(( القُدُّوس )) تبارك وتعالى
المعنى اللغوي :
وله معنيان في اللغة :
الأول : أن (( القدوس )) فعول من القدس وهو الطهارة ، و(( القَدَس )) بالتحريك السطل بلغة أهل الحجاز ؛ لأنه يُتقدس منه : أي يُتطهر منه .
وقال تعالى : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ].
قال الزجاج : معنى (( نقدس لك )) أي : نطهر أنفسنا لك .
ولهذا قال : (( بيت المقدس )) أي : البيت المطهر ، أو المكان الذي يُتَطهَّر به من الذنوب .
وقال الفراء : الأرض المقدسة الطاهرة ، وهي دمشق وفلسطين وبعض الأردن ، و(( روح القدس )) هو جبريل عليه السلام معناه روح الطهارة ، أي : خُلِقَ من الطهارة .
وقيل : لأنه ينزل بالقُدْس من الله ، أي : بما يُطَهِّر به نفوسنا وهو القرآن ، والحكمة ، والفيض الإلهي .
المعنى الثاني : أنَّ القدس : هي البركة ، والأرض المقدسة أي : المباركة ، وهو قول قتادة ، وإليه ذهب ابن الأعرابي ، ويقويه أن اللَّه تعالى قد بيَّن أن الأرض المقدسة مباركة ، وذلك في قوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] ، وهي الأرض المقدسة.
(( والقُدُّوس )) على وزن : (( فعول )) بالضم من أبنية المبالغة([1]).
الدليل الشرعي :
وقد ورد في القرآن والسُّنة ، أما في القرآن فقد جاء في موضعين :
الأول : في سورة الحشر في قوله تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ } [ الحشر : 23 ] .
الثاني : في مطلع سورة الجمعة وهو قوله تعالى : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ الجمعة : 1 ] .
معنى الاسم في حق الله تعالى :
قال ابن القيم : (( القدوس )) : المُنَزَّه من كل شر ونقص وعيب ، كما قال أهل التفسير هو الطاهر من كلِّ عيب ، المُنَزَّه عمَّا لا يليق به([2]) .
وقال ابن جرير في قوله تعالى : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [ البقرة : 30 ]، {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } : ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك ونصلي لك ، {وَنُقَدِّسُ لَكَ} : ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك ))([3]) . اهـ .
وقال البيهقي : (( القدوس )) هو الطاهر من العيوب المنزه عن الأولاد والأنداد ، وهذه صفة يستحقها بذاته([4]) .
وقال الغزالي : هو المنزه عن كل وصف يدركه حسٌّ ، أو يتصوره خيال ، أو يسبق إليه وهم ، أو يختلج به ضمير ، أو يقضى به تفكير([5]) .
وقال ابن كثير في معنى القدوس : أي المنزه عن النقائص الموصوف بصفات الكمال([6]) .
وقال الألوسي : (( القدوس )) البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانًا أو الذي له الكمال في كل وصف اختص به ، أو الذي لا يحد ولا يتصور([7]) .
وقال ابن القيم في النونية :
هذا ومن أوصافه القدوس ذا الـ
تنزيه بالتعظيم للرحمـن
* * *
من آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم
1- القدسية التامة لله من جميع الوجوه :
فهو القدوس في أسماء وصفاته وأفعاله ، فأسماؤه كلها حُسنى لا شرّ فيها وصفاته كلها عليا لا نقص فيها وأفعاله كلها حكمة وعزة لا خلل فيها . فإن الله تبارك وتعالى هو القدوس من كل النقائص والعيوب منزه عن كل الآفات ، فمن ذلك على سبيل المثال :
أولاً : تقدَّس أن يكون له شريك :
قال تعالى : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } [ البقرة : 255 ] ، وقال تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }.
ثانيًا : تقدَّس أن يكون له زوجة أو ولد :
أخبر تعالى عن الجن أنهم قالوا : { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا } [ الجن : 3 ] .
وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } .
ثالثًا : تقدَّس عن الموت ، والنوم :
قال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ } . وقال تعالى : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ))([8]).
* * *
رابعًا : تقدَّس عن الظلم :
قال تعالى في الحديث القدسي : (( يا عبادي ، إني حرمتُ الظلم على نفسي وجعلتُه بينكم محرمًا فلا تظالموا ))([9]) .
وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } . وذلك مع قدرته على خلقه فهو خالقهم ومالكهم ، ولذلك فقد ورد اسم (( القدوس )) مرتين في القرآن اقترن فيهما باسمه الملك جل جلاله .
خامسًا : تقدَّس عن الكذب :
فقوله الصدق وخبره الحق ، قال سبحانه : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } [ النساء : 87 ] ، وقال تعالى : { وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } [ النساء : 122 ] .
سادسًا : تقدَّس عن الضلال والنسيان :
أخبر تعالى عن نبيه موسى أنه قال : { لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى } [ طه : 52 ].
سابعًا : تقدَّس عن الفقر والبخل - جل جلاله وتقدست أسماؤه :
قال تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } .
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سَحَّاء الليل والنهار ، وقال أرأيتم ما أنفق منذ خلق الله السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يده ))([10]) .
ثامنًا : تقدَّس عن الفناء :
قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } [ الرحمن : 26، 27 ] .
تاسعًا : تقدَّس عن الشبيه والمثيل :
قال تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] ، فلم يُقدِّس اللهَ من شبهه بخلقه أو نفي عنه أسماءه وصفاته فكلاهما على ضلال مبين.
ولو استقصينا أوجه التقديس لله عز وجل ما استطعنا أبدًا ولا أحصيناها؛ لأنها لا نهاية لها وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا أُحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك )) ([11]).
2- ليس كمثله شيء في قدسيته :
فسبحان الله الملك القدوس عن كل نقص وعيب ، ومن قدسيته أنه ليس كمثله شيءٌ فيها ، وذلك لأسباب كثيرة منها .
أولاً : قدسية الله تامة وكاملة ، وقدسية الخلق ناقصة :
فإن قدسية الخلق وطهارتهم إنما تكون في حالٍ دون حال ، وفي جهة دون أخرى ، وعلى كل حال ومهما بلغت درجة كمال المخلوق ، فهي قدسية تناسب المخلوق الضعيف الناقص .
فقد يتطهر العبد وقت العبادة في الصلاة أو غيرها ولكنه لا يملك هذا في جماعه لزوجته أو حال قضائه لحاجته .
وقد يطهر نفسه بالطاعة والعبادة ولكنه يتدنس مرة أخرى بالمعصية والذنوب ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( كل ابن آدم خطائين وخير الخطائين التوابون ))([12]) .
وقد يقدس العبد نفسه بألا يذلها للناس ويتعفف عما في أيديهم ، ولكنه سيظل دائمًا أبدًا محتاجًا إلى الله فقيرًا لغناه ذليلاً لعزته .
أما الله جل جلاله فهو القدوس من جميع الوجوه منزه عن كل نقص من جميع الجهات مُبرأ من كل عيبٍ .
ثانيًا : قدسية الله دائمة ، وقدسية الخلق مؤقتة :
فقدسية الخلق لها بداية ولها نهاية فوجودهم سبقه العدم ، ويلحقه الفناء ، قال تعالى : { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } [ الإنسان : 1 ] ، وقال تعالى لنبيه زكرياء : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } [ مريم : 9 ] .
فقد سَبق قدسيةَ الخلق عدمُهم ، وقد كان قبل كمالهم نقصُهم ويلحق بكل ذلك فناؤهم فقدسية الخلق محدودة بالوقت والحال .
فعن ميسر بن جحاش القرشي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بزق يومًا في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال : (( قال الله تعالى : يا ابن آدم ، أنَّى تُعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعَدَلْتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التَّراقي قلت : أتصدق وأنَّى أوان الصدقة ))([13]) .
ويُروَى أن أحد الملوك كان ماشيًا في موكبه فرأى رجلاً جالسًا تحت شجرة ، فلما مرَّ عليه لم يقم الرجل ولم يعظمه ، فقال له أو لا تعرفني ؟ قال : بل أعرفك : (( أوَّلُك نطفة قذرة ، وآخرك جيفة مزرة ، وأنت بين ذلك تحمل في بطنك العذرة([14]) )) .
أمَّا قدسية الله جل جلاله فهي قدسية دائمة فلم يسبق وجودها عدم ، ولا دنس ولا يلحقها نقص ولا خلل وليس لها نهاية ولا فناء .
2- التقديس الحق لله تبارك وتعالى يكون بشرعه :
كما قال تعالى عن الملائكة في قولهم : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [ البقرة : 30 ] ، فالتقديس لله وتقديس الله بمعنى واحد ، وأفضل ما يمكن تقديس الله به هو عبادته بما جاء في شرعه من كتابه وسنة رسوله بالعقائد الصحيحة والأقوال الطيبة والأعمال الصالحة ، وهذا ما ارتضاه الله لنفسه من خلقه ، ومن ذلك :
1- تقديس الله بالتوحيد والإيمان الصحيح :
فأعظم ما يُقَدِّس العبادُ به ربهم هو الإيمان والتوحيد ونفي الشركاء عنه والأنداد وتنزيهه عن كل نقص وعيبٍ نسبه إليه الكافرون والمشركون ، لذلك حين سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعظم الذنوب قال : (( أن تجعل للَّه ندًا وهو خلقك ))([15]) ، ولأن الشرك هو أعظم السبِّ لله جل جلاله وتقدست أسماؤه فقد قال تعالى في الحديث القدسي : (( كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي ، فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أولُ الخلق بأهون عليَّ من إعادته وأما شتمه إياي ، فقوله : اتخذ الله ولدًا ، وأنا الأحدُ الصمد ، لم ألد ولم أولد ، ولم يكن لي كفوًا أحد ))([16]).
ومن أجل ذلك كان أعظم الأعمال وأفضلها هو الإيمان بالله .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل أيُّ العمل أفضل ؟ فقال : (( إيمانٌ بالله ورسوله ... ))([17]) .
2- تقديس الله بالقلوب :
فإن اللَّه ينظر إلى القلوب فلا بد من تطهيرها لتليق بنظر اللَّه إليها ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن اللَّه لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ))([18]) .
وفي رواية لمسلم أيضًا زاد فيها : (( ... وأعمالكم )) .
فمن ذلك حسنُ الظن بالله تعالى وحبُّه وخشيتُه والتوكل عليه وحب النبي صلى الله عليه وسلم وحب المؤمنين في الله تبارك وتعالى وتطهير القلوب من النفاق والرياء والشهوات المحرمة ليسلم القلب لتقديس الله عز وجل ، فقد قال الله تعالى : { يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } .
3- تقديس الله بالأعمال :
كالطهارة : وهي تقديس البدن ليليق بعبادة الله وتلاوة كلامه المقدَّس والوقوف بين يديه في الصلاة .
والصلاة : فإن العبد يقدس الله فيها بالتسبيح والتكبير والتعظيم ، وكذلك بالركوع والسجود . ولذلك فإن الصلاة تطهر العبد من دنس المعاصي والذنوب من جهتين :
الأولى : أنها سبب لطهارته من ذنوبه السابقة . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء )) . قالوا : لا يبقى من درنه . قال : (( فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ))([19]) .
الثانية : النهي عن الخبائث فيما يعرض له . قال تعالى : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] .
والزكاة : بأن يطيب ما ينفق في سبيل الله ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا ))([20]) .
وهي كذلك تطهير للنفس من الخبائث ، قال تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] .
وقد كانت عائشة رضي الله عنها تطيب الصدقة وتعطرها قبل أن تعطيها السائل وتقول : (( إنها لتقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل )) .
دعاء الله باسمه القدوس :
1- فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم الاسم في ركوعه وسجوده ، وهو دعاء ثناء وحمد .
فعن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده : (( سُبُّوح قدوسٌ رب الملائكة والروح ))([21]) .
2- ذكر الله وتسبيحه به بعد الوتر :
فقد كان النبيُّ يسبح اللهَ به بعد فراغه من صلاة الوتر كما جاء في حديث أُبي بن كعب قال : (( كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى ، وقل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد ، فإذا سلم قال : سبحان الملك القدوس ثلاث مرات ))([22]) .
([1]) من كتاب (( النهج الأسمى )) ، وقد عزاه إلى النهاية لابن الأثير (5/23) ، واللسان (5/3549) ، (( أسماء الله الحسنى )) (ص30) ، (( شأن الدعاء )) ( ص 40) .
([2]) كتاب الأسماء الحسنى من مؤلفات ابن القيم ( ص 103) .
([3]) (( جامع البيان )) (1/167) من كتاب النهج الأسمى ص 110 .
([4]) الاعتقاد للبيهقي ( ص 54) ، وانظر كذلك : (( النهاية )) لابن الأثير (4/23) ، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ( ص 186) .
([5]) المقصد الأسنى ( ص 38) .
([6]) تفسير ابن كثير (4/363) .
([7]) روح المعاني (28/62) .
([8]) رواه أحمد (4/405) ، ومسلم (1/179) .
([9]) صحيح : أخرجه مسلم ( ج 4 - البر والصلة /55) ، ( ج 4 - ص 1994) ، والبخاري في الأدب المفرد (490) ، والحاكم ( ج 4 ص 241) ، والبيهقي ( ج 6 ص 93) .
([10]) رواه البخاري ، كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى : (( لما خلقت بيدي )) ( رقم الحديث 7411) (13/393) مع الفتح .
([11]) رواه مسلم - كتاب الصلاة - باب يقال في الركوع والسجود .
([12]) حسنه الألباني في مشكاة المصابيح (2341) .
([13]) حسن ، المسند (4/210) ، وأخرجه من أربعة طرق عن حريز عن عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بسر بن جحاش القرشي به ، وأخرجه ابن ماجه (2/2707) ، وقال البوصيري في (( الزوائد )) : إسناده صحيح .
والوئيد : صوت شدة الوطء على الأرض ، والتراقي : عظام بين ثغرة النحر والعاتق .
([14]) العذرة : أي البراز .
([15]) رواه البخاري ، وأحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه .
([16]) صحيح ، أخرجه البخاري في صحيحه (8/4974) .
([17]) رواه البخاري في صحيحه (1/77) مع الفتح كتاب الإيمان - باب من قال إن الإيمان هو العمل - رقم الحديث (26) .
([18]) رواه مسلم .
([19]) متفق عليه . والدرن : الوَسَخ .
([20]) رواه مسلم .
([21]) أخرجه مسلم (487) كتاب الصلاة - باب ما يقول في الركوع والسجود .
([22]) إسناده صحيح . أخرجه الإمام أحمد (5/123) ، وأبو داود (1430) ، والنسائي في الوتر (3/244) ، وابن أبي شيبة في المصنف (9762) عن طلحة الأيامي عن زر عن سعيد بن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه عن أُبى بن كعب مرفوعًا به .
========
========
(( الملك ، المالك ، المليك )) جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه
المُلْكُ : هو التصرف بالأمر والنهي في الجمهور ، وذلك يختص بسياسة الناطقين ، ولهذا يقال : مَلِكُ الناس ، ولا يقال : مَلِكُ الأشياء .
و(( المَلْك )) ، و(( المَلِك )) ، و(( المَليك )) ، و(( المالك )) : ذو الملك .
والمُلْكُ الحقُّ الدائم لله .. والملكوت : مختص بمِلْكِ الله تعالى وهو مصدر مَلَكَ أدخلت فيه التاء ، نحو : رحموت ، ورهبوت ، قال تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } [ الأنعام : 75 ] ، والمملكة : سلطان المَلِكِ وبقاعه التي يتملَّكها .
وملاك الأمر : ما يُعْتَمد عليه منه ، وقيل : القلب ملاك الجسد . والمِلاكُ : التزويج ، وأمْلَكُوه : زَوَّجُوه ، شُبِّه الزوج بملكٍ عليها في سياستها ، وبهذا النظر قيل : كاد العروس أن يكون مَلِكًا([1]) .
قال ابن سيده : المَلْك ، والمُلك ، والمِلْك : احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به .
وتملكه : أي ملكه قهرًا أو أملكه الشيء وملَّكه إياه تمليكًا جعله ملكًا له .
الدليل على ورود هذه الأسماء الكريمة :
أما اسم الله الملك ، فقد جاء في القرآن عدة مرات ؛ منها قوله تعالى : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } [ طه : 114 ] ، وقوله تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ } [ الحشر : 23 ] .
وأما اسم المليك فلم يرد إلا مرة واحدة في قوله تعالى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } [ القمر : 54- 55 ] .
وقد جاء اسم (( المالك )) في الحديث الشريف . عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : (( لا مالك إلا اللَّه ))([2]) .
المعنى في حق اللَّه عز وجل :
قال الزجاج : وقال أصحاب المعاني : الملك ، النافذ الأمر في ملكه إذ ليس كل مالك ينفذ أمره أو تصرفه فيما يملكه ، فالملك أعمُّ من المالك ، واللَّه تعالى مالك المالِكين كلِّهم ، وإنما استفادوا التصرف في أملاكهم من جهته تعالى([3]) .
قال الخطابي : الملك : هو التام الملك الجامع لأصناف المملوكات ، فأما المالك : فهو خاص الملك([4]) .
وقال الليث : الملك هو اللَّه - تعالى وتقدس - ملك الملوك له الملك وهو مالك يوم الدين([5]) .
وقال ابن جرير : الملك الذي لا ملك فوقه ولا شيء إلا تحت سلطانه([6]).
وقال ابن كثير : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ } [ الحشر : 23 ] أي : المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة([7]) .
قال ابن القيم رحمه اللَّه : الملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي فيتصرَّف في خلقه بقوله وأمره ، وهذا هو الفرق بين الملك والمالك ؛ إذ المالك هو المتصرِّف بفعله ، والملك هو المتصرِّف بفعله وأمره ، والرب تعالى مالك الملك فهو المتصرِّف بفعله وأمره([8]) .
من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين
1- لا ملك إلا الله :
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا ملك إلا الله ))([9]) .
وقال تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 26 ] . ولا يمتلك أحدٌ شيئًا إلا من بعد إذنه .
قال تعالى : { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 247 ] .
2- فعَّال لما يريد :
1- قال ابن القيم : الملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي فيتصَّرف في خلقه بقوله وأمره([10]) .
قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ].
فالملك الحق هو اللَّه جل جلاله ، فكل شيءٍ تحت قهره ويحدث بقَدَرِه ويتحرك بأمره كما جاء في الحديث القدسي أن أبا ذر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : (( أفعل ما أريد ، عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري بشيءٍ إذا أردته أن أقول له كن فيكون )) ([11]) . فقد ملك اللَّه كل شيءٍ بأمره ونهيه وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك :
1- في خلق السماوات والأرض :
عن ابن ..... رضي الله عنهما في قوله تعالى : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . قال للسماء : (( أخرجي شمسك وقمرك ونجومك )) ، وقال للأرض : (( شقِّقي أنهارَك وأخرجي ثمارك )) . فقالتا : أتينا طائعين([12]) .
2- في خلق آدم وذريته :
قال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران ] .
3- في نجاة إبراهيم عليه السلام من النار :
فعندما كسَّر الأصنام التي تُعبد من دون الله أراد قومه أن يحرقوه ، فلما ألقوه في النار ما بعث الله ريحًا لتطفئها ولا ماءً ليخمدها ولا ملكًا ليُخرج إبراهيم ، إنما تكلم بكلمة إلى النار فخضعت لأمر الملك الجبار ، قال تعالى : { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [ الأنبياء : 69 ] .
4- في عقوبة أصحاب السبت :
لما اعتدى أصحاب السبت واحتالوا على أمر الله فاصطادوا يوم السبت عاقبهم الله ولكن بِمَ عاقبهم ؟ عاقبهم بكلمة منه ، كلمة غيرت حياتهم وصورتهم وآخرتهم إلى أبشع حال ، فأما صورتهم فتحولت إلى صورة القرود ونهايتهم في جنهم وبئس الورد المورود ، وذلك جزاء ناقض العهود ، إنهم اليهود ، قال تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 65، 66 ] .
وقال تعالى : { فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ الأعراف : 166 ] .
سبحان الملك ، بكلمة منه أصبحوا قردة ، فإن الأجساد ملك لله فهو خالقها ومدبرها ورازقها وملكها وهي تدين له بالولاء والطاعة كبقية مخلوقات الله ، فعندما قال لهم : كونوا قردة استقبلت أجسامهم الأمر فأصبحت أجسام قردة واستقبلت أيديهم وأرجلهم الأمر فأصبحت أيدي وأرجل قردة ، بل وقلوبهم أصبحت قلوب قردة ، كما قال مجاهد .
سبحان الله ، أجسامهم بين أيديهم وقلوبهم في أجوافهم ولا يملكون منها مثقال ذرة ويملكها الله عز وجل من فوق سبع سموات بكلمة واحدة ، { فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
3- ذُلَّ الملوك بين يدي ملك الملوك جل جلاله وتقدست أسماؤه :
فإن ملوك الأرض قد أختصوا في الدنيا بالعزة والمنعة والسلطان والقوة وهذه نعمة من الله عليهم فمن شكرها فقد فاز ومن كفر تلك النعمة ولم يؤد شكر هذه الخصوصية اختصه الله بعذابٍ من عنده ، والجزاء من الجنس العمل ، فمن ذلك .
1- غَلْقُ أبواب السماء دون حاجتهم :
فإن اللَّه عز وجل قد جمع لهم أسباب الحكم والعطاء وجعل بيدهم خزائن الأرض فمن حجبها عن الضعفاء والمساكين حجب الله عنه ما ينفعه وعطل عليه حاجته .
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما من إمام أو والٍ يغلقُ بابه دون ذوي الحاجة والخلة ، والمسكنة ، إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته ، وحاجته ومسكنته ))([13]) .
2- احتجاب الله عنهم يوم القيامة :
فمن ملك من أمر الناس شيئًا تَطَلَّعوا إليه ورجوا ما عنده فإن حجب نفسه عنهم وحرمهم مما يرجون احتجب اللهُ عنه يوم القيامة وحرمه مما يرجو من النجاة .
فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : (( من ولي من أمور المسلمين شيئًا فاحتجب دون خلتهم ، وحاجتهم ، وفقرهم ، وفاقتهم ، احتجب الله عنه يوم القيامة دون خلته وحاجته ، وفاقته ، وفقره ))([14]) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولا ينظر إليهم ، ولهم عذاب أليم : شيخ زانٍ ، وملك كذَّاب ، وعائل مستكبر ))([15]) .
3- يأتي الملوك إلى الله مغلولة أيديهم إلى أعناقهم :
فكما كانوا أحرارًا طلقاءً في الأرض لا يسئلهم أحدٌ من الخلق ولا يتقيدون في حركتهم كبقية الرعية فإنهم يأتون يوم القيامة مغلولين إلى الله عز وجل .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى اللَّهَ مغلولة يده إلى عنقه ، فكَّه بره أو أوثقه إثمه ، أولها ملامة ، وأوسطها ندامة ، وآخرها خزيٌ يوم القيامة ))([16]) .
4- ويُحْرمون من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم :
فكما أن الظلمة من ملوك الأرض ظلموا الناس حقوقهم ، ولم يعدلوا فيهم بشرع الله ولم يَشفع عندهم ضعف الرعية ومسكنتهم فإنهم يُحْرَمُون من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم .
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( صنفان من أُمتي لن تنالهما شفاعتي : إمام ظلوم غشوم ، وكل غالٍ مارق )) ([17]) .
5- لا يدخلون الجنة :
فكما أن الأمن والعدل يكون نعيمًا للضعفاء والمساكين ، بل ولكل الرعية وقد حرمهم منهم الملك الظالم وغشهم وضيع مصالحهم فإنه يُحرم من دخول الجنة .
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما من عبد يسترعيه الله رعية ، يموت يوم يموت ، وهو غاش لرعيته ، إلا حرَّم الله عليه الجنة ))([18]) .
6- وهم أشد الناس عذابًا :
فإن أشد الظلم ما كان من ولي الأمر وأعظم الألم من الجور هو ألم تعذيبه لما له من قوة وما عنده من سلطان ، فإن عذَّب الناس لا يجدون من بطشه مفرًا إلا إلى الله ، ولذلك فإن الظالم من الملوك لن يجد مفرًّا من النار . فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أيما راعٍ استرعى رَعِيَّة فَغَشَّها فهو في النار ))([19]) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أشد الناس يوم القيامة عذابًا إمام جائر )) ([20]) .
وعن حذيفة رضي اللَّه عنه : (( يؤتى بالولاة يوم القيامة عادِلِهمْ وجائِرِهِمْ ، حتى يقفوا على جسر جهنم ، فيقول اللَّه عز وجل : فيكم طلبتي ، فلا يبقى جائرٌ في حكمه ، مُرتشٍ في قضائه ، مميلٌ سَمْعَه أحدَ الخصمين إلا هوى في النار سبعين خريفًا ، ويؤتى بالرجل الذي ضرب فوق الحد فيقول اللَّه : لم ضربت فوق ما أمرتك ؟ فيقول : يا رب ، غضبت لك . فيقول : أكان لغضبك أن يكون أشد من غضبي ؟! ويُؤْتى بالذي قصَّرَ فيقول : عبدي لِمَ قصرت ؟ فيقول : رحمته ، فيقول : أكان لرحمتك أن تكون أشدَّ من رحمتي ؟! ))([21]) .
4- لمن الملك اليوم ؟
قال تعالى : { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] ، وهو يوم القيامة الذي يزول فيه كل مالك ومملوك إلا ملك الملوك جلَّ جلاله . قال تعالى : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } [ الفرقان : 26 ] .
وعن سهل بن سعد قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( يُحْشَرُ الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقىِّ ، ليس فيها عَلَمٌ لأحد ))([22]) ، ليس عليها مملكة لملك ، ولا سلطنة لذي سلطان ، ولا قوة لحاكم ، ولا حكم لقاضي ، ولا قدرة لوالي ، ليس على الأرض معلم لذي عرش ولا تاجٍ ولا صولجان ، و{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } .
وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ، ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض )) ([23]) .
فقد ذهب الملوك وما ملكوا ، وقد فني الحُكَّام ، وما حكموا ، فقد هلك كسرى وقيصر ، وذي يزنٍ ، وساسان ، و{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } .
ولله درُّ القائل :
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان
فلا يُغرَّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ
من سرَّه زمن ساءته أزمان
وعالم الكون لا تبقى محاسنه
ولا يدوم على حالٍ لها شان
أين الملوك ذوُو التيجان من يمنٍ
وأين منهم أكاليل وتيجان
وأين ما شاده شدَّاد من إرمٍ
وأين ما ساسه في الفرس ساسان
وأين ما حازه قارون من ذهب
وأين عادٌ وشدادٌ وقحطان
أتى على الكل أمرٌ لا مَرَدَّ له
قَضَوْا فكأن الكل ما كانوا
وصار ما كان من مُلكٍ ومِنْ مَلِكٍ
كما حكى عن خيال الطيف وسنان
دار الزمان على (( دَارَا )) وقائله
وأَمَّ كسرى فما آواه إيوان
كأن الصعب لم يسهل له سبب
يومًا ولم يملك الدنيا سليمان([24])
{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ }
5- النهي عن التسمية بملك الملوك :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أخنع اسمٍ عند اللَّه )) . وقال سفيان غير مرة : أخنع الأسماء عند الله (( رجل تسمى بملك الأملاك )) . وفي رواية : (( أخنى الأسماء يوم القيامة عند اللَّه رجل تسمى بملك الأملاك ))([25]) .
قال سفيان : مثل شاهان شاه : أي ملك الملوك باللغة الفارسية .
فنبه سفيان على أن الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في ملك الأملاك بل كل ما أدَّى معناه بأي لسان كان فهو مراد بالذم([26]) .
ومعنى أخنع : أي أوضع اسم وأذله قال أبو عبيد : الخانع الذليل وخنع الرجل ذلَّ .
قال ابن بطال : وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذُلاً حتى أخنى : أي أفحش اسم من الخنا وهو الفحش في القول .
وجاء في رواية مسلم : (( أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه )) .
قال ابن حجر : واستدل بهذا الحديث على تحريم التسمي بهذا الاسم لورود الوعيد الشديد ، ويلتحق به ما في معناه مثل خالق الخلق وأحكم الحاكمين وسلطان السلاطين وأمير الأمراء([27]) .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أيضًا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك لا ملك إلا الله ))([28]) .
6- التواضع :
فإن من عرف أن اللَّه هو الملك الحق ، فلا بد له من أن يتواضع ولا يرفع نفسه فوق منزلة العبيد حتى لو كان من الملوك فإنه لا يعدو كونه عبدًا فقيرًا يقع تحت قهر الله وسلطانه .
عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ، أين المتكبرون ... ))([29]) . فبماذا يجيب الجبارون والمتكبرون بعد هذا النداء ؟ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعًا لربه ، ومن أجل ذلك اختار أن يكون عبدًا رسولاً وأبى أن يكون ملكًا نبيًا .
عن أبي هريرة قال : جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنظر إلى السماء ، فإذا مَلَك ينزل ، فقال جبريل : (( إن هذا الملك ما نزل منذُ يوم خُلِقَ قبل الساعة ، فلما نزل ، قال : يا محمد ، أرسلني إليك ربك ، قال : أفَمَلِكًا نبيًا يجعلُك أو عبدًا رسولاً ؟ قال جبريل : تواضع لربك يا محمد ، قال : بل عبدًا رسولاً ))([30]) .
وقالت عائشة رضي الله عنها : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئًا يقول : (( آكل كما يأكل العبدُ ، وأجلس كما يجلس العبدُ ))([31]) .
7- لكل ملك حِمَى :
فإياك ومعصية اللَّه عزَّ وجلَّ فإنها منطقة خَطيرة ، وبقعة وَعِرة ، فمن ارتكب شيئًا من محارم اللَّه فقد تعدى حدَّه وعرَّض نفسه لعقوبة الملك ، فمن أراد لنفسه النجاة فليتقى عقوبة الملك باجتناب محارمه .
فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : معت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الحلال بَيِّـنٌ وإن الحرامَ بَيِّـنٌ ، وبينهما مشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس ، فمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحِمَى يُوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملكٍ حِمَى ، ألا وإن حِمَى اللَّه محارمه ... ))([32]).
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتركون ثلاثة أرباع الحلال خشية الحرام ، وكان ابن ععمر يقول : (( أُحب أن أجعل بيني وبين الحرام حائلاً من الحلال )) ، وجاء في بعض الحديث : (( لن يبلغ العبد أن يكون تقيًا حتى يدع ما لا بأس به خشية مما به بأس )) .
8- ليس كمثله شيء في ملكه :
أولاً : ملك الخلق سببي وملك الله ذاتي :
فإن الخلق لا يكونوا ملوكًا إلا بأسباب الملك ، فلا بد له من مملكة يملكها أو ناس يحكمهم ، ولا بد له كذلك من أعوانٍ على ملكه ، فلا بد له من بطانة تحميه ، ووزراء يُشاورهم ، وجنود ينفِّذون أمره على الرعية ، فملوك الخلق يحتاجون إلى ملكهم .
أمَّا اللَّه عزَّ وجل ، فإن ملكه ذاتي لا يحتاج سماوات ولا أرض ولا عرض ولا شيءٍ أبدًا ، فهو الملك قبل الخلق ، وهو الملك بعد الخلق ، وهو الملك بدون الخلق ، وكذلك ليس لله وزير ولا نظير ولا بطانة ، حتى جنود الله فإنهم لا يحمونه ولا يملكون له نفعًا ولا ضرًا ، إنما هو الذي بيده النفع والضر وحده وبيده الملك وحده ، والخلق كلهم لله وبالله ويحتاجون إلى الله ولا يحتاج هو إلى أحدٍ منهم .
ملك الخلق فانٍ ، وملك الله باق :
فإن الفناء قد كُتب على المخلوقات ، فإما أن يفنى المُلك بضياعه من يد صاحبه فتُسلب المملكة من صاحبها أو يزول الملوك أنفسهم عن ممالكهم بالمرض ، أو يجور عليهم من هو أشد قوة من الملوك ، أو يموت ويترك ذلك .
أما الله عزَّ وجلَّ فإنه الحي القيوم ، ملكه ثابت ، لا يتغير ، باقٍ لا يفنى ، دائم لا يزول ، فلا يفارقه ملكه ، ولا يزول عنه بجور جائر ولا بظلم ظالم ، قال تعالى : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } ، { وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ } ، فهو صاحب القوة والعظمة والكبرياء ، قال تعالى : { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [ البقرة : 165 ] .
وكذلك لا يفارق هو ملكه بالغياب أو الموت ؛ لذلك انظر إلى الحسرة والألم الذي يحدث للملوك عند تركهم المُلك بل والدنيا وما فيها .
فقد حُكي عن هارون الرشيد أنه انتقى أكفانه بيده عند الموت ، وكان ينظر إليها ويقول : { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } [ الحاقة : 28، 29 ] .
ورُوي عن المأمون أنه افترش رمادًا واضجع عليه وقال : (( يا من لا يزول ملكه ، ارحم من زال ملكه ، ويا من لا يموت ارحم من يموت )) .
هذا ما يساويه الملك في الدنيا :
سأل هارون الرشيد بعض العلماء أن ينصحه فقال له : يا أمير المؤمنين ، إذا عطشت وحُبِس عنك الماءُ فكم تساوي شربة الماء عندك ؟ فقال هارون الرشيد : نصف ملكي ، فقال له : وإذا شربتها وحُبِسَت في جسدك فكم يساوي إخراجها ؟ قال : النصف الآخر من ملكي . قال : يا أمير المؤمنين ، اتقي اللَّه في ملك نصفه شربة ماء والنصف الآخر إخراجها . فبكى هارون الرشيد .
9- دعاء اللَّه بهذه الأسماء الكريمة :
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من قال : لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على شيء كل شيءٍ قدير في يوم مائة مرة كانت له عِدلُ عشرِ رقاب([33]) وكُتِبَتْ له مائة حسنة ، ومُحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رَجُلٌ عمل أكثر منه ))([34]) .
2- وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من قال : لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات ، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل ))([35]) .
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( قال اللَّه تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله ربِّ العالمين . قال اللَّه تعالى : حمدني عبدي . وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال اللَّه تعالى : أثنى عليَّ عبدي. وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجدني عبدي )) . وقال مرة : (( فوض إليَّ عبدي ))([36]) .
([1]) المفردات للراغب ( ص 472) .
([2]) رواه مسلم .
([3]) تفسير أسماء الله الحنى ( ص 30) .
([4]) شأن الدعاء ( ص 40 ) .
([5]) اللسان (6/4266) .
([6]) جامع البيان (28/36) بتصرف .
([7]) تفسير ابن كثير (4/343) .
([8]) بدائع الفوائد (4/165) .
([9]) رواه مسلم (2143) .
([10]) بدائع الفوائد (4/165) .
([11]) أخرجه الترمذي (4/2495) ، وأحمد (5/77، 154) ، وابن ماجه نحوهما (2/4257) .
([12]) أخرجه الحاكم (ج1 ص 27) وقال : (( تفسير الصحابي عند الشيخين مسند )) .
([13]) صحيح : رواه أحمد في (( مسنده )) ، والترمذي عن عمر بن مرة ، وصححه الألباني في (( صحيح )) رقم (5561) ، و(( الصحيحة )) رقم (630) .
([14]) صحيح : لأبي داود ، وابن ماجه ، والحاكم في (( المستدرك )) عن أبي مريم الأزدي وصححه الألباني في (( صحيح الجامع )) رقم (6471) ، و(( الصحيحة )) رقم (629) .
([15]) صحيح : رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة .
([16]) حسن : أحمد في (( مسنده )) عن أبي أمامة ، وحسنه الألباني في (( صحيح الجامع )) رقم (5594)، و(( الصحيحة )) رقم (348) .
([17]) حسن : الطبراني في (( الكبير )) عن أبي أمامة ، وحسنه الألباني في (( صحيح الجامع )) رقم (3692) ، و(( الصحيحة )) رقم (470) .
([18]) صحيح : رواه البخاري ومسلم عن معقل بن يسار .
([19]) صحيح : رواه ابن عساكر عن معقل بن يسار ، وصححه الألباني في (( صحيح الجامع )) رقم (2710) ، و(( الصحيحة )) رقم (1754) .
([20]) حسن : رواه أبو يعلى في (( مسنده )) ، والطبراني في (( الأوسط )) ، وأبو نعيم في (( الحلية )) عن أبي سعيد وحسنه الألباني في (( صحيح الجامع )) رقم (1012) .
([21]) حسن لغيره . أخرجه أبو يعلى كما في كنز العمال (ج6/14769) .
([22]) رواه البخاري (13/372) الرقاق ، ومسلم (17/134) صفة القيامة واللفظ له ، والعَلَمُ : أي ليس بها علامة سكنى أو بناء ولا أثر .
([23]) أخرجه البخاري (4812، 6519) ، ومسلم (17/131) صفة القيامة .
([24]) شعر لأبي البقاء الرندي الأندلسي من قصيدته في (( رثاء الأندلس )) ، وقد حذفت البيت الرابع والخامس حتى لا أطيل على القارئ وهما :
4- يمـزق الدهـر حتما كل سابغـة إذا نبت مشـرفيـات وخرصـان
5- وتنتفي كل سيف للفنـاء ولـو كان ابن ذي يزنٍ والغمد غمـدان
([25]) رواه البخاري (10/6205، 6206) ، ومسلم (1243/21) .
([26]) فتح الباري (10/590) باختصار ، بأي لسان : أي بأي لغة .
([27]) المصدر السابق .
([28]) أخرجه أحمد (2/492) .
([29]) رواه مسلم .
([30]) صحيح : أخرجه أحمد ( ج 2 ص 231) .
([31]) صحيح لغيره : أخرجه أبو الشيخ في أخلاق النبي (610) ، والبغوي ( ج 13/3683) .
([32]) متفق عليه ، وبقيته : (( ... ألا وإن في الجسد مضغة إذا صَلَحَت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب )) .
([33]) أي في ثواب عتقها .
([34]) متفق عليه .
([35]) متفق عليه .
([36]) صحيح . أخرجه مسلم (ج1 - الصلاة 38) ، وأحمد (ج13/7289) ، والحميدي (ج2/973) ، والبيهقي ( ج 2 ص 38) ، والترمذي (ج 5 /2953) ، وابن ماجه (ج2/3784) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق