا، لم يبق منها سوى خمسة عشر جزءا، تبحث في الحقبة المهمة التي تبتدئ بسنة 480ق.م. و تنتهي بسنة 323 ق.م.
ويعوز هذا المؤرخ النقد، لأنه جمع في كتابه كل ما وجده في الكتب القديمة من أخبار ولم يمحصها، وقد امتلأ كتابه بالأساطير، والعالم مع ذلك مدين له إلى حد كبير بمعرفة أخبار الماضين، ولا سيما الأساطير الدينية القديمة.
ومن المؤلفين الكلاسيكيين، "سترابون" "سترابو" "strado" "strabon" "64ق.م-19م" وهو رحالة كتب كتاباً مهما باللغة اليونانية في سبعة عشر جزءا سمّاه "جغرافيا" "Geographica". وقد وصف فيه الأحوال الجغرافية الطبيعية لمقاطعات الإمبراطورية الرومانية الرئيسية، وتاريخها، وحالات، سكانها، وغريب عاداتهم وعقائدهم. وللكتاب شأن كيير، إذ اشتمل على كثير من الأخبار التي لا تتيسر في كتاب آخر. وقد اعتمد فيه على ما ذكره الكتاب السابقون.
وقد أفرد "سترابون" في جغرافيته فصلاً خاصاً من الكتاب السادس عشر ببلاد العرب، ذكر فيه مدائن العرب وقبائلهم في عهده، ووصف أحوالهم التجارية والاجتماعية والاقتصادية،وحملة "أوليوس غالوس" "أوليوس كالوس" "Aelius Gallus" المعروفة لفتح بلاد العرب وما كان من اخفاقه. ولاخبار هذه الحماة التي دونتها "سترابون" في جغرافيته، أهمية خاصة، إذ جاءت بمعلومات عن نواحي من تأريخ العرب نجهلها، وقد شارك هو نفسه في الحملة، وقد كان صديقاً لقائدها، فوصفه وصف شاهد عيان. وقد استهل وصف الحملة بهذه العبارة: " لقد علمتنا الحملة التي قام بها الرومان على بلاد العرب بقيادة أوليوس غالوس في أيامنا هذه أشياء كثيرة عن تلك البلاد.
وممن تحدث عن العرب " بلينيوس" " بليني الأقدم" "Pliny the Elder" "Galus plinius Secundus" المتوفي سنة 79 م، رمن كتبه المهمة كتابه "التاريخ الطبيعي" "Naturalius Historia" في سبعة وثلاثين قسما، وقد نقل في كتابه عن تقسمه، ولا سيما معلوماته عن بلاد العرب والشرق وجمع ما أمكنه جمعه، غير أنه أتى في أماكن متعددة من كتابه بأخبار لم يرد لها ذكر من كتب المؤرخين الآخرين.
وهناك مؤلف يوناني مجهول، وضع كتابا سماه "الطواف حول بحر الأريتريا" "Periplus Maris Erythraei" "The Periplus of the Erythraean Sea" أتمه في نهاية القرن الأول للمسيح في رأي بعض العلماء، أو بعد ذلك في حوالي النصف الأول من القرن الثالث للميلاد في رأي بعض آخر، وقد وصف فيه تطوافه في البحر الأحمر وسواحل البلاد العربية الجنوبية. والظاهر أنه كان عالما بأحوال الهند وشواطئ أفريقية الشرقية، ولعله كان تاجرا من التجار الذين كانوا يطرفون في هذه الأنحاء للاتجار، ولم يعن إلا. بأحوال السواحل. أما الأقسام الداخلية من جزيرة العرب، فيظهر أنه لمَ يكن ملماَ بها إلماما كافيا. وقد ذهب "البرايت" إلى أن الكتاب المذكور قد ألف في حوالي السنة "80" بعد الميلاد. وذهب آخرون إلى أن مؤلفه قد ألفه في حوالي السنة "225" أو "215" بعد الميلاد.
وهناك طائفة من الكتّاب الذين تركوا لنا آثارا وردت فيها إشارات إلى العرب والبلاد العربية، مثل "أبولودورس" "Apollodorus" "المتوفي سنة 140 بعد المسيح". و " بطلميوس" "Claudius Ptolemas" الذي عاش في الإسكندرية في القرن الثاني للمسيح. وهو صاحب مؤلفات في الرياضيات منها " كتاب المجسطي" المعروف في اللغة ا.لعربية. وله كتاب مهم في الجغرافية سماه "Geographike Hyphegesis"، ويعرف باسم "جغرافية بطلميوس". ولهنا الكتاب شهرة واسعة، وقد دُرِّس في أكثر مدارس العالم إلى ما بعد انتهاء القرون الوسطى. جمع فيه بطلميوس ما عرفه العلماء اليونان وما سمعه هو بنفسه ومما شاهده هو بعينه، وقسّم الأقاليم بحسب درجات الطول والعرض. وقد تكلم في كتابه على مدن البلاد العربية وقبائلها وأحوالها، وزيّن الكتاب بالخارطات التي تصور وجهة نظر العلم إلى العالم في ذلك العهد.
وبرى بعض الباحثين أن ما ذكره "بطلميوس" عن حضرموت يشير إلى أن المنبع الذي أخذ منه كان يعلم شيئا عنها، وانه كان قد أقام مدة في "شبوة" العاصمة. ويرون أن ذلك المنبع قد يكون تاجراً روميا، أو أحد المبعوثين الرومان في تلك المدينة، لأن وصف "بطلميوس" للأودية والأماكن الحضرمية يشر إلى وجود معرفة بالأماكن عند صاحبه. أما ما ذكره "بطلميوس" عن أرضق "سبا" و السبئيين، فانه لا يدل،على حد قول المذكورين،على علم بالأماكن، و إجادة لأسمائها، وأن الذي أخذ منه "بطلميوس" لم يكن قد شاهدها.
ومن الذين أوردوا شيئا عن أحوال بلاد العرب "أريان" "Arrian" "Flavius Arrianus" "95 -175م"، وقد ألف كتباً عديدة. منها كتابه "Anabasis of Alexader the Great" في خمسة عشر قسما، وصف في سبعة منها حملات الإسكندر الكبير، وفي الثمانية الأخرى وصف الهند وأحوال الهنود ورحلة القائد "Nearchus" "نيرخس" "أميرال الإسكندر في الخليج العربي". ومنهم " هيروديان" "Herodianus" " 165 - 250 ق. م."، وهو مؤرخ سرياني ألف في اليونانية كتابا في تاريخ قياصرة الروم من وفاة القيصر "ماركوس أوريليوس" إلى سنة 238 م.
الموارد للنصرانية
وللمواد النصرانية أهمية كبيرة في تدوين تاريخ انتشار النصرانية في بلاد العرب وتاريخ القبائل العربية، وعلاقات العرب باليونان والفرس، وقد كتُب أغلبها باليونانية والسريانية. ولها في نظري قيمة تاريخية مهمة لأنها عند عرضها للحوادث تربطها بتاريخ ثابت معين، مثل المجامع الكنيسية، أو تواريخ القديسين، والحروب وأوقاتها في الغالب مضبوطة مثبتة.
ومن أشهر هذه الموارد مؤلفات المؤرخ الشهر "أويسبيوس" المعروف ب "أويسبيوس القيصري" "Eusebius of Caesarea" " 263 - 340 م" " 265 - 340 م" وب "أبي التاريخ الكنائسي" "fater of Ecclesiastical History" و ب "هيرودتس النصارى". وكان على اتصال بكبار رجال الحكومة وبرؤساء الكنيسة، فاستطاع بذلك أن يقف على كثير من أسرار الدولة وأن يراجع المخطوطات والوثائق الثمينة التي كانت تحويها خزائن الحكومة وخزائن كتب الرؤساء والأغنياء.
وكان قد ألّف كتاباَ في التاريخ باللغة اليونانية،عرف ب "The Chronicon"، حوى بالإضافة إلى التاريخ العام تقاويم وجداول بالحوادث التي حدثت في أيامه.
وقد أفاد هذا الكتاب فائدة كبيرة في معرفة تاريخ اليونان والرومان حتى سنة325 م، ولم يبق من أصله غير قطع صغيرة. غير أن له ترجمة باللاتينية عملها "جيروم" "Jerome"، وأخرى باللغة الأرمنية ، وقد سدّ "جوزيف سكالكر" "Joseph Scaliger" النقص الذي طرأ على النسخة الأصلية، باستفادته من هاتين الترجمتين.
ولهذا الأسقف كتب مهمة أخرى، في مقدمتها كتاب " التاريخ الكنائسي" "Ecclesiasticla History"، وهو في عشرة كتب، يبدأ بأيام المسيح، وينتهي بوفاة الإمبراطور "Licinius" سنة 324 م. وقد استقى كتابه هذا من مصادر قديمة، فاورد فيه امورا انفرد بها. ومن مؤلفاته: كتاب "شهداء فلسطين" "The martyrs of Palastin" تحدّث فيه عن تعذيبهم واستشهادهم في أيام "Dioclentian" و "Maximin" " 303 - 310 م"، وكتاب "سيرة قسطنطين" "The Life of Constantine"، وكتاب في فلسفة اليونان وديانتهما.
ومن مؤرخي الكنيسة: "Athanasius" حوالي 296-371 م" و "Gelasius" "حوالي 0 32 -394 م" أسقف قيصرية، وله تتمة لتاريخ "Eusebius". و "روفينوس تيرانيوس" "Rufinus Tyranius" المتوفى سنة 410 م، وصاحب كتاب "Historiae Ecclesiasticla". وقد ضمّنه أقساما من تاريخ "أويسبيوس" و "ايروينوس" "Irenaeus" "444م"، وكان اسقفا على "صور" "Tyre" ، و قد كتب مؤلفا عن مجمع "أفسوس" للنظر في النزاع مع النساطرة، و كان يميل اليهم. و المؤرخ "سقراط" "Socrates"، و هو من الفقهاء في الكنيسة، و قد اعتمد في تواريخه على كتب قبله من المؤرخين، وقد وردت في ثناياها أخبار عن بلاد العرب. و المؤرخ "سوزومينوس" "Sozomenos" "400-443" و له كتاب في التاريخ الكنائسي، و "ثيودوريت" "Theodoret" المتوفي حوالي سنة 457 للميلاد. و " "زوسيموس" "Zosimus"، وهو مؤرخ يوناني ألّف في تاريخ الامبراطورية الرومانية - اليونانية ، فأشار إلى العرب و علاقاتهم بها. و "شمعون الأرشامسي" "Simeon of Beit Arsam"، و هو صاحب "رسائل الشهداء الحميريين" التي تبحث في تعذيب ذي نواس للنصارى في نجران، و قد جمع أخبارهم "على ما يديعيه" من بلاط ملك الحيرة أيام أوفده إليه امبراطور الروم في مهمة رسمية. و "بروكوبيوس" "Procopius" من رجال القرن الساسد للميلاد، و كان أمين سر القائد "بليزاريوس" "Belisarius" أعظم قوّاد "يوسطاوس"، و قد رافقه عدة سنين في بلاد فارس و شمال افريقية و جزيرة صقلية. و من مؤلفاته نؤلف في تاريخ زمانه، لا سيما حروب يوسطنيانوس"، وكتاب "De Bllo Persico"، وقد وردت فيه أخبار ذات بال بالنسبة لبلاد العرب.
ومن هؤلاء "زكريا" "Zacharias"، المتوفى حوالي سنة 568 م. "ويحنا ملالا" "John Malalas" المتوفي سنة 578م. و "ميننذر" "Menander Protector" المتوفي حوالي سنة 582م. و "يوحنا الأفسي" "Johan of Ephesus" وقد ولد في حوالي سنة 505م، وتوفي سنة585 م تقريباً، وله مؤلفات عديدة منها كتابه: "التاريخ الكنائسي" "Ecclesiastica Historia"، وهو في ثلاثة أقسام يبتدئ بأيام "يوليوس قيصر" وينتهي بسنة585م. وكتاب "تأريخ القديسين الشرقيين"، وقد فرغ من تأليفه سنة 569م. ومن هؤلاء "اسطيفان الييزنطي" "Stephanus Byzantinus" المتوفي سنة 600 م. و "ايواكريوس" "Evagrius" المعروف ب "Scholasticus" أي "المدرسي" المتوفي سنة 600م. وهو صاحب كتاب "التأريخ الكنائسي" "Historiae Ecclesiasticae" في ستة أقسام. يبتدي بذكر "المجمع الأفسوسي" المنعقد عام 431م وينتهي بسنة 593م. وهو من الكتب المهمة، لأن مؤلفه لم يكتب عن هوى، شأن أكثر مؤرخي الكنيسة. وقد استعان بالنصوص الأصلية وبالكتب المؤلفة سابقا.
ومن هؤلاء أيضا "ثيوفليكت" "Theophylactus Simocatta" المتوفي سنة 640م و "ثيوفانس" "Theophanes the Confessor" المتوفي سنة 811م. و "ايليا النصيبي" "Elijah )Elis( of Nisibis"، "وميخائيل السوري".
وفي قائمة المخطوطات السريانية في المتحف البريطاني أسماء مخطوطات تأريخية في ودينية أخرى ذات فائدة كبيرة في هذا الباب. وفي مجموعة الكتابات اليونانية واللاتينية وفى المجموعات التي تبحث في أعمال القديسين وفي انتشار النصرانية، إشارات مهمة إلى بلاد العرب. وهناك كتاب نشره المستشرق " كارل مولر Carl Muller" لمؤلف مجهول اسمه "Glaucus" يبحث في "آثار بلاد العرب".
وهناك طائفة من المؤرخين النصارى من روم وسريان عاشوا في أيام الدواة الأموية والدولة العباسية، ألفوا في التأريخ العام وفي تواريخ النصرانية إلى أيامهم، فتحدثوا لذلك عن العرب في الجاهلية وفى الإسلام. ومؤلفات هؤلاء مفيدة من ناحية ورود معارف فيها لا ترد في المؤلفات الإسلامية عن الجاهلية والإسلام تفيد في سدّ الثغر في التأريخ الجاهلي وفي الوقوف على النصرانية بين العرب وعلى صلات الروم والفرس بالعرب.
وأكثر الموارد المذكورة هي، ويا للأسف، مخطوطة، ليس من المتيسر الاستفادة منها، أو مطبوعة ولكنها نادة، لأنها طبعت منذ عشرات من السنين فصارت نسخها محدودة معدودة لا توجد الا في عدد قليل من المكتبات. ثم أنها في اليونانية او اللاتينية أو السريانية، أي في لغاتها الأصلية، وهذا صعب على من لا يتقن هذه اللغات الاستفادة منها، ولهذه الأمور ولأمثالها، لم يستفد منها الراغبون في البحث في التاريخ الجاهلي حتى المستشرقون منهم استفادة واسعة، فحرمنا الوقوف على أمور كثيرة من أخبار الجاهلية كان في الامكان الوقوف عليا لو تيسرت لنا هذه الكنوز.
الموارد العربية الإسلامية
وأعني بها الموارد التي دوّنت في الإسلام وقد جمعت مادتها عن الجاهلية من الأفواه، خلا ما يتعلق منها بأخبار صلات الفرس بالعرب وبأخبار آل نصر وآل غسان وبأخبار اليمن المتأخرة، فقد أخذت من موارد مرتبة يظهر انها كانت مكتوبة كما سأتحدث عن ذلك.
والموارد المذكورة كثيرة، منها مصنفات في التاريخ، ومنها مصنفات في الأدب بنوعيه: من نثر ونظم، ومنها كتب في البلدان والرحلات والجغرافيا وفي موضوعات أخرى عديدة، هي وإن كانت في أمور لا تعد من صميم التاريخ، إلا أنها مورد من الموارد التي يجب الاستعانة بها في تدوين تاريخ الجاهلية، لأنها تتضمن مادة غزيرة تتعلق بتاريخ الجاهلية القريبة من الإسلام والمتصلة به، لا نجد لها ذكرا في كتب التاريخ، فلا بد لمؤرخ الجاهلية من الأخذ منها لاتمام التاريخ.
الحق، إننا إذا أردنا البحث عن مورد يصور لنا أحوال الحياة الجاهلية، ويتحدث لنا عن تفكير أهل الحجاز عند ظهور الإسلام، فلا بد لنا من الرجوع إلى القرآن الكريم ولا بد من تقديمه على سائر المراجع الإسلامية، وهو فوقها بالطبع. ولا أريد أن أدخله فيها، لأنه كتاب مقدس، لم ينزل كتاباً في التاريخ أو اللغة أو ما شاكل ذلك، ولكنه نزل كتاباً عربياً، لغته هي اللغة العربية التي كان يتكلم بها أهل الحجاز، وقد خاطب قوماً نتحدث عنهم في هذا الكتاب، فوصف حالتهم، وتفكيرهم وعقائدهم، ونصحهم وذكّرهم بالأمم والشعوب العربية الخالية، وطلب منهم ترك ما هم عليه، وتطرق إلى ذكر تجاراتهم، وسياساتهم وغير ذلك. وقد مثلهم أناس كانت لهم صلات بالعالم الخارجي، واطلاع على أحوال من كان حولهم. وفيه تفنيد لكثير من الآراء المغلوطة التي نجدها في المصادر العربية الإسلامية. فهو مرآة صافية للعصر الجاهلي، وهو كتاب صدق لا سبيل إلى الشك في صحة نصه.
وفي القرآن الكريم ذكر ليعض أصنام أهل الحجاز، وذكر لجدلهم مع الرسول في الإسلام وفي الحياة وفي المثل الجاهلية. وفيه تعرّض لنواح من الحياة الاقتصادية والسياسية عندهم، وذكر تجارتهم مع العلم الخارجي، ووقوفهم على تيارا السياسة العالمية، وانقسام الدول إلى معسكرين، وفيه أمور أخرى تخص الجاهلية وردت فيه على قدر ما كان لها من علاقة بمعارضة قريش للقرآن والإسلام. و كل ما ورد فيه دليل على أن صورة الإخباريين التي رسموها للجاهلية، لم تكن صورة صحيحة متقنة، وأن ما زعموه من عزلة جزيرة العرب، وجهل العرب وهمجيتهم في الجاهلية الجهلاء، كان زعماً لا يؤيده القرآن الكريم الذي خالف كثيراً مما ذهبوا إليه.
والتفسير، مصدر آخر من المصادر المساعدة لمعرفة تاريخ العرب قبل الإسلام وفي كتب التفسير ثروة تأريخية قيمة تفيد المؤرخ في تدوين هذا التاًريخ، تشر ما جاء مقتضباً في كتاب الله، وتبسط ما كان عالقاً بأذهان الناس عن الأ التي سبقت الإسلام، وتحكي ما سمعوه وما وعوه عن القبائل العربية البائدة ورد لها ذكر مقتضب في السور،وما ورد عندهم من أحكام وآراء ومعتقدات.
ولكن كتب التفاسير -ويا للأسف - غير مفهرسة ولا مطبوعة طبعاً حديثا، وهي في أجزاء ضخمة عديدة في الغالب، ولهذا صعب على الباحثين الرجوع أليها لاستخراج ما يحتاج إليه من مادة عن التأريخ الجاهلي، حتى إن المستشرقين المعروفين بصبرهم وبجلدهم وبعدم مبالاتهم بالتعب، لم يأخذوا من معين الا قليلاّ، مع أن فيها مادة غنية عن نواح كثيرة من أمور الجاهلية المتصلة بالإسلام.
كتب الحديث وشروحها، هي أيضاً مورد غني من الموارد التي لا بد منها لتدوين أخبار الجاهلية المتصلة بالإسلام، إذ نجد فيها أموراً تتحدث عن نواح عديدة من أحوال الجاهلية لا نجدها في مورد آخر. فلا مندوحة من الرجوع اليها والأخذ منها في تدوين تاًريخ الجاهلية. ولكن أكثر من بحث في التأريخ الجاهلي لم يغرف من هذا المنهل الغزير، بسبب عدم انتباههم لأهميته في تدوين تأريخ عرب الحجاز عند ظهور الإسلام، فعلينا نحن اليوم واجب الأخذ منه لنزيد علمنا بتأريخ هذه الجاهلية المتصلة بالإسلام.
والشعر الجاهلي، مورد آخر من الموارد التي تساعدنا في الوقوف على تأريخ الجاهلية والاطلاع على أحوالها، وقديماً قيل فيه إنه "ديوان العرب". " عن عكرمة. قال: ما سمعت ابن عباس فسْر آية من كتاب الله، عز وجل.إلاّ نزع فيها بيتاً من الشعر، وكان يقول: إذا أعياكم تفسر آية من كتاب الله، فاطلبوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، وبه حفظت الأنساب، وعرفت المآثر ومنهُّ تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله وغريب حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحديث صحابته والتابعين". "وعن ابن سيرين. قال: قال عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه". وقال الجمحي فيه، أي في الشعر الجاهلي: "وكان لسعر في الجاهلية ديوان علمهم، ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون."
وقد جمع السعر الجاهلي في الإسلام، جمعه رواة حاذقون، تخصصوا برواية شعر العرب. قال "محمد بن سلام الجمحي": "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، حمّاد الرواية، وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار". واشتهر بجمعه أيضا "أبو عمرو بن العلاء" المتوفى سنة "154" للهجرة، وخلف بن حيّان أبو محرز الأحمر، وأبو عبيده، والأصمعي، والمفضَّل بن محمد الضبّي الكوفي صاحب المفضليات، هي ثمان وعشرون قصيدة، قد تزيد وقد تنقص وتتقدم وتتأخر القصائد وتتأخر بحسب الرواية.
وأبو عمرو اسحاق بن مرار الشيباني المتوفى سنة 206 للهجرة، قيل: إنه جمع أشعار العرب، فكانت نيفاً وثمانين قبيلة. وأبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي المتوفى سنة 231 للهجرة، وأبو محمد جناّد بن واصل الكوفي، وخلاّد بن يزيد الباهلي، وغيرهم ممن تفرغوا له، وصرفوا جلّ وقتهم في جمعه وحفظه وروايته.
"قال ابن عوف عن ابن سيرين. قال: عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد، وغزوا فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر فلم يئلوا إلى ديوان مدوّن ولا كتاب مكتوب، فألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم أكثره". وورد عن "أبي عمرو بن العلاء" انه قال: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير". ولا جدال بين العلماء حتى اليوم في موضوع ذهاب أكثر الشعر الجاهلي، وفي أن الباقي الذي وصل الينا مدوناً في الكتب، هو قليل من كثر. وقد علوا سيب اندثار أكثره وذهابه بسبب عدم تدوين الجاهليين له، واكتفائهم برواية حفظاً، فضاع بتقادم الزمان وبموت الرواة، وبانطماس أثره من الذاكرة، وبانشغال الناس بأمور أخرى روايته، ولا سيما رواية القديم منه الذي لم يعد يؤثر في العواطف تأثير الجديد منه الذي قيل قبيل الإسلام.
نعم جاء في الأخبار أنه "قد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه". وورد عن "حمّاد الراوية" أنه ذكر أن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطّنوج، وهي الكراريس، فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض. فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إنّ تحت القصر كنزأَ، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار.
ووردت عنه أيضاً حكاية أهل مكة للمعلقات على الكعبة. ووردت أخبار أخرى تدل على وجود تدوين للشعر عند الجاهليين. الا اننا لا نجد حماداً ولا غير حماد ينص على أنه نقل ما دوّنه من تلك الموارد المدونة أو من غيرها مما وجده مدوّناً. وهذا ما حدا بالعلماء قديماً وحديثاً إلى البحث في هذا الموضوع: موضوع الشعر الجاهلي من ناحية وجود تدوين له، أو عدم وجود تدوين له. وأثر ذلك على درجة ذلك الشعر من حيث الصحة والأصالة والصفاء والنقاء.
وفي الشعر الجاهلي الواصل الينا، شعر صحيح وشعر موضوع منحول حمل على الشعراء. وقد شخص أهل الفراسة بالشعر الصحيح منه ونصوا على أكثر الفاسد منه. ولم يقل أحد منهم أن الشعر الجاهلي موضوع كله، فاسد لا أصل له. فدعوى مثل هذه، هي دعوى كبيرة لا يمكن إن يقولها أحد. إنما اختلفوا في درجة نسبة الصحيح إلى الفاسد، أو نسبة الفاسد إلى الصحيح.
"وكان ممن هجنّ الشعر وأفسده وحمل كلُ غثاء، محمد بن إسحاق مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف. وكان من علماء الناس بالسير فنقل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها، ويقول لا علم لي بالشعر إنما أوتى به فأحمله، ولم يكن ذلك له عذراً، فكتب في السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرا قطّ، وأشعار النساء فضلاّ عن أشعار الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود أفلا يرجع إلى نفسه: فيقول من حمل هذا الشعر، ومن أداه منذ ألوف من السنين، والله يقول: )وأنه أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى(. وقال في عاد: )فهل تهم ى لهم من باقية(. وقال: )وعادا وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلاّ الله(.
واّتهم "حمّاد الرواية" بالكذب وبوضع الشعر على ألسنة الشعراء، فقيل فيه: "وكان غير موثوق به. كان بنحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار". وقال "أبو جعفر النحاس" المتوفى سنة 328 للهجرة في أمر "المعلقات": "إن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة"، واتهم غيره ممن ذكرت من جهابذة حفظة الشعر الجاهلي بالوضع كذلك. وقد نصوا في كثير من الأحايين على ما وضعوه، وحملوه على الجاهليين. وذكروا أسباب ذلك بتفصيل، كالذي فعله مصطفى صادق الرافعي في "تأريخ آداب العرب".
وبعد هذه الكلمة القصيرة في الشعر الجاهلي - الذي سأتحدث عنه بإطناب في الجزء الخاص باللغة - أقول: إن إليه يعود فضل بقاء كثير من الأخبار المتعلقة بالجاهلية، فلولاه لم نعرف من أمرها شيئاً. ولست مبالغا إذا قلت إن كثيرا من الأخبار قد ماتت لموت الشعر الذي قيل في مناسباتها، وان أخباراً خلقت خلقاً، لأن واضع الشعر او راويه اضطر إلى ذكر المناسبة التي قيل فيها، فعمد إلى الخلق والوضع. وهو من ثم صار سبباً في تخليد الأخبار، لسهولة حفظه، ولاضطرار راويه إلى قص المناسبة التي قيل فيها.
وما قلته في أهمية الشعر الجاهلي بالقياس إلى عمل مؤرخ الجاهلية، ينطبق أيضاً على أهمية شعر الشعراء المخضرمين بالقياس إلى عمل هذا المؤرخ، فقد اسهم أكثر الشعراء المخضرمين في أحداث وقعت في الجاهلية، وكان منهم من جالس "آل نصر" و "آ"ل غسان"، وبقيمة سادات العرب، فورد في شعرهم أخبارهم وأحوالهم وطباعهم ويخر ذلك. كما نجد في شعرهم مادة عن الحياة العقلية والمادية في أيامهم. ثم إن حياتهم اتصلت بالإسلام، فلم يكن شعرهم وما قالوه ورووه بعيدَ عهد عن أهل الأخبار ورواة الشعر، وهو من ثم أقرب إلى المنطق والواقع من شعرً الجاهليين لبعدهم عن الرواة بعض البعد.
ولم ينج هذا الشعر أيضاً من الوضع، فحل على بعض الشعراء مثل "حسان ابن ثابت" بعض الشعر لأغراض، منها العصبية القبيلية، كما ساًتحدث عن ذلك فيما بعد. وفي الجملة إن المؤرخ الحاذق الناقد لن تفوته هذه الملاحظة حين رجوعه إلى هذا الشعر والى ما ورد على ألسنة الشرّاح.
وتعرضت كتب السيِرَ والمغازي لأخبار الجاهلية بقدر ما كان للجاهلية من صلة بتاريخ الرسول، كما تعرضت لها كتب الأدب كتب الأنساب والمثالب والبيوتات ومجامع الأمثال والكتب التي ألفت في أخبار المعمرين، وفي الأيام، وفي البلدان، وفي المعجمات والجغرافية والسياحات وغير ذلك، فورد في ثناياها أخبار قيّمة عن هذه الجاهلية المتصلة بالإسلام. وهي موارد عظيمة الأهمية لمؤرخ هذه الحقبة، كثيرة العدد، هيأها عدد كبير من العلماء، لا يمكن استقصاؤهم في هذه المقسمة، ولا التحدث عن مؤلفاتهم، وهو حديث يحتاج إلى فصول.
على أنّا بحب أن نأخذ بعض هذه الموارد المذكورة بحذر جدّ شديد، ولاسيما كتب "الأخبار والمثالب والمناقب والمآثر والأنساب"، فإنّ مجال الوضع والصنعة بها واسع كيبر، لما للعواطف القبيلية فيها من يد ودخل، وللحزبية والأغراض فيها من تأثير. وطالما نسمع أن فلاناً وضع كتاباً في مثالب القبيلة الفلانية أو في مدحها ترضية لرجال تلك القبيلة، أو لحصوله على مال منها. ومن هنا وجب الاحتراس كل الاحتراس من هذه الموارد، ووجوب نقد كل رواية فيها قبل الاعتماد عليها والأخذ بها كمورد صحيح دقيق.
وفي كتب الأدب ثروة تأريخية قيمة، مبثوثة في صفحاتها، لا تجد لها مثيلاً ولا مكاناً في كثير من الأحايين في كتب أهل التأريخ عن التاًريخ الجاهلي، حتى اني لأستطع أن أقول إن ما أورده رجال الأدب عنه هو أضعاف أضعاف ما رواه المؤرخون عن ذلك التاريخ، وأن ما جاءت به كتب الأدب عن ملوك الحيرة وعن الغساسنة وعن ملوك كندة وعن أخبار القبائل العربية، هو أكثر بكثير مما جاءت به كتب التأريخ، بل هو أحسن منها عرضاً وصفاءً، وأكثر منها دقة " ويدل عرضه بأسلوبه الأدبي المعروف على أنه مستمد من موار عربية خالصة، وقد أخذ من أفواه شهود عيان، شهدوا ما تحدثوا عنه. وقد أفادنا كثيراً في تدوين تأريخ الجاهلية الملاصقة للإسلام، ولشأنه هذا أودّ أن ألفت أنظار من يريد تدوين تاًريخ هذه الحقبة إليه، وأن يرعاه بالرعاية والعناية وبالنقد، وسيصل عندئذ على رأي لا يستطيع العثور عليه في كتب أهل التاريخ.
وقد صارت كتب المؤرخين المسلمين لذلك ضعيفة جداً في باب تأريخ العرب قبل الإسلام، ومادتها عن الجاهلية هزيلة جدّ قليلة بالقياس إلى ما نجده في كتب التفسير والحديث والفقه والأدب وشروح دواوين الشعراء الجاهليين والمخضرمين والموارد الأخرى. والغريب أن تلك الكتب اكتفت في الغالب بإيراد جريدة لأسم ملوك الحرة أو الغساسنة أو كندة أو حمير، مع ذكر بعض ما وقع لهم بعض الأحيان، على حين تجد كتب الأدب تتبسط في الحديث عنهم، وتتحدث عن حوادث وأمور لا نجد لها ذكراً في كتب المؤرخين، بل نجد فيها أسم ملوك لم تعرفها كتب التاريخ، مما صيرها في نظري أكثر فائدة وأعظم نفعا لتأريخ الجاهلية من كتب المؤرخين.
المؤرخون المسلمون
لا نتمكن من الاطمئنان إلى هذه الأخبار والروايات المدونة في الموارد الإسلام عن الجاهلية،الا إذا وقفنا بها إلى حدود القرن السادس للميلاد أو القرن الخامس على أكثر تقدير. أما ما روي على أنه فوق ذلك،فإننا لا نتمكن من الاطمئنان إليه، لأنه لم يرد به سند مدون، ولم يؤخذ من نص مكتوب، وانما أخذه أفواه الرجال، ولا يؤتمن على مثل هذا النوع من الرواية، لأننا حتى إذا سلمنا إن رواة تلك الأخيار كانوا منزهين عن الميول والعواطف، وانهم كان صدوقين في كل ما رووا، وكانوا أصحاب ملكة حسنة ذات قدرة في النقد و التميز بن الصحيح والفاسد،فإننا لا نتمكن إن نسلم أن أن في استطاعة الذاكرة أن تحافظ على صفاء الرواية وان تروي القصة وما فيها من كلام وحديث بالنص والحرف حقبة طويلة. لذا وجب علينا الحذر في الاعتماد على هذه الموارد وتمحيص هذا المدون الوارد، وان تكاثر واشتهر وتواتر،فقد كان من عادة رواة الأخبار رواية الخبر الواحد دون الإشارة إلى منبعه، وُ يتداول في الكتب، فيظهر وكأنه من النوع المتواتر في حين انه من الأخبار الآحاد في الأصل.
ولا ادري كيف يمكَن الاطمئنان إلى نص قصة طويلة فيها كلام وحوار او قصيدة طويلة زعم إن التبع فلاناً نظمها، في حين أننا نعلم أن الذاكرة لا يمكن أن تحفظ نصاً بالحرف الواحد إذا لم يكن مدوناً مكتوباً، ولهذا جوّز أهل الحديث رواية حديث الرسول بالمعنى، إذا تعذرت روايته بالنص. ولا أعتقد إن عناية العرب المسلمين بحديث رسول الله كانت أقل من عنايتهم برواية ما جرى مثلاً بن النعمان بن المنذر وبين كسرى من كلام، أو من رواية ذلك الكلام المنمق والحديث الطويل العذب، الذي جرى بين وفد النعمان الذي اختاره من خيرة ألسنة القبائل المعروفة بالكلام، وبين كسرى المذكور.
ومن هذا القبيل نصوص المفاخرات والمنافرات، فإن مجال لعب العاطفة فيها واسع رجيما. وكذلك كل الأخبار والروايات النابعة عن الخصومات والمنافسات بن القبائل أو الأشخاص، فإن الوضع والافتعال فيها شائع كثير، ولا مجال للكلام عليه في هذا الموضع، لأنه يخرجنا من حدود التأريخ الجاهلي، إلى موضوع آخر، هو نقد الروايات والأخبار والرواة. وهو خارج عن هذا الموضوع.
لقد تحدث أهل الأخبار عن عاد وثمود وطَسْم وجديس وجُرْهُم غيرهم من الأمم البائدة، وتكلموا على المباني "العادية" وعن جن سليمان وأسلحة سليمان، ورووا شعراً ونثراً نسبوه إلى الأمم المذكورة والى التبابعة، بل نسبوا شعراً إلى آدم، زعموا أنه قاله حين حزن على ولده وأسف على فقده، نسبوا شعراً إلى "إبليس، قالوا انه نظمه في الردّ على شعر "آدم" المذكور، وأنه اسمعه "آدم" بصوته دون أن يراه. ورووا أشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل.
ولكن هل يمكن الاطمئنان إلى قصص كهذا يرجع أهل الأخبار زمانه إلى مئات من السنين قبل الإسلام، والى أكثر من ذلك ونحن نعلم، بتجاربنا معهم، أن ذاكرتهم اختلفت في أمور وقعت قبيل الإسلام، واضطربت في تذكر حوادث حدثت في السنين الأولى من الإسلام. كيف يمكننا الاطمئنان إلى ما ذكروه عن التبابعة وعن أناس زعموا أنهم عاشوا دهراً طويلا قبل الإسلام: ونحن نعلم من كتابات المسند ومن المؤلفات اليونانية والسريانية، أنهم لم يكونوا على ما ذكروه عنهم، وأنهم عاشوا في أيام لم نبعد بعداً كبيراً عن الإسلام، وأنهم كانوا يكتبون بالمسند وبلسان يختلف عن هذا اللسان الذي نزل به القران ثم خذ ما ذكروه عن حملة "أبرهة" على مكة وعن أبرهة نفسه، وعن "أبي رغال"، وعن حادث نجران وذي نواس، وعن خراب سدّ مأرب، وعن أمثال ذلك من حوادث وأشخاص سيرد الكلام عليها في أجزاء هذا الكتاب، تجد أن ما ذكروه عنها وعنهم يتحدث بجلاء وبكل وضوح عن جهل بالواقع وعن عم فهم لما وقع، وعن عدم أدراك للزمان والمكان، وعن عدم معرفة بالأشخاص. فرفعوا تواريخ بعض تلك الحوادث إلى مئات من السنين، وخلطوا في بعض منها، وفي كل ذلك دلالة على أن ما حفظته الذاكرة، لم يكن نفي خالصاً من الشوائب، وأن الذاكرة لا يمكن أن تحافظ على ما تحفظه أمداً طويلا وأن آفات النسيان وتلاعب الزمان بالحفظ لا بد أن يغير سن طبائع المحفوظ.
والاخباريون إذ رووا ذلك ودوّنوه، لم يكونوا أول من وضع وصنع وافتعل وجاء بالقصص والأساطير على أنها باب من أبواب التاًريخ، فقد فعل فعلهم اليونان والرومان والعبرانيون وسائر الشعوب الأخر، يوم أرادوا تدوين تواريخ العصور التي سبقت عندهم عصور الكتابة والتدوين، إذ لم يجسوا أمامهم غير هذا النوع من الرواياتّ الشفوية البدائية التي عبث بصفائها الزمان كلما طال أجله إلى زمن التدوين، فدونوه ورووه، إلى أن وصل الينا على النحو المكتوب.
وللسبب المذكور نرى في الأخبار الواردة عن ملوك الحيرة، أو عن صلات الفرس بالعرب أخباراً قريبة إلى منطق التاريخ والى الواقع يمكن أن نأخذ بها وأن تستعين بها في تدوين تاريخ الحيرة وتاريخ الساسانيين مع العرب. ويعود سبب ذلك إلى رجوع الرواة إلى موارد مدونة، أو إلى شهود عيان أدركوا أنفسهم الحوادث، وكلها من الحوادث القريبة من الإسلام والتي وقع بعضها في أيام الرسول. أما حوادث آل نصر، أو أخبار الفرس مع العرب البعيدة، فلا تجد فيها هذا الصفاء والنقاء، بل نجد فيها قترة وغرة، لنقلها بالسماع والمشافهة وتقادم العهد على السماع. وهكذا صار تاريخ الحيرة المروي في التواريخ غيوماً تتخللها فجوات متبعثرة تنبعث منها أشعة الشمس.
نعم جاء أن أهل الحيرة كاِنواُ يعشون بتدوين أخبارهم وأنساب ملوكهم وأعمار من ملك منهم، وكانوا يضعون ذلك في بيع الحيرة. وورد إن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له اشعار العرب في الطنوج، وهي الكراريس، فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض. فلما كان المختار بن أبي عبيدة، قيل له: إن تحت القصر كنزاً، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار. وذكر ابن سلام الجُمَحِي انه "كان عند النعمان بن المنذر ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان، أو ما صار منه".
ولكنني على الرغم من ورود هذه الأخبار لا أستطيع أن اقف منها الآن موقفاً إيجابياً،إذ لم اسمع إن أحداً من رواة الشعر ذكر انه رجع إلى تلك الطّنوج والدواوين فاًخذ منهما، أو أن بني مروان عرضوها على أحد. ولو كانا تلك الدواوين موجودة، لم يسكت عنها رواة الشعر الجاهلي وطلابه الذين كانوا يبحثون عنه في كل مكان. ثم إن الأخباريين يذكرون إن "الوليد بن يزيد بن عبد الملك"، كان يرسل إلى "حمّاد" رسلاً ليأتوا إليه بما يريد الوقوف عليه من الشعر الجاهلي، وأنه "جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك وردّ الديوان إلى قاد وجناد"، وأنه أحضره إلى الشام، واستنشد أشعار "بَلِيّ" وأشعاراً أخرى ه، ولو كان لدى"بني مروان" ديوان "النعمان بن المنذر" الذي جمع فيه اشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته، لما احتاج "الوليد" إلى أن يسأل حمادأ وجناداً ليرسل إليه ديوان العرب وهو ديوان لا ندري اليوم من أمره شيئاً، ولم يذكر "ابن النديم" صاحب الخبر، ما علاقة الرجلين المذكورين بذلك الديوان. هل كانا اشتركا مماً في جمعه،أو أن كل واحدْ منهما قد جمع بنفسه الأشعار في ديوان، فأرسل الوليد اليهما بطلب منهما ما جمعاه، ليجمعه مع ما عنده في ديوان.
ثم إننا لم نسمع أحداً يقول:"كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر ابن ربيعة، ومبالغ أعمار من عمل منهم، لآل كسرى، وتاريخ سنيهم مزن بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها"، غير الراوية "هشام بن محمد الكلبي". فلمَ وقف "ابن الكلبي" وحده على تلك الكنوز، ولم يلجأ غيره إلى بيع الحيرة، ليأخذ منها أخبار نصر ? ألم يسلم بوجودها -أحد غيره ? ثم لم اختلفت روايات "ابن الكلبي" وتناقصت في أمور من تأريخ الحيرة، ما كان من الواجب وقوع اختلاف فيها،و لِمَ لجأ أيضاً إلى رواية القصص والأساطير عن منشأ "الحيرة"، وعن "عمرو بن عدي"، وعن جذيمة، وعن "قصر الحورنق" وعن غير ذللك، ليقصها على أنها تأريخ آل نصر. أيعد هذا دليلاً على أخذه من موارد قديمة مكتوبة مدوّنة ? نعم، من الجائز أن يكون قد اًخذ من صحف كانت قد دوّنت أسماء آل نصر المتأخرين، وبعض الأخبار المتعلقة بهم، أما أنه أخذ أخبارهم كاملة مدوّنة من كتاب أو من كتب تأريخ بالمعنى المفهوم من الكتاب، فذلك ما أشك فيه، لأن الذي ينقل أخباره من كتاب في التاًريخ لا يروي تاريخ تلك الأسرة وتاريخ عربها على الشكل الذي رواه.
قال "الطبري": "وكان أمر آل نصر بن ربيعة ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمّالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق عند أهل الحيرة، متعالماً، مثبتاً عندهم في كنائسهم وأسفارهم"، وتدل هذه الملاحظة التي تؤيد رواية "ابن الكلبي" المتقدمة- ولعلّ "الطبري" أخذها من رواية لابن الكلبي، دون أن يشير إليه، - على وجود أسفار في تواريخ أهل الحيرة، إلاّ أني أعود فأقول إن أكثر المروي عنهم، لا يدل على أنه منقول من موارد مدوّنة، لما فيه من اضطراب وتناقض، ولغلبة طابع الروايات الشفوية عليه. والأخبار الوحيدة التي يمكن أن تكون منقولة من موارد مدوّنة، هي الأخبار المتأخرة التي تعود إلى أواخر أيام الحيرة، الأيام المقاربة للإسلام إلى زمن فتح المسلمين لها. ثم إن لقربها من زمن التدوين علافة بوضوح هذه الأخبار المتأخرة وبدرجة صفائها.
ولا تعني هذه الملاحظات إننا ننكر وجود مدونات عند أهل الحيرة في التاريخ أو في الشعر أو في أي موضوع آخر، ولا أعتقد أن في استطاعة أحد نكران وجود التأليف عندهم. فقد ورد في التواريخ الكنائسية أسماء رجال من أهل الحيرة ساهموا في المجالس الكنائسية التي انعقدت للنظر في أمور الكنيسة ومشكلاتها، ومنهم من برز وألّف في موضوعات دينية وتارخية، كما ورد في أخبار أهل الأخبار أن أهل الحرة كانوا يتداولون قصص رستم واسفنديار وملوك فارس، وأن "النصر بن الحارث" الذي كان يعارض الرسول، تعلّم منهم، وكان يحد"ث أهل مكة بأخبارهم معارضاً رسول الله، ويقول: آينا أحسن حديثاً? أنا أم محمد?
ولا بد أن يكون معين القصص الذي تعلمه "النضر بن الحارث هو في هذا المعين المدون في كتب الفرس. و قد كانت للفرس كتب في سير ملوكهم وآدابهم ترجم بعضها في الإسلام، مثل كتاب "سير العجم"، أو "كتاب خداي نامه"، أو كتاب "سير الملوك" أو "سبر ملوك العجم"، ترجمة "عبد الله بن المقفع" و "كتاب التاج" للمترجم نفسه، وكتب أخرى لم تترجم كانت شائعة عند الفرس معروفة، يحافظون عليها ويتداولونها" منها استمد المؤرخون العرب الإسلاميون أخبار الفرس ومن حكم منهم من ملوك.
ولقد قال "كولد تزهير" و "بروكلمن" بوجود أثر فارسي في ظهور علم التأريخ عند المسلمين. أما أثر الموارد الفارسية في مادة الفصول المدونة عن الفرس وعن ملوك الحيرة، فواضح ظاهر، ولا يمكن لأحد الشك فيه، و أما أثرها فيما عدا ذلك، ولا سيما في كيفية عرض التاًريخ وفي أسلوب تدوينه وتبويبه، فدعوى أراها غير صحيحة، لأن طريقة الابتداء بالزمان ثم ابتداء الخلق وعدد أيام الخلق وخلق آدم ثم التحدث عن الأنبياء بحسب تسلسل رسالاتهم وهي الطريقة التي سار عليها من دوّن في التأريخ العام من المسلمين مثلاّ، فعل "الطبري" في تأريخه، طريقة لا يمكن أن تكون فارسية، لأن الفرس مجوس، والمجوس لا يعتقدون بهؤلاء الرسل والأنبياء. والصحيح، إنها طريقة المؤرخين الذين جاؤوا بعد الميلاد، فهم الذين روّ جوا الأسلوب المذكور تدوين التاريخ. ويمكن إدراك ذلك من المقابلة بين الأسلوبين: الأسلوب المذكور في تدوين التأريخ وفي كيفية تبويبه وتصنيفه وأسلوب الكتب التاريخية المدونة اليونانية وفي السريانية إلى زمن تدوين التأريخ عند المسلمين.
والرأي عندي أن علمنا بأسلوب التأريخ عند الفرس: كيفية عرضه وطرقه وتبويبه علم نزر، لأن ما وصل إلينا من كتبهم معدود محدود، وما ورد فيه سير ملوكهم وأيامهم وما نجده مترجماً ومنشوراً في المؤلفات العربية، هو مم نوع القصص الذي يغلب عليه الطابع الأدبي، فيه أدب السلوك ومواعظ الحكم وأقوال في الحكمة، وحتى القسم المتصل منه بالتأريخ قد وضع بأسلوب عاطفي أدبي. ومن هنا ابتعد عن أسلوب المؤرخين اليونان واللاتين، وعن أسلوب المؤرخين الذين ظهروا بعد الميلاد. وقد يكون لاختلاف الذوق دخل في اختلاف الأسلوبين. ومهما يكن من أمر فأنا لا أريد أن أكون متسرعاً عجولاَ في إصدار حكم على فن التأريخ عند الفرس، فابغض الأشياء إليّ التسرع في إصدار الأحكام في التاًريخ، ومن الحكمة وجوب التريث و الانتظار، فلعل الأيام تتحفنا بتواريخ فارسية، ترينا أن للفرس رأياً أصيلاً في التأريخ، وأن لهم طريقة المؤرخين في تدوين تأريخ العالم وتأريخ بلادهم وفي تدوين سير الملوك والأشخاص، وأنهم كانوا قد عينوا مراسلين يلازمون جيوشهم لتدوين أخبار الحروب، كما فعل الروم، ولكن بعقلية مستقلة لم تتأثر بطريقة اليونان واللاتين.
ويكاد يكون أكر ما دوّن عن "الغساسنة" في المؤلفات العربية الإسلامية مأخوذا من الروايات الواردة عن ملوك الحيرة وعرب الحيرة، أنداد الغساسنة، ولذلك لم تكن في جانبهم، وتكاد تلك الأخبار ترجع في الغالب إلى شخص واحد، تخصص بأخبار الحيرة وملوك الفرس، هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وهو الذي روى هذه الأخبار اعتماداً على بحوثه الخاصة، وعلى البحوث و الدراسات التي قام بها والده من قبله. ويجب أن نجعل لهذه الملاحظات الاعتبار الأول في تدوين تاريخ الغساسنة. وقد وردت أخبارهم في الطبري مع أخبار ملوك الحيرة والفرس لهذا السبب. و أما في سائر الأصول التاريخية الأخرى، فهي مقتضبة، وشد اكتفى بعض المؤرخين بإيراد جريدة بأسماء الملوك، وهو عمل ينبئك بقلة بضاعة القوم في تاريخ عرب الشام. وعلى كل حال، فإننا نجد في كتب الأدب وفي دواوين الشعر عوناٌ لنا في تدوين، تاريخ غسان، قد يسد بعض الفراغ في تاريخ هذه الإمارة، وان كان ذلك كدّ لا يكفي، بل لابد من الاستعانة بأصول أعجمية من يونانية وسريانية، ففيها مواد عن نواح مجهولة من هذا التاريخ، كما أنها تصحح شيئا مما ورد في الموارد العربية مهن أغلاط. ولقد تأثرت روايات "ابن الكلي" بطابع التعصب لأهل الحيرة على الغساسنة، لاعتماده على روايات أهل الحيرة وعلى أهل الكوفة في سرد تاريخ الغساسنة،وقد كان ملوك الحيرة أنداداً لملوك الغساسنة، ولهذا تتعارض رواياته وروايات من استقى من هذا المورد مع روايات علماء اللغة والأدب والشعر الني وردت استطراداً عن أهل الحيرة أو الغساسنة، وذلك في أثناء شرحهم لفخمة أو بيت شعر أو قصيدة أو ديواناً أو حياة شاعر كانت له علاقة بالحيرة أو بالغساسنة، أو عن قصة من القصص، وما شاكل ذلك. ومرجع أولئك الروايات العربية الخالصة، وقد استمدت من رجال كانوا شاهدي عيان،أو رووا ما سمعوه من أفواه الناس، ويمكن إدراك اتجاهها وميولها بوضوح، ولهذا تجب الموازنة بين الروايتين.
أما روايات أهل "يثرب" أي "المدينة"، فهي في مصلحة الغساسنة في الأكثر، وقد كانوا على اتصال دائم بهم.ولهم تجارات معهم، وكان شعراؤهم يفتخرون بانتسابهم هم وآل غسان إلى أصل واحد و دوحة واحدة هي الأزد. وهذا يستحسن التفكر في هذا الأمر بالنسبة إلى روايات أهل المدينة، ولا سيما أخبار حسان بن ثابت الأنصاري عن أل غسان.
ومما يؤسف عليه أن المؤرخين المسلمين لم يغرفوا من المناهل اليونانية واللاتينية والسريانية لتدوين أخبارهم عن تأريخ العرب قبل الإسلام، لا قبل الميلاد ولا بعده، مع أنها أضبط وأدق من الأصول الفارسية، ومن الروايات التي تعتمد على المشافهة بالطبع.وقد كان من عادة اليونان إلحاق عدد من المخبرين والمسجلين الرسميين بالحملات لتسجيل أخبارها، كما حوت الموارد السريانية بصورة خاض والموارد اليونانية المؤلفة بعد الميلاد أمورا كثيرة فيما يخص انتشار النصرانية بين العرب، وفيما يخص المجامع الكنائسية التي حضرها أساقفة من العرب، وكذلك الآراء والمذاهب النصرانية التي ظهرت بين نصارى العرب.
نعم لقد وقف المؤرخون على تواريخ عامة وخاصة مدونة بالرومية والسريانية كانت عند جماعة من المشتغلين بالتأريخ من أهل الكتاب. وقد فسروها، أو فسروا بعضها لهم، ولا سيما ما يتعلق منها بموضوعات لها صلة بالقرآن الكريم مثل كيفية الخلق والزمان والمكان وقصص الرسل والأنبياء والملوك، نجد طابعه ومادتها وأسلوبها في هذا المدوّن عن قبل الإسلام، والذي صار مقدمة لتاريخ الإسلام، عرج المشتغلون في التأريخ العام على وضعها قبل تاريخ الرسالة. وقد استفاد من بعضها بعض المؤرخين، مثل المسعودي وحمزة الأصفهاني وآخرين، في تدوين تاريخ ملوك الروم، وقد صارت طريقتهم كما قلت سابقاً أنموذجاً للمؤرخين ساروا عليه في عرض التأريخ وفي تدوينه، غير أن هذا النقل لم يكن ويا للأسف قد تجاوز هذا الحد، فكان ضيق المجال محدود المساحة، وقد كان من الواجب عليهم الاستعانة بتلك الموارد في علاقات العرب بالروم وفي موضوع النصرانية في بلاد العرب على الأقل،وهي موارد فيها مادة مفيدة في هذا الباب.
وأود أن أشير إلى الخدمة التي أداها علماء الأخبار برجوعهم إلى الشّيب والى حفظة أخبار القبائل من مختلف القبائل لجمع أخبار القبائل وأيامها وحوادثها قبل الإسلام. وقد وضعت في ذلك جملة مؤلفات ضاع أكرها ويا للأسف، ولم يبق منها إلا الاسم،ولكننا في مع ذلك مادة غنية واسعة منها في كتب الأدب، أستطيع أن أقول إنها أوسع وأنفع بكثير من هذه المواد المدونة المجموعة في كتب التأريخ. وهذا شيء غريب، إذ المأمول أن تكون كتب التأريخ أوسع مادة منها في هذا الباب، وأن تأخذ لب ما ورد فيها مما يخص التأريخ تضيفه إلى ما تجمع عندها من مادة. والظاهر إن المؤرخين، ولا سيما المتزمتين منهم المتقيدين بالتاًريخ على أنه حوادث - مضبوطة مقرونة بوقت و بمكان وبعيدة عن أسلوب الأيام والقصص، رأوا أن ذلك المروي عن أخبار القبائل والأنساب وحوادث الشعراء هو ذو طابع أدبي أو طابع خاص لا علاقة له بالحكومات والملوك، فلم يأخذوا به، وتركوه، لأنه خارج حدود موضوع التاًريخ كما فهموه. وهو فهم خاطئ لمفهوم التأريخ ولمفهوم الموارد التي بحب أن يستعان بها لتدوينه. فأضاعوا بذلك مادة غزيرة لم يدركوا أهميتها وفائدتها أن ذاك. و إهمالهم لتلك الموارد هو من جملة مواطن الضعف التي نجدها عند أولئك المؤرخين.أما نحن، فقد وجدنا فيه ثروة تزيد كثيراً على الثروة الواردة في مؤلفات المؤرخين. وإهمال المؤرخين لتلك الموارد هو من أسباب الضعف التي نبدها في فهمهم للمنابع التي يجب أن يستعان بها في تدوين التأريخ.
وإذا كان القدامى قد أخطأوا في فهم معنى التاًريخ، ووقعوا من ثم في خطأ بالنسبة إلى الموارد التي يجب أن يرجع إليها في تدوين تأريخ الجاهلية، فعلينا يقع في الزمن الحاضر وعلى القادمين من بعدنا بصورة خاصة واجب مراجعة الموارد الأخرى من كتب في التفسير وفي الحديث وفي الفقه وفي الأدب وغير ذلك، لاستخراج ما فيها من مادة عن الجاهلية، لأنها كما قلت أغزر مادة وأقرب إلى المنطق في بعض الأحيان في فهم الحوادث من كتب المؤرخين.
والغريب أن المستشرقين الذين عرفوا بجدهم وبرصهم على الإحاطة بكل ما يرد عن حادث، أهملوا مع ذلك شأن الموارد المذكورة، ولم يأخذوا منها إلا في القليل. ولو راجعوها، لكان ما جاؤوا به عن الجاهلية أضعاف أضعاف ما جاؤوا به وكتبوه، ولكانت بحوثهم أدق وأعمق مما هي عليه الآن.
وفي طليعة من اشتغل برواية أخبار ما قبل الإسلام: عبيد بن شرية،ووهب ابن منبه، ومحمد بن السائب الكلي، وابنه أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلي، وآخرون. وبعض هؤلاء مثل عبيد بن شرية وكعب الأحبار ووهب ابن منبه، قصاص أساطير، ورواة خرافات، وسمر مستمد من أساطير يهود، وأولئك وأمثالهم هم منبع الإسرائيليات في الإسلام.
فأما عبيد بن شرية، فقد كان من أهل صنعاء "في رواية" أو من سكان الرقة "في رواية أخرى". وكان معروفا عند الناس بالقصص والأخبار، فطلبه معاوية، فصار يحدثه بأخبار الماضين. ومن الكتب المنسوبة إليه: كتاب الأمثال، وكتاب الملوك وأخبار الماضين، وقد طبع في ذيل "كتاب التيجان في ملوك حمير" المطبوع بحيدراباد دكن بالهند بعنوان "أخبار عبيد بن شرية الجرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها" وقد وضع الكتاب على الطريقة التي تروى بها الأسمار وأيام العرب، وفيه أشعار كثيرة وضعت على لسان عاد وثمود ولقمان وطسْم وجَديِس والتبابعة، وفيه قصص إسرائيلي وشعبي يمثل في جملته السذاجة وضعف ملكَة النقد، وبساطة القص والقصة، ومبلغ علم الناس في ذلك الوقت بأخبار الأوائل.
وقد حصل "كتاب الملوك وأخبار الماضين" على شهرة بعيدة، وطلب في كل مكان، وكثرت نسخه، ومع هذه الكثرة اختلفت نسخه، حتى صعب العثور على نسختن متشابهتين منه. وقد نقل الهمداني "المتوفى سنة 334 للهجرة" بعض الأخبار المنسوبة إلى عبيد. ولمَا نقله، أهمية كبيرة في تثبيت مؤلفات عبيد، إذ يمكن مقابلته بما نشر، وَمطابقته بما طبع، فيمكن عندئذ معرفة ما إذا كان هناك اتفاق أو اختلاف. ويمكن عندئذ تعيين هوية المطبوع.
والطابع الظاهر على أخبار عبيد، هو طابع السمر والقصص والأساطير المتأثرة بالإسرائيليات. وأما الشعر الكثير الذي روي على أنه من نظم التبابعة وغيرهم، وفيه قصائد طويلة، فلا ندري أمن نضمه أم من نظم أشخاص آخرين قالوها على لسان من زعموا أنهم نظموها، أو إنها أضيفت فيما بعد إلى الكتاب ونسبت روايتها إلى عبيد? وعلى كل فإنها تستحق توجيه عناية الباحثين إلى البحث عن زمن ظهورها وأثرها في عقلية أهل ذلك الزمن.
وأما "وهب بن منيه"، فقد كان من أهل "ذمار"،وكان قاصاً أخبارياً، من الأبناء، ويقال انه كان من أصل يهودي، واليه ترجع أكثر الإسرائيليات المنتشرة في المؤلفات العربية. وقد زعم أنه كان ينقل من التوراة ومن كتب بني إسرائيل، وانه كان يقول: "قرأت من كتب الله تعالى اثنين وسيعين كتابا"، وانه كان يتقن اليونانية والسريانية والحمرية، ويحسن قراءة الكتابات القديمة الصعبة التي لا يقدر أحد على قراءتها. قال المسعودي: "وجد في حائط المسجد لوح من حجارة، فيه كتابة باليونانية، فعرض على جماعة من أهل الكتاب فلم يقدروا على قراءته، فوجّه به إلى وهب بن منبه، فقال: هذا مكتوب في أيام سليمان بن داوود، عليهما السلام، فقراه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. يا ابن آدم، لو عاينت ما بقي من يسير أجلك: لزهدت فيما بقي من طول أملك، وقصرت عن رغبتك وحيلك، و إنما تلقي قدمك ندمك إذا زلّت بك قدمك، وأسلمك أهلك، وانصرف عنك الحبيب، وودعك القريب، ثم صرت تدعى فلا تجيب، فلا أنت إلى أهلك عائد، ولا في عملك زائد، فاغتم الحياة قبل الموت، والقوة قبل الفوت، وقبل أن يؤخذ منك بالكظم، ويحال بين ك وبين العمل. وكتب في زمن سليمان بن داوود".
وفي كتاب "التيجان في ملوك حمير" رواية ابن هشام نماذج لقراءته، وهي على هذا النسق الذي يدل على سخي يته بعقول سامعيه إن كان ما نسب إليه حقاً، وأنه قرأه عليهم صدقاً، ومن يسري? فلعله كان لا يعرف حروف اليونانية، ولا يمجز بينها وبين الأبجديات الأخرى. ثم هل يعجز أهل دمشق عن قراءة نص يوناني أو سرياني او عبراني وقد كان فيها في ايام وهب ين منبه علماء فطاحل حذقة بهذه اللغات هم نفر من أهل الكتاب? والذي يهمنا من أمر "وهب بن منبه" أخباره عن الجاهلية. ولوهب أخبار عن اليمن والأقوام العربية البائدة، ونجد روايته عن نصارى نجران وتعذيب "ذي نواس" إباهم، وقصة الراهب "فيميون" مطابقة للروايات النصرانية ولما جاء في كتاب "شمعون الأرشامي" عن هذا الحادث. والظاهر أنه كان قد أخذها من المؤلفات النصرانية أو من أشخاص كانوا قد سمعوا يما ورد عن حادث "نجران" من أخبار. وقد ذكر أن وهباً كان يستعين بالكتب، وأن أخاه "همام بن منبه بن كامل بن في شيخ اليماني" أبا عقبة الصنعاني الأبناوي، كان يشتري الكتب لأخيه. ولعله استقى أخباره عن بعض الأمور المتعلقة بالنصرانية مثل مولد وحياة المسيح من تلك الموارد، أو من اتصاله بالنصارى. أما ما ذكره عن التبابعة والعرب البائدة، فإنه قصص. وأما علمه بأخبار العرب الآخرين، فيكاد يكون صفراً، فلا نجد في رواياته شيئاً يعد تاًريخاً لعرب الحيرة او الغساسنة أو عرب في. فهو في هذا الباب مثل "عبيد بن شرية" من طبقة القصاص. لم يصل إلى مستوى أهل الأخبار، ولعله وجد نفسه ضعيفاً في التأريخ وفي أخبار العرب، فمال إلى شيء آخر لا يدانيه فيه أصد، وهو مرغوب فيه مطلوب، وهو القصص الإسرائيلي، وما يتعلق بأقوام ماضين، ذُ كروا في القرآن الكريم، وكانت بالمسلمين الأولين حاجة إلى من يتحدث لهم عن ذلك القصص وأولئك الأقوام.
ومن الكتب المنسوبة إلى وهب "كتاب الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم"، وقد تناول أخبار التبابعة. والظاهر أن "كتاب التيجان في ملوك حمير" الذي طيع في الهند، رواية ابن هشام أبي محمد عبد الملك بن هشام ين أَيوب الحمري "المتوفى سنة 213 أو 218 ه" قد استند إليه، بعد أن أضاف إليه أخباراً أخذها من مؤلفات محمد بن السائب الكلبي وأبي مخنف لوط ين يحيى و زياد بن عبد الله بن الطفل العامري أبي محمد الكوفي المعروف بالبكائي رواية ابن إسحاق.وهو خليط من الإسرائيليات والقصص اليماني ومن مواد أخرى قد تكون من وضعه، أو من صنعة آخرين، صنعوها قبله، فأخذها من السنة الناس، مثل تلك القصائد والأشعار الكثيرة المنسوبة إلى التبابعة وغيرهم. وقد أورد في الكتاب أسماء أخذت من التوراة ذكرها بنصه كما تلفظ بالعبرانية، مما يبعث على الظن أنها أخذت من مورد يهودي. وأما سائر الأخبار الواردة في الكتاب، فالغالب عليها السذاجة، إذ لا نجد فيها عمقا ولا مادة تأريخية غزيرة كالمادة التي نجدها في مؤلفات ابن الكلبي، وفي مؤلفات الهمداني الذي عاش بعده.
و أودّ أن ألفت أنظار العلماء إلى أهمية روايات "وهب بن منبه" وأخبار بالنسبة إلى من يريد الوقوف على الدراسات التوراتية والتلمودية في ذلك العهد ففيها فقرات كثيرة زعم "وهب" أو آخرون قالوا ذلك على لسانه، أنم قراءات أي ترجمات أخذت من التوراة ومن كتب الله الأخرى. وإذا ثبت بع مقابلتها بنصوص التوراة والتلمود والمشنا وغيرها من كتب اليهود، إنها من تلك. الكتب حقاً، و إنها ترجمات صحهحة، فنكون قد حصلنا بذلك على نماذج قديم لمواضع من تلك الكتب قد تفيدنا في إرشادنا إلى ترجمات أقدم منها، كما تعين في الوقوف على النواحي الثقافية للعرب في ذلك العهد.
ولأبي المنذر هشام بن محمد بن السائب الحلبي المتوفى سنة 204 أو 206 ه فضل كبير على دراسات تاًريخ العرب قبل الإسلام، فاًغلب معارفنا عن هذا العهد تعود إليه. وقد سلك مسلكاً جعله في طليعة الباحثين في الدراسات الاثارية عند المسلمن، برجوعه إلى الأصول، واعتماده على المراجع التاربخية، متبعاً سبيلاَ تختلف عن سبيل أهل اللغة في البحث، وهو - بطريقته هذه - قريب من طريقة المؤرخين في تدوين التأريخ.
ولكنه لم يخل مع ذلك من مواطن الضعف التي تكون عادة في الأخباربين، مثل سرعة التصديق، ورواية الخبر على علاته دون نقد أو تمحيص. وقد اتهم بالوضع والكذب. ولذلك نجنب جماعة من العلماء الرواية عنه، وقالوا عن بعض أسانيده أنها سلسلة الكذب. وذهب "بر كلمن" إلى أن ما اتهم عليه ابن الكلبي لم يكن كله صحيحاً، وأن البحوث العلمية التي قام بها المستشرقون دلتهم على أن الحق كان في جانبه في كثر من المواضع التي اتهم عليها.
وأنا لا أريد أن أبرئه من الوضع أو من تهمة أخذه كل ما يقال له، ولا سيما إذا كان القائل من أهل الكتاب، دون مناقشة ولا إبداء رأي. فقي المنسوب إليه شيء كثير من الإسرائيليات والقصص الممسوخ الذي يدل على جهل قائله أو استخفافه بعقل السامع وعلمه، مثل اختراع سلاسل من النسب زعم أنها واردة في التوراة، أو عند أهل النسب، مع إن الوضع فيها بينّ واضح،وهي غير واردة في التوراة ولا في التلمود. ولعلّ حرصه على الظهور بمظهر العالم المحيط بكل شيء من أخبار الماضين، هو الذي حمله على الوضع، وقد وضع غيره من أقرائه شعراً ونثراً، وصنع قصصاً، ليتفوق بذلك على أقرانه وخصومه،وليظهر بمظهر العالم الذي لا يفوته شيء من العلم.
وقد عالج بعض الباحثين زعم "ابن الكلبي" أنه كان يستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر ومبالغ أعمار من عمل منهم، وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة فرأى أن كتابات أهل الحرة كانت بالكتابة النبطية وبالأرقام النبطية، كما أثبت ذلك نص "النمارة" أيضا، وأن "ابن الكلي" لم يكن يحسن قراءة النبطية ولم يفهمها، وعندما حاول قراءتها لم يتمكن من ذلك فوقع في أوهام، وجا بأمثلة على ذلك تتعلق بما ذكره "ابن الكلي" من مدد حكم أولئك الملوك فوجد أنه لم يميز مثلاً بين الرقم "20" والرقم "100 " وذلك لتشابه شكل الرقم الأول مع !شكل الرقم الثاني في النبطية، فقرأ العشرين مئة، فزاد سني حكم الملوك. ومن هنا أخطأ في ضبط مدد حكم -ملوك الحيرة، ولا سيما بالنسبة للقدامى منهم، لأن الكتابات النبطية المتقدمة لم تكن مثل الكتابات النبطية المتأخرة في قربها من الأبجدية العربية القديمة.
هذا ولمُ يبحث موضوع أخذ "ابن الكلبي" من بيع الحرة حنى ألان برأ علياً مركزاً. وهو موضوع أرى أنه جدير بالدراسة والعناية. وحري باًن يقارن ما ذكره "ابن الكلبي" بما جاء في الموارد النصرانية عن " آل نصر"،لنرى مقدار الصحة من الخطأ في فهم "ابن الكلبي" لتلك الموارد الني ذكر أنه قرأها وانه استعان بها في جمع تأريخ عرب العراق قبل الإسلام.
ولم يبق من القائمة الطويلة التي ضمنها "ابن النديم" مؤلفات ابن الكلبي غير قليل. وهي في المآثر والبيوتات و المنافرات والمؤودات وأخبار الأوائل وفيما قارب الإسلام من أمر الجاهلية، وفي أخبار الشعوب وأيام العرب، والأخبار والأسماء والأنساب.
وهناك بعض الشبه بين بحوث أبي عيي حدة "المتوفى بسنة عشر ومائعتين" الذي كان له علم بالجاهلية،ومصنفات وبحوث في القبائل والأنساب، وبين ابن الكلبي في اتجاهه ومناحيه. ولكنه دونه في أخباره عن الجاهلية، ومؤلفاته في أمور الجاهلية لا تعدّ شيئاً بالنسبة إلى ما ينسب إلى ابن الكلبي من مؤلفات، كما إن أخباره ورواياته عنها قليلة بالنسبة إلى أخبار ابن الكلبي ورواياته.
وهناك عدد آخر من العلماء، كالأصمعي، و "الشرقي بن القطامي"، وسائر من اشتغل بالأنساب واللغة والأدب، كان لهم فضل كبير في جمع أخبار الجاهلية المتصلة بالإسلام، وقد تولدت من شروحهم و أماليهم وكتبهم ثروة تاريخية قيمة لم ترد في كتب التاريخ. ولكن عرض أسمائهم هنا وذكر بحوثهم ومؤلفاتهم يضطرنا إلى كتابة فصول طويلة عن جهودهم وأتعابهم وعن ضعف رواياتهم أو قوتها، وذلك يخرجنا عن حدود كتابنا، ولهذا اكتفي هنا بما كتبت وذكرت، على أن أتعرض لأراء الباقين في المواضع التي ترد فيها، فأشير إلى صاحبها والى روايته عن الحادث. ولتهن لا بد لي من التحدث عن عالمين من علماء اليمن، ألّفا في تاريخ اليمن القديم، وجاء بمعلومات ساعدتنا كثيراً في توسيع معارفنا بالأماكن الأثرية هناك،إذ أشارا إلى أسماء أبنية ومواضع، وشخصا أمكنة، ووصفا عاديات رأياها، فأفادنا بذلك فائدة كبيرة.
أما أحدهما، فهو الهمداني، أبو محمد الحسن بن احمد بن يعقوب بن يوسف المتوفى سنة 334ه. أو بعد ذلك كما ذهب إلى ذلك الحوالي. وأما الآخر، فهو "نشوان بن سعيد الحميري"، المتوفى سنة 573ه.
لقد بذل الهمداني مجهوداً يقدر في تأليف كتبه وفي اختيار موضوعاته،وسلك في بحوثه سبيلاَ حسناً بذهابه بنفسه إلى الأماكن الأثارية وبوصفه لها في كتبه، فأعطانا بذلك صوراً لكثير من العاديات التي ذهب أثرها واختفى رممها، لمجل طمست حنى أسماء بعضها. و بمحاولته قراءة المسند وترجمته إلى عربيتنا، للوقوف على معناها ومضمونها، يكون قد استحق التقدير والثناء، لأن عمله هذا يدل على ادراكه لأهمية الكتابات في استنباط التواريخ. على أننا يجب أن نذكر أيضا أن الهمداني لم يكن أول من عمد إلى هذه الطريقة، طريقة قراءة الكتابات لاستنباط التواريخ منها، فقد سبقه غيره في هذه القراءات، وكانوا،مثله يبغون الوقوف على ما جاء فيها، ومعرفة تواريخها. ولخد أشار "الهمداني" نفسه إليهم وذكرهم بأسمائهم، مثل "أحمد بن الأغر الشهابي من كندة" و "محمد ابن أحمد الأوساني" و "مسلمة بن يوسف بن مسلمة الحيواني" وغيرهم. فهم مثله يستحقون الثناء والتقدير أيضاً، وهم بطريقتهم هذه في جمع مادة التأريخ يكونون على شاكلة الآثاريين المحدثين في إدراك أهمية الدراسات الآثار والكتابات بالنسبة إلى اكتشاف تواريخ العاديات، وهم بطريقتهم هذه يكونون قد فاقوا غيرهم من المؤرخين العرب في الأمكنة الأخرى بهذه الطريقة، فقلما نبد مؤرخين في الأماكن الأخرى لجأوا إلى دراسة الآثار ودراسة الكتابات ووصف الأمكنة الاثارية لاستنباط التواريخ مها كما يفعل الاثاريون في الزمن الحاضر.
وقد أثنى الهمداني بصورة خاصة على أستاذ له أخذ منه، فوسمه بأنه "شيخ حمير، وناسبها، وعلامتها، وحامل سفرها، ووارث ما ادخرته ملوك حمير خزائنها من مكنون علمها، وقارئ مساندها، والمحيط بلغاتها" وسماه "أبا نصر محمد بن عبد الله اليهري". وقال انه كان مرجعه فيما كان يشكل عليه من أخبار أهل اليمن، والمنبع الذي غرف منه علمه بأحوال الماضين، إلى أن قال: "وكان بحاثة، قد لقي رجلاً وقرأ زبر حمير القديمة ومساندها الدهرية، فربما نقل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وكانت أسماء فيها ثقل،فخفضها العرب، وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناس مخففة مبدلة. فإذا سمعوا منها الاسم الموفّر، خال الجاهل انه غير ذلك الاسم، وهو هو. فما أخذته عنه، ما أثبته هنا في كتابي هذا من أنساب بني الهميسع بن حمير وعدة الأذواء وبعض ما يتبع ذلك من أمثال حمير وحكمها، إلا ما أخذته عن رجال حمير وكهلان من سجل خولان القديم بصعدة، ومن علماء صنعاء وصعدة ونجران و الجوف وخيوان وما أخبرني به الآباء والأسلاف".
ولملاحظة "الهَمداني" على الأسماء اليمانية القديمة، وثقلها على ألسنة الناس في أيامه وقبل أيامه، شأن كبير، إذ ترينا أن لسان أسهل اليمن كان قد تغير وتبدل، وأن ذلك التغير قد تناول حتى الأسماء،. فصارت الأسماء القديمة ثقيلة على أسماعهم، غليظة الوقع عليهم، فخففوها أو بدلوها، وللواقع أننا نشعر من المساند المتأخرة التي وصلت إلينا وقد دُونت في عهود لاّ تعد كثيراً عن الإسلام، ومن الموارد الإسلامية أن الأسماء اليمانية المدوّنة في كتابات المسند التي يرجع عهدها إلى ما قبل الميلاد، هي أسماء أخذت تقل في كتابات المسند المدونة بعد الميلاد إلى قبيل الإسلام، وأن أسماء أخرى جديدة أخف على السمع حلت محل الأسماء المبهمة القديمة. وفي هذا التطور، دلالة على حدوث تغير في عقلية أهل اليمن بعد الميلاد، وعلى حصول تقارب بين لغتهم ولغة أهل الحجاز وبقية العرب الذين يسميهم المستشرقون "العرب الشماليين".
وقد حملني قول الهمداني إنه اخذ اخبار رجال حمير و كهلان من "سجل خولان القديم بصعدة"، على مراجعة متن الجزء الأول من الإكليل للوقوف على الأماكن التي اعتمد فيها على هذا السجل، لأتمكن بها من تكوين رأي عنه، ومن الحصول على فكرة عما جاء فيه. وقد وجدته يصول في موضع منه: "وقرأت في السجل الأول: أولد قحطان بن هود أربعة وعشرين رجلاٌ، وهم: يعرب، والشلف الكبرى، ويشجب، وأزال وهو الذي بنى صنعاء، ويكلي الكبرى، بكسر الياء، وخولان: خولان رداع التي في القفاعة، والحارث وغوثا، والمرتاد، وجُرهما، وجديسا، والمتمنع، والملتمس، والمتغشمر، وعبادا، وذا هوزن، ويمنا، وبه سميت اليمن. والقطاميّ، ونباتة، وحضرموت، فدخلت فيها حضرموت الصغرى، وسماكاً، وظالماً، وخباراً، والمشفتر". ووجدته يقول في موضع آخر: "وأصحاب السجل يقولون مثل قول بعض الناس فيما بين عدنان وإسماعيل، و وجدته يقول: "وفي سجل خولان وحمير بصعدة: أولد مهرة الآمري، والدين، ونادغم،وبيدع..." ويقول في "باب نسب خولان بن عمرو"، "فهذه ألان بطونها على ما روى رجال خولان وحمير بصعدة. وقد سكنت بها عشرين سنة، فأطلت على أخبار خولان وأنسابها، ورجالها كما أطلت على بطن راحتي، وقرأت بها سجل محمد ابن أبان الخنفري المتوارث من الجاهلية، فمن أخبارهم ما دخل في هذا الكتاب، ومنها ما دخل في كتاب الأيام". وقال في موضع: "وقال بعض وضعة السجل ونساب الهميسع". ويتبين من هذه الملاحظات أن السجل المشار إليه هو مجموعة أجزاء، وضعها جملة أشخاص،كل جزء سجل قائم بذاته في الأنساب، وهو متفاوت الأزمنة، ويشمل القبائل والناس. وقد جمعت جمعاً، على طريقة رواة النسب في روايه الأنساب. ولا استبعد أن يكون السجل قد وضع في صدر الإسلام، حينما شرع في أيام "عمر" بتسجيل النسب في ديوان. فدوّنت عندئذ أنساب القبائل، ورجع في ذلك إلى ما كان متعارفاً عليه من النسب في الجاهلية الملاصقة للإسلام وفي صدر الإسلام، ثمّ أكمل على مرور الأيام. ولذلك تعددت الأيدي في كتابته، وصار على شكل فصول في انساب القبائل، كل سجل في نسب قبيلة وما يتفرع منها. والطابع البارز عليه هو الطابع اليماني المحليّ المتأثر بالروايات التوراتية عن "اليقطانيين"، الذين صُيروا قحطانيين بتأثير روايات أهل اليمن من أهل الكتاب وعلى رأسهم كعب الأحبار ووهب بن منبه، وريما من أناس آخرين سبقوهم، ومن الروايات اليمانية المحلية التي تعارف عليها أهل اليمن في أنساب قبائلهم آنئذ. ولهذا تجد الطابع اليماني المحلي بارزاً في مؤلفات أهل اليمن التي نقل منها الهمداني وأمثاله، ولا نجدها على هذا النحو في مؤلفات النسابين الشماليين الذين ينسبون أنفسهم إلى اليمن مثل "ابن الكلي" وسرابه، لأنهم كانوا بعيدين عن اليمن، فعلمهم بالروايات الجمانية، ولا سيما روايات أهل حمير وصعدة وخولان وصنعاء وغيرهم من النسابين المحليين، لذلك، قليل.
وقد أورد الهمداني في الجزء الثاني من كتابه "الإكليل " جملة تدل على أن "السجل القديم " الذي يشير إليه في كتابه، كان سجل نسّابة عرف ب "ابن أيان"، إذ يقول: "قال الهمداني: قال علماء الصعيدين و أصحاب السجل القديم: سجل ابن أبان". و لعل "ابن أبان" كان قد وضعه و جمعه في أبواب، جاء جمع النسابين فأضافوا عليه فصولا جديدة في الانساب، وعرف الكتاب كله و بجميع فصوله ب "السجل". وقد كان أصحاب السجل من أهل صعدة، لما ذكره الهمداني من قوله: "عن الصعيدين عن أصحاب السجل".
وكان "الهمداني"، قد نص في الجزء الأول من "الإكليل" على أن ذلك السجل، هو سجل "محمد بن أبان الحنفري"، وذلك في أثناء حديثه على بطون "صعدة"، إذ قال: "فهذه الآن بطونها على ما روى رجال خولان و حمير بصعدة. وقد سكنت بها سنة، فأطلعت على أخبار خولان و أنسابها و رجالها، كما أطلعت على بطن راحتي، و قرأت بها سجل محمد بن أبان الحنفري المتوارث من الجاهلية، فمن أخبارهم ما دخل في الكتاب، ومنها دخل في كتاب الأيام". و يفهم من هذا النص، أن السجل المذكور هو سجل "محمد بن أبان" وكان يحفظه، وقد ورثه من الجاهلية.
ويظهر من إشارات "الهمداني" اليه، انه قصد بهذا السجل "السجل القديم"، و أما السجلات الأخرى، فقد كانت من وضع علماء آخرين من علماء النسب كانوا بمدينة صعدة، وقد جمعوا أنساب خولان وحمير وقبائل أخرى، و أضافوها على شكل مشجرات نسب إلى ذلك الديوان فصار مجموعة سجلات. واهذا كان ينبّه "الهمداني" إلى الموارد يستقي منها من غير ذلك السجل، كالذي ذكره من "انساب بني الهميسع بن حمير"، إذ قال: "إلا ما أخذته عن رجال حمير وكهلان من سجل خولان القدم بصعدة وعن علماء صنعاء وصعدة وتجران والجوف وخيوان وما أخرني به الآباء والأسلاف".
وأما ما يذكره "الهمداني" من أن أصل السجل القديم وأساسه جاهلي، فأمر لا أريد أن أبتّ فيه الآن. لا أريد أن أنفيه، ولا أريد أن أثبته أيضا. بل أقف منه موقف المحايد الحذر، لأني لا أجد في المنقول منه في كتاب "الإكليل" ما يشير إلى جاهلية وأصل جاهلي، فالمشجرات المذكورة هي من هذا النوع المألوف الذي نراه في كتب الأنساب المؤلفة في الإسلام، وبعضه متأثر بروايات التوراة، ولهذا فأنا لا أستطيع أن أرجع إلى ما قبل الإسلام، ولا أستطيع أن أتبحر فيه وفي أصله ما دمت لا أملك "السجل" نفسه، لا القديم منه ولا الجديد، أو نصوصاً طويلة أْخذت منه، حتى يسهل عليّ الحكم من قراءتي لما ورد ومن دراسته على أصل ذلك الكتاب وصحة نسبته إلى الجاهلية.
وأما "الخنفري"، صاحب السجل، فهو: "محمد بن أبان بن ميمون ابن حريز الخنفري". ولد في ولاية معاوية بن أبي سفبان في سنة خمسين، وتوفي في سنة خمس وتسعين ومائة، ودفن في رأس "حدبة صعدة". هذا ما رواه "الهمداني" عنه. وذكر "الهمداني" انه عاش "125" سنة، ولو أخذنا بهذا الرقم الذي ذكره "الهمداني"، فيجب أن تكون سنة وفاته "175"، لا "195" للهجرة. ولذلك، فيجب أن يكون في تأريخ المولد أو الوفاة وربما في مدة عمر "الخنفري" خطأ. واني أشلك في طول ما ذكره عن عمره.
وكان لغير أهل صعدة كتب في الأنساب أيضاً، دوّنوا فيها أنسابهم، كما كان هنالك نسابون حفظوا أنساب قبائلهم أشار "الهمداني" إليهم في مواضع من كتابه. وهم من غير أصحاب السحل. وكان بعض منهم قد قابل بين ما دوّنه عن القبائل وبن ما دوّن في السجل عنها، كما كان أهل السجل يعرضون ما دوّنوه عن القبائل على نسّابيها لبيان رأيهم فيها. قال الهمداني "بطون الصدف، عن الصعدين من أصحاب السجل،مقروء على بعض نسابة الصدف".
وتجد في الجزء الثامن من الإكليل مواضع ذكر فيها الهمداني "أبا نصر" أيضاً. وقد راجعتها وراجعت الأماكن التي أشير فيها إليه في الجزء الأول، فتبين لي أن علم "أبي نصر" بتأريخ اليمن القديم هو على هذا الوجه: إحاطة بأنساب القبائل اليمانية على النحو الني كان شائعاً ومتعارفاً في أيامه ومسجلاَ في سجلات الأنساب في تلك الأيام، ورواية للأساطير التي راجت عن التبايعة، وأخذ من موارد توراتية ظهرت في اليمن من وجود اليهود فيها قبل الإسلام. أما علمه بالمساند ومدى وقوفه عليها، فأنا أعتقد أن علمه بها لا يختلف عن علم غيره من أهل اليمن: وقوف على الحروف، وتمكن من قراءة اتكلمات، واحاطة عامة بالمسند. أما فهم النصوص واستنباط معانيها بوجه صحيح دقيق، فأرى أنه لم يكن ذا قدرة في ذلك، وهو عندي في هذا الباب مثل غيره من قراء الخط الحم!ري. ودليلي على ذلك أن القراءات المنسوبة إليهم هي قراءات لا يمكن أن تكون قراءات لنصوص جاهلية، وإن تضمنت بعض أسماء يمانية قديمة، لسبب بسيط،هو أن أساليبها ومعانيها ونسقها لا تتفق أبداً مع الأساليب والمعاني المألوفة في الكتابات الجاهلية،فقراءات أبي نصر وأمثاله قراءات بعيدة جداً عن النصوص المعهودة، هي قراءات إسلامية فيها زهد وتصوف وتوحيد وحضٌّ على الابتعاد عن الدنيا. أما نصوص المسند التي عثر عليها حتى الآن، فإنها نصوص وثنية لا تعرف هذه المعاني، وأسلوبها في الكتابة لا يتفق مع ذلك الأسلوب. وهي في أمور أخرى شخصية أو حكومية لا جميلة لها يمثل هذه الآراء والمعتقدات.
وقد أورد "الهمداني" نصاً قال إن قراءة من قراءة "أبي نصر" فيه نسب "عابر". هذا نصه: "قال أبو نصر: الناس يغلطون في عابر، وهو هود بن أيمن بن حلجم يب بضم بن عوضين بن شدّاد بن عاد بن عوص بن إرم بن عوص بن عابر بن شالخ. وذكر أنه وجد هذا النسب في بعض مساند حمير في صفاح الحجارة". وقارئ هذا النص الذي هو مزيج من رواية توراتية ومن إضافة غربية، يخرج من قراءته، برأي واحد هو أن "أبا خصر"، كان لا يتوقف عن نسبة أمور من عنده إلى المساند، فيحملها ما لا يعقل إن تحمله أبدا. فلو كان النص حميرياً صحيحاَ مأخوذاً من التوراة، لكان النسب على نحو ما ورد في التوراة، ولو كان صاحبه وثنياً لا يدين بدين سماوي، فإنه لا يعقل أن يخلط فيه هذا الخلط.
ولكنني لا أريد هنا أن اكتفي بتقديم التقدير إلى الهمداني والى الباقين من علماء اليمن الذين سبقوه أو جاؤوا من بعده والثناء على طريقتهم المذكورة، بل لا بد لي من التحدث عن درجة علم هؤلاء العلماء بالمسند، وبقراءة الكتابات وبعلمهم بمعانيها،أي علمهم بقواعد وأصول اللهجات التي كتبت بها مثل اللهجة المعينية أو السبئية أو القتبانية أو الحضرمية وغيرها من بقية اللهجات، وذلك ليكون كلامنا كلاماً علمياً صادراً عن درس ونقد وفهم بعلم أولئك العلماء بتأريخ اليمن القديم.
ولن يكون مثل هذا الحكم ممكناً إلا بالرجوع إلى مؤلفات "الهمداني" وغيره من علماء اليمن لدراستها دراسة نقد عميقة. ومقابلة ما ورد فيها من قراءات للنصوص مع قراءات العلماء المحدثين المتخصصين بالعربيات الجنوبية لتلك النصوص إن كانت أصولها أو صورها موجودة محفوظة، وعندئذ يمكن الحكم حكماً علمياً سليماً على مقدار علم أولئك العلماء بلغات اليمن القديمة و بتأريخها المندرس. ولكننا ويا للأسف لا نملك كل أجزاء كتاب "الإكليل" ولا كل مؤلفات الهمداني أوغيره من علماء اليمن، فالجزء التاسع من الإكليل مثلاَ وهو جزء خصص بأمثال حمير وبحكمها باللسان الحميري وبحروف المسند،هو جزء ما زال مختفياً، فلم نر وجهه، وهو كما يظهر من وصف محتوياته مهم بالنسبة إلينا، وقد يكون دليلاّ ومرشداً لنا في إصدار حكم على علم الهمداني بلغة حمير. ولكن ماذا نصنع ونفعل، وقد حرمنا رؤية هذا الجزء، وليس في مقدورنا نشره وبعثه، فهل نسكت ونجلس انتظاراً للمستقبل، عسى أنُ يبعث إلى عالم الوجود? هذا، وقد طبع الجزء الثامن من الإكليل وكذلك الجزء العاشر منه، فاستفاد منهما المولعون بتأريخ اليمن القديم وبتأريخ بقية أجزاء العربية الجنوبية، وطبع الجزء الأول من هذا الكتاب حديثاً برواية "محمد بن نشوان بن سعيد الحمري"، وقد ذكر أنه اختصر شيئاً في مواضع الاختلاف وفي النسب مما ليس له شأن في نظره دون أن يؤثر على الكتاب.
وطبع الجزء الثاني من الإكليل أيضاً، أخرجه ناشر الجزء الأول: "محمد ابن علي الأكوع الحوالي " من عهد غير بعيد، وليس لنا الآن إلاّ أن نرجو نشر الأجزاء الباقية من هذا الكتاب، ليكون في وسعنا الحكم على ما جاء فيه من أخبار عن أهل اليمن الجاهليين.
إن أقصى ما نستطيع في الزمن الحاضر فعله وعمله لتكوين رأي تقريبي تخميني من علم الهمداني وعلم بقية علماء اليمن بلهجات أهل اليمن القديمة وبتأريخهم القديم، هو إن نرجع إلى المتيسر المطبوع من مؤلفاتهم، لدراسته دراسة نقد علمية عميقة، لاستخراج هذا الرأي منها. وهو وإن كان أقل من الضائع بكثير، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، والموجود خير من المعدوم، وفي استطاعته تقديم هذا الرأي التخميني التقريبي. فلنبحث إذن في هذا المطبوع لنرى ما جاء فيه. أما بخصوص الخط المسند، فقد ذكر "الهمداني" إن جماعة من العلماء في أيامه كانت تقرأ المسند،غير أن أولئك العلماء كانوا يختلفون فيما بينهم في القراءة، وكان سبب ذلك - على رأيه - اختلاف صور الحروف، "لأنه ربما كان للحرف أربع صور وخمس، ويكون للذي يقرأ لا يعرف إلا صورة واحدة". وقد عرف "الهمداني" أن كتّاب المسند كانوا يفصلون بين كل كلمة وكلمة في السطر بخط قائم، وذكر أنهم كانوا يقرأون كل سطر بخط. غير أنه لم يذكر عدد الحروف. وصرح أنهم "كانوا يطرحون الألف إذا كانت بوسط الحرف، مثل ألف همدان وألف رئام، فيكتبون رئم وهمدن، ويثبتون ضمة آخر الحرف وواو عليهمو". وهي ملاحظات. تدل على إحاطة عامة بالمسند، سوى ما ذكره من اْنه ربما كان للحرف أربع صور وخمس، ويظهر أنه وغيره قد توصلوا إلى هذا الرأي من اختلاف أيدي الكتّاب في رسم الحروف ونقرها على الحجر، كالذي حدث عندنا من تباين الخطوط باختلاف خطوط كتبته، فأدى تباين الخط هذا إلى اختلافهم في القراءة، وإلى ذهابهم إلى هذا الرأي، أو أنهم اختلفوا فيها من جراء تشابه بعض الحروف مثل حرف الهاء والحاء، فان هذين الحرفين متشابهان في الشكل، فكلاهما على هيئة كأس يرتكز على رجل، والفرق بينهما، هو في وجود خط عمودي في وسط الكأس هو امتداد لرجل الكأس، وذلك في حرف "الحاء"، أما الهاء، فلا يوجد فيه هذا الخط الذي يقسم باطن الكأس إلى نصفين. ويشبه حرف "الخاء" حرف "الهاء" في رسم رأس الكأس، ولكنه يختلف عنه في القاعدة، إذ ترتكز هذا الرأس على قاعدة ليست خطاً مستقيماً، بل على قاعدة تشبه كرسي الجلوس ذي الظهر. ومثل التشابه بين حرفي الصاد والسين، فكلاهما على هيئة كأس وضعت وضعاً مقلوباً، بحيث صارت القاعدة التي ترتكز الكأس عليها إلى أعلى. أما الرأس، وهو باطن الكأس، فقد وضع في اتجاه الأرض. ولكن قاعدة "الصاد" هي على هيئة رقم خمسة في عربيتنا، اي على هيئة دائرة أو كرة بينما قاعدة حرف السين هي خط مستقيم،أما باطن كأس حرف "الصاد"، ففيه خط يقسمه إلى قسمين وذلك في الغالب، وقد يهمل هذا الخط المقسم، أما حرف السين، فلا يوجد فيه هذا الخط.
وجاء "نشوان بن سعيد الحميري" بملاحظات عن "المسند" هي الملاحظات التي أوردها "الهمداني" عنه فقال: المسند: خط حمير، وهو موجود كثيراً في الحجارة والقصور، وهذه صورته على حروف المعجم... وله صور كثيرة، إلاّ أن هذه الصورة أصحها. واعلم أنهم يفصلون بين كل كلمتين بصفر، لئلا يخلط الكلام. وصورة الصفر عندهم كصورة الألف في العربي.. وما قلته عن تعدد صور الحرف قبل قليل، ينطبق على ملاحظة "نشوان" أيضاً. ويظهر أن قوماً من أهل اليمن بقوا أمداَ في الإسلام وهم يتوارثون هذا الخط ويكتبون به. فقد جاء في بعض الموارد: "والمسند خط حمير، مخالف لخطنا هذا: كانوا يكتبونه أيام ملكهم فيما بينهم. قال أبو حاتم: هو في أيديهم إلى اليوم باليمن"، إلاّ أنه لم يتمكن من الوقوف أمام الخط العربي الشمالي الذي دوّن به القرآن الكريم، فغلب على أمره، وتضاءل عدد الكتاب به حتى صار صفراً.
ومما يؤسف عليه كثيرا أننا لا نملك النسخ الأصلية التي كتبها أولئك العلماء بخط أيديهم، حتى نرى رسمهم لحروف المسند. فإن الصور المرسومة في المخطوطات الموجودة وفي النسخ المطبوعة، ليست من خط المؤلفين، بل من خط النساخ، فلا أستبعد وقوع المسح في صور حروف المسند في أثناء النقل، ولا سيما إذا تعددت أيدي النساخ بنسخ أحدهم عن ناسخ آخر. وهكذا. فليس للنساخ علم بالمسند، ولذا لا أستبعد وقوعهم في الخطأ. ومن هنا فإن من غير الممكن إصدار رأي في مقدار إتقان الهمداني وبقية العلماء لرسم حروف الخط المسند. وقد أشار "الدكتور كرنكو" إلى هذه الحقيقة، إذ ذكر أن صور الحروف الحمرية في "الإكليل تختلف باختلاف النسخ اختلافاً كبيرا، فقد صوّر كل ناسخ تلك الحروف على رغبته وعلى قدرته على محاكاة النقوش، ومن هنا تباينت وتعددت، فأضاعت علينا الصور الأصلية التي رسمها الهمداني لتلك الحروف. أما رأينا في علم علماء اليمن بفهم المسند، فيمكن تكوينه بدراسة النصوص الواردة في مؤلفاتهم وبدراسة معرباتها ومقابلتها بالنصوص الأصلية المنقورة على الحجارة إن كانت تلك النصوص الأصلية لا تزال موجودة باقية، أو بمراجعة النصوص المدونة و مقابلتها بمعرباتها لترى درجة قرب التعريب أو بعده من الأصل. وعندئذ نستطيع إبداء حكم على مقدار فهم القوم لكتابات المسند. أما في حالة اكتفاء المؤلف بإيراد التعريب فقط أي معنى النص لا متنه، فليس أمامنا من سبيل غير وجوب مراجعة المعربات ودراستها من جميع الوجوه، لترى مقدار انطباق أساليبها على الأساليب المألوفة في كتابات المسند، وعندئذ نتمكن من تكوين رأي في هذا الذي ورد في المؤلفات على أنه ترجمات، ونتمكن بذلك من الحكم بمقدار قرب تلك الترجمات والقراءات من المسند أو بعدها منه.
وخلاصة ما توصلت اليه من دراستي الإجمالية للأجزاء المطبوعة من مؤلفات "الهمداني" أن الهمداني، وإن كان يحسن قراءة حروف المسند، ويعرف القواعد المتعلقة بالخط الحميري، الا انه لم يكن ملماً بألسنة المسند. ولم يتمكن من ترجمة النصةص التي نقلها ترجمة صحيحة، ولم يعرف على ما يتبين منها كذلك ما ورد فيها وما قصد منها، فجعل "تالبا"، و هو اسم إله من آلهة اليمن المشهورة، و معبود قبيلة "همدان" الرئيس، اسم رجل من رجال الآسرة المالكة لهمدان. وجعل "ريما"، وهو اسم مكان من الامكنة المشورة، وكان به معبد معروف للإله "تالب"، ابنا من أبناء "نهفان"، ومن أبناء "تالب". ولم يبخل الهمداني عليه، فوهب له أما قال لها: "ترعة بنت بازل بن شرحبيل بن سار بن أبي شرح يحضب بن الصوار".
و أورد "الهمداني" نصا ذكر إن "أحمد بن أبي الأغر الشهابي"، وحده ب "ناعط"، فقرأه، فإذا هو: "علهان و نهفان ابنا بتع بن همدان، لهم الملك قديما كان". وقد عدّ "علهان نهفان" رجلين هما "علهان" و "نهفان"، مع إن "علهان نهفان(، هو رجل واحد، وهو ملك من ملوك سبأ و سيأتي ذكره. وقد والده "يريم بن أوسلت رفشان" من اقبيلة "همدان". كلمة "نهفان" لقب له. أما اسمه فهو "علهان". و كان له شقيق اسمه "برج يهركب"، كما ذلك في كتابة عثر هليها في "ريام"، فلم يكن والده أذن رجلاً اسمه "بتع بن همدان" كما جاء في القراءة.
وأما "بتع"، فقيلة من قبائل همدان، وأما جملة: " لهم الملك قديماً كان"، فهي لا ريب من قول الشهابي، وليست بعبارة حميرية. وليس التعبير - وان فرضنا أنها ترجمة للأصل - من التعابير المستعملة في الحميرية، التي ترد في الكتابات. ولما كنا لا نعرف المتن الأصلي للنص، يصعب علينا الحكم عليه أكان قريباً من هذا المعنى أو كان شيئاً آخر، عرف منه الشهابي بضع كلمات ثم فسره بهذا التفسير.
ويظهر على كل حال أن قراء المسند "وقد قلت إنهم كانوا يحسنون في أيام الهمداني قراءة حروف المسند" لم يكونوا عك اطلاع بقواعد الحميرية، ولا باللسان الحميري، أو الألسنة العربية الجنوبية الأخرى. خذ مثلاّ على ذلك: "بن" وهي حرف جر عند العرب الجنوبيين، وتعني "من" و "عن" بلغتنا قد أوقعتهم هذه الكلمة في مشكلات خطيرة.فقد تصور القوم عند قراءتهم لها، أفها تعني أبداً "ابناً" على نحو ما يفهم من هذه الكلمة في لغتنا. وفسروها بهذا التفسير. ففسروا "بن بتع" أو "بن همدان" وما شابه ذلك "ابن بتع" أو "ابن همدان"، و المقصود من الجملتين هو "من بتع" و "من همدان"، وبذلك تغير المعنى تماماً، ومن هنا وقع القوم - على ما أعتقد - في أغلاط حين حسبوا أسماء القبائل و أسماء الأماكن الواردة قبل "بن" وبعده، أسماء أشخاص وأعيان،وأدخلوها في مشجرات الأنساب. فاقتصار علمهم على الأبجدية وجهلهم باللغة، أوقعهم في مشكلات كثيرة، وسبب ظهور هذا الخلط.
وجاء الهمداني بنصوص أخر ذكر أنبا كانت مكتوبة بالحميرية تمثل النص الذي زعم أن مسلمة بن يوسف بن مسلمة الخيواني قرأه على حجر في مسجد خيوان، وهذا نصه: "شرح ما، وأخوه ما، وبنوه ما، قيول شهران بنو هجر، هم معتة بدار القلعة". وأمثال ذلك من النصوص. ولا اعتقد أنك ستقول: إنّ هذا نص حميري، ولا يسع أمرءاً له إلمام بالحميرية أن يوافق على وجود مثل هذه العائلة عائلة ما، أو يسلم بأن هذه قراءة صحيحة لنص حميري. بل لا بد من وجود أخطاء في القراءة وفي التفسير. ولا أريد أن أتجاوز على رجل مشى إلى ربه، فلعله كان يحسن قراءة بعض الحروف والكلمات، ويتصور أنه أحسن قراءة النص كله وفهمه، فجاء بهذه العبارة. وعلى كل، إن كلّ الذي جاء في النصوص التي وقفت عليها في كتب الهمداني لا ممكن إن يعطي غير هذا الانطباع، ولعلنا سنغير رأينا في المستقبل إذا تهيأت لنا نصوص من شأنها أن تغيره.
ويأتي "الهمداني" أحياناً بأبيات شعر زاعماً إنها من المسند. ففي أثناء كلامه مثلاً على قصر "شحرار" قال: "وفي بعض مساند هذا البنيان بحرف المسند: شحرار قصر العلا المنيف أسـسـه تـبـع ينـوف
يسكنه القيل ذي معـاهـر تخر قدّامـه الـلأنـوف"
أما نحن، فلم نعثر حتى اليوم على أية كتابة بالمسند، ورد فيها شعر، لا بيت واحد ولا أكثر من بيت. وأما متن البيتين المذكورين، فليس حميرياً ولا سبئياً ولا معينياً وليس هو بأية لهجة يمانية أخرى قديمة، و إنما هو بعربيتنا هذه، أي بالعربية التي نزل بها القرآن الكريم، نظمه من نظمه من المحدثين بهذه اللغة البعيدة عن لغات أهل اليمن.
أما الباب الذي عقده في الجزء الثامن بعنوان: "باب القبوريات"، فقد استمد مادته من روايات وأحبار "هشام بن محمد بن السائب الكلي"، و "ابن لهيعة" و "موهبة بن الدعام" من همدان و "أبي نصر" و "وهب بن منبه" و "كعب الأحبار" و "عبد الله بن سلام". وقد أورد فيه نصوصاً زعم إنها ترجمات لنصوص المسند، عثر عليها في القبور عند الأجداث. وأورد بعضها شعراً، زعم انه مما وجد في تلك القبور، كالذي ذكره عند حديثه عن قبر "مرشد بن شدّاد"، وعن قبرين جاهليين عثر عليهما ب "الجند" وقد نص على إن الشعر المذكور كان مكتوباً بالمسند وقد دونه.وهو وكل الأشعار الأخرى ومنها المراثي منظوم بعربية القرآن. وأما النثر، فإنه بهذه العربية أيضا، وهو في الزهاد والموعظة والندم والحث على ترك الدنيا، فكأن أصحاب القبور، من الوعاظ المتصوفين إلزهاد، ماتوا ليعظوا الأحياء من خلال القبور، ولم يكونوا من الجاهليين من عبدة الأصنام والأوثان.
وهو قسم بارد سخيف، يدل على ضعف أحلام رواته، وعلى ضعف ملكة النقد عند "الهمداني" وعلى نزوله إلى مستوى القصاص والسماّر والإخباريين الذين يروون الأخبار ويثبتونها وإن كانت مخالفة للعقل. إذ انه لا يختلف عنهم هنا بأي شيء كان.
ومجمل رأيي في "الهمداني" أنه قد أفادنا ولا شك بوصفة للعاديات التي رآها بنصه على ذكر أسمائها، وأفادنا أيضاً في إيراده ألفاظا يمانية كانت مستعملة في أيامه استعمال الجاهليين لها: وقد وردت في نصوص المسند، فترجمها علماء العربيات الجنوبية ترجمة غير صحيحة، فمن الممكن تصحيحها الآن على ضوء استعمالها في مؤلفات الهمداني وفي مؤلفات غيره من علماء اليمن. أما من حيث علمه بتأريخ اليمن القديم، فإنه وإن. عرف بعض الأسماء إلاّ أنه خلط فيها في الغالب، فجعل اسم الرجل الواحد اسمين، وصير الأماكن إباء وأجداداً، وجعل أسماء القبائل أسماء رجال، ثم هو لا يختلف عن غيره في جهله بتأريخ اليمن القديم، فملأ الفراغ بإيراده الأساطير والخرافات والمبالغات. وأما علمه بالمسند فقد ذكرت أنه ربما قرأ الكلمات، ولكنه لم يكن يفقه المعاني، ولم يكن ملما بقواعد اللهجات اليمانية القديمة، وقد حاولت العثور على ترجمة واحدة تشير إلى أنها ترجمة صحيحة لنص من نصوص المسند، فلم أتمكن من ذلك ويا للأسف.
وعلم "الهمداني" بجغرافية اليمن والعربية الجنوبية، يفوق كثيراً علمه بتاًريخ هذه الأرضين القديم، فقد خبر أكثرها بنفسه وسافر فيها، فاكتسب علمه بالتجربة. أما علمه بجغرافية الأقسام الشمالية من جزيرة العرب، فإنه دون هذا العلم.
وأفادت "القصيدة الحمرية"، لصاحبها "نشوان بن سعيد الحميري" فائدة لا بأس بها في تدوين تأريخ اليمن. وهذا المؤلف معجم شاه "شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم"، ضمنه ألفاظاً خاصة بعرب الجنوب. ولنطبق ما قلته في الهمداني على نشوان أيضاً. فإذا قرأت كتبه، تشعر أنه لم يكن يفهم النصوص الحميرية ولا غيرها، وإن كان بحسن قراءة المسند. وما ذكره في كتابه "شمس العلوم" - وإنْ دل - على حرص على جمع المعلومات، وعلى تتبع يحمد عليه للبحث عن تأريخ اليمن ولغاتها القديمة - يدلّ على أنه لم يكن يفهم نصوص المسند، وليس له علم بتاًريخها وبتواريخ أصحابها، وأنه لا يمتاز بشيء عن الهمداني أو سائر علماء اليمن الذين كانوا يدعون العلم بأخبار الماضيين، وأكر الذي ذكوه في كتابه على أنه من اللهجات الحميرية والعربية الجنوبية هو من مفردات معجمات اللغة، ومن لهجات العربية الفصحى خلا ذلك الذي كان يستعمله أهل اليمن، وهو قليل إذا قيس إلى سواه، وقد فسر معانيه على نحو ما كان يقصده الناس في أيامه. ومع هذا، فهذا النوع من الكلمات هو الذي نطمع فيه، لأنه من بقايا اللهجات البائدة، ويفيدنا فائدة عظيمة في فهم معاني النصوص وفي قراءتها وشرحها وتفسرها، ولعله لم يكثر منا، لأنها كانت من كلام العوام فأشفق على نفسه من البحث في لغة العوام.
ولم يزد "نشوان" في شروحه لأسماء الأعيان والأجذام والقبائل والعمائر والأمكنة على ما أورده الهمداني أو سائر. علماء التاًريخ وأهل الأنساب، فعدّ أسماء القبائل مثل همدان، أسماء أشخاص لهم انساب واولاد وأقرباء، واخطأ في الأغلاط نفسها التي وقع فيها الهمداني "فذكر جملاً مسجوعة على إنها من وصايا التبابعة، وعبارات متكلفة على انها قراءات لنصوص حميرية مكتوبة بالمسند.
ومحمد بن نشوان بن سعيد الحميري نفسه هو ممن اعتمد على علم الهمداني، كما نص على ذلك في فاتحة الجزء الأول من الإكليل. فهذا الجزء الذي طبع حديثاً هو برواية محمد بن نشوان، رواه لمن سأله أن يوضح شيئاً من أنساب حمير وأخبارها وما حفظ من سيرها وآثارها، فما كان منه إلا أن أخذ الإكليل فكتب له، لم يغير فيه سوى ما قاله: "غير أني اختصرت شيئاً ذكره في النسب، ليس هو من جملته بمحتسب. بل هو مما ذكره من الاختلاف في التأريخ و نحوه، من غير أن أنسب الكدر إلى صفوه". وفي مقدمته لهذا الجزء ثناءٌ عاطرٌ على الهمداني، وتقدير كبير لعمه في أخبار اليمن.
هذا هو كل ما أريد أن أقوله هنا عن مصادر التاريخ الجاهلي، وهو قليل من كثير، ولكن التوسع في هذا الموضوع يخرجنا حتماً عن حدود بحثنا المرسوم، ويخرجنا إلى التحدث في شيء آخر لا علاقة له بالجاهلية، و إنما يعود إلى البحث في التأريخ، وفي نقده ودروبه عند المؤرخين. على أني أراني قد توسعت مع ذلك في هذا الباب، وذلك للحاجة التي رأيتها في ضرورة توضيح بعض الأمور الخاصة بتلك الموارد.
الفصل الثالث
إهمال التأريخ الجاهلي و إعادة تدوينه
من الأمور التي تثير الأسف، تهاون المؤرخين في تدوين التأريخ الجاهلي، ولا سيما القسم القديم منه، الذي يبعد عن الإسلام قرنا ًفاكثر، فإن هذا القسم منه ضعيف هزيل، لا يصح أن نسميه تأريخا، بعيد في طبعه وفي مادته عن طبع التواريخ ومادتها.
لقد وفق المؤرخون العرب في كتابة تأريخ الإسلام توفيقاً كبيراً، من حيث العناية بجمع الروايات والأخبار واستقصائها، وفي رغبتهم في التمحيص. أما التأريخ الجاهلي، فلم يظهروا مقدرة في تدوبنه، بل قصروا فيه تقصيراَ ظاهراً. فاقتصر علمهم فيه على الأمور القريبة من الإسلام، على أنهم حتى في هذه الحقبة لم يجيدوا فيها إجادة كافيه، ولم يظهروا فيها براعة ومهارة، ولم يطرقوا كل الأبواب أو الموضوعات التي تخص الجاهلية. فتركوا لنا فجوات و ثُغراً لم نتمكن من سدّها وردمها حتى الآن، ولا سيما في تأريخ جزيرة العرب، حيث تجد فراغاً واسعا، وهو أمر يدعو إلى التساؤل عن الأسباب التي دعت إلى حدوثه: هل كان الإسلام قد تعمد طمس أخبار الجاهلية? أو أن العرب عند ظهور الإسلام لم تكن لديهم كتب مدونة في تأريخهم ولا علم بأحوال أسلافهم، وكانت الأسباب قد تقطعت بينهم وبين من تقدمهم فلم يكن لديهم ما يقولونه عن ماضيهم غير هذا الذي وعوه فتحدثوا به إلى الإسلاميين، فوجد سبيله إلى الكتب? أو أن العرب لم يكونوا يميلون إلى تدوين تواريخهم، فلم يكونوا مثل الروم أو الفرس يجمعون أخبارهم وأخبار من تقدم منهم وسلف، فلما كان الإسلام، وجاء زمن التدوين، لم يجد أهل الأخبار أمامهم في شيئاً غير هذا الذي رووه وذكروه، وكان من بقايا ما ترسب في ذاكرة المعمرين من أخبار.
لقد عزا بعض الباحثين هذا التقصير إلى الإسلام، فزعم إن رغبة الإسلام كانت قد اتجهت إلى استئصال كل ما يمت إلى أيام الوثنية في الجزيرة العربية بصلة، مستدلا بحديث: "الإسلام يهدم ما قبله"، فدعا ذلك إلى تثبيط همم العلماء عن متابعة الدراسات المتصلة بالجاهلية، والى محو أثار كل شيء تفرع عن النظام القديم، لم يميزوا بين ما يتعلق منه بالوثنية والأنصاب والأصنام،وبين ما يتعلق بالحالة العامة كالثقافة والأدب والتأريخ. فعلوا ذلك كما فعل النصارى في أوروبة في أوائل القرن السادس للميلاد، فكان من نتائجه ذهاب أخبار الجاهلية، ونسيانها، وابتدأ التأريخ لدى المسلمين بعام الفيل. ولهذا "كان المؤرخون أو الأخباريون، الذين يترتب عليهم تدوين أخبار الماضي وحفظ مفاخره، من الذين ينظر اليهم شزراً في المجتمع الإسلامي، وخاصة في العهد الإسلامي الأول. أما مؤرخو العرب العظام، فلم ينبغوا إلا بعد تلك الفترة، وحتى هؤلاء فإنهم صرفوا عنايتهم إلى التأريخ الإسلامي، ولم يدققوا فيما يخص الجاهلية. وبالإضافة إلى ما سبق، أصبح لكلمة مؤرخ "اخباري" معنى سيئ بل أصبحت صفة تفيد نوعاً من الازدراء. وقد ألصقت هذه الصفة بابن الكلبي، كما ألصقت بكل عالم تجرا على البحث في تاًريخ العرب قبل عام الفيل. لكن لم يهاجم أحد من المؤرخين بعنف كما هوجم ابن الكلبي. والراجح أن السبب في نجللك هو انصرافه لدراسة الأشياء التي قرر الإسلام طمسها، أعني بذلك الديانات والطقوس الوثنية في بلاد العرب".
ثم سبب آخر، هو أن الإسلام ثورة على مجتمع قائم ثابت، وعلى مثل تمسك بها أهل الجاهلية، وعلى قوم كانوا قد تسلطوا وتحكموا وتجروا بحكم العرف والعادات، وككل ثورة تقع وكما يقع حتى الآن، وسم الإسلام الجاهلية، بكل منقصة ومثلبة، وحاول طمس كل أثر لها وكل ما كان فيها، حتى ظهرت تلك الأيام على الصورة التي انتهت إلينا عن "الجاهلية" وكان الناس فيها جهلة لم يكن عندهم شيء من علم في هذه الحياة يومئذ، وكأن عهدهم في هذا العالم لم يبدأ إلا ببدء الإسلام.
وجاءوا بدليل آخر في إثبات أن الإسلام كان له دخل في طمس معالم تأريخ الجاهلية، إذ ذكروا أن الخليفة، "عمر" ساًل بعض الناس "أن يرووا بعض التجارب الجاهلية، أو ينشدوا بعض الأشعار الجاهلية، فكان جوابهم: لقد جب الله ذلك بالإسلام، فلم الرجوع". فوجدوا في امتناعهم عن رواية الشعر الجاهلي أو أخبار الجاهلية، دلالة على كره الإسلام لرواية تأريخ الجاهلية وانتهاء ذلك إلى طمس معالم ذلك التأريخ.
أما حديث "الإسلام يهدم ما قبله"، فهو حديث لا علاقة له البتة بتأريخ الجاهلية ولا بهدم الجاهلية، وقد استل من حديث طويل ورد في صحيح مسلم في "باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج"، وبعد "باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية"، وقد ورد جواباً عن أسئلة الصحابة عن أعمال منافية للإسلام ارتكبوها في الجاهلية، هل يغفرها الله لهم، أو تكتب عليهم سيئات يحاسبون عليها ? فقالوا: "يا رسول الله، انؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ?". وقد ورد في صحيح مسلم بعد هذا الباب باب آخر بهذا المعنى، هو "باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده".
ولإعطاء رأي صحيح عن هذا الحديث، أنقل إلى القارئ نصه كما جاء في صحيح مسه لم قال: "حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت يبكي طويلاّ، وحول وجهه إلى الجدار، فجل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بكذا ? قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. إني قد كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، مني، ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقلت: أبسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمين. قال: فقبضت يدي، قال مالك يا عمرو ? قال: قلت أردت أن اشرط. قال: تشترط بماذا ? قلت: أن يغفر لي. قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله? وما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملا عِني منه إجلالاّ له. ولو مت على تلك الحال، لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري من حالي فيها، فإذا أنا مت، فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني، فشنوا عليّ التراب شناً ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وانظر ماذا أراجع به رسل ربي.
وبعل، فأية علاقة إذن بين هذا الحديث وبين الحث على تهديم الجاهلية وإهمال التأريخ الجاهلي يا ترى? وأما اتخاذهم نهي بعض الصحابة ع! رواية الشعر الجاهلي أو أخبار الأيام دليلاً على كره الإسلام لأحياء ذكرى الجاهلية،ومحاولته طمس معالمها وتأريخها، وحكمهم من ثم عليه بمساهمته في طمس تأريخ الجاهلية واطفائه له، فإنه دليل بارد ليس في محله، فإن الذين نهوا عن رواية الشعر الجاهلي أو رواية الأيام، أو امتنعوا هم أنفسهم عن روايتهما، لم ينهوا ولم يمتنعوا عن روايتهما مطلقاً، أي عن رواية جميع أنواع الشعر الجاهلي أو أخبار كل الأيام التي وقعت في الجاهلية، بل نهوا أو امتنعوا عن رواية بعض أبواب الشعر، وبعض أخبار تلك الأيام، لما كان يحدثه هذا النوع من الشعر أو يوقعه هذا الباب من رواية الأخبار من شرّ في النفوس ومن فق قد تجدد تلك العصبيات الخبيثة التي حاربها الإسلام، لتمزيقها الشمل، وتفريقها الصفوف. "ومن ثم نهى الفاروق، رضي الله عنه، الناس بديأ أن ينشدوا شيئاً من مناقضة الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شتم الحي بالميت، وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام. ومرّ عمر بحسان يوماً، وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله، فأخذ بأذنه، و قال: أرغاء كرغاء البعير? فقال حسان: دعنا عنك يا عمر، فو الله لتعلم أني كنت أنشد في هذا المسجد مَنْ خير منك، فقال عمر: صدقت، وانطلق". ولم يأخذ عمر على حسان رواية ذلك الشعر في مسجد رسول الله إلا لأنه كان من ذلك الشعر المثير للنفوس المهيج للعواطف، وإنشاده في نظره يعيد الناس إلى ما كانوا عليه من قتال قبل الإسلام. فلمصلحة العامة نهى بعض الصحابة عنه. ومع ذلك، تساهل عمر مع حسان، وتركه ينشد شعره، بعد أن حاجَّهُ حسان بما رأيت.
وهناك رواية أخرى تشرح لنا الأسباب التي حملت عمر على النهي عن رواية بعض الشعر الجاهلي، وهي انه "قدم المدينة، في خلافة الفاروق، عبد الله بن الزبعري وضرار بن الخطاب - وكانا شاعري قريش في الشرك - فنزلا على أبي احمد بن جحش، وقالا له: تحبّ أن ترسل إلى حسان بن ثابت حنى يأتيك فتنشده وينشدنا مما قلنا له وقال لنا، فأرسل إليه، فجاءه. فقال له: يا أبا الوليد: هذان اخواك ابن الزبعري وضرار قد جاءا أن يسمعاك وتسمعهما ما قالوا لك وقلت لهما. فقال ابن الزبعري وضرار: نعم يا أبا الوليد، إن شعرك كان يحتمل في الإسلام ولا يحتمل شعرنا، وقد أحببنا أن نسمعك وتسمعنا. فقال حسان: أفتبدآن، أم أبدأ? قالا: نبدأ نحن، قال: ابتدئا. فأنشداه حتى فار فصار كالمرجل غضباً، ثم استويا على راحلتيهما يريدان مكة، فخرج حسان حتى دخل على عمر، فقص عليه قصتهما وقصته. فقال له عمر: لن يذهبا عنك بشيء إن شاء الله، وأرسل من يردّهما، وقال له عمر: لو لم تدركهما إلا بمكة، فأرددهما علي... فلما كان بالروحاء، قال ضرار لصاحبه: با ابن الزبعري، أنا أعرف عمر وذبّه عن الإسلام وأهله، وأعرف حسان وقلة صبره على ما فعلنا به، وكأني به قد جاء وشكا إليه ما فعلنا، فأرسل في آثارنا، وقال لرسوله: إن لم تلحقهما إلا بمكة، فارددهما عليّ... فأربح بنا ترك العناء، وأقم بنا مكاننا، فإن كان الذي ظننت فالرجوع من الروحاء أسهل منه من أبعد منها، وان أخطأ ظني، فذلك الذي تحب. فقال ابن الزبعري: نعم ما رأيت. فأقاما بالروحاء، فما كان إلا كمرّ الطائر حتى وافاهما رسول عمر، فردّهما إليه. فدعا لهما بحسان وعمر في جماعة من أصحاب رسول الله. فقال لحسان: أنشدهما مما قلت لهما فانشدهما، حتى فرغ مما قال لهما، فوقف. فقال له عمر: أفرغت? قال: نعم. فقال له: أنشداك في الخَلا، و أنشدتهما في المَلأ... وقال لهما عمر: إن شئتما فأقيما، وان شئتما فانصرفا. وقال لمن حضره: أني كنت نهيتكم أن تذكروا مما كان بين المسلمين والمشركين شيئاً، دفعاً للتضاغن عنكم وبث القبيح فيما بينكم، فاْما إذ ابوا، فاكتبوه، واحتفظوا به. قال الراوي: فدوّنوا ذلك عندهم. قال: ولقد أدركته والله وان الأنصار لتجدده عندها إذا خافت بلاه 00".
بل كان الرسول كما رأينا في خبر "حسان"، وكما ذكر في أخبار أخرى يجلس وأصحابه يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أشياء من أمور الجاهلية، وهو يسمع ويساهم معهم في الحديث، وينشدهم شيئاً مما حفظه. ولم ينه عن رواية شعر ما إلا ما كان فيه فحش، أو إساءة أو إثارة فتنة، أما ما شابه ذللك، لما كان يحدثه ذلك الشعر من أثر سيئ في النفوس. لقد تمثل بشعر "أميةّ بن أبي الصلّت " مع أنه كان من خصومه اللدّ، وسمع الناس ينشدون شعره، ولم يكره منه إلا ما كان منه في تحريض قريش بعد وقعة "بدر" على المسلمين ورثائه من قتل منهم.
وقد كان "أبو بكر"، وهو الخليفة الأول، من حفظة الشعر الجاهلي، الراوين له، المتشهدين به. وكان "عمر" من العالمين بذلك الشعر الحافظين له البصرين به. وكذلك كان شأن كثير من الصحابة.لم يذكر أحد أنهم تحرجوا من روايته و انشاده، وانهم تهيبوا منه، إلا ما ذكرته من إحجامهم عن رواية بعض منه، وهو قليل جداً، لأسباب ذكرتها، وقد رووه مع ذلك و دوّنوه.
لقد حرم الإسلام أشياء من الجاهلية، واقر أشياء أخرى نص عليها في الكتاب والسنة، ولم يرد أنه حرم أقلام الجاهلية أو الشعر الجاهلي أو النثر الجاهلي أو أي أدب أو علم جاهلي، ولم يصل إلى علمنا أنه أمر بهدم المباني الجاهلية وطمس معالمها، حتى محجات الأصنام بقيت على حالها، خلا الأصنام والأوثان وما يتعلق بها من أمور مما كان من صميم الوثنية أو كانت له علاقة بإِعادتها إلى الذهن مثل التصوير. ولم نسمع أنه أمر بإِتلاف كتابات الجاهلية، أو أنه نهى عن قراءتها والاستفادة منها، أو انه منع استعمال اللهجات الأخرى، التي كان يستعملها الجاهليون، أو إن علماء الإسلام منعوا رواية أخبار الجاهلية، بل الذي نسمعه ونراه إن "ابن عباس" كان يستشهد بالشعر الجاهلي في تفسير القرآن، وبقية الصحابة يروونه ويحفظونه، وان خلفاء بني أمية كانوا يدفعون الهدايا والجوائز لمن يروي لهم الشعر الجاهلي، ونرى أنهم كانوا يقضون لياليهم برواية أخبار الجاهلية وحالتهم فيها،وما وقع لهم في تلك الأيام من نادر وطريف، وقد سجل ما بقي منه في الذهن في كتب الأخبار والأدب، يوم شرع الناس في التدوين.
و أما أنهم كانوا ينظرون إلى "الأخباري" نظرة. سيئة، فيها شيء من ازدراء وعدم التقدير، فما كان ذلك لروايته أخبار الجاهلية واشتغاله بجمع تاريخها والتحدث عنها، وما كانوا يريدون بلفظة "أخباري" راوي أخبار الجاهلية وحدها في أي يوم من أيام التاريخ الإسلامي، وإنما كان ذلك لإغراب الإخباريين في رواية الأخبار ومبالغتهم فيها مبالغة تجافي العقل، وسردهم الإسرائيليات والنصرانيات والشعبيات وغير، ذلك من القصص المدونة في الكتب،وكذب بعضهم كذباً يخالف أبسط قواعد المنطق،وما رُمي "ابن الكلبي" بالكذب أو نظر إليه نظرة ازدراء لكونه من رواة أخبار الجاهلية بل وثق في هذه الناحية وأخذ عنه دون ردّ أو اعتراض، كما يتبين ذلك من اعتماد العلماء عليه في هذا الباب و إشارتهم إليه، وإنما ضعف في. أمور أخرى هي أمور إسلامية لا علاقة لها بالجاهلية ولا صلة لها بها البتة، مدونة في كتب التفسير والحديث.
ولو كان الإسلام قد حث على طمس أخبار الجاهلية أو إطفاء ذكر الأصنام والأوثان، لما كان في وسع "ابن الكلبي" ولا غيره التحدث عنها والإشارة اليها، ولما أخذ العلماء عنه ورووا كتبه وتوارثوا كتاب "الأصنام"، بل القرآن نفسه حجة في ردّ هذا الزعم، ففيه ذكر لرؤوس أصنام العرب، وفيه مفصل حياة أهل الجاهلية ومثلهم وما كانوا يقومون به، ولو شراً وباطلاً، وروت كتب التفسير وكتب الحديث والسير والأخبار أوصاف بعض أصنام العرب وهيأتها وشكل محجاتها وأوقات الحج، كما ذكرت ما اقر الإسلام من أمور كانت قائمة في الجاهلية وما حرم منها، ولو كان الإسلام قد تعمد طمس الجاهلية والقضاء على معالمها، لتحرج القرآن وتهرج المسلمون من الإشارة إليها ومن إحياء أسمائها وبعثها في ذاكرة الناشئين في الإسلام.
وقد تحدث "ابن النديم" في كتابه "الفهرست"، في المقالة الثالثة التي خصصها "في أخبار الأخباريين والنسابين وأصحاب الأحداث"، عن "ابن الكلبي" وعن أبيه، كما تحدث عن غيره من مشاهير العلماء من أمثال "عوانة ابن الحكم" و "ابن اسحق" صاحب السرة، و "أبي مخنف" و "الواقدي" و "الهيثم بن عدي" و "أبي البختري" و "المدائني" و "محمد بن حبيب" وغيرهم ممن ألف في أمور وقعا قبل الإسلام في أمور وأحداث إسلامية محضة، وقد ضعف بعضهم، مع أنهم لم يؤلفوا في أمور تخص الجاهلية ولا في أحداث وقعت قبل عام الفيل أو قبل الإسلام. وأطلقت عليهم لفظة "أخباري" أو "وكان اخبارياً"، مع أنهم لم يكتبوا إلا في أخبار قريبة من الإسلام أو في أحداث إسلامية بحتة، فلفظة "أخباري" إذنْ لم تكن قدُ عُلّمت بالشخص الذي تخصص برواية أخبار الجاهلية الواقعة قبل عام الفيل فقط، بل قصد بها هؤلاء وكل من اشتغل برواية الأخبار مهما كانت صفتها وعادتها وطبيعتها، روى تاريخ ما قبل الفيل أو ما بعد الفيل إلى الإسلام، أو أخبار الإسلام.
والأخباري في عرف ذلك اليوم وقبل إن ينتشر التأليف وتتصنف المعارف، هو من يروي الأخبار، تمييزاً له عن الآخرين الذين اشتغلوا بالنسب، فعرف أحدهم ب "النسابة"، وقيل عن أحدهم "أحد النسابين" أو "وكان ناسباً"، أو بالتفسير أو برواية الشعر وما شاكل ذلك من معارف. فهو مؤرخ ذلك الزمن إذن، وهذا نرى لفظة "أخبار" بمعنى تاريخ، ورد في "الفهرست" في أثناء الحديث عن عبيد بن شرية الجرهمي ومعاوية: فسأله "أي معاوية عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم"، وورد عن "ابن دَأب" وكان "عالماً بأخبار العرب وأشعارها" وذكر عن "عوانة بن الحكم" انه كان "راوية للأخبار عالماً بالشعر والنسب". وورد عن "أبي اليقظان النسابة" أنه كان "عالماً بالأخبار والأنساب والمآثر والمثالب". وورد مثل ذلك عن أشخاص آخرين هم في أوائل من اشتغل بالتاريخ عند المسلمين، يخرجنا ذكرهم هنا عن حدود هذا الموضوع.
ويظهر من دراسة "الفهرست" لابن النديم والمؤلفات الأخرى إن العرب في صدر الإسلام لم يكونوا يطلقون لفظة "المؤرخ" على من يشتغل بالتاريخ، ذلك لأن التاريخ نفسه في ذلك العهد لم يكن قد تطور وبلغ الشكل الذي بلغه في أواخر أيام الأمويين وفي الدولة العباسية. بل كانوا يطلقون على المؤرخ "الأخباري" كما ذكرت، لاشتغاله بالأخبار كائنة ما كانت أخبار ما قبل الإسلام أو أخبار الإسلام، وكانوا يطلقون على الموضوع نفسه "الأخبار". ولهذا نرى إن أكثرية المشتغلين بها، أطلقوا على كتبهم: "الأخبار المتقدمة" و "أخبار الماضين" و "أخبار النبي" و "أخبار العرب" و "كتاب السر في الأخبار والأحداث" وأمثال ذلك، ولم يقولوا: "تاريخ المتقدمة" أو "تاريخ الماضين" أو "تاريخ العرب" أو "تاريخ الرسول"، ويستعملون لفظة "سير ة" و "السير" في سير الأشخاص، ولا سيما "سير الرسول". و أما لفظة "تاريخ"، فقد استعملت في عنونة بعض الكتب المؤلفة في التاريخ، فقد كان ل "عوانة بن الحكم" المتوفى سنة "147ه" كتاب اسمه "كتاب التاريخ" كما كان له كتاب اسمه "كتاب سيرة معاوية وبني أمية". وكان للهيثم بن عدي المتوفى سنة "207ه" كتاب يدعى "كتاب تاريخ العجم وبني أمية" و "كتاب تاريخ الأشراف"، و "كتاب التاريخ على السنين"، وكانت للمدائني المتوفى سنة "225" للهجرة كتاب عنوانه: "تاريخ أعمار الخلفاء" وآخر اسمه "كتاب تاريخ الخلفاء" وثالث اسمه "أخبار الخلفاء الكبر"، لا أستبعد إن يكون هو هذا الكتاب.
إلا إن هذا الإطلاق لم يكن واسعاً كثير الاستعمال، وفي استطاعتنا ذكر هذه الكتب وعدّها، وما دامت الحال على هذا المنوال، فليس من المعقول إطلاق لفظة "مؤرخ" و "المؤرخ" و "تاريخ" بصورة واسعة في هذا العهد، وفي جملة العهد الذي عاش فيه "ابن الكلبي"، ما دام العرف فيه إطلاق لفظة "أخبار" بمعنى "تاريخ"، و إنما طغت لفظة "تاريخ" و "مؤرخ" في الأيام التي تلت هذا العهد، ولا سيما أواخر القرن الثالث للهجرة فما بعده.
هذا من حيث استعمال لفظة "أخباري". و أما من حيث إهمال التاريخ الجاهلي وصلة الإسلام به، فقد ذكرت أنه لا علاقة للحديث المذكور بهم الجاهلية أو بإهمال تاريخها،وإنما الإهمال هو إهمال قديم، يعود إلى زمان طويل قبل الإسلام، فعادة قلع المباني القديمة لاستخدام أنقاضها فيَ مبان جديدة، والاعتداء على الأطلال والآثار والقبور في بحثا عن الذهب والأحجار الكريمًة والأشياء النفيسة الأخرى، هي عادة قديمة جدأَ، ربما رافقت الإنسان منذ يوم وجوده. وهي عادة لا تزال معروفة في كثير من بلدان الشرق الأوسط حتى اليوم، بالرغم من وجود قوانين تحرم هذا الاعتداء وتمنع هذا التطاول. وقد كان من نتائجها تلف كثر من الآثار، وذهاب معالمها، فصارت نسياً منسياً. فتكبدت الآثار الجاهلية من أهل. الجاهلية، أي في الأيام السابقة للإسلام مثل ما تكبدته وتتكبده الآثار الجاهلية والإسلامية معاً في أيام الإسلاميين حتى اليوم.
و أما موضوع إهمال الآثار وعم توجيه عناية الحكومات نحوها، لرعايتها وللمحافظة عليها من التعرض للسقوط والتلف والأضرار ونحو ذلك، فإنه موضوع لم يدرك الناس أهميته إلا أخيراً، ولم تشعر الحكومات بأنه واجب مهم من واجباتها إلا حديثاً، ولذلك لا نستطيع إن نوجه اللوم إلى القدامى لإهمالهم الآثار ولعدم اعتنائهم بالمحافظة عليها.
وكان من آثار هذا الجهل بأهمية الآثار إن أزيلت معالم ابنية وقصور،وحطمت تماثيل وكتابات،لغرض استعمالها في البناء، وقد كان على مقربة من "سدوس"، أبنية قديمة يظن أنها من آثار حمير وأبنية التبابعة،وأن من جملتها شاخص كالمنارة، وعليها كتابات.كثيرة منحوتة في الحجر ومنقوشة في جدرانها، فهدمها أهل سدوس، لاختلاف بعض السياح من الإفرنج إليها ملاحظة التداخل معهم. ومثل ذلك.حدث في اليمن وفي مواضع أخرى من أمكنة الآثار.
وقد هدمت قرى ومسن في الجاهلية وفي الإسلام من أجل استعمال أنقاضها في بناء أبنية جديدة. ذكر "الهمداني" حصن "ذي مرمر"، وهو من المواضع الجاهلية المهمة، وكذاك "شبام سخيم" "يسخم"، وبقيا معروفين زمناً طويلاً بعده، ثم جاء أحد الأتراك واسمه "حسن باشا" فهدم حصن "ذي مرمر" لينشئ في أسفله مدينة جديدة، أخذ معظم مواد بنائها من "شبام سخيم". وذكر إن حكومة اليمن قامت بعد سنة "1945 م" ببناء ثكنة لجنودها في المنطقة الشرقية من اليمن في "مأرب" على نمط الثكنة التي بناها الأتراك في صنعاء، فهدموا أبنية جاهلية كانت لا تزال ظاهرة قائمة، واستعملوا الحجارة الضخمة التي كانت مترامية على سطح الأرض، وأزالوا بعض الجدر والأسوار وحيطان البيوت عند بناء تلك الثكنة، فطمسوا بذلك بعض معالم تاريخ اليمن للقديم، وأساءوا بجهلهم هذا إلى قيم الآثار إساءة لا تقدر في نظر عشاق التاريخ والباحثين في تاريخ العرب قبل الإسلام.
ويضاف إلى ما تقم عامل آخر، هدَمَ الآثار عليها بالجملة، وأعني به الحروب. وسوف نرى حروباً متوالية اكتسحت جميع مناطق العربية الجنوبية، وأتت على مدنها، إذ استعمل القادة سياسة حرق المدن والمواقع والمزارع، وقتل السكان بالجملة فأدى ذلك إلى اندثار الآثار وتشريد الناس وهربهم إلى البوادي وتحول الأرضين الخصبة إلى أرضين جرد، حتى ضاعت بذلك معالم الحضارة القديمة، فخسرنا من جراء ذلك علماً كثيراً، و أسفاه. وهناك تقصير آخر لا يمكن إن ينسب إلى الإسلاميين، بل يجب عزوه إلى الجاهليين فالظاهر من رجوع الصحابة إلى ذاكرتهم والى ذاكرة الشَّيبة الذين أدركوا الجاهلية في تذكر أيامها وما كانوا عليه قبل الإسلام، ومن جلب "معاوية بن أبي سفيان" المولع بسماع الأخبار ل "عبيد بن شرية" ليقص عليه "الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبليل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد"، ومن رجوع أهل الأخبار إلى الأعراب لأخذ أخبار قبائلهم وأيامهم وأنسابهم وشعرهم وغير ذلك، إن غالبية أهل الجاهلية لم تكن لهم كتب مدونة في تأريخهم، ولم تكن عندهم عادة تدوين الحوادث وتسجيل ما يقع لهم في كتب وسجلات، بل كانوا يتذاكرون أيامهم و أحداثهم وما يقع لهم، ويحفظون المهم من أمورهم مثل الشعر حفظاً. ولما كانت الذاكرة محدودة الطاقة، لا تستطيع إن تحل كل ما تحمل، ضاع الكثير من الأخبار، بتباعد الزمن، وبوفاة شهود الحوادث، ولم يبق بتوالي الأيام غير القليل منها. ومن هنا كان تعليل علماء العربية ضياع أكثر الشعر الجاهلي، فقالوا: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب،وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح واطمأن العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا اقل ذلك، وذهب عنهم كثير". و إذا كان هذا ما وقع للشعر مع مكانته عندهم وسهولة بقائه في الذاكرة بالقياس إلى النثر، وتعصب القبائل لشعر شعرائها، فهل في استطاعتنا استثناء الأخبار، من هذا الذي يحدث للشعر?
بل ما لمنا وللجاهلية، ولنراجع تأريخ الإسلام نفسه، خذ تاريخ آباء الرسول وطفولة الرسول إلى يوم مبعثه، بل هي بعد مبعثه، ثم خذ سير الصحابة وما وقع في صدر الإسلام من أحداث، ترَ إن ما ورد من سيرة آباء الرسول وسيرة الرسول إلى الهجرة، مقتضبا بعض الاقتضاب، وأن ما ذكر هو من الأمور التي نحفظها الذاكرة عادة، وما فيما عدا ذلك مما وقع للرسول، فغير موجود، وترى اقتضاباً مخلاً في سيرة الصحابة،واضطراباً في تواريخ الحوادث، واختلافا بين الصحابة في ذلك. أما سبب ذلك فهو عدم تعود الناس إذ ذاك تسجيل أخبار الحوادث وما يقع لهم، وعدم وجود مسجلين مع السرايا والغزوات والفتوح يكون واجبهم تسجيل أخبارها وتدوين وقائعها، حتى ما سجل من أمر ديوان الجند والأنساب وأمثال ذلك، لم يكن في نسخ عديدة، فضاع أكثره، ولم يصل إلى الأخبارين لذلك يوم شرعوا في التدوين. وإذا كان هذا حال أخبار الإسلام، وهي أمور على جانب خطير من الأهمية بالقياس إلى المسلمين، فهل يعقل بقاء أخبار الجاهلية كاملة إلى زمن شروع الناس في التدوين في الإسلام، وقد ضاعت قبل الإسلام بزمان ? لقد قلت فيما سلف إن الهمداني وغيره ممن عنوا بأخبار اليمن، لم يعرفوا من تاريخ اليمن القديم إلا القليل، ولم يعرفوا من أخبار دول اليمن القديمة شيئاً، ولم يحفظوا من أسماء ملوكها إلا بعض الأسماء، وقد حرف حتى هذا البعض، أما معارفهم من معبودات أهل اليمن القديمة، فصفر، فلسنا نجد في كتبهم إشارة ما إلى عبادة "عشتر" ولا إلى عبادة "أنبى" و "ذات صنّم" و "نكرح" و "سين" و "حوكم" "حكم" و "هوبس" ولا إلى بقبة المعبودات. نعم، أشار "الهمداني" إلى اسم إله من آلهة "همدان" هو "تالب"، وكانت محبته في "ريم" "ريام"، يقصدها الناس في ذلك الزمن للزيارة والتبرك، ولكنه لم يعرف أنه كان إلهاً، بل ظن أنه ملك من ملوك همدان، فدعاه باسم "تالب"، وزعم أنه ابن "شهران". وجعل "المقه"، وهو إلَه سبأ العظيم، المقدم عندهم على جميع الأصنام، اسم بناء من أبنية جن سليمان. وقد بُني على ما زعمه بأمر سليمان. وتحدث عن "رئام" فقال: "أما رئام، فإنه بيت كان متنسك، تنسك عنده ويحج إليه. وهو في راس جبل أقوى من بلد همدان"، ونسبه إلى "رئام بن نهفان بن تبع بن زيد بن عمرو بن همدان". وقد ذكره "ابن اسحاق" و "ابن الكلبي" و "السهيلي" و "ياقوت الحموي" وغيرهم أيضاً وفي كل الذي ذكروه دلالة على إن ما رووه لم يكن عن مصدر مدوّن، وإنما هو رويّ عن أفواه الرجال. وأن تلك الأفواه قد نسيت كثيراً من الأصل، فحاولت سد الثُغر بالقصص المذكور.
بل خذ ما ذكره رجال هم أقسم من "ابن الكلي" ومن "الهمدانِي" في الزمان، وألصق منهما عهداً بالجاهلية مثل "ابن عباس" و "عُبّيدْ بن شَرْيةَ" وغيرهما، ترََ إن ما ذكراه عنها لا يدل على أنهما أخذا أخبارهما من مورد مكتوب ومن كتب كانت موجودة، ولا أعتقد إن "معاوية بن أبي سفيان"، وهو نفسه، من أدرك الجاهلية، كانت به حاجة إلى "عبيد" وأمثال "عبيد" من قوّال الأساطير، وإلى الاستماع إلى أخبارهم، لو كان عنده شخص مدوّن عن أمر الجاهلية، ثم إنه لو كانت عند "ابن عباس" و "عبيد" وطلاب الشعر الجاهلي والأخبار مدوّنات، لما لجأوا إلى الذاكرة والى الرواة والأعراب يلتمسون منهم الأخبار والأشعار وأمور القبائل!
إن جهل أهل الأخبار بأصنام أهل اليمن القديمة التي ترد أسماؤها في كتابات المسند، وذكرهم أسماء أصنام جديدة زعموا أنها كانت معبودة، عند أهل اليمن لم يرد لها ذكر في كتابات المسند، أشار "ابن الكلبي" وغيره إلى بعضها، و إشاراتهم إلى دخول اليهودية والنصرانية إلى اليمن، والى تهود "تبعّ" وهو في "يثرب" في طريقه إلى اليمن، وأخذه حبرين من أحبار يهود معه، وأمره بتهدم معبد "رئام"، بناء على إشارة الحبرين، ثم ظهور جمل و ألفاظ في كتابات المسند تدل على التوحيد وعلى وقوع تغير وتطور في ديانات أهل اليمن، مثل عبادة "الرحمن" وعبادة "ذو سموي"، أي "ذو السماء" أو "صاحب السماء": إن كل هذه الأمور وأمثالها، هي دلائل على حدوث تغير وتطور في عقليات أهل اليمن، أثرت في معتقداتهم فجعلتهم ينسون آلهتهم القديمة،بل يتنكرون لها، ويبتعدون بذلك عن ثقافتهم الوثنية القديمة، ومثل هذا التطور والتغير لا بد إن يؤدي طبعاً إلى نسيان الماضي والى الالتهاء عنه بالتطور الجديد. وقد وقع هذا قبل الإسلام بزمان.
كان لدخول اليهودية والنصرانية في اليمن وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب، دخَلٌ من غير شك في إعراض القوم عن ديانتهم الوثنية وعن ثقافتهم وآدابهم. أما اليهود فقد سعوا بعد دخولهم في اليمن لتهويد ملوك اليمن و أقيالها ونشر اليهودية فيها للهيمنة على هذه الأرضين، وأخذوا ينشرون قواعد دينهم وأمور شريعتهم بينهم، ويشيعون قصص التوراة، وأعاجيب سليمان وجن سليمان، وتمكنوا من إقناع بعض سكان اليمن بالتهود، على نحو ما سنراه فيما بعد.
ووجدت النصرانية سبيلها إلى اليمن كذلك من البحر والبر، وسعت كاليهودية لتثبيت أقدامها هناك وفي سائر أنحاء جزيرة العرب، ووجدت من سمع دعوتها هنا وهناك، فتنصرت قبائل، وشايعتها بعض المقاطعات والمدن، وتعرضت الوثنية للنقد من رجال الديانتين،واقتبس من دخل في اليهودية الثقافة اليهودية،ومن دخل في النصرانية الثقافة النصرانية، واعرض عن ثقافته القديمة، وفي جملتها الخط المسند، خط الوثنية والوثنين، وصار عدد قرائه يتضاءل بمرور الأيام. ومن يدري? فلعل رجال الدين الجدد، صاروا يعلّمون الناس الكتابة بقلمهم الذي كانوا يكتبون به، وهو قلم أسهل في الكتابة من المسند، وخاصة على الورق والجلود والقراطيس. وقد يكون هذا سبباً من جملة أسباب تضاؤل عدد الكتابات المدونة في المسند، في حقبة سأتحدث عنها فيما بعد.
وآية ذلك عثور المنقبين والسياح في مواضع من نجد وفي العروض، وهي مواضع بعيدة عن اليمن، على كتابات سبئية يعود تاريخ بعضها إلى ما قبل الميلاد وتاريخ بعضها إلى ما بعده، ثم اختفاء آثار كتابات المسند من هذه المواضع في العهود المتأخرة من الجاهلية القريبة من الإسلام، مما يبعث على الظن إن أهل الجزيرة كانوا قد استبدلوا بذلك القلم قبيل الإسلام قلماً جديدا مشتقاً من الأقلام الإرمية الشمالية، وذلك بانتشاره بينهم على أيدي المبشرين وبالاتجار مع عرب العراق، ولا سيما سكان الحيرة والأنبار، وهو القلم الذي كان يكتب به أهل مكة وأهل يثرب عند ظهور الإسلام. وبذلك شارك هذا القلم الجديد في موت القلم المسند واختفائه من هذه المواضع،وبموته انقطعت صلات القوم بالثقافة العربية الجنوبية، ثقافة القلم المسند.
ولا أستبعد إن يكون من بين رجال الدين من الديانتين أناس كانوا على قدر العلم والفهم بأمور التوراة والإنجيل وبالقصص الإسرائيلي والنصراني وعلى شيء من الإلمام بالتاريخ. فقد كان من،بينهم أناس هم من أصل رومي أو سرياني أو عبراني، فليس من المستبعد إن يكون لهم حظ من العلم بالأمور المذكورة أخذوه من كتبهم المكتوبة بلغاتهم ومن دراساتهم لأمور الدين. ومثل هؤلاء لا بد إن يستشهدوا في مواعظهم في "مدراثهم" أو "كنائسهم" في الأماكن التي نزلوا بها من جزيرة العرب، بشيء من قصص التوراة والكتب اليهودية والأناجيل. ودليل ذلك إن معظم القصص الواردة عن الرسل والأنبياء وعن انتشار اليهودية والنصرانية في جزيرة العرب، مصدره أناس من أهل الكتاب، هم من أهل يثرب، أي من يهود المدينة، ومن أهل اليمن، وهو قصص على دلالته على جهل فاضح بأمور اليهودية أو النصرانية، يدل عموما على أنه أخذ من أصل يرجع إلى أهل الكتاب، وقد غُطيّ بقصص وأساطير ساذجة. وهو على بساطته وسذاتجه يصلح إن صحت نسبته إلى من نسب إليهم، إن يكون موضوعاً لدراسة مهمة، هي دراسة مقدار علم يهود جزيرة العرب ونصاراها في الجاهلية بأمور دينهم ومقدار جهلهم بأحكام اليهودية أو النصرانية في تلك الأرضين.
ونحن لا نجد في بقية جزيرة العرب تويناً للتاريخ، لعدم وجود حكومات منظمة كبيرة فيها، ولسيادة النظام القبلي في أكثر أنحائها، وإنما نجد فيها رواة يروون أخبار قبيلتهم وأمورها وعلاقاتها بالقبائل الأخرى،وحوادثها وأيامها، ورواة تخصصوا برواية الأنساب، لما للنسب من أهمية في المجتمع القبلي، ونجد جماعات تحفظ الشعر وما شاكل ذلك من أمور تخص القبيلة والنظام القبلي، وكل ذلك رواية، أي مشافهة، لا كتابة. ومثل هذا النوع من التوريخ الشفوي معرض كما قلت سابقاً لآفات عديدة، أهمها تحكم العواطف القبلية على الرواة وتعرض الخبر للنسيان كلما تقدم العهد به في الذاكرة، وكلما ابتعد به الزمن، إذ تقل حماسة الناس له،ويضعف تأثيره في العواطف، وتفتر عندئذ همم الرواة عن حفظه وبذلك يتعرض للموت والاندثار، ومن هنا اندثرت وضاعت أخبار الجاهلية البعيدة عن الإسلام. أما الجاهلية القريبة من الإسلام، فقد بقي منها ما يشبه ذكريات الطفولة، خلا الأمور التي عاصرت ظهوره، فقد أدركها الصحابة، فكان في إمكانهم تذكرها وروايتها، وانتقلت منهم إلى من جاء بعدهم حتى وصلت إلى المدونين.
ما ذكرته هو أهم أسباب إهمال التاريخ الجاهلي، فجاء ذلك التاريخ لذلك ناقصاً حتى على نحو ما نقرأه في المؤلفات العربية القديمة. أما تدوينه مجدداً، و إعادة كتابته وتنظيمه وتنسيقه وسد الفجوات الواسعة فيه، فقد تم على هذا النحو:
تدوين التاريخ الجاهلي
للمستشرقين مجهود يقدر في تدوين التاريخ الجاهلي وفي كتابته بأسلوب حديث، يعتمد على المقابلات والمطابقات ونقد الروايات والاستفادة من الموارد العربية والأعجمية. وقد أفادوا مما جاء عن العرب في التوراة وفي التلمود وفي الكتب اليهودية، كما أفادوا مما جاء عن جزيرة العرب وسكانها في الكتابات الاشورية والبايلية ومن الموارد "الكلاسيكية" والمؤلفات النصرانية سريانية ويونانية ولاتينية، فأضافوا كل ما تمكنوا الحصول عليه في هذا الباب إلى ما ورد في الموارد الإسلامية عن الجاهليين، فصححوا وقوّموا، وسدّوا بهذه المواد بعض الثلم في التاريخ الجاهلي.
وعملهم في بعث الكتابات الجاهلية ونشرها، مشكور مقدر، فقد أعادوا إلى الخط الذي كتبت به الحياة، وجعلوه مقروءاً معروفاً، وترجموا كثيراً من هذه النصوص إلى لغاتهم، وهي وثائق من الدرجة الأولى، وعملوا على نشر النصوص بالمسند وبالحروف اللاتينية أو العبرانية أو العربية في بعض الأحيان، وعلى استخلاص ما جاء فيها من أمور متنوعة عن التاريخ العربي قبل الإسلام.
وقد أمكننا بفضل هذا المجهود المضني الحصول على أخبار دول وأقوام عربية لم يرد لها ذكر في الموارد الإسلامية،لأن أخبار تلك الدول و أولئك.الأقوام كانت قد انقطعت وطمست قبل الإسلام، فلم تبلغ آهل الأخبار.
وقد ساعدهم في شرح الكتابات الجاهلية وتفسيرها علم بلغات عديدة، مثل اللغة العبرانية والسريانية والبابلية، فإن في هذه اللغات ألفاظاً ترد في تلك الكتابات بحكم تقاربها واشتراكها في هذه الثقافة المتقاربة التي نسميها "الرابطة السامية"، كما إن فيها أفكاراً وآراء ترد عد المتكلمين بهذه اللغات، ولهذا صار في الإمكان فهم ما ورد في الكتابات الجاهلية بالاستعانة بتلك الأفكار والآراء.
وقد كان للسياح الذين جابوا مواضع متعددة من جزيرة العرب، ولا سيما المنطقة الغربية والجنوبية منها، فضل كبير في بعث الحياة في الكتابات الجاهلية. فقد اخذ أولئك السياح بعض كتابات، كما أخذوا صور بعض آخر، وبفضل تعاونهم مع العلماء المبحرين باللغات الشرقية أمكن حل رموزها وبعث الحياة فيها بعد موت طويل.
وقد كانت أسفار أولئك السياح مغامرات ومجازفات،إذ تعرضت حياة أكثرهم للخطر، بسبب عدم استقرار الأمن إذ ذاك، وبسبب سوء الأوضاع الصحية، ولعدم وجود أماكن مريحة، تناسب حياتهم التي تعوّدوها، إلا أنهم لم يبالوا ذلك ولم يحفلوا به، وتحايلوا بمختلف الحيل للتغلب على تلك الصعوبات ولكسب ودّ رؤساء القبائل والحكام لتسهيل مهمتهم.وقد قضى نفر منهم نحبه في أسفاره هذه. وقد كانت اكثر أسفار هؤلاء الروّاد أسفاراً فردية قام بها أفراد من العلماء ومن الضباط والمغامرين. والأسفار الفردية، مهما كانت، لا تأتي بالنتائج التي تنجم عن دراسات البعثات المتخصصة بمختلف الشؤون، لذلك نتطلع إلى اليوم الذي تتمكن فيه البعثات العلمية الكبيرة من اختراق آفاق بلاد العرب،وتقديم نتائج بحوثها إلى العلماء لتدوين تاريخ مرتب لجزيرة العرب قبل الإسلام، ولا سيما إلى البعثات العلمية العصرية التي تتألف من متخصصين من الناطقين بلغة هذه البلاد، لأن هؤلاء أقدر من غيرهم على فهم اللهجات القديمة ومحتوياتها وروح ذلك التاريخ.
ونستطيع إن نعدّ السائح الدانماركي "كارستن نيبور Carsten Niebuhr الذي قام في سنة 1761 للميلاد برحلة إلى جزيرة العرب، أول رائد من روّاد الغرب ظهر في القرون الحديثة، وصف بلاد العرب، ولفت أنظار العلماء إلى المسند والرقم العربية. وقد أثارت رحلته هذه همم العلماء والسياح، فرحل من بعده عدد منهم لا يتسع المقام لذكرهم جميعاً رحلات إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب عادت على التاريخ العربي بفوائد جزيلة.
فزار الدكتور "سيتزن" Dr. Seetezen جنوبي بلاد العرب، ويمكن من نقشر صور نصوص عربية جنوبية أرسلها إلى أوروبة عام 1810 م ومنه النصوص على قصرها وغلطها، أفادت في تدوين تاريخ العرب قبل الإسلام إفادة غير مباشرة لأنها لفتت أنظار المستشرقين إليها والى دراسة التاريخ العربي القديم، حتى آل الأمر إلى حل رموز تلك الكتابة ومعرفة حروفها.
وتمكن الرحالة السويسري "ليدويلك بركهارد" Johann Ludwig Burckhard من القيام برحلة إلى الحجاز، فتزيا بزي مسلم اسمه "إبراهيم بن عبد الله" يريد الحج وزيارة مسجد الرسول وقبره. وقد صحب الحجاج في حجهم، ووصف موسم الحج وصفاً دقيقاً، وكتب عن مكة والمدينة كتابة علمية. وقد زار آثار الأنباط وعاصمتهم "البتراء".
وتمكن ضابط إنكليزي يدعى James R. Wellsted من زيارة الأنحاء الجنوبية من جزيرة العرب، ومن الظفر بصور نصوص عربية قديمة قصيرة، ومن استنساخ كتابة حصن "غراب" التي يرجع تاريخها إلى سنة "640" من تاريخ أهل اليمن، وتوافق سنة 525 للميلاد. وبفضل هذا الضابط عرف المستشرقون هذا النص.
وأضاف الرحالة "هوتن" T.G Hutton عددا آخر من الكتابات الجاهلية سنة 1835 إلى ما كان قد عرف سابقاً. وجاء "كروتنون" C ruthenden سنة 1838 م بنقوش أخرى جديدة. وكذلك "الدكتور مكل" Dr. Mackell الذي عاد بخمسة نصوص سبئية، فتوسعت بذلك دوائر البحث قليلاً، وتمكن العلماء بفضل هذه النقوش من حل رموز المسند.
وقد قام الصيدلي الفرنسي "توماس يوسف أرنو" " "Thomas Joseph Arnaud" برحلة إلى اليمن، كانت موفقة جداَ، إذ تمكن بفضل علمه بالعقاقير، من اكتساب صداقة المشايخ والزعماء. وبهذه الصداقة استطاع إن يتجول في بعض أنحاء اليمن ومدنها، ولم يكن ذلك أمراً ميسوراً للغرباء، فزار الجوف و وقف على خرائب "مأرب"، ومكث في مدينة "صنعاء"، أمداً، وزار "صرواح" المدينة الأثرية القديمة، واستنسخ ستة وخمسين نصاً كتابياً قديماً.
وكتب التوفيق لسائح أوروبي آخر، هو الضابط الإنكليزي "Coghlan"، فحصل في سنة 1860 م على عشرين لوحاً برنزياً سليماً عز عليها في أنقاض مدينة "عمران". وقد أرشدت هذه الألواح المعدنية المستشرقين إلى ناحية مهمة من نواحي الفن العربي القديم.
وتوصل العلماء، بعد جهود، إلى حل رموز هذه الكتابة العربية، فعرفوا منها - وكان أغلبها قصيراً - إنها تبحث في موضوعات متشابهة، وأنها مؤلفة من حروف أطلقوا عليها اسم "الكتابة الحميرية" أو "الحروف الحميرية". وكان الرأي السائد بادئ بدء إنها كذلك، حتى تبين لهم إن هذه النصوص والنصوص التي جيء بها أخيرا لم تكن جميعها نصوصاً حميرية، بل كان بعضها من النصوص المعين به، وبعضها كتابات سبئية ترجع إلى عهد دولة سباً، وبعضها بلهجات أخرى، نختلف عن الحميرية بعض الاختلاف. وهذه الكتابة،هي الكتابة المسماة ب "خط المسند" و ب "القلم المسند" و ب "المسند" في الموارد العربية.
عالج بعض العلماء،ممن أولعوا بدراسة النقوش، تلك النصوص، وأعملوا رأيهم فيها حتى تمكن بعضهم من التوصل إلى حلّ رموز بعضها، مثل العابر "وليم كسنيوس" "Wilhelm Gisenuis" و العالم "رودكر" "E. Rodiger" والعالم "هاينرش ايوالد" "Heinrich Ewald" والعالم "فريسنل" "F. Fresenal" الذي نشر النصوص التي جاء بها، وعددها خمسة وخمسون نصاً بحروف عربية وحميرية، في الجريدة الآسيوية "Journal Asiarique" سنة1845 م، إلا إن نشره لم يكن متقناً اتقاناً تاماً .وجاء القسيس "أرنست أوسيندر" "Ernest Osiander" فأتم ما كان قد بدئ به. ولم يتمكن العلماء الذين عالجوا مشكلة الكتابة العربية الجنوبية من معرفة الحروف كلها، ولذلك لم يستطيعوا قراءة أكثر النصوص التي جيء بها إلى أوروبة وفهم معناها، كما إن النصوص المقروءة لم تكن مضبوطة ضبطاً تاماً، فاستطاع هذا العالم بجهوده العظيمة قراءة كل النصوص التي جاء بها السياح والعلماء، وتعيين أشكال الحروف، ووضع أسس متينة لدراسة عرفت بعد ذلك باسم "الدراسة العربية الجنوبية" وقد استعان العلماء على فهم هذه الكتابات بالدراسات اللغوية السامية مثل العبرانية، وباللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وباللهجات اليمانية و بالمعلومات الجغرافية المدّونة في الكتب العربية، وبأسماء الملوك والأشخاص الذين وردت أسماؤهم في المؤلفات العربية.
وترسم المستشرق "ليفي" "M. A. Levy" أثر "اوسيندر" وتتبع أسلوبه في البحث، وحاول استخراج مادة تاريخية من هذه النصوص التي ترجمت وعرفت. وقد يمكن من نشر ما تركه "أسين در" من نصوص عاجلته المنية قبل إن يوفق لإخراجها إلى الناس، فتمكن "ليفي" من تنسيقها وتهذيبها، وطبعها وعرضها على العلماء.
وفاق "يوسف هاليفي" "Joseph Halevy"، وهو يهودي فرنسي، كل من تقدمه بكثرة ما جاء به إلى أوروبة من نقوش، وبسعة علمه في تاريخ اليمن، وبدراسة الكتابات العربية الجنوبية. دخل هذا الفرنسي اليمن في هيئة يهودي متسول من أهل القدس، ليتجنب بذلك ما يتعرض له الغرباء وأهل البلاد المسلمون على السواء من أخطار رجال القبائل وقطّاع الطرق الذين لا يمسّون أهل الذمة بسوء.
وقد استطاع، بهذه الطريقة، التطواف في أرجاء اليمن، حتى بلغ أعاليها مثل "نجران"، وأعالي الجوف وهي المنطقة التي كان فيها "المعينيون". ووصل في تطوافه إلى حدود "مأرب" عاصمة سباً والى "صرواح"، وهو بهذا أول أوروبي زار "نجران". ولما عاد إلى أوروبة، أحضر معه "686" نقشاً جمعها من مواضع مختلفة من اليمن.
وفي سنة 1872 - 1874 م نشر هذا العالم في الجريدة الآسيوية "Journal Asiarique" ما كتبه في وصف رحلته إلى بلاد اليمن، وقد ضمن كتاباته وصفاً للاماكن التي حل بها والطرق التي اجتازها، وترجمة ل "686" نصاً، وهي النصوص التي كان قد جاء بها أو استنسخها من أصولها، ونشر بحثاً علمياً وانتقاداً قيّماً للأبحاث اللغوية والتراجم والنصوص التي سبق إن نشرها العلماء من قبله.
وكان ممن ذهب إلى اليمن شاب نمساوي اسمه "سيكفريد لنكر" "Siegfrid Langer"، وقد استطاع تصوير بعض النقوش واستنساخ قسم من الكتابات في عام 1882 م. غير إن القدر عاجله إذ قتل هناك، ففقد البحث في تاريخ اليمن بوفاته عضواً نشيطاً. غير إن نمساوياً آخر عوض عن خسارة ذلك الشاب، وهو العالم "ادورد كلاسر" "Eduard Glaser". وقد قام بأربع رحلات إلى اليمن، ورجع بعدد كبير من النصوص والنقوش وبمادة غزيرة من المعلومات.
بدأ الرحلة الأولى "في اكتوبر من سنة 1882م"، وختمها في شهر آذار "مارس" من سنة 1884 م، وكانت الحالة السياسية في ذلك الزمن مضطربة، والأوضاع غير مساعدة، والفوضى عامة في بلاد اليمن، ولم يكن للحكومة على القبائل من سلطان. ومع ذلك تمكن من الحصول على "255" نقشاً رجع بها إلى أوروبة. أما الرحلة الثانية، فكانت في نيسان سنة 1885 م ودامت حتى فبراير سنة 1886، وقد زار في أثنائها المناطق الجنوبية الشرقية والمنطقة الجنوبية الممتدة من جنوب "صنعاء" حتى مدينة "عدن". وقد تمكن من جمع معلومات مهمة عن طبغرافية البلاد و أماكنها الاثرية، و عاد بنصوص معينة مهمة دخلت في ممتلكات المتحف البريطاني.
وقام بالرحلة الثالثة في سنة 1887م، و مكث في اليمن إلى سنة 1888م، و كانت رحلته هذه جدا، إذ حصل على اثار و نقوش كتابية كانت على جانب عظيم من الأهمية، منها اربعمئة نص أخذها من مدينة "مأرب" عاصمة "سبأ"، و من هذه النصوص نصان عن تصدع سدّ مأرب يبرجع عهدهماالى زمن قريب من ميلاد الرسول، و نصوص أخرى من مدينة "صرواح" يرجع عهدها إلى العصر السبئي، و هي ذات أهمية كبيرة في تدوين تأريخ بلاد العرب الجنوبية.
وكانت رحلته الرابعة، وهي الأخيرة، في سنة 1892م، و كانت موفقة جداً كذلك. اق يع فيها أسلوبا جديداً في الحصول على صور النصوص، إذ استعان بالأعراب الذين فرقهم في مختلف الجهات التي لم يسبقه أحد من الأوروبيين إلى زيارتها،بعد إن علمهم مختلف الطرق في الحصول على تلك النصوص بطريق الورق الذي يتأثر بالضوء وبطريقة القوالب الجبسية وبطرق أخرى. وقد تمكن بهذا الأسلوب الجديد من الظفر بصور مضبوطة بعض الضبط للكتابات القديمة التي لم يكن بوسعه الذهاب إلى أماكنها واستنساخها بنفسه،وبها أيضا تمكن من تصحيح أغلاط الصور التي أخذها "هاليفي" عن النقوش الأصلية، ومن الحصول على، زهاء مئة نص قتباني أخذها من منطقة خرائب "مأرب".وفي متحف "فينا" قسم من الأحجار المكتوبة التي كان هذا العالم قد جلبها معه في المرة الأخيرة إلى أوروبا.
وقد زار المستشرق "جورج أغسطس والين George Augustus Wallin" سنة 1845 م نجداً ودوّن رحلته إليها. وزار الحجاز المستشرق الهولندي الشهير "سنوك هرغونيه Snouk Hurgtonje"، فكتب في أحوال مكة ووصف الحياة في الحجاز وموسم الحج. وكان قد ذهب إليه سنة 1885 -1886 م وهو من العلماء المدققين.
وقد زار الحجاز "السير ريشارد برتن" "Sir Richard Burton" متنكراً بزي مسلم سمّى نفسه "عبد الله" زار الحرمين وكتب وصف رحلته هذه.
وتوغلت "حنة بلنت" "Anne Blunet" سنة 1879م في شمال بلاد العرب حتى بلغت أرض نجد، و كانت مولعة بدراسة أحوال الخيول العربية. واخرق الرحالة الإنكليزي "تشارلس دوتي" "Charils M. Doughty" الصحارى العربية وشمال بلاد العرب، ووضع كتاباً مهماً وصف فيه أسفاره في بلاد العرب الصحراوية. وقد اهتم خاصة بدراسة النواحي "الجيولوجية" والجغرافية للبلاد العربية، ودوّن ملاحظته عن الظواهر الجوّية وتغيرات الجو ولم يغفل عن دراسة طبائع البدو وحياتهم الاجتماعية وطرق تفكيرهم وعقائدهم. وقد طبع كتابه، في سنة 1888، وترجم إلى بعض اللغات الأوروبية لأهميته.
ويعد هذا الرحالة من المتعصبين على الإسلام، وقد يكون لهذا التعصب سبب، فقد لاقى من الأعراب وأهل المتن شيئا كثيراً أثر في نفسه، فصار يتحامل على المسلمين ويقسو في حكمه على الرسول، إلا أنه لم يتمكن مع ذلك من الغض من قيمة المبادئ الأخلاقية التي يتحلى بها. ومما لاحظه على البدو، عدم اهتمامهم بعبادتهم كالصلوات الخمس والصوم، كما لاحظ من جهة أخرى إن الخوف من وجود إِلَه يكاد يكون أعمق آثرا في نفوس هؤلاء من الحضر. ولا حظ أيضاً إن جذور الوثنية القديمة لا تزال راسخة حتى الآن في نفوس الأعراب وأكثر سكان القرى والمدن، وقد اظهر هذا الرحالة ميلاً عظيماً لدراسة حياة البدو وطرق معيشتهم، وهو يتشوق إلى الصحراء ويحن إليها حنين البدو، ويتجلى ذلك العطف في رحلته التي تعد من روائع الأدب الإنكليزي.
ورحل "ثيودور بنت "Theodor Benet" وزوجته إلى البحرين وجنوب الجزيرة العربية فزارا الأماكن الأثرية، وتحدثا عن بعض الخرائب الجاهلية والكتابات. وكانت زيارتهما للبحرين سنة 1889 م. أما زيارتهما لمسقط و عمان و حضرموت، فكانت في هذه السنة ثم سنين بعدها.
و تزيا الرحالة الالماني "هايرنش فون مالتزن" "Heinrich von Malzen" بزي حاج مغربي، وكان قد زار المغرب و تعلم لهجة سكانه، و ذهب إلى الحجاز و تظاهر انه منهم، و بعد عودته من الحج وضع رحلته.
ومن الجوابين العلماء "يوليوس أويتنك Julius Euting"، وقد اهتم خاصة بدراسة أحوال البدو، وكتب في الوهابين والحركة الوهابية.
ومنهم الرحالة الجيكوسلوفاكي الأصل "ألويس موسل" "Alois Musil"، زار "العربية الحجرية" وكتب عدة كتب في وصف شمال الحجاز وبادية الشام ومنطقة الفرات الأوسط وتدمر وفي، ووضع في نهاية كل كتاب من في فصولاَ علمية قيمة فيها تحقيق تاريخي جليل. وثمة جوابون آخرون لا بد من ذكرهم مثل "جوسن" "Antonine Jaussen" و "برونوف" "R.E. Brunnow" و "تشارلس هوبر" "Charles Huber"5و "وبرترام توماس" الشاب الإنكليزي المستشرق الذي استطاع في شباط سنة 1929 م إن يخترق لأول مرة "الربع الخالي" فكشف بذلك بقعة من أكبر البقاع المجهولة في بلاد العرب. ويضارعه في مخاطراته هذه "فلبي" الذي أسلم فأطلق على نفسه "الحاج عبد الله فلبي". وقد ألّف هذا الإنجليزي المستعرب عدة كتب بالإنكليزية وصف فيها أسفاره في بلاد العرب، وقد تهيأ له من الفرص ما لم يتهيأ لأوروبي آخر، إذ كان من الملازمين للملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود والمقربين إليه. وقد مكث الرحالة الألماني "راتجن" "C.. Rathjens" بضع سنين في اليمن وكتب عنها، وجلب معه عدة كتابات يمانية قديمة إلى ألمانيا وضعت في "متحف الشعوب" في مدينة "هامبرغ".
وقامت بعثة أمريكية عرفت ب "المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان" "The American Foundation for Study of Man " برئاسة وندل فيلبس" "Wendell Phillips"، وضمت بعض العلماء الواقفين على تاريخ اليمن القدم مثل "البرايت" "Dr. W. F. Albright" أستاذ الآثار في جامعة "جون هوبكنس" بالولايات المتحدة، وآخرين في مختلف الموضوعات وذلك ما بين سنتي 1950 - 1952 م بأعمال الحفر في منطقة "عدن" واليمن. وبالرغم من النهاية المحزنة التي انتهت أعمال البعثة إليها، فقد تمكنت من الحصول على نتائج حسنة جديدة لم تكن معروفة عن تاريخ مملكة قتبان وسبأ، وعادت ببعض الآثار.
وكانت في جملة ما درسته هذه البعثة نظم الري في مملكة "قتبان". ودراسة موضع "هجر بن حميد"، حيث عثرت على فخار ومواد أخرى يعود عهدها، كما يرى خبراء البعثة إلى ألفي سنة. ودراسة أخرى لمدينة "تمنه" عاصمة "قتبان" ولمعبدها الشهير ولبقايا مقبرتها، وعثرت على كتابات جديدة، وقدّرت سقوط تلك العاصمة وخرابها بسنة "25" قبل الميلاد.
وقامت هذه البعثة في سنة "1952 " و "1953" للميلاد بأعمال الحفر في "ظفار" بعمان. ثم عادت فنقبت في هذه المنطقة في ابتداء سنة "1960"م، حيث كشفت عن بعض الخفايا من تاريخ هذه المنطقة التابعة لسلطنة عمان.
وقامت في سنة "1962"م بعثة أمريكة من المستشرقين الأميركيان، لا علاقة لها بالبعثة المتقدمة بزيارة مواضع من المملكة العربية السعودية، فزارت "سكاكة" "سككه" والجوف وتيماء ومدائن صالح والعلا وتبوك، وظفرت بنماذج من فخار قديم، ونقلت صوراً لكتابات ثمودية ونبطية، أهمها الكتابات التي وجدها في قمة "جبل غنيم" الذي يقع على مسافة ثمانية أميال من جنوب "تيماء".
وهي، كما تقول البعثة، من أقدم الكتابات التي عثر عليها حتى ألان في العربية الشمالية. وكان "فلبي" قد استنسخها بيده، وتبين بعد مقارنة ما استنسخه فلبي بالصور "الفوتوغرافية" التي أخذنها البعثة إن في نقل "فلبي" أوهاماً عديدة. وفي جملة ما عثرت عليه البعثة صور نحتت على أحجار تمثل آلهة عربية قديمة. وهناك طائفة أخرى من المستشرقين خدمت التاريخ العربي قبل الإسلام خدمة جليلة مهمة، هي طائفة أساتذة الجامعات وأصحاب التتبع والبحوث، استفادت من بحوث السياح ومن الموارد المذكورة التي تحدثت عنها عن مصادر التاريخ الجاهلي، ثم غربلتها ونقدتها وألفت منها مادة جديدة لتاريخ الجاهلية، ومن هؤلاء المستشرق: "بركر" "Berger" مؤلف كتاب "جزيرة العرب قبل محمد في الآثار" "L'Arabie Avant Mahoet d'apers les Inscription"، والمستشرق "كوسان دي برسفال" العلامة الفرنسي صاحب كتاب "تاريخ العرب قبل الإسلام" "Essai sur l'Historia des Arabes Avant l'Islamisme" وهو من الكتب المفيدة. وقد جاء صاحبه بنتائج مهمة وبآراء صائبة في بعض الموضوعات، غير إن الكتاب أصبح قديماً، وفيه نواقص كثيرة، وهو لا يتفق اليوم مع أساليب البحث الحديثة. وقد اعتمد مؤلفه على المصادر العربية ولاسيما كتاب "الأغاني" وعلى مصادر أخرى كانت معروفة في ذلك الوقت، غير أنه لم يتمكن من الوصول إلى مصادر كثيرة أخرى مهمة، لأنها لم تكن في متناول يده في ذلك العهد.
وللمستشرق الإيطالي "كيتاني" "L. Ceatani" بحث جيد في تاريخ العرب قبل الإسلام، جعله مقدمة لتاريخ الإسلام. وهو على جهده في محاولة التعمق في فهم تاريخ الجاهلية والإسلام، لا يخلو من هفوات ومن تغلب العاطفة عليه، ولا سيما في القسم الخاص بتاريخ الإسلام.
وممن كتب في حياة العرب قبل الإسلام المستشرق "أوليري Delacy O'Leary"، صاحب كتاب "البلاد العربية قبل محمد". وقد تحدث فيه عن صلات العرب بالمصريين فالآشوريين إلى زمن ظهور الإسلام، وهو لا يخلو أيضاً من هفوات. وقد صار قديما. والمستشرق "تشارلس فورستر" "Charles Forster"، وله كتاب مفيد "وان أصبح قديماَ جداً" في تاريخ بلاد العرب القديمة وجغرافيتها ويستند في أكثر أبحاثه كأغلب معاصريه إلى نظريات التوراة.
وقد كتب المستشرق الألماني "أوتو ويبر" "Otto Weber" رسالة صغيرة في حالة العرب قبل الإسلام. - وقد كتب المستشرقون الذين عنوا بالسيرة النبوية وبالتاريخ الإسلامي عامة فصولاً تمهيدية في حالة العرب قبل الإسلام، تعرضوا فيها لمختلف النواحي التاريخية، وهي مفيدة للاطلاع على أحوال الجاهلية.
وهناك من كتب في موضوع خاص من التاريخ الجاهلي كالمستشرق "رينه دوسو"، فقد وضع كتاباً في "العرب في الشام قبل الإسلام". والمستشرق الألماني "ثيودور نولدكه"، وله كتاب في "تاريخ الفرس والعرب في عهد الساسانيين"، وكتاب آخر في "أمراء غسان".
وللمستشرق "روتشتاين" "Rothstein" كتاب "تاريخ أسرة اللخميين في الحيرة"، وهو من الكتب المهمة التي جمعت شيئاً كثيراً من أخبار هذه الأسرة. وقد استعان مؤلفه بالمصادر العربية والسريانية واليونانية، ولا يخلو على كل حال من الضعف في بعض مواضعه.
ويضاف إلى كل ذلك ما كتبه بعض المستشرقين في الحالة الدينية عند العرب قبل الإسلام، وأهمها كتاب "بركمن" "Bergmann" في اديان العرب في الجاهلية، و الفصل الذي كتبه المستشرق "أرنست أسيندر" "Ernust Osiander" في ديانة العرب قبل الإسلام، في مجلة الجمعية الآسيوية الألمانية. وقد بحث هذا المستشرق في ديانة العرب قبل الإسلام بحثا عميقاً، وهو أول مستشرق درس هذا الموضوع بعد "بوكوك" "Pococke" الذي كان اقدم من درس الوثنية عند العرب دراسة تفصيلية مستقلة في كتابه المطبوع سنة 1649 للميلاد. وقد تطرق "أسيندر" لعبادة.النجوم عند العرب وعبادة الأصنام والأماكن المقدسة في جنوبي بلاد العرب وعبادة الأصنام في الحجاز ونجد، وتوصل إلى إن العرب عبدوا النجوم في بادئ الأمر، ثم تطورت الفكرة الدينية عندهم، وبالرغم من ذلك ظلت عقدة عبادة النجوم راسخة في أدمغتهم.
وجاء المستشرق "لودولف كريل" "Ludolf Krehl"، فأحيا هذه الدراسة مرة ثانية بكتابه "بحث عن ديانة العرب قبل الإسلام"، وطرق موضوعات لم يتمكن من سبقه من البحث فيها. وقد ذهب إلى إن للعرب القدماء كانوا من الموحدين في الأصل. غير أنهم تركوا التوحيد بعدئذ، وعمدوا إلى عبادة النجوم والأصنام فالأحجار والأشجار، وبذلك انحطت الحالة الدينية عندهم، وفي القرن السادس تأثروا. بالديانة اليهودية والنصرانية في الأماكن التي حدث فيها اتصال بهاتين الديانتين.
وأهم ما ألف في الوثنية عند العرب قبل الإسلام، كتاب المستشرق الألماني "ولهوزن" الذي سماه: "بقايا الوثنية العربية". وقد بحث في نواح مختلفة من نواحي الحياة الدينية عند عرب الجاهلية وفي الأصنام، فجمع ما لم يتمكن من جمعه في هذا الباب أحد من المستشرقين قبله، واتبع أسلوب المقابلة والنقد في البحث.
هذا ولا بد من الإشارة إلى مجهود عدد من العلماء تخصصوا بالعربيات وعالجوا نواحي عديدة من دراسات الجاهلية، ومنهم "فرتز هومل" "Fritz Hommel" صاحب المؤلفات والبحوث الكثيرة، والدراسات القيمة في تاريخ اليمن والعرب الجنوبيين، وفي ترجمة الكتابات المعينية والسبئية والحضرموتية والقتبانية والحميرية، وفي الدراسات اللغوية. وهو في مقدمة من وضع أسس الدراسات العربية الجنوبية ومهد الجادة لمن جاء بعده من المستشرقين. و "رودوكناكس" "Nikolaus Rhodokanakis"، وهو صاحب جملة مؤلفات في شرح وحل النصوص العربية الجنوبية، و "دتلف نيلسن" "Detlef Nielsen" الدانماركي من الباحثين في الكتابات العربية الجنوبية وفي الحضارة العربية، والتاريخ العربي قبل الإسلام.
كذاك خصص "مورديمن" "J. H. Mordtmann" و "داؤو هاندش ميلر" "D.H. Mueller"، و "ميتوخ" "Eugen Mittwoch"، و "فون فزمن" "von Wissmann"، و "بيستن" "C.F.L. Beeston"، و "كونتي روسيني" "C. Conti Rossini"، و "فنت" "F.V. Winnett"، و "ركمنس" "C. RYckmanns"، و "كر وهمن" "A. Grohmann"، و "ملاكر" "K. Mlaker"، و "أغناطيوس كويدي" "وهربرت كريمه" "Herbert Grimme"، "أنوليتمن" و "البرايت"، وغيرهم قسطاً من بحوثهم في العربيات الجنوبية، فساعدوا بذلك على تقديم مادة غنية للمؤرخين والباحثين، وعلى تحسين معارفنا في اللهجات العربية الجنوبية وقواعدها وفي تاريخ الجاهلية.
هذا، ولا بد لي أيضاً من الإشارة إلى جهود مستشرقين محدثين قصروا عملهم على البحوث العربية الجنوبية، وصرفوا وقتهم في دراستها، وألفوا وكتبوا فيها، ونشروا بحوثهم في المجلات، ونشروا نشراً جديداً نصوصاً سبق إن نشرت، وبعثوا الحياة في نصوص لم تكن معروفة فعرفت. ومن هؤلاء: "فون وزمن" "H. von Wissmann". و "ريكمنس" "J. Ryckmans"، وهو صاحب بحوث وتحقيقات في نشر الكتابات والتعليق عليها وعلى أيام الملوك. و"البرايت" "W.F. Albright" العالم الآثاري الأمريكي الذي ذكرته قبل قليل. و "الأب جامة" "A. Jamme" الذي رافق البعثةة الأمريكية لدراسة الانسان، والخبير بقراءة النصوص وبتعين زمان كتابتها، وناشر جملة كتابات عثرت عليها البعثة المذكورة. و "مارية هوفنر" "M. Honer" و "بيرين" "J. Pirenne" و "بيستن" "A.F.L. Beeston" وغيرهم، ممن جاؤوا ببحوث جديدة وما زالوا يبحثون في التأريخ الجاهلي.
هذا، وسوف يكون لدراسة علماء الآثار للآثار التي عثر وسيعثر عليها من ناحية علم الآثار، وكذلك، تطور الخطوط ومقارنة الكتابات بعض مما ببعض المعرفة زمانها وتحايل الآثار ودراستها بالمختبرات وبطرق "الفحص الكاربوني" و مما شاكل ذلك من طرق تعد اليوم حديثة، شأن كبير في الكشف عن التاريخ الجاهلي، وتقريبه من الواقع، وتضييق شقق الخلاف التي نراها بين العلماء في عمر الدول وفي حكم الملوك وأمثال ذلك من أمور هي اليوم في موضع اهتمام الباحثين في تاريخ الجاهلية.
هذا وأودّ إن أشير هنا إلى أمر يتعلق بالكتابات الجاهلية، هو إن غالبية من عالجها وترجمها اعتمد في الغالب على العبرانية وعلى السريانية في الترجمة، و لهذا لم يوفقوا في ترجمهم توفيقاً كبيراً، واعقد إن دراسة اللهجات العربية لقبائل اليمن وبقية العربية الجنوبية وجمع معاني مفرداتها، تفيد كثيراً في تفسير كتابات المسند وشرحها مثلا، لأن كثيراً من هذه المفردات ما زال مستعمل" استعمال القدماء له. ولكن مثل هذه الدراسات لم تتم بشكل علمي منظم منسق حتى الآن ويا للآسف. ورجائي إن يأتي يوم يقوم فيه المتخصصون من العرب بدراسة تلك اللهجات وتثبيتها بصورة علمية ووضع معجمات بألفاظها، فإن في هذا العمل خدمة كبيرةً للتراث العربي القديم.
وقد قام المستشرقون بنصيبهم في كتابة تاريخ الجاهلية، فهم يستحقون على عملهم هذا كل شكر وثناء، مهما وقع في دراستهم من قوة وضعف، وغرض ونية، فهم قد قاموا بعمل، وقد أفادونا في عملهم هذا ولو بعض الفائدة، فعلينا إلا ننكر فضل الناس، وإذا كان هناك شيء من خطا أو نيّة سيئة، فعلينا يقع واجب تصحيحه وبيان مواطن سوء النية، فهم غرباء، ونحن حملة هذا التاريخ وأصحابه. وعلينا وحدنا يقع واجب تدوينه وانتزاعه من باطن الأرض، والبحث في كل زاوية ومكان لإيجاد مورد جديد نضيفه إلى الموارد الموجودة. وعلى الحكومات العربية واجب إتمام العمل، وتيسير الوسائل التي توصل الباحثين إلى الأماكن التي يقصدها العلماء وحمايتهم ورعايتهم، وواجب إعداد طائفة من المنقبين العرب للقيام بهذه المهمة والإنفاق عليهم بسخاء، وإنشاء متاحف تحفظ فيها العاديات، ومنع، الناس من التجاوز والتطاول على الأماكن الآثارية، ومن أحق بالمحافظة على تراث البلاد من أبنائها?.
الفصل الرابع
جزيرة العرب
ليس بين أشباه الجزر شبه جزيرة تنيف على شبه جزيرة العرب في المساحة، فهي أكبر شبه جزيرة في العالم. ويطلق العلماء العرب عليها تجوزاً اسم "جزيرة العرب". تحيط بها. المياه من أطرافها الثلاثة، ومع ذلك لم. يستطع الجو البحري إن يخفف من حدة الحرارة فيها، ويتغلب على جفافها، والأبخرة المتصاعدة من البحر لا تتمكن إن تصل إلى أواسط بلاد العرب، لإنزال رحمتها عليها. فإنّ الرياح السمائم، وهي ذات الحرّ الشديد النافذ في المسام، تتلقى الرطوبة التي تنبعث من البحر بوجه كالح عبوس، ومقاومة تسلبها قوتها، وتنتزع الرطوبة منها، وتمنعها في الغالب من الوصول إلى أواسط الجزيرة.
يحدّ جزيرة العرب من الشرق الخليج العربي المعروف عند اليونان باسم "الخليج الفارسي" "Sinus Percus"، وما زال يعرف بهذه التسمية المأخوذة عن اليونانية في المؤلفات المعاصرة. أما قدماء أهل العراق، فقد عرف عندهم ب "البحر الجنوبي" و "البحر الأسفل" و "البحر التحتاني" "Lower sea"، وب "البحر الذي تشرق منه الشمس" و "بحر الشروق" "Sea fo the Risig Sun" وبي "البحر المر" و "البحر المالح" و "نار مرتو" "Nar Marrtu" في الآشورية.
ويحدها من الجنوب المحيط الهندي، وقد أطلق بعض الكتبة اليونان واللاتين على القسم المتصل منه بسواحل جزيرة العرب الجنوبية والملاصق لسواحل إفريقية الشرقية المقابلة لهذه السواحل اسم "البحر الأريتري" "Mare Erytheaum". أما "بطلميوس" فقد أطلق على الماء المحصور بين عُمان وحضرموت اسم "خليج سخاليته" "Sinus Sachalites"، وأطلق على القسم الغربي الباقي اسم "بحر ربرم" "Mare Rubrum" "Rubri Maris"، أي البحر الأحمر. وقد قصد الاغريق واللاتين ب "Mare Rubri" في الغالب البحر الأحمر الحالي والبحر العربي والخليج العربي، بل حتى المحيط الهندي، فهم يتوسعون في هذا الإطلاق كثيراً.
أما حدّها الغربي، فهو البحر الأحمر كما يسمى في الخارطات الحديثة المعروف باسم "الخليج العربي" "Sinus Arabicus" في الخارطات اليونانية واللاتينية، و ب "بحر القلزم" في الكتب العربية. أما العبرانيون، فقد أطلقوا عليه. "ه - يم" "هايم" "اليم"، ومعناه اللغوي: "البحر" من "يم" "يام" بمعنى "بحر" و "ها" أداة التعريف التي هي في مقام "ال" في العبرانية،وذلك بصورة عامة، و "يام سوف Yam Suph" بصورة خاصة، وب "سوف" و "سوفة" أحيانا. وقد فسر "البيضاوي" لفظة "اليم"، الواردة في القرآن الكريم بهذا البحر، أي البحر الأحمر. وقد أريد ب "Mare Rubrum" البحر الأحمر أيضاً.
و شكل البحر الأحمر، شكل يلفت النظر، يظهر و كأنه خسط منظم ممتد من الشمال نحو الجنوب على هيأة ثعبان منتصب ذي قرنين. أما باقي جسمه، فإنه البحر العربي. أما هذا الثعبان، فقد كان أرضاً في الأصل، خسفت على هذه الصورة في الزمن للثالث من الأزمنة الجيولوجية، فابتعدت بذلك بلاد العرب عن أفريقية، إلا من ناحية الشمال، حتى لا تكون هناك قطيعة تامة، وارتفعت بذلك السواحل الغربية، نتيجة انخساف الأرض، فسالت إلى الأرض المنخسفة مياه البحر العربي، ولو تم الخسف، وامتدّ إلى "طور سيناء" فشطرها، لما كانت هناك حاجة إلى قيام الإنسان فما بعد بإتمام العمل الذي لم تكمله الطبيعة، وهو إيصال البحر الأحمر إلى البحر الأبيض بقناة السويس.
وهناك من يرى إن البحر الأحمر كان بحيرة في الأصل، وكانت إفريقية والعربية الجنوبية قطعة واحدة عند جنوب هذه البحيرة، أي عند ما يسمى ب "مضيق باب المندب" في الزمن الحاضر، ولكن خسفاً وقع، أدى إلى انفصال إفريقية عن العربية الجنوبية الغربية، فاتصل المحيط الهندي بالبحيرة، وتكوّن البحر الأحمر. وقد كان الناس قبل وقوع هذا الانفصال يتنقلون برا وكأن إِفريقية وجزيرة العرب قطعة أرضُ احدة، ومن هنا كانت الهجرات. أما خليج العقبة، فقد عرف ب "خليج أيلة" و ب "خليج الأيلانيين"، "Sinus Aelanties" "Sinus Aelanticus" في الكتب الكلاسيكية، نسبة إلى مدينة "أيلة" المسماة "ايلات" "Elath" و "ايلوت" "Eloth" عند العبرانيين. وهي مدينة مهمة من مدن "أدوم" "الأدوميين". و أما "خليج السويس" فقد عرف ب "Sinus Heroopolites" " Sinus Heroopoliticus " عند اليونان واللاتين.
ويحصن مناطق و اسعة من ساحل جزيرة العرب على البحر الأحمر صخور مرجانية تفتك بالسفن التي تتجاسر فتتقرب منها، في تلك المواضع لتحمي الساحل من وصول الأجانب إليه. و لكنها أضرت سكانه من ناحية أخرى، إذ جعلت الملاحة صعبة في هذه الأماكن، فقلت بذلك الاستفادة من الاتجار بالبحر، و قللت أيضا من عدد الموانئ الصالحة لرسو السفن على هذا الساحل. و هناك جزر متفرقة تقابل الساحل، أكثرها مهجور، و بعضها قليل السكان، و معظمهم خليط من دم إفريقي أسود ومن عرب، عاشوا في الجاهلية وفي الإسلام على التعرض للسفن بالغزو وعلى الصيد.
ويرى بعض الباحثين إن البحر الأحمر لم يكن وحده نتيجة خسف أصاب بلاد العرب، ففصلها عن إِفريقية إلا من جهة "طور سيناء"، بل إن سواحل بلاد العرب الأخرى، أي السواحل الجنوبية والسواحل الشرقية، تعرضت هي أيضاً لهزّات عديدة، فخسفت في مواضع عديدة مثل "عدن"،حيث تكون خليج عدن، ومثل الخليج العربي، وكانت هذه الهزات والتصدعات استجابة لتصدع واهتزازات حدثت في الشمال على مقربة من حدود بلاد الشام، فامتدت إلى وادي الأردن والبحر الميت فوادي عربة إلى خليج العقبة. وهكذا تعرضت جزيرة العرب في عصور سحيقة في القدم قبل الميلاد لهزات و تحركات أرضية، حتى جعلتها على الشكل الذي نراه عليه ألان.
وحدّها الشمالي خط وهمي يمتد في اصطلاح العلماء العرب من خليج العقبة حتى مصب شط العرب في الخليج العربي، فيكون النفوذ الشمالي من الحدود التي تفصل الهلال الخصيب عن جزيرة العرب. أما من الناحية "الجيولوجية"، فإن باطن الهلال وحدة لا يستطيع فصلها عن تربة الجزيرة، وجزء لا يختلف من حيث طبيعته الصحراوية و خواصه عن سائر أنحاء بلاد العرب. وأما من الناحية التاريخية، فإن هذا الخط الوهمي المتصور، هو وهم وخطأ، فقد سكن العرب في شمال هذا الخط قبل الميلاد بمئات السنين. سكنوا في العراق من ضفة نهر الفرات الغربية، و امتدوا في البادية حتى بلغوا أطراف الشام. وسكنوا في فلسطينُ طور سيناء، حتى بلغوا ضفاف النيل الشرقية. وهي أرضون أدخلها الكتبة القدامى من يونان ولاتين وعبرانيين وسريان في جملة مساكن العرب ودعوها ب "العربية" وب "بلاد العرب"، لأن اغلب سكانها كانوا من العرب، حتى ذهب بعض علماء "التوراة"، إلى إن "بلاد العرب" في التوراة هي مواطن "الإسماعيليين Ishmaelite" و "القطوريين Ksturaean"، أي البوادي التي نزلت بها القبائل المنتسبة إلى "اسماعيل" و "قطورة". وهي قبائل بدوبة، كانت على اتصال بالعبرانيين. وهي بواد تقع شمال جزيرة العرب وفي الأقسام الشمالية منها.
أما "أريي"، أي "العربية" في النصوص الآشورية، و "ماتو أريبي" "Matu-A-re-bi"، أي "أرض العرب" و "بلاد العرب" في النصوص البابلية، و "اربايا "Arabaya" "Arpaya" في النصوص الفارسية، و"بيث عرباية" "Brth Arabaya" في الإرمية، فإنها كلها تعني البادية الواسعة التي تفصل العراق عن بلاد الشام. أما حدودها الجنوبية، فلم تحددها النصوص المذكورة. ولكننا نستطيع إن نقول إن امتدادها كان يتوقف على مبلغ علم تلك لشعوب بالعرب، وعلى المدى الذي وصل إليه تعاملهم في بلاد العرب.
فبلاد العرب أو "ارض العرب" "مت أربي" "Mat Arabi" "Mat Aribi" "، هي بادية الشام أيضاً، وهي كل الأرضين التي تحدها جبال "الأمانوس" "Amanus" في الشمال، أي الأرضين التي تقع في جنوبها كل شبه جزيرة سيناء عند "بلينيوس" "P linius". فهن اذن أوسع جداً مما تصوره علماء الجغرافيا المسلمون لجزيرة العرب.
وإذا نظرنا نظرة عامة إلى خارطة جزيرة العرب، نرى أنها أرضون مرتفعة في الغرب، تسيطر على السواحل الضيقة، وتكوّن سلاسل من المرتفعات متصلا بعضها ببعض، تمتد من بلاد الشام إلى اليمن، ويقال لهذه المرتفعات جبال "السّراة". وهي توازي ساحل البحر الأحمر، وتقترب منه في مواضع عديدة. ويبلغ متوسط ارتفاعها زهاء خمسة آلاف قدم. أما أقصى ارتفاع لها، فيبلغ زهاء 12,326 قدماً، وهو في اليمنْ.
و أما الأرضون المحصورة بين هذه السلسلة وساحل البحر، فإنها ضيقة، تسيطر عليها هذه المرتفعات، وتنحدر إليها انحداراً شديداً قصيراً. وسواحلها المهيمنة على البحر، صخرية في اغلب الأحيان، يصعب رسو السفن فيها. وطالما تحطمت عليها السفن المنكوبة، فتكون طعاماً للبحر، وللأعراب الساكنين على السواحل، فيكون من ينجو بنفسه من أصحاب تلك السفن وما يتبقى من حطامها ملكاً لأولئك الساكنين بحسب عرف أهل ذلك الزمان وعاداتهم.
أما الانحدار إلى البحر العربي والخليج العربي، فانه يكون تدريجياً وطويلاّ ولذلك تكون الأقسام الغربية من جزيرة العرب أعلى من الأقسام الشرقية. وتتألف الأرضون الوسطى من هضبة تدعى "نجداً"، يبلغ متوسط ارتفاعها زهاء2500 قدم. ويمتد في الأقسام الجنوبية من الجزيرة سلاسل من الجبال،يتفاوت ارتفاعها، تسيطر على المنخفضات الساحلية، وعلى ما يليها من أرضين من جهة البر، وتتصل هذه بسلسلة جبال اليمن، وتكثر فيها الأودية التي تفصل بين السلاسل، وتأخذ مختلف الاتجاهات من الشمال الشرقي أو من الشمال الغربي إلى سواحل البحر، حيث تمثل اتجاهات المياه والسيول. ويكون أعلى ارتفاع لسلسلة الجبال الجنوبية في أقصى الجنوب الشرقي من الجزيرة، أي في عمان، حيث يبلغ ارتفاع الجبل الأخضر زهاء عشرة آلاف قدم.
وتتكون أغلب الأرضين في جزيرة العرب من بواد وسهول، تغلبت عليها الطبيعة الصحراوية، لكن قسماً كبيرا منها يمكن إصلاحه إذا ما تعهدته يد الإنسان، واستخدمت في إصلاحه الوسائل العلمية الحديثة. و أما الأرضون الصالحة للزراعة، فإنها تزرع فعلاّ لوجود المياه فيها. أما الأرضون التي تعدّ اليوم من المجموعة الصحراوية، فهي:
ا - الحِرار، أو الأرضون البركانية
وقد تكونت بفعل البراكين،ويشاهد منها نوعان:نوع يتألف من فجوات البراكين نفسها،ونوع تكون من حممها "اللابة" Lava التي كانت تقذفها، فتسبل إلى الأطراف ثم تبرد وتتفتت بفعل التقلبات الجوية، فتكون ركاماً من الحجارة البركانية يغطي الأرض بطبقات، قد تكون سميكة، وقد تكون رقيقة، تتبعثر فيظهر من خلال فجواتها وجه الأرض الأصلية.
وفي مثل هذه الأرضين يصعب السير، لانتشار الحجارة ذات الرؤوس الحادة فيها، وتقل الاستفادة منها، فتتحول شيئاً فشيئاً إلى مناطق صحراوية، والسائر اليوم في منطقة "اللجاة" في جنوب شرقي دمشق، يلاحظ الطريق الذي سلكته الحمم المقذوفة.
وقد وصف العلماء العرب الحرار،. فقالوا: الحرَّةُ أرض ذات حجارة سوُد نخرة، كأنها أحرقت بالنار، ويكون ما تحتها أرضاً غليظة، من قاع ليس بأسود، وانما سوّدها كثة حجارتها، وتدانيها. وتكون الحرة مستديرة، فإذا فيها شيء مستطيل ليس بواسع، فذلك الكراع، واللاّبة واللوبة ما اشتد سواده وغلظ وانقاد على وجه الأرض. فيظهر من هذا إن "الحرار" هي أفواه البراكين، ولذلك تكون مستديرة. و أما اللابة أو اللوبة، فإنها المناطق التي غطتها هم البراكين، وسالت فوقها، ثم جفت. و أما الكواع، فإنها أعناق الحرار.
وتكثر الحرار في الأقسام الغربية من جزيرة العرب،وتمتد حتى تتصل بالحرار التي في بلاد للشام، في منطقة حوران، ولا سيما في الصفاة، وتوجد في المناطق الوسطى، وفي المناطق الشرقية الجنوبية من نجد حيث تتجه في الشرق، وفي المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية، حيث تلاحظ الحجارة البركانية على مقربة من باب المندب وعند عدن. وقد ذكر علماء للعرب أسماء عدد منها، كما أضاف إليها السياح أسماء عدد آخر ضروا عليها في مناطق ثانية.
وقد وردت في الشعر الجاهلي إشارات إليها. وكانت إِحدى الحرار، وهي "حرة النار" في عهد الخليفة عمر لا تزال ثائرة تخرج النار منها. وقد ذكر إن سحب الدخان كانت تخرج في عهد الخليفة عثمان من بعض الجبال القريبة من المدينة. وهذا يدل على إن فعل البراكين في جزيرة العرب، لم يكن قد انقطع انقطاعاً تاماً، وان باطن الأرض، كان ما زال قلقاً، لم يهدأ.
وكان آخر حدث بركاني في الحجاز في سنة 654 للهجرة "1256 م"، إذ ثارت إحدى الحرّات في شرقي المدينة، واستمر هيجانها بضعة أسابيع، وقد وصل ماسال من حممها إلى مسافة بضعة كيلومترات فقط من المدينة التي كان نجاتها من الأعاجيب. وكان أواخر القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر الميلاديين عهد زلازل وثوران براكين في مناطق آسية الغربية. ومنذ القرن الثالث عشر الميلادي، لم يبق أثر لفعل البراكين في مختلف أنحاء بلاد العرب.
وقد تركت الأصوات المزعجة، و "الصيحات" المرعبة، والنيران التي كانت ترى من مسافات بعيدة، وسحب الدخان التي كانت ترتفع من أجواف الأرض، و "البريق" الذي كان يظهر من الحرار، مثل حرَّة "القوس" التي قيل إنها كانت ترى كأنها حريق مشتعل، و "حرة لبن" التي كان يخرج منها ما يشبه البرق، ويسمع منها أصوات كأنها صياح، هذه كلها تركت صوراً مرعبة في نفوس الجاهليين، تتجلى في القصص المروية عنها، وفي عقائدهم بتلك النيران.
ولعل قوة نيران "حرة ضَرْوان" وشدة قذفها للحمم وارتفاع لهيبها، هي التي دفعت أهل اليمن إلى التعبد لها والتحاكم إليها، فقد كانوا يذهبون إليها ليتحاكموا عندها فيما يحدث عندهم من خلاف، والرأي عندهم إن النار تخرج فتأكل الظالم وتنصف المظلوم. وقد كانت حرة نشطة عاشت أمدا طويلاّ كما يظهر من وصف "الهمداني" وغيرها لها، وصلت حممها إلى مسافات بعيدة عن الحرة.
وقد تسببت أكثر هذه الحرار في هلاك كثير ممن كان يسكن في جوارها وفي هجرة الناس من الأرضين التي ظهرت بها، فتحولت إلى مناطق خاوية خالية. وقد وجد السياح أرضين شاسعة واسعة أصيبت بالحرار، وتأثرت بفعل "اللابة" التي سالت عليها. وللناس الحق كل الحق في إرجاع أسباب هلاك أصحابها إلى العذاب الذي نزل بهم بانفجار الأرض وبخروج النيران منها تلتهم الساكنين عندها. وقد جهلوا إن هذه النيران المتقدة الصاعدة والروائح الكريهة المنبعثة عنها، هي من فعل العوامل الأرضية الداخلية التي تعمل سراً في بطن الأرض.
وكثرة الحرار في جزيرة العرب، وانتشارها في مواضع متعددة منها، دليل على إن باطنها كان قد تعرض لامتحانات عسيرة قاسية، ولتقلبات كثيرة ولضغط شديد في المناطق الشمالية والغربية والجنوبية،وقد ظهر أثر ذلك الضغط في وجهها فبان اليوم وكأنه حب الجُدَريّ، يتحدث عن ذلك المرض القديم.
وقد اشتهرت بعض مناطق الحرار بالخصب والنماء وبكثرة المياه فيها، ولاسيما حرار الحجاز التي استغلت استغلالاّ جيداً، ومنها "خيبر"، التي ميزت على سائر القرى، فقيل عها إنها "خير قرى عربية"، غير إن ظهور العيون فيها بكثرة، جعلها موطناً من مواطن الحمى، اشتهر أمرها في الحجاز حتى قيل: "حمى خيبر". واستفاد الجاهليون من الحرار باستخراج الأحجار منها، كأحجار الرحى والمعادن، فكانت موطناً من مواطن التعدين القديمة فيها.
ويدرس علماء طبقات الأرض بعناية بالغة توزيع الحرار في جزيرة العرب، وتقصي أنواع الحجارة التي يكثر وجودها مثل الحجارة الكلسية والغرانيتية والرملية وتوزّعها، والينابيع الحارة في الأحساء، لما في هذه الدراسات من أهمية بالنسبة إلى اكتشاف الموارد الطبيعية، والثروات الكامنة في الأرض.
ويظن إن فعل البراكين كان له أثر خطير في العصور ال "ايوسينية" "Eocene" ، إذ ثارت براكين عديدة في جزيرة العرب وفي الحبشة وفي السواحل الإفريقية المقابلة لجزيرة العرب. وقد أثرت هذه البراكين بالطبع في شكل الأرضين التي ثارت فيها وفي شكل الأرضين القريبة منها، وقد ظهرت براكين فعّالة نشيطة في العصور "البليوسينية" "Pliocene" أيضا، أثرت نحللك في شكل سطح الأرض، بأن أحدثت فيها تضاريس، لا تزال آثارها تشاهد حتى الآن ه.
وفي جزيرة العرب عيون وينابيع، تخرج منها مياه حارة. ففي عسير وفي الحجاز وفي اليمن وفي حضرموت وعمان والأحساء والهفوف وفي مواضع اخرى غيرها، مواضع تخرج منها مياه حارة كبريتية في الأكثر، يستشفي بمياهها للناس بالاستحمام. واستثمارها على هذه الصورة وبهذه الكثرة يلفت النظر، وهي من آثار التقلبات الجوفية التي حدثت في جزيرة العرب منذ القدم.
2 -الدهناء
وهي مساحات من الأرضين تعلوها رمال حمر في الغالب، تمتد من النفود في الشمال إلى حضرموت ومهرة في الجنوب، واليمن في الغرب، وعمان في الشرق. وفيها سلاسل من التلال الرملية ذات ارتفاعات مختلفة، تنتقل في الغالب مع الرياح، وتغطي مساحات واسعة من الأرض. ويمكن العثور على المياه في قيعانها اذا حفرت فيها الآبار.
وقد أشير إلى الدهناء في بيت شعر للاعشى هذا نصه: يمرون بالدهناء خفافاً عيابهم=ويرجعن من دارينُ بجر الحقائبْ وقد تصل الأمطار الموسمية إلى بعض أجزاء "الدهناء" فتنبت فيها الأعشاب، ولكن عمرها فيها قصير اذ سرعان ما تجف وتموت. وقد هجر الناس السكنى في أكثر أقسام الدهناء، لجفاف أكثر أقسام هذه المنطقة الصحراوية الواسعة، وخلوها من الماء والمراعي، ولكثرة هبوب العواصف الرملية فيها، ولشدة حرارتها التي يصعب احتمالها في أثناء النهار، وأقاموا في الأمكنة المرتفعة منها، التي تتوافر فيها المياه، وتتساقط عليها الأمطار، فتنبت الأعشاب، وينتجعها الأعراب. اما الأقسام الجنوبية من الدهناء فيسميها الجغرافيون المحدثون "الربع الخالي" "The Empty Quarter"، لخلوها من الناس، وكانت تعرف ب "مفازة صيهد".
وقد تمكن السائح الإنكليزي "برترام توماس Bertram Thomas "" من اجتيازها في "58" يوماً، وهو عمل مجهد شاق، فكان أول أوروبي جرُؤ على اجتياز هذه الأرض.
ويطلق على القسم الغربي من الدهناء اسم "الأحقاف" وهو منطقة واسعة من الرمال بها كثبان اقترن اسمها باسم "عاد". "واذكر أخا عاد، إذْ أنذر قومه بالأحقاف".
وكشف "برترام توماس" في الربع الخالي بحيرة من المياه الملحة، وبقايا حيوانات مبعثرة، وتبين لدى العلماء إن هذه البحيرة كانت من متفرعات الخليج العربي، وأن من المحتمل إن هذه الأرضين التي تكثر فيها رواسب قيعان البحر، قد كانت في عهدها من المناطق البحرية التي تغمرها مياه المحيط، كما عثر فيه على آثار جاهلية لم يعرف من أمرها شيء حتى الآن، يظهر أنها لأقوام كانت تستوطن هذه المناطق أيام كانت فاتا مياه صالحة للإنبات والخصب. وما زالت حتى اليوم تعد أرضاً مجهولة، وإن تحسنت معارفنا عنها كثيراً، بفضل بعض موظفي شركات البترول والباحثين عن المعادن في مختلف أنحاء الجزيرة. وستأتي الاكتشافات الجديدة لها بمعارف قيمة عن تاريخ العرب قبل الإسلام من غير شك.
وتكون "وبار" قسماً من الدهناء، وكانت من الأرضين المشهورة بالخصب والنماء، وهي اليوم من المناطق الصحراوية، وبها آثار القرى القديمة التي كانت كثيرة قبل الإسلام. والظاهر أنها كانت مواطن الرباريين، وهم الذين دعاهم "بطلميوس" "Jobariai" الذين سأتحدث عنهم وفي الجهة الشمالية الشرقية منُ بار، رمال "يرين": وكانت من المناطق المأهولة كذلك، ثم دخلها الحراب
3-النفود
أما النفود، وهو اسم لم يكن يعرفه العرب، فهي صحراء واسعة ذات رمال بيض أو حمر تذروها الرياح فتكون كثباناً مرتفعة،وسلاسل رملية متموجة، تبتدئ من واحة "تيماء"، وتمتد إلى مسافة450 كيلومتراً تقريباً نحو الشرق، ويبلغ امتدادها من الجوف إلى جبل شمر زهاء 250 كيلومتراً تقريباً. وقد عرفت أيضاً ب "الدهناء" و ب "رملة عالج"، ثم تغلب عليها اسم "النفود" وصارت تعرف به.
وتعد النفود من الأماكن المائلة أو المنحدرة، ويظهر من القياسات "وان كانت قليلة جداً"، إن المنطقة الشرقية من النفود أوطأ من مستوى المنطقة الغربية عند خط طول "27" درجة و "30" دقيقة، بما يزيد على150 متراً، أي إن هذه البادية مرتفعة في الغرب، آخذة في الانخفاض والميل في الشرق.
وقد نتج عن هذا الميل والانحدار المتوالي إن الرمال التي كانت الرياح الشمالية أو الشمالية الغربية تحملها، تراكمت في المنخفض، فأصبحت الحدود الغربية والشرقية هذه المنطقة مرتفعة بالنسبة إليها، بحيث صار "الحماد" يشرف عليها اشرافاً تاما.
ويغطي وجه "النفود"، كثبان من الرمال متموجة يبلع ارتفاع بعضها زهاء "150" متراً، ولذلك لا يعد سطح بادية النفود سطحاً مستوياً منبسطاً. وتأخذ هذه المرتفعات مختلف الإشكال، فتكون في أغلب الأحيان على شكل نعل الفرس، ويكون اتجاهها من الغرب نحو الشرق، وتكون أبعادها وأعماقها مختلفة، وتسمى "القعور". وقد تركت أثراً عميقاً في مخيلة المسافرين ورجال القوافل.
وبعد الأشتية الممطرة تتحول هذه المنطقة الرملية الموحشة إلى جنة حقيقية فتظهر الرمال وكأنها قد فرشت ببسط خضر، يزينها الزهر والشقائق ومختلف الأعشاب الصحراوية، وينتجعها الأعراب للرعي. وقد تنمو فيها النباتات المرتفعة ذات السيقان القوية كبعض أنواع "الغَضَى"، فتكون أدغالاً يحتطب منها البدو، وقد يحرقونها لاستخراج الفحهم منها. هذه الأعشاب والنباتات، لا تظهر إلا في المنطقة ذات الرمال الحمر "نفود سمرا". أما النفود البيضاء المؤلفة من رمال نشأت من تفتت أحجار "الكوارتز" فإنها في أكثر الأماكن غير منبتة.
ولكن هذه الجنة الأرضية جنة قصيرة العمر، لا يدوم عمرها إلا أسابيع قليلة، ثم يحل بها الجفاف، وتهب السمائم، فتقضي على كل ما نبت في هذه البادية، فتبدو كالحة عابسة مزعجة منفرة، وكأن أنسانا كنس وجهها كنساً أزال عنه كل أثر لشلك الجمال. وتهب في شهر نيسان رياح حارة من الشرق والجنوب، ورياح في شهور الصيف، تحرق البادية حرقاَ، حتى تغدو وكأنها جحيم.
وفي العربية ألفاظ عديدة لها صلة بالبوادي، كثرت وتعددت لاتصال حياة العرب بها، منها ما لها علاُّقة بشكل البادية وظاهر وجهها، ومنها ما لها علاقة بطبيعتها وبتركيبها، إلى غير ذلك من مصطلحات، نشاً بعضها من تعدد لهجات العرب ولغاتها، اذ تسمى قبيلة البادية باسم ربما لا تعرفه قبيلة أخرى، وهكذا تنوعت التسميات.
مصدر الصحارى
واذا سألتني عن مصدر هذه الصحارى المزعجة التي وسمت جزيرة العرب بسمة خاصة، وصيرت معظم أهلها بدواً بالرغم منهم، فأقول لك: إن الرأي المنتشر إن هذه الصحارى تكوّنت من تفتت الأحجار الرملية بتأثر للرياح والجفاف فيها. ويؤيد وجود مثل هذه الأحجار في الشمال الغربي من بلاد العرب هذا الرأي كئيراً، ويظهر انه رأي علمي ينطبق على بعض الصحارى انطباقاً كَبيراً، غير أنه لا يحل مشكلة مصدر الرمل الأحمر المتكون من أحجار غير رمليه الذي يغر مساحات واسعة من صحراء النفود، بينما الرمل الناشئ من الأحجار الرملية لا يغطي إلأ مساحات ضيقة بالنسبة إلى المناطق الأخرى. وهذا يدل دلالة مريحة على إن رمال "النفود" لم تتكون من تفتت الأحجار الرملية حسب، بل من عوامل أخرى كالتقلبات الجوية وتأثيرها في قشرة الأرض.
يكون ظاهر التربة الأجرد معرضا لحرارة الشمس والثغرٍات الجوية مباشرة، إذْ لا أشجار تحميه، ولا أعشاب تحافظ على تماسك ذراته وحفظها من تلك التغيرات. فإذا انقطعت الأمطار، جفت التربة، فتفتت تدريجا، وتستطيع الرياح إن تعبث فيها بكل سهولة، وتتمكن الرياح التي سرعتها 18 كيلومتراً في الساعة من إثارة الطبقات الرملية الخفيفة والأتربة الباقية المبعثرة على سطح ا لأرض.
وإذا هبت الرياح بسرعة 33 كيلومتراً في الساعة، امتلأ الجو بالغبار. فاذا ازدادت السرعة، استحالت إلى عواصف" تؤثر تأثيرا كبيرا في سطح الأرض فتحمل ما عليه من أتربة، وتعرض الطبقات السفلى التي كانت تحت هذه الأتربة لفعل الجو المباشر، ليحدث لها ما حدث في الطبقة التي كانت فوقها، وهكذا تتحول هذه المناطق إلى صحارى، وتتكون الرمال حينئذ من التربة المتفتتة لا من تهشم الأحجار الرملية أو الكلسية وحدها.
وتهب مثل هذه الرياح في الشمال الغربي من جزيرة العرب من نهاية شهر "آذار" مارس حتى نهاية شهر "أيار" مايس، وتهب في أغلب الأحيان هبوبا فجائيا، وتستمر يومين أو ثلاثة أيم وتنتهي في بعض الأحيان برعد وبرق. وعند حدوث هذه الزوابع يغبر الأفق ويكفهر وجه السماء، ثم تهب بعد لحظات عواصف شديدة وأعاصير، تضفي على الجو لوناً قائماً،وأحياناً مائلاّ إلى الصفرة أو الحمرة بحسب لون الرمال التي تحملها الرياح، وتختقي الشمس، وتؤثر هذه "العجاجة" في النبات والأشجار تأثيراً كبيراً. واذا استمرت مدة طويلة، سببت تلف قسم كبير من المزروعات في الأماكن المزروعة.
وقد أشار الكتاب اليونان والرومان إلى البادية،كما عرفها العبرانيون. ولكلمة "حويلة Havilah"، ومن معانيها الأرض الرملية، أي تخم بني إسماعيل - وأولادهم وهم البدو - وهذا المدلول علاقة كبيرة بمعنى صحراء. وقد ذهب بعض علماء التوراة إلى إنها تعتي النفود.
وتفصل العراق عن بلاد الشام بادية واسعة، تعرف ب "بادية الشام" أو "البادية"، أو "خساف"، ويقال للقسم الجنوبي منها - وهو القسم الذي بين الكوفة والسماوة من جهة، وبينها وبين الشام من جهة أخرى - "بادية السماوة"، ويسميها العامة "الحماد" أو "حماذ".
الدارات
وفي بلاد العرب "الدارات"، والدارة: كل جوبة بين جبال في حَزن كان ذلك أو سهل أو رمل مستدير، في وسطه فجوة، وهي الدوره، وتجمع الدارة على دارات. فهي أرض سهل لينة بيض في أكثر الأحيان، وتنبت فيها الأعشاب والصليان والنباتات الصحراوية، ويبلغ عددها زهاء عشر دارات ومئة.
ولبعض هذه الدارات شهرة، اذ وردت أسماؤها في الشعر الجاهلي والإسلامي، مثل "دارة جلجل"، التي ورد ذكرها في شعر امرئ القيس الكندي. و "دارة الآرام" وكانت مملوءة من شقائق النعمان، كما جاء ذلك في شعر برج بن خنزير المازني الذي كلفه الحجاج بن يوسف حرب الخوارج.
الجبال
تكون سلسلة جبال السَّرات العمود الفقري لجزيرة العرب، وتصل فقراته بسلسلة جبال بلاد الشام المشرفة على البادية، المتحكمة فيها تحكم الجنود في القلاع. وبعض قمم هذه السلسلة مرتفعة. وقد تتساقط الثلوج عليها كجبل دباغ للذي يرتفع "2,200" متر عن سطح البحرْ، وجيل وثر وجبل شيبان. وتنخفض هذه السلسلة عند دنوها من مكة، فتكون القمم في أوطأ ارتفاع، ثم تعود بعد ذلك إلى العلو حيث تصل إلى مستوى عال في اليمن حيث تتساقط الثلوج على قمم بعض الجبال.
وتمتد في محاذاة السواحل الجنوبية سلاسل جبلية تتفرع من جبال اليمن، ثم تتجه نحو الشرق إلى أرض عمان، حيث ترتفع قمم الجبل الأخضر ارتفاعاً يتراوح من تسعة آلاف قدم إلى عشرة آلاف قدم. وتتخلل هذه السلاسل الجنوبية أودية تمثل اتجاه مسايل الأمطار إلى البحر.
وتفصل بين البحر والسلاسل الجبلية سهول ساحلية ضيقة في الغالب، ربما لا تتجاوز خمسة عشر ميلاً عن سواحل البحر الأحمر. وتكون هذه السواحل حارة رطبة في الغالب، يتضايق منها الإنسان، وتكون غير صحية في بعض الأماكن. ويطلق على بعض أقسام التهائم "الغور" و "السافلة"، لانخفاض بقاعها. وقد ذهب بعض العلماء إلى اطلاق تهامة على طول الأغوار الساحلية الممتدة من شبه جزيرة سيناء وبر القلزم إلى الجنوب. وسأتحدث عنها فيما بعد.
وتكون هذه السلاسل مانعاً - للأبخرة المتصاعدة من البحر الأحمر والبحر العربي- من وقوع الأمطار في أواسط بلاد العرب وفيما وراء السفوح المرقية للسراة والسفوح الشمالية للسلاسل الجبلية الجنوبية، لذلك كثرت الأودية القصيرة التي تسيل فيها. المياه في هذه المناطق، وزادت فيها إمكانيات الخصب والزراعة عن البقاع التي وراء السَراة حتى الخليج.
وفي نجد، وهي هضبة يبلغ ارتفاعها زهاء2500 قدم، منطقة جبلية تتكون من "الغرانيت"، يقال لها جبل "شمر"، وهي من مواضع "طيء" التي اشتهر أمرها قبل الإسلام اشتهاراً كبيراً، وقد عرفت قديماً بجبلَيْ طيء.
وتتألف من سلسلتين، يقال لإحداهما أجأ، و للأخرى سلمى. وهناك منابع عديدة للمياه في شعاب هذه المسلسلة وفي السهل الكبر المنبسط بينهما. ويمكن الحصول على المياه فيها بوفرة تحت طبقات الرمال والصخور. و أما جبل "طويق" فهو مرتفعات تقع في الوسط الشرقي من نجد وفي جنوب شرقي الرياض، وتتألف من الحجارة الرملية وتحيط بها الصخور والحجارة الكلسية، وتدل البحوث على إن من الصخور والمواد البركانية ما قذفته البراكين إلى هذه الجهات.
الأنهار والأودية
ليس في جزيرة العرب انهار كبيرة بالمعنى المعروف من لفظة نهر مثل نهر دجلة أو الفرات أو النيل، بل فيها أنهار مغيرة أو جعافر. وهي لذلك تعد في جملة الأرضين التي تقل فيها الأنهار والبحيرات، وفي جملة البلاد التي يتغلب عليها الجفاف. ويقل فيها سقوط الأمطار، ولذلك أصبحت أكر بقاعها صحراوية قليلة السكان. غير أنها كثيرة الأودية،تطغى عليها السيول عند سقوط الأمطار، فصير وكأنها طاغية مزبدة. وهي في الغالب طويلة، تسير في اتجاه ميل الأرض. أما الأودية التي تصب في البحر الأحمر أو في البحر العربي، فإنها قصيرة بعض الشيء، وذات مجرى أعمق، وانحدار أشد، والمياه تسيل فيها بسرعة فتجرف ما يعرضها من عوائق، وتنحدر هذه السيول إلى البحر فتضيع فيه، ومن الممكن الاستفادة منها في الأغراض الزراعية والصناعية. وقد تكون السيول خطرا يهدد القوافل والمدن والأملاك، ويأتي على الناس بأفدح الخسائر. وفي كتب المؤلفين الإسلاميين إشارات إلى سيول عارمة جارفة، أضرت بالمدن والقرى والمزارع وبالقوافل والناس، إذ كانت قوية مكنتها من جرف الأبنية والناس، ومن إغراقهم حتى ذكر إن خراب عاصمة اليمامة القديمة كان بفعل السيل، وأن كثيراً من المزارع والأموال هلكت وتلفت بفعل لعب السيول بها لعباً لم تتحمله، فهلكت من هذا المزاح الثقيل.
وليس في استطاعة أحد التحدث عن ملاحة بالمعنى المفهوم من الملاحة في نهيرات جزيرة العرب، وذلك لأن هذه النهيرات أما قصيرة سريعة الجريان منحدرة انحداراً شديداً، و أما ضحلة تجف مياهها في بعض المواسم فلا تصلح في كلتا الحالتين للملاحة. وهي أيضاً شحيحة بالثروة الحيوانية، وليس فيها إلا مقادير قليلة من الأسماك.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن كثيراً من أودية جزيرة العرب كانت أنهاراً في يوم من الأيام. واستدلوا على ذلك بوجود ترسبات في هذه الأودية، هي من نوع الترسبات التي تكون في العادة في قيعان الأنهار، ومن عثور السياح على عاديات وآثار سكن على حافات الأودية. ومن نص بعض الكتبة "الكلاسيكيين" على وجود أنهار في جزيرة العرب. فقد ذكر "هيرودوتس" نهرأَ سماه "كورس" زعم انه نهر كبير عظيم، يصب في "البحر الأريتوي"، ويقصد به البحر الأحمر، وزعم إن العرب يذكرون إن ملكهم كان قد عمل ثلاثة أنابيب صنعها من جلود الثيران وغيرها من الحيوانات، امتدت من هذا النهر إلى البادية مسيرة اثنتي عشر يوماً، حملت الماء من النهر إلى مواضع منقورة، نقرت لخزن المياه الآتية من ذلك النهر فيها.
وهناك موضع على مقربة من ساحل البحر الأحمر اسمه "قرح" على مسافة 43 كيلومتراً من "الحجر" في مكان يمر به خط الحديد الحجازي في منطقة صحراوية، وكان في الأزمنة السابقة من المحلات المزروعة، وبه بساتين عدة تعرف ب "بساتين قرح"، وعلى مقربة منها "سقيا يزيد" أو "قصرعنتر" "إسطبل عنتر"، كما تعرف به في الزمن الحاضر على بعد 98 كيلومتراً من المدينة. والى شماله "وادي الحمض" الذي يرى بعض العلماء أنه المكان الذي أراده "هيرودوتس".
وذكر "بطلميوس" نهراً عظيماً سماه "لار" Lar، زعم انه ينبع من منطقة "نجران"، أي من الجانب الشرقي من السلسلة الجبلية، ثم يسير نحو الجهة الشمالية الشرقية مخترقاً بلاد العرب حيث يصب في الخليج العربي. ولا يعرف من أمر هذا النهر شيء في الزمن الحاضر، ولعله كان وادياً من الأودية التي كانت تسيل فيها المياه في بعض المواسم، أو كان بقايا نهر، أثرت في مياهه عوامل الجفاف. ويرى "موريتس" إن هذا النهر الذي أشار إليه "بطليموس"، هو وادي الدواسر، الذي يمس حافة الربع الخالي عند نقطة تبعد زهاء خمسين ميلاً من جنوب شرفي السليل، وتمده بعض الأودية المتجهة من سلاسل جبال اليمن بمياه السيول، وتغيض مياهه في الرمال في مواضع عديدة، فتكون بعض الواحات التي يستقى منها، ويزرع عليها. ويلاحظ وجود مياه غزيرة في واديه، في مواضع لا تبعد كثيراً عن القشرة. وهذا مما يحمل على الاعتقاد بوجود مجاري أرضية تحت سطح الوادي، وانه كان في يوم ما نهراً من الأنهار، غير أننا لا نستطيع إن نتكهن في أمر هذا الوادي أكان نهراً جارياً في زمن بطلموس كما أشار إلى ذلك، أو كان وادياً رطب القبعان لم تكن عوامل الجفاف قد أثرت فيه أثرها في الزمن الحاضر. لذلك كانت تمكث فيه السيول والأمطار المتساقطة على السفوح الشرقية لجبال اليمن مدة أطول مما هي عليه الآن. والرأي عندي إن هذه الأنهار وأمثالها التي يشير إليها المؤلفون اليونان والرومان، لم تكن في الواقع وبالنسبة إلى ذلك الزمن إلا سيولا" عارمة جارفة سمعوا بأخبارها من تجارهم ومن بعض رجالهم الذين كتب لهم الذهاب إلى بلاد العرب أو اتصلوا بالعرب، فظنوا إنها أنهار عظيمة على نحو ما ذكروه. فلا يعقل وجود الأنهار الكبيرة في ذلك الزمن، إذ كان الجفاف قد أثر تأثيره في إقليم جزيرة العرب قبل ذلك بأمد طويل، فلا مجال لبقاء أنهار على النحو الذي يذكره أولئك الكتاب.
وينطبق هذا الاحتمال على الأودية الأخرى، وهي كما قلت كثيرة، ومنها وادي للرمة ووادي الحمض، ويعد هذان الواديان من الأودية الجافة، إلا في مواسم الأمطار الشديدة حيث تصب السيول فيهما، غير إن لها مجاري أرضية، تشير إلى تلك الحقيقة، ويمكن الحصول على المياه فيهما بحفر الآبار على أعماق ليست بعيدة عن السطح. وقد تظهر على سطح الأرض في بعض المحالّ، وربما كانا قبل آلاف السنين، أنهاراً تجري فيها المياه،فتروي ما عليها من أرضين.
يتكون "وادي الرمة" عند "حرة خيبر" أو "حرة فدك" من التقاء بضعة أودية ممتدة من الشمال على ارتفاع ستة آلاف قدم. ثم تتجه بعد ذلك نحو الشرق ثم تأخذ اتجاها جنوبيا شرقيا حيث تتصل ب "الجرير" أو "الجريب" كما كان يعرف سابقا، و هو من أوسع فروع وادي الرمة. و يتجه هذا الوادي نحو الشرق حيث يصل إلى "بريدة"، ثم ينعطف نحو الشمال الشرقي فالشرق إلى "القصيم" حيث يسمى بعد ذلك "الباطن" "البطن" ثم يتفرع إلى فرعين يخترقان منطقة صحراوية، ويسير أحدهما في "النفوذ" حيث يتصل بالدهناء إلى إن يبلغ موضعاً قرب البصرة. ويبلغ طول هذا الوادي زهاء 950 كيلومترا أو أكثر.
و أما مبدأ وادي الحمض أو وادي إضم كما كان يسمى قديماً، فمن جنوب حرة خيبر، ثم يتجه نحو الجنوب الغربي إلى إن يصل إلى يثرب حيث تتصل به أودية فرعية أخرى، منها "وادي العقيق"، ويتصل به كذلك "وادي القرى"، ويستمد مياهه من السيول التي تنحدر إليه من الجبال من العيون التي عند خيبر حيث يصب في البحر الأحمر في جنوب قرية الوجه. وعند هذا المصب بقايا قرية يونانية قديمة، وبقايا معبد يعرف عند الأهلين "كصر كريم"، وهو من مخلفات المستعمرات اليونانية القديمة التي كان الملاحون والتجار اليونانيون قد أقاموها عند ساحل البحر الأحمر لحماية سفنهم من القرصانة وللاتجار مع الأعراب، ولتموين رجال القوافل البحرية بما يحتاجون إليه من ماء وزاد. و يعتقد "موريتس" إن هذا الموضع هو محل مدينة "لويكه كومه" "Leuke Kome" المشهورة التي وصل إليها "أوليوس كالوس" لما همَّ بفتح اليمن، على حين يرى آخرون إن هذه المدينة هي في المحل المعروف باسم "الحوراء". ويبلغ طول وادي الحمض زهاء 900 كيلومتر.
وهناك "وادي حنيفة" وهو من الأودية المهمة كذاك، يبتدئ من غرب "جبل طويق" ثم يتجه نحو الشرق نحو الخليج العربي، وهو مهم، ويمكن الحصول على المياه فيه بطريقة حفر الآبار، لأن الماء غير بعيد عن قاعه. و أما عند هطول الأمطار، فإن المياه تجري إليه من السفوح فتسيل فيه.
ولقلة المياه في بلاد العرب، انحصرت الزراعة فيها في الأماكن التي حبتها الطبيعة بمواسم تتساقط فيها الأمطار مثل العربية الجنوبية، وفي الأماكن التي ظهرت فيها عون وينابيع، مثل وادي القرى في الحجاز، والأحساء على الخليج العربي. وفي الأودية والأماكن التي تكثر فيها المياه الجوفية، حيث استنبطت المياه منها بحفر الآبار. والزراعة في هذه الأماكن -باستثناء العربية الجنوبية- هي زراعة محدودة، حدودها ضيقة، وآفاقها غير بعيدة، و ناتجها قليل لا يكفي لإعاشة كل السكان.
و قد لزمت سكان الأرضين التي تغيث السماء أرضهم، بإنزال الغيث عليها، الاستفادة. من الأمطار المنهمرة،يحصرها وتوجيهها إلى مخازن تخزنها لوقت الحاجة، وذلك بإنشاء السدود و إقامة الخزانات ذوات أبواب تفتح وتغلق لتوجيه المياه الوجهة التي يريدها الإنسان. وقد أقيمت هذه السدود في مواضع متناثرة من جزيرة العرب، خاصة في الأماكن التي يركبها المطر مثل العربية الجنوبية والعربية الغربية. وتشاهد اليوم آثار سدود جاهلية استعملها الجاهليون للاستفادة من مياه الأمطار.
ولما كانت الأمطار رحمة ونعمة كبرى، إذا انحبست نفقت إبل العرب ومواشيهم، صار انحباسها نقمة وهلاكاً، وعدّوا انحباسها عنهم غضباً من الآلهة ينزل بهم، ولهذا كان الجاهليون يتضرعون إلى آلهتهم ويتقربون إليها، إن تنزل عليهم الغيث، ولهم في ذلك صلوات وأدعية- للاستسقاء سيأتي الحديث عنها في باب الدين عند الجاهليين.
وعلى خلاَف العيون الحارة التي هي من آثار التفاعلات البركانية والتفاعلات الباطنية. الكيماوية، فان في بلاد العرب عيون وينابيع وواحات، صارت موطناً للزراع والزرع. وبعض، هذه العيون، تتدفق من الجبال والهضاب وبعد مجرى قصير تعود فتدخل باطن الأرض كما هو الحال في أرض "مَدْيَن". وهنالك عيون تتوقف حياتها على المطر. وقد استفاد الجاهليون من بعض العيون والينابيع فربطوها بكهاريز وبقنوات تجري فيها المياه تحت سطح الأرض الى بيوتهم ومزارعهم دون إن تتعرض للتبخر الزائد: فتفقد كميات كبيرة من المياه تذهب هباء. وقد عثر على شبكات منها في عُمان وفي وادي فاطمة بالحجاز وفي اليمن.
أقسام بلاد العرب
قسّم اليونان و اللاتين جزيرة العرب إلى أقسام ثلاثة: ا - العربية السعيدة Arabia Felix.
2 - العربية الصخرية، وترجمت بالعربية الحجرية كذلك "Arabia Petreae".
3 - العربية الصحراوية Arabia Deserta.
وهو تقسيم يتفق مع الناحية السياسية التي كانت عليها البلاد العربية في القرن الأول للميلاد. فالقسم الأول مستقل، والقسم الثاني قريب من الرومان ثم أصبح تحت نفوذهم، و أما القسم الثالث فهو البادية إلى نهر الفرات.
وقد أشير إلى العربية السعيدة والعربية الصحراوية في الموارد "الكلاسيكية" القديمة مثل جغرافية "سترابون". ويرى بعض العلماء إن القسس الآخر وهو "العربية الصخرية" Arabia Petreae هو من إضافة "بطلميوس" العالم الجغرافي الشهير، وقد قصد به برية شبه جزيرة سيناء وما يتصل بها من فلسطين إلى الأردن. فهو في رأي هؤلاء أحدث عهداً في التسمية من التسميتين الأخريين. ولم يأخذ الجغرافيون العرب بالتقسيم "الكلاسيكي"، مع أنهم وقفوا على بعض مؤلفاتهم، كجغرافية بطليموس. إلا إن جزيرة العرب عندهم، هي "العربية السعيدة" في اصطلاح أكثر الكتبة اليونان واللاتين.
العربية السعيدة Arabia Felix
أما العربية السعيدة، ويقال لها "Arabia Beata" و "Arabia Eudaimon" في اليونانية، فهي أكثر الأقسام الثلاثة رقعة، وتشمل كل المناطق التي يقال لها جزيرة العرب في الكتب العربية كما يفهم من بعض المؤلفات، وليست لها حدود شمالية ثابتة، لأنها كانت تتبدل وتتغير على حسب الأوضاع السياسية. ولكن يمكن القول إنها تبدأ في رأي أكثر الكتاب اليونان والرومان من مدينة "هيروبوليس" "Heropolis" على مقربة من مدينة السويس الحالية، ثم تساير حدود العربية الحجرية الجنوبية، ثم تخترق الصحراء حتى تتصل بمناطق الأهوار "اهوار كلدبا" عند موضع "Thapsacus". وقد أدخل بعض الكتاب هذه الأهوار في جملة العربية السعيدة، وجعلها بعضهم خارجة عنها بحيث يمر خط الحدود في جنوبها إلى إن تتصل بمصب شط العرب في الخليج.
وعرفت البادية الواسعة التي هي جزء من النفوذ والتي تمر بها حدود العربية السعيدة الشمالية، باسم "Eremos" عند اليونان، وهي امتداد لبادية الشام.
العربية للصحراوية
ويقال لها في اليونانية "Arabia Eremos". أما حدودها، فلم يعينها الكتّاب اليونان واللاتين تعيين أَ دقيقاً. ويفهم من مؤلفاتهم أنهم يقصدون بها البادية الواسعة الفاصلة بين العراق والشام، أي البادية المعروفة عندنا ب "بادية الشام". ويكون نهر الفرات الحدود الشرقية لها إلى ملتقى الحدود بالعربية السعيدة. و أما الحدود الشمالية، فغير ثابتة، بل كانت تتبدل بحسب الأوضاع السياسية. و أما الحدود للغربية، فكانت تتبدل وتتغير كذلك، ويمكن إن يقال بصورة عامة إن حدودها هي المناطق الصحراوية التي تصاقب الأرضين الزراعية لبلاد الشام. فما كان بعيداً عن إمكانيات الرومان واليونان ومتناول جيوشهم، عد من العربية الصحراوية.
ويفهم من العربية الصحراوية أحياناً "بادية السماوة"، وقد يجعلون حدودهاعلى مقربة من بحيرة النجف، أي في حدود الحيرة القديمة، حيث بدا "بطائح كلدية" التي كانت تشغل إذ ذاك مساحة واسعة من جنوب العراق. وعرفت عند بطليموس بإسم "Amardocaea"، وهي تمتد حتى تتصل ببطائح "Maisanios Kolpos" أو "خليج مسنيوس" "خيلج ميسان"، الذي يكون امتداد الخليج العربي "Persikos Kolpos". وكل ما وقع جنوب ذلك الخط الوهمي، عد في العربية السعيدة.
وقد فهم "ديودورس" من "العربية الصحراوية" المناطق الصحراوية التي تسكنها القبائل المتبدية، وتقع في شمالها وفي شمالها الشرقي في نظره أرض مملكة "تدمر". و أما حدها الشمالي الغربي والغربي حتى ملتقاها بالعربية الحجرية، فتدخل في جملة بلاد الشام. و أما حدودها الشرقية، فتضرب في البادية إلى الفرات. فأراد بها البادية إذن. وقد جعل من سكانها الإرميين والنبط.
وتقابل العربية الصحراوية، ما يقال له "اربى" عند الأشوريين، و "ماتو أربى" عند البابليين، و "أربايهَ" عند السريان والفرس.
كانت البادية، بادية الشام، أو "العربية الصحراوية"، مأهولة بالقبائل العربية، سكنتها قبل الميلاد بمئات السنين. وليست لدينا مع الأسف، نصوص كتابية قديمة أقدم من النصوص الأشورية التي كانت أول نصوص أشارت إلى العرب في هذه المنطقة، وذكرت انه كانت لديهم حكومات يحكمها ملوك. وأقدم هذه النصوص هو النص الذي يعود تاريخه إلى سنة 854 ق. م. وقد ورد فيه اسم العرب في جملة من كان يعارض السياسة الأشورية، و لما كان هذا النص يشير إلى وجود مشيخة أو مملكة عربية، سكنها ملك فلا يعقل إن يكون العرب قد نزلوا في هذا العهد في هذه البادية، بل تشير كل الدلائل إلى إن وجودهم فيها كان قبل هذا العهد بأمد، وربما كان قبل الألف الثاني قبل الميلاد. ولهد كانت هذه القبائل تهاجم أرض ما بين النهرين وبلاد الشام، وتكون مصدر رعب للحكومات المسيطرة على الهلال الخصيب، وكانت ننتقل في هذه البادية الواسعة، لا تعترف بفواصل ولا بحدود، فتقيم حيث الكلأ والماء والمحل الذي يلائم طبعها.
أما الروايات العربية، وهي لا تستند إلى وثائق أو نصوص جاهلية، فقد رجحت وجود العرب في هذه الأرضين إلى ما بعد الميلاد في الغالب، ولم يتجاوز بعض من تجاوز الميلاد أيام "بخت نصر" وهو بالطبع حديث مغلوط فيه.
العربية الحجرية، العربية للصخرية
أما العربية الحجرية، فتشمل الأرضين التي كان يسكن فيها الأنباط، وخضعت لنفوذ الرومان والبيزنطيين. ويطلق ذلك الاسم، أي العربية الحجرية،. على شبه جزية سيناء على المملكة النبطية، و عاصمتها "بطرا" "بترا" "البتراء". وكانت حدود هذه المنطقة تتوسع وتتقلص بحسب الظروف السياسية و بحسب مقدرة العرب، ففي عهد الحارث الرابع ملك الأنباط "من سنة 9 ق.م إلى سنة 40 ب. م" اتسعت حدودها حتى بلغت نهايتها الشمالية مدينة دمشق. ولما ضعف أمر النبط، استولى الامبراطور "تراجان" عام "106 م" على هذه المقاطعة وضمها إلى المقاطعة التي كوّنها الرومان و أطلقوا عليها أسم "المقاطعة العربية" "Provincia Arabia". ويظهر من وصف "ديودورس" هذه المنطقة أنها في شرق مصر وفي جنوب البحر الميت، وجنوبه الغربي وفي شمال العربية السعيدة و غربها. وان الأنباط يقيمون في الأرضين الجبلية وفي المرتفعات المتصلة بها التي في شرق البحر الميت، وفي شرق وادي العربة، وفي جنوب اليهودية حتى الخليج العربي، "خليج العقبة". و أما الأقسام الباقية، فكانت تسكنها في قبائل عربية قيل لها "سبئية"، وهي تسمية كانت تطلق عند الكتبة اليونان والرومان على أكثر القبائل المجهولة أسماؤها، التي تقطن وراء مناطق نفوذ الأنباط والرومان، ويعنون بذاك قبائل جنوبية في الغالب.
التقسيم للعربي
و يؤسفنا أننا لا نستطيع إن نتحدث عن وجهة نظر أحد من الجاهليين في أقسام بلاد العرب، لعدم ورود شيء من ذلك في النصوص أو في الروايات التي يرويها عنهم أهل الأخبار، وكلهم مسلمون.
أما الإسلاميون، فقد اكتفوا بجزيرة العرب، فأخرجوا بذلك البادية الواسعة منها، واخرجوا القسم الأكبر مما دعاه الكلاسيكيون بالعربية الحجرية منها كذلك. وجزيرة العرب وحدها، هي "العربية السعيدة" عند اليونان والرومان، و ما يقال له أيضا ب "Arabia Proper" في الإنكليزية.
وقد قسموا جزيرة العرب إلى خمسة أقسام: الحجاز، وتهامة، واليمن، والعروض، ونجد. ويرجع الرواة أقدم رواياتهم في هذا التقسيم إلى عبد الله بن عباس.
أما الحجاز، فتمتد رقعته في رأي أكثر علماء الجغرافية المسلمين. من تخوم الشام عند العقبة إلى "الليث"، وهو واد بأسفل.السراة يدفع في البحر، فتبدأ عندئذ أرض تهامة. وقد عد قسم من العلماء "تبوك" وفلسطين من أرض الحجاز. ويقال للقسم الشمالي من الحجاز أرض مدين وحسمى. نسبة إلى السلسلة الجبلية المسماة بهذا الاسم، التي تتجه من الشمال نحو الجنوب، و تتخلها أودية محصورة بين التيه وأيلة من جهة، وأرض بني عذرة من ظهرة حرة نهيل من جهة أخرى. وكانت تسكنها في الجاهلية قبائل جذام. ويسكنها في الزمن الحاضر عرب الحويطات، ويعتقد المستشرقون أنهم من بقايا النبط.
وأرض "حسمى"، أرض خصبة كثيرة المياه. وكانت من المناطق المعمورة، وبها آثار كثيرة ومن جبالها جبل يعرف ب "إرم". ويرى بعض المستشرقين إن لهذا الجبل علاقة بموضوع "إرم" الوارد ذكره في القرآن الكريم وفي كتب قصص الأنبياء والتواريخ. ويرى "موريتس" انه موضع "Aramaua" الذي ذكره "بطليموس" على أنه أول موضع من مواضع العربية السعيدة، وأنه لا يبعد كثيرا عن البحر. ويقال له "رم" في الزمن الحاضر.
وتتخلل الحجاز أودية عديدة، منها وادي إضم الذي ورد ذكره في أشعار الجاهلية وفي أخبار سرايا الرسول. ووادي تخال، ويصب في الصفراء بين مكة والمدينة. والصفراء واد من ناحية المدينة، كثير النمل والزرع، في طريق الحاج، سلكه الرسول غير مرة، وعليه قرية الصفراء، وماؤها عيون تجري إلى ينبع، وهي لجهينة والأنصار ولبني فهر ونهد ورضوى. ووادي "بدا" قرب أيلة، يتصل بوادي القرى. ووادي القرى واد مهم يقع بين العلا والمدينة، ويمر به طريق القوافل القديم الذي كان شرياناً من شرايين الحركة التجارية في العالم القديم، ويقال له "وادي الديدبان"، ويصب فيه واديان هما: وادي جزل من الشمال، ووادي الحمض من الجنوب، ويلتقي به واد آخر هو وادي التبج، أي وادي السلسلة. وكان عامراً جدا، تكثر فيه المياه، وتشاهد فيه اليوم آثار المدن والقرى. وقد عثر فيه على كتابات كثيرة لحيانية وسبئية وسعين ية وغيرها، سأتحدث عنها.
ومن أهم مواضع وادي القرى "العلا"، وقد نزله الرسول في طريقه إلى تبوك. ويقع في موضع "ديدان" "ددان" "ددن" القديم. وبه واحة ونهير صغيره. ومدينة "قرح"، وكانت من أسواق العرب في الجاهلية، وقد زعم أنها القرية التي كان بها هلاك عاد. وتبعد عن خرائب "ديدان" بمسافة ثلاثة كيلومترات. وقد سكنتها قبائل "بليّ" من القبائل العربية القديمة. وهي ملتقى طريق مصر القديم بطريق الشام. ويرى "موسل" أنها هي "العلا"، دعيت بهذا الاسم فيما بعد. ولما سأل "دوتي" الأعراب القاطنين في هذه الأماكن عن "قرح"، لم يعرفوا من أمرها شيئاً.
ووجد "دوتي" في قرى وادي القرى وخرائبه عدداً كبيرا من الحجارة المكتوبة بحرف المسند، وقد اتخذها السكان أحجارا من أحجار البناء. وعثر في "الخريبة" على كتابات بهذا القلم، وعلى آثار أبنية ومواطن حضارة. وعلى ألواح من الحجر كان يستعملها الصيارفة لصف نقودهم عليها، أو لذبح القرابين. كما شاهد موضعاً يقال له "إسطبل عنتر" على قمة جبل شاهق يرنو إلى الوادي ولعله معبد أحد الأصنام التي كانت تعبد هناك.
تهامة
وتبدأ حدود تهامة، في رأي بعض الجغرافيين، من بحر القلزم، فتكون المنطقة الساحلية الضيقة الموازية لامتداد البحر الأحمر. ويقال لتهامة الواقعة في اليمن "تهامة اليمن"، ويختلف عرضها باختلاف قرب السلاسل الجبلية من للبحر وبعدها عنه، وقد يبلغ عرضها خمسين ميلاَ في بعض الأمكنة. وترتفع أرض تهامة الجنوبية الواقعة على البحر العربي ما اتجهت نحو المشرق، وتتكون فيها سلاسل من التلال المؤلفة من حجارة كلسية ترجع إلى العهود الجيولوجية الحديثة أو من حجارة بركانية.
ولانخفاض أرض تهامة قيل لها "الغور" و "السافلة". وقد وردت لفظة تهامة على هذا الشكل "تهمت" "تهمتم" في النصوص العربية الجنوبية.
ويظهر إن هذه اللفظة علاقة بكلمة "Tiamtu"، التي تعني البحر في البابلية. وبكلمة "تبهوم Tehom" العبرانية. وعندي إن هذه الكلمة ترجع إلى أصل سامي قديم. له علاقة بالمنخفضات الواقعة على البحر، والتي تكون لذلك شديدة الرطوبة والحرارة في الصيف. ولهذا فإنها في العربية بلهجة القرآن الكريم وباللهجات الجنوبية للسواحل المنخفضة الواقعة بين الجبال والبحر، وهي حارة وخمه شديدة الرطوبة كأنها من بقاع جهنم في الصيف.
اليمن
حدّ اليمن في عرف بعض العلماء من وراء "تثليث" وما سامتها إلى صنعاء وما قاربها إلى حضرموت والشحر وعمان إلى عدن أبين وما يلي ذلك من التهائم والنجود وقيل: يفصل بين اليمن وباقي جزيرة العرب خط، يأخذ من حدود عمان ويرين إلى ما بين اليمن واليمامة فإلى حدود الهجيرة وتثليث وكثبة وجرش ومنحدرا في السراة إلى شعف عنز وشعف الجبل أعلاه إلى تهامة إلى أم جحدم إلى البحر إلى جبل يقال له كرمل بالقرب من حمضة، وذلك حد ما بين كنانة واليمن من بطن تهامة. أما النصوص العربية الجنوبية، فلم تثبت حدود اليمن. ولكن اليمن فيها وتسمى "يمنت" "يمنات"، منطقة صغيرة ذكرت في نص يعود عهده إلى أيام الملك "شمر يهرعش"، المعروف في الكتب الإسلامية ب "شمر يرعش"، بعد "حضرموت" في الترتيب. وعلى هذا الترتيب وردت أيضاً في نص "أبرهة" نائب النجاشي على اليمن. ويعود عهده إلى سنة 543م.
وتخترق السراة اليمن من الشمال إلى الجنوب حتى البحر، وتتخللها الأودية التي تنساب فيها مياه الأمطار،ويمتد بين الهضاب والشعاب فلاة تتفرع من الدهناء من ناحية اليمامة والفلج يقال لها "الغائط"، وتظهر في أواسطها "الصيهد"، وتقع بين مأرب وحضرموت.
وفي شمال منطقة عدن صحراء تتصل بالربع الخالي، يخترق الهضاب المهيمنة على عدن عدد من الأودية الجافة يظهر أنها كانت مسايل مياه، وأنها من بقايا أنهار جفت، وتسيل في بعضها المياه عند سقوط الأمطار، ومنها "وادي تبن"، وهو من بقايا نهر طويل، له فروع عديدة، وتمر به الطريق الرئيسية المؤدية إلى اليمن.
ويخترق حضرموت واد، يوازي الساحل، يبلغ طوله بضع مئات من الأميال و يتألف سطحه من ارضين متموجة تتخلها أودية عميقة تكثر فيها المياه، في باطن الأرض، وبعض تلاله مخصبة.
وفي حضرموت حجارة بركانية ومناطق واسعة، يظهر أنها كانت تحت تأثير البراكين. والظاهر إن دورها لم ينته إلا منذ عهد ليس ببعيد. ويزرع الناس في هذه الأودية حيث يحفرون آباراً في قيعانها فتظهر المياه على أبعاد متفاوتة، وهنالك نهر يقال له نهر حجره.
ومن شرق سيحوت تبتدئ سواحل "مهرة"، وتعرف عند الجغرافيين باسم "الشحر". ومعنى كلمة "مهرة" في العربية الجنوبية القديمة "ساحل". ويطلق اليوم أسم "الشحر" على الميناء الغربي وحده. وفي "قارة" مدينة "ظفار"، وهي غير ظفار اليمن. وعند خليج ظفار كان موضع "Syagro" المشهور عند اليونان وللرومان.
ويمتد اقليم ظفار من سيحوت إلى حدود عمان، وهو هضبة يبلغ ارتفاعها ثلاثة آلاف قدم، تجب عليها الرياح الموسمية، وفوق جبالها تنمو أشجار الكندر التي اشتهرت بها بلاد العرب قبل الإسلام. وتشقها طولاً وعرضاً أودية تكسوها الأعشاب وتتخللها الأشجار. وبها جبال "قرا"، و منحدراتها أرجوانية، وقد تفتتت الصخور الحمر فيها، فأكسبت الأودية والسهول الحمرة، وتوجد نهيرات وعيون، ويمكن الحصول على المياه بحفر الآبار. ولا زال السكان يحتفظون بعاداتهم القديمة الموروثة مما قبل الإسلام.
ويظهر إن هذه المنطقة كانت أماكن "القريين" من الشعوب العربية الجنوبية القديمة، وهناك قبيلة لا تزال حتى اليوم يقال لها "بنو قرا" لعل لها صلة بالقريين.
ويتكلم أهل "مهرة" بلهجة خاصة، يقال لها "المهرية" أو "الأمهرية"، وهي متأثرة بالجعزية. كما يتكلم أهل قارة "قرا" بلهجة يقال لها "أحكيليلة"، ويظن إنها من اللهجات العربية القديمة.
وتتألف أرض عمان من أماكن جبلية، وهضاب متموجة، وسهول ساحلية. واكثر حجارتها كلسية و غرانيتية، و فيها أيضا حجارة بركانية. والظاهر إنها كانت من مناطق البركانية. وفي مناطق التلال وفي "جعلان" عيون ومجاري مياه معدنية أكثرها ذات درجات حرارة مرتفعة. وتوجد آبار في "الباطنة" وفي المناطق المجاورة للصحراء وفي الأقسام الشرقية من عمان.
وتتخلل هضاب عمان وجبالها أودية معظمها جاف، وتكون طرق المواصلات بين الساحل والأرضين الباطنة، وجوّها حار استوائي، وتتجه الجبال من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، وأعلى قمة فيها هي قمة الجبل الأخضر، ويبلغ ارتفاعها تسعة آلاف قدم. الأرضون المحيطة بهذا الجبل، خصبة، وقابلة للاستثمار.
وفي عمان مدن قديمة، منها "صحار" و "نزوة" و "دبا" أو "سما"، وكانت من المدن المهمة في أيام الرسول، وهي عاصمة عمان الشمالية، كما كانت سوقاً من أسواق الجاهلية، وسكانها من الأزد. والعمانيون من الشعوب للبحرية المحبة لركوب البحار، ولهم صلات وروابط بسواحل أفريقية والهند. ونجد بينهم عدداً كبيراً من الزنوج والهنود والفرس والبلوج.
العروض
و أما العروض، فيشمل اليمامة والبحرين وما والاها. وأغلب الأرضين فيه صحارى وسهول ساحلية، ترتفع في الجهات الغربية عن ساحل البحر. ويمتد مرتفع الصمان الصخري موازياً لساحل الخليج، متوسطاً بين الأحساء والدهناء. ومن اودية الأحساء، وادي فروق في الجنوب، وهو قسم من وادي المياه.
ومن أقسام العروض، شبه جزيرة "قطر" التي يمتد من عمان إلى حدود الأحساء، يشتغل سكانها بصيد الأسماك واستخراج اللؤلؤ، وقد عرفت ب "Cataraei" عند "بلينيوس". ومعظم أراضيها صحارى، وفيها واحات قليلة، ويزرع السكان في بعض الأماكن على مياه الآبار. وقد عرفت قديماً بأنواع من الثياب والمنسوجات القطرية، كانت تصدَّر إلى الخارج، كما عرفت بتصدير النجائب والنعام.
و يلي شبه جزيرة قطر: "الأحساء"، وكان يقال لهذه المنطقة قديماً "هجر" والبحرين. والقسم الأكبر من الأحساء، سهل صحراوي، يرتفع في الجهة الغربية عن ساحل البحر ويتخلله كثير من التلال، يتجه بعضها باتجاه وادي المياه وجبل الطف. والمنطقة الساحلية، سبخة في الغالب، وتكثر فيها الآبار التي لا تبعد مياهها كثيراً عن سطح الأرض. وأغلب مناطق الأحساء، منطقة الأحساء والقطيف في الجنوب حيث تكثر المياه من آبار وعيون.
وتظهر المياه الجوفية المنحدرة من الأمطار التي تتساقط بمقدار أربع عقد أو خمس عقد "انج" في السنة على حافات جبل "طويق" في "الهفوف"، تظهر فيها على شكل عيون، تبلع زهاء أربعين عيناً، جعلت المنطقة من أهم الواحات في المملكة العربية السعودية. وبحذاء هجر في الجنوب الغربي من مدينة القطيف تقع "العقير"، وهي الآن ميناء صغيره. وعلى مقربة منها خرائب عادية، يعتقد العلماء أنها موضع "Gerrhaei" المدينة التجارية العظيمة التي اشتهر أمرها، وبلغت شهرتها اليونان والرومان. وكانت محطة من المحطات التجارية العالمية، وملتقى طرق القوافل التي كانت ترد من جنوب بلاد العرب قاصدة للعراق. وقد أغرت الطامعين، فطمعوا في الاستيلاء طيها، وأوحت إلى الكتبة "الكلاسيكين"، فكتبوا فيها قصصاً من نسج الخيال، وتقع على خليج سماه "الكلاسيكيون" "Sinus Gerraicus"؛ أي خليج جرهاء.
وتقع القطيف على خليج يشمل جزيرة "تاروت" وتعد المدينة البحرية الرئيسية في الأحساء، يرتفع سطحها بضع أقدام عن سطح البحر، وتكثر بها مياه العيون. وتشاهد عندها خرائب عادية، يستدل منها على إن هذه المدينة كانت ذات تاريخ قديم، ربما يعود إلى آخر عهد من عهود العصر النحاسي.
وفي هذه المنطقة، يجب إن يكون موقع مدينة "بلبانا" "Bilbana" "Bilaena" "Bilana"، إحدى مدن "الجرهائيين". ومواطن قبيلتي "Gaulopeus" و "Chateni" على سواحل خليج سماه "بلينوس" "Sinus Gaulopeus" أي "خليح كيبيوس". ويرى "شبرنكر" أنه "خليج القطيف". ويذكرنا اسم "Chateni" "p'dkd" باسم "الخط"، ويطلق في العربية على سيف البحرين كله. وربما كان "كيبيوس"، التي سميّ الخليج به، هو تحريف "Cateus" الذي يشير بكل وضوح إلى اسم "القطيف".
و أما جزيرة "تاروت" الصغيرة التي في هذا الخليج، فالظاهر إنها جزيرة "Tahar" أو "Taro" أو "Ithar" في جغرافية "بطليموس"، وفيها مدينة "دارين". ويظهر إنها أقيمت على أنقاض أبنية قديمة، ولعلها كانت معبداً للإله "عشتروت" 0 اشتهرت به، ثم حذف المقطع الأول من اسم الإلهَ اختصاراً، وصارت تعرف بالمقطعين الأخيرين، و هما "تاروت".
والقسم الأكبر من أرض الكويت منبسط، وأكثر السواحل رملي، إلا بعض الهضاب أو التلال البارزة. وفي المحالّ التي تتيسر فيها المياه تتوافر الزراعة، وأكثر ما بزرع هناك النخيل. وليس في الكويت من الأنهار الجارية غير مجرى واحد أو نهر يقال له "المقطع"، يصب في البحر. ومشكلة ماء الشرب من أهم المشكلات في هذه الإمارة، لأن ماء أغلب الآبار ملح أجاج،ولذلك يضطر الأغنياء إلى جلب المياه من شط العرب.
ومن أشهر مدن الكويت مدينة "الكويت"، وهي العاصمة، وهي على ساحل الخليج، و "جهرة"، وفي في منطقة زراعية خصبة، ذات أبار على مقربة من خليج الكويت. ويظن إن الخندق الذي أمر بحفره "سابور ذو الأكتاف" ليحمي السواد من غزو الأعراب، كان ينتهي في البحر عند "خليج كاظمة" في شمال الإمارة.
وأرض الكويت، مثل سائر أرض العروض، كانت موطن شعوب قديمة، فيظهر. إن "Bukae" أو "Abucaei" أو "Abukae"، وعاصمتهم مدينة "Coromanis"، هم أسلاف بني عبد القيس، وأن "Coromanis"، المصدر اللغوي الذي اشق منه "القرين"، الاسم القديم للكويت.
ولعلّ "Idicare" هي "قارة" من مواضع الكويت، وان "Jucara" هي "الجهرة" من أخصب مناطق الكويت في الزمن الحاضر،وكانت من المواضع المأهولة قبل الإسلام.
وقد عرف "ياقوت" البحرين بأنها الأرضون التي على ساحل بحر الهند بين البصرة وعُمان، وذكر إن من الناس من يزعم إن البحرين قصبة هجر، و أن منهم من يرى العكس، أي إن هجراً هي قصبة البحرين.
أما "أبو الفداء" فذكر إن البحرين هي ناحية على "شط بحر فارس"، وهي ديار القرامطة ولها قرى كثيرة، وبلاد البحرين هي هجر. وذكر أيضا إن من الناس من يرى إن هجراً اسم يشتمل جميع البحرين كالشام والعراق، وليس هو مدينة بعينها. ويظهر من دراسة ما ذكره العلماء عن البحرين إن رأيهم في حدودها كان متبايناً، وأنهم لم يكونوا على اتفاق في تحديدها، فتارةً يوسعونها، وتارة يقلصونها.
ومن مواضع البحرين "محلّم" وبه نهر اشتهر بنخله، و إليه أشار "بشر بن أبي ختزم ألاسدي" بقوله: كأن حد وجهم لمّا استقلوا نخيل "محلّم" فيها ينـوع
اليمامة
و أما اليمامة، فكانت تعرف ب "جو" أيضاً، وقد عدّها "ياقوت الحموي" من نجد، وقاعدتها "حجر". وكانت عامرة ذات قرى ومدن عند ظهور الإسلام، منها "منفوحة"، وبها قبر كان ينسب إلى الشاعر "الأعشى". و "سدوس" من المدن القديمة، وبها الآن آثار كثيرة، وقد عثر فيها على تمثال يبلغ قطره ثلاث أقدام، وارتفاعه 22 قدماً. و "القرية"، وعلى مقربة منها بئر، قال الهمداني -وهو يتحدث عنها-: "فإن تيامنت شربت ماءً عادياً، يسمى قرية، إلى جنبه آبار عادية وكنيسة منحوتة في الصخر، ثم ترد ثجر". والظاهر إن هذا الموضع كان من المواضع الكبيرة المعروفة. وذكر ياقوت وغيره إن اليمامة "كانت تسمى جوا والقرية". ولا يعقل تسمية اليمامة بالقرية لو لم يكن هذا الموضع شهرة.
وقد نشر "فلبي" وبعض رجال شركة النفط العربية السعودية صوراً فوتوغرافية لكتابات ونقوش عثروا عليها في موضع يقال له "قرية الفأو" على الطريق الموصلة إلى نجران ويقع على مسافة سبعين كيلومتراً من جنوب ملتقى وادي الدواسر بجبل الطويق، وعلى مسافة "120" كيلومتراً من شرقي "نجران"، وعلى ثلاثين ميلاً من جنوب غربي "السليل" في وادي الدواسر.
كما وجدوا آثار أبنية ضخمة، يظهر أنها بقايا قصور كبيرة، ووجدوا كهفاً منحوتاً في الصخر مزداناً بالكتابات والتصاوير واسعاً.، يقول له الناس هناك "سردباً" أو "سرداباً". وعند هذا الموضع عين ماء وآبار قديمة، وقد كتب اسم الصنم "ود" بحروف بارزة. وتدل كل الدلائل على إن الموضع الذي تتغلب عليه الطبيعة الصحراوية في الزمن الحاضر، كان مدينة ذات شأن.
وقد أشار الألوسي في كتابه "تاريخ نجد" إلى سدوس وآثارها فقال: "وفي قربها أبنية قديمة يظن أنها من آثار حمير وأبنية التبابعة. "نقل لي بعض الأصحاب الثقات من أهل نجد: إن من