9 مصاحف

9 و 12 مصحف

 

Translate

السبت، 22 أبريل 2023

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام د. جواد علي الجزء الثالث

 

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام

د. جواد علي

الجزء الثالث – الفصول 63-136

 

الفصل الثالث والستون انبياء جاهليون    691

الفصل الرا بع والستون اللّه ومصير الإنسان    695

الفصل الخامس والستون الروح والنفس والقول بالدهر 702

الفصل السادس والستون الالهة والتقرب اليها 707

الفصل الثامن والستون رجال الدين   718

الفصل التاسع والستون الاصنام  721

الفصل السبعون أَصنام الكتابات  733

الفصل الحادي والسبعون، شعائر الدين   742

الفصل الثاني والسبعون الحج والعمرة  745

الفصل الثالث والسبعون بيوت العبادة    755

الفصل الرابع والسبعون الكعبة    762

الفصل الخامس والسبعون الحنفاء 766

الفصل السادس والسبعون اليهودية بين العرب 779

الفصل السابع والسبعون اليهود والأسلام  786

الفصل الثامن والسبعون شعر اليهود  792

الفصل التاسع والسبعون النصرانية بين الجاهليين   795

الفصل الثمانون المذاهب النصرانية 804

الفصل الحادي والثمانون التنظيم الديني 807

الفصل الثاني والثمانون اثر النصرانية في الجاهليين    812

الفصل الثالث والثمانون المجوس والصابئة    817

الفصل الرابع والثمانون تسخير عالم الارواح 820

الفصل الخامس والثمانون في اوابد العرب   830

الفصل السادس والثمانون الطيرة   836

الفصل السابع والثمانون من عادات وأَساطير الجاهليين   840

الفصل الثامن والثمانون أَثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين 844

الفصل التاسع والثمانون الزروع و المزروعات    849

الفصل التسعون الزرع   853

الفصل الحادي والتسعون المحاصيل الزراعية    855

الفصل الثاني والتسعون الشجر   857

الفصل الثالث والتسعون المراعي  863

الفصل الرابع والتسعون الثروة الحيوانية 866

الفصل الخامس والتسعون الارض 870

الفصل السادس والتسعون الارواء    876

الفصل السابع والتسعون معاملات زراعية 889

الفصل الثامن والتسعون الحياة الاقتصادية 891

الفصل التاسع والتسعون ركوب البحر 895

الفصل المئة التجارة البحرية   898

الفصل الواحد بعد المئة تجارة مكة 904

الفصل الثاني بعد المئة القوافل 911

الفصل الثالث بعد المئة طرق الجاهليين    914

الفصل الرابع بعد المئة الاسواق   921

الفصل الخامس بعد المئة البيع والشراء 925

الفصل السادس بعد المئة الشركة  929

الفصل السابع بعد المئة المال   931

الفصل الثامن بعد المئة أصحاب المال   935

الفصل التاسع بعد المئة الطبقة المملوكة 939

الفصل ألعاشر بعد المئة الاتاوة والمكس والاعشار 943

الفصل الحادي عشر بعد المئة النقود   946

الفصل الثاني عشر بعد المئة الصناعة والمعادن والتعدين 950

الفصل الثالث عشر بعد المئة حاصلات طبيعية    954

الفصل الرابع عشر بعد المئة الحرف    957

الفصل الخامس عشر بعد المئة قياس الابعاد والمساحات والكيل    973

الفصل السادس عشر بعد المئة الفن الجاهلي   976

الفصل السابع عشر بعد المئة القصور والمحافل وألاطام   982

الفصل الثامن عشر بعد المئة الخزف والزجاج والبلور   987

الفصل التاسع عشر بعد المئة الفنون الجميلة 988

الفصل العشرون بعد المئة أمية الجاهليين   993

الفصل الحادي والعشرون بعد المئة الخط العربي    1003

الفصل الثاني والعشرون بعد المئة المسند ومشتقاته 1016

الفصل الثالث والعشرون بعد المئة الكتابة و التدوين    1025

الفصل الرابع والعشرون بعد المئة الدراسة والتدريس 1033

الفصل الخامس والعشرون بعد المئة ا لكتاب والعلماء    1038

الفصل السادس والعشرون بعد المئة الفلسفة والحكمة   1043

الفصل السابع والعشرون بعد المئة الأمثال  1047

الفصل الثامن والعشرون بعد المئة القصص 1050

الفصل التاسع والعشرون بعد المئة الطب والبيطرة  1052

الفصل الثلاثون بعد المئة ألهندسة والنوء   1060

الفصل الحادي والثلاثون بعد المئة الوقت و الزمان 1064

الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة الاشهر الحرم 1071

الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة النسيء  1075

الفصل الرابعُ والثلاثون بعد المئة التقاويم والتواريخ  1079

الفصل الخامس والثلاثون بعد المئة اللغات السامية 1082

الفصل السادس والثلاثون بعد المئة العربية لسان آدم في الجنة    1085

=

=

الفصل الثالث والستون

انبياء جاهليون

قال "الجاحظ": وإلمتكلمون لا يؤمنون بهذا، ويزعمون أن خالداً هذا كان أعرابيا وَ برياً، من أهل "شرج" و "ناظرة". ولم يبعث الله نبياً من الأعرأب ولا من الفَدًادين اًهل الوبر، وهم أهل البادية. إنما يبعثهم من أهل لقرى، وسكان المدن.

ويظهر أنه عاش قبيل الإسلام. ففد ذكر أهل الأخبار أن ابنة له قدمت على النبي، فبسط لها رداءه وقالى: هذه ابنة نبي ضيعه قومه. وذكروا أنهْا لماسمعت سورة: )قل هو الله أحد (، قالت: قد كان أبي يتلو هذه السورة. وزعموا أنه هو الذي دعا على العنقاء، فذهبت وانقطع نسلها.

ثم نبيّ اخر اسمه "حنظلة بن صفوان"، كان نبياً بعثه الله اهل الرس، فكذبوه وقتلوه، عاش في أيام "بختنصر"، وقد نسب الى حمير، وقبل إنه كان من أنبياء الفترة تلك، وإنه هو الذيَ دعا على العنقاء، فانقطع نسلها.:ذكر بعض أهل الأخبار أن الله أرسل "حنظلة" إلى أهل عدن ففقتلو5.

وذكر أهل الأخبار اسم نبي ارسل الى أهل "حضور"، اسمه "شعيب بن ذي مهدم". فقتلوه، فاستأصلهم "بختنصر"، وقبره ب "صنين" جبل باليمن.

وذكر أهل الأخبار أن "مسيلمة بن حبيب الحنفي"، كَان ممن ادعى النبوة بمكة قبل الهجرة، وصنع أسجاعا. وكان قد طاف قبل التنبي، في الأسواق التي كانت بين دور العجم والعرب، يلتقون فيها للتسوق والبياعات، كنحو سوق الابلة، وسوق لقه، وسوق الأنبار، وسوق الحيرة. وكان يلتمس تعلم الحبل والنيرّجات، واختبارات النجوم والمتنبئين. وقد كان أحكم حيل السدنة والحُواء وأصحاب الزجر والخط، ومذهب الكاهن والعيلّف والساحر، وصاحب الجن الذي يزعم أن معه تابعه.

وقد احكم من ذلك أموراً. فمن ذلك، أنه صب " على بيضة من خلّ قاطع، حتى لان قشرها، فادخلها في قارورة ضيقة الرأس،وتركها حتى نجت ويسمت، وعادت إلى هيئتها الأولى، فأخرجها إلى "مجاعة بن مرارة بن سلمى الحنقي" لليمامي، وأهل بيته، وهم أعراب، وادعى بها أعجوبة، وانها جعلت له آية، فآمن به من في ذلك المجلس: مجاعة وغيره. ومن ذلك أنه كان قد حمل معه ربشاً في لون ريش أزواج حمام، وقد كان يراهن في منزل مجاعة مقاصيص. فالتفت، بعدان أراهم الاية فيً البيض، إلى الحمام فقال لمجاعة: إلى كم تعذب خلق الله بالقص! ولو أراد الله للطير خلاف الطيران لما خلق لها أجنحة، وقد حرمت علكيم قص أجنحة الحمام ! فقال له مجاعة كالمتعنت: فسل الذي أعطاك في البيض هذه الآية أن ينبت لك جناح هذا الطير الذكر الساعة ? قال مسيلمة: فإن أنا ساًلت الله ذلك، فانتبه له حتى يطير وأنتم ترونه، أتعلمون اني رسول الله اليكم ? قالوا: نعم. قال فإني اريد أن اناجي ربي، وللمناجاة خلوة، فانهضوا عني، وان شئتم فادخلوني هذا البيت وادخلوه معي، حتى أخرجه اليكم الساعة وافي الجناحين يطير. وأنتم ترونه ولم يكن القوم سمعوا بتغريز الحلم، وكانوا بسطاء لا يعرفون حيل المحتالين، فلما خلا بالطائر أخرج الريش الذي قد هيأه، فادخل طرف كل ريشة مما كان معه في جوف ريش الحمام المقصوص، من عند المقطع والقصن. فلما غرز ريشه اخرجه، وأرسله أمامهم من يده فطار، واعتبروا عمله آية.

ثم انه قال لهم: ان الملَك ينزل إليّ، والملائكة تطير وهي ذوات أجنحة، ولمجيء الملك زجل وخشخشة وقعقعة، فمن كان منكم ظاهراً فليدخل منزله، فإنّ من تاًمل اختطف بصره ثم صنع راية من رايات للصبيان للتي تعمل من الورق الصيني، ومن الكاغد، وتجعل لها الأذناب والأجنحة، وتعلق في صدورها الجلاجل، وترسل يوم الريح بالخيوط الطوال الصلاب. ثم أرسلها مع الريح، وهم لا يرون الخيوط، والليل لا يبين عن صورة الرق، وعن دقة الكاغد،فتوهموا أن ذلك الملائكة: وتصارخوا، وصاح: من صرف بصره ودخل بيته فهو آمن ! فاصبح القوم وقد أطبقوا على نصرته والدفع عنه. فهو قوله: ببـيضة قــارورٍ ورايةِ شـــادن  وتوصيل مقصوص من الطير جادف

ونسب بعض أهل الأخبار "مسيلمة" على هذا النحو: "مسيلمة بنُ ثمامة ابن كبير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هفان بن ذهل بن الدول بن حنيفة" و "مسيلمة الكذاب بن حبيب" ثمامة بن كبير، وجعله بعضهم "مسيلمة بن حبيب". وجعلوا كنيته "أبا ثمامة" وقيل "أبا هارون" و "أبو ثمالة". وذكروا أنه كان يسمى ب "الرحمان" قبل مولد "عبد الله" والد رسول الله، "وكانت قريش حين سمعت: بسم الله الرحمن الرحيم، قال قائلم:

دق فوك، إنما تذكر مسيلمة رحمان اليمامة ". وذكروا أنه دعا إلى الرحمان، أي إلى عبادة الرحمان. بينما عرف نفسه ب "الرحمن"، فقيل له: "رحمان اليمامة". وأنه دعا إلى عبادته هذه قبل النبوة، وقد عرف أمره بمكة، فلما نزل الوحي على الرسول، قال أهل مكة إنما أخذ علمه من "رحمان" اليمامةّ. وقالوا له: لا إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن، ولن نؤمن به أبداً ". فأنزل الله سبحانه: )وهم يكفرون بالرحمن. قل: هو ربي(. كان مسيلمة بن حبيب الحنفي، ثم أحد بني الدول قد تسمى بالرحمن في الجاهلية،وكان من المعمرين. ذكر وثيمة بن موسى أن مسيلمة تسمى بالرحمن قبل أن يولد عبد الله ابو رسول الله صل الله عليه وسلم.

قال "الواحدي" في أسباب نزول الاية: "وهم يكفرون بالرحمن. قل لهم اتصال باليمن وباليمامة وبمعظم أنحاء جزيرة العرب. وأرى ان "مسيلمة" كان قد دعا إلى عبادة الرحمن متأثرا ًبدعوة المتعبدين له ممن كان قبله على ما يظهر، وهي عبادة إلهَ اسمه "الرحمن" فعرف مسيلمة ب "الرحمن" وب "رحمن اليمامة". وعبادة الرحمن ديانة متأزرة بفكرة التوحيد، وبوجود إلهَ واحد هو "الرحمن" رب العالمين.

وقد أشير إلى موضع اسمه "وادي ا الرحمن" في الكتاب الذي أعطاه رسول الله الى "يزيد بن المحجل" الحارثي، ورد فيه: "ان لهم غرة ومساقيها ووادي الرحمن من بين غابتها". ولا أستبعد احتمال وجود صلة بين هذه ألتسمية وبين الرحمن الإلهَ.

وقد وصف الرواة "مسيلمة" باًنه "كان قصيراً شديد الصفرة أخنس الأنف أفطس.

ويظهر من غربلة ما ذكره أهل الأخبار عن "مسيلمة" أنه كان أكبر عمرا من الرسول. وأنه كان قد تكهن وتنبأ باليمامهّ ووجد له أتباعا قبل نزول الوحي على النبيّ. وأن أهل مكة كانوا على علم برسالته. ويذكر أهل الأخبار أن "مسيلمة" كان ابن ماثة وخمسين سنة حين قتل. وهو عمر قد بولغ فيه ولا شك، إذ لا يعقل أن يكون في هذه السن يوم قتل، فقد كان فعالاً نشيطاً، نشاطاً لا بمكن أن يظهر إلاّ من رجل قويّ فعال، هو دون المائة.

وكان "مسُيلمة" يدعي أن معه رئياً في أول زمانه، ولذلك قال الشاعر حين وصفه: بيبضة قارور وراية شادن  وخلة جني وتوصيل طائر

وكان "مسيلمة" في. جملة رجال "وفد حنيفة" الذي قصد الرسول، وفيهم "رحال بن عنفوة". لكنه - كما يقول الرواة - لم يذهب مع الوفد إلى الرسول، بل بقي مع رجال الوفد يبصرها لهم. فلما قرروا العودة، بعد أن أسلموا وأعطاهم جوائزهم، قالوا: "يا رسول الله إنا خلفنا صاحباً لنا في رحالنا يبصرها لنا، وفي ركابنا يحفظها علينا، فأمر له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمثل ما أمر به لأصحابه وقال: ليس بشركم مكاناً لحفظه ركابكم ورحالكم، فقيل ذلك لمسيلمة، فقال: عرف أن الأمر لىّ من بعده. فلما عادوا إلى ديارهم، ادعى مسيلمة النبوة، وشهد "رحال بن عنفوة" "الرحال بن عنفوة"، أن رسول الله، أشركه في الأمر، فتبعه الناس. وكان "الرحال" قد تعلم سوراً من القرآن، فنسب إلى "مسيلمة" بعض ما تعلم من القرآن، فكان من أقوى أسباب الفتنة على "بني حنيفة". قتله "زيد بن الخطّاب"، يوم اليمامة.

وذكر "الطبري"، أن "مسيلمة" كان يصانع كل أحد ويتألفه ولا يبالي أن يطلع الناس منه على قبيح. "وكان معه نهار الرجّال بن عنفوة" وكان قد هاجر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وقرأ القرآن، وفقه في الدين، فبعثه معلماً لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة، وليشدد من أمر المسلمين، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، شهد له أنه سمع محمداً، صلى الله عليه وسلم، يقول: إنه قد أشرك معه، فصدقوه واستجابوا له، وأمروه بمكاتبة النبي، صلى الله علبه وسلم، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه، فكان نهار الرجال ابن عنفوة لا يقول شيئاً إلا تابعه عليه ؛ وكان ينتهي إلى أمره. وكان الذي يؤذن له: عبد الله بن النواحة، وكان الذي يقُيم له "حجير ين عمير"، ويشهد له، وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة، قا ل: صرح حجير، فيزيد في صوته، ويبالغ لتّصديق نقسه، وتصديق نهار وتضليل منَ كان قد أسلم، فعظم وقاره في أنفسهم. فجعل "الطبري" اسم مساعد "مسيلمة" "نهار الرجال بن عنفوة"، لا "الرحال ين عنفوة" "رحال بن عنفوة كما في الموارد الأخرى. لكنه عاد فدعاه "الرجال" تارة و "رحال بن عنفوة" تارة أخرى، حينما تكلم عنه وعن.نهايته. وذلك في أيام "أبي بكر"، أي في حوادث السنة الحادية عشرة. وأظن أن مرد هذا الاختلاف لا يعود إلى "الطبري نفسه، بل إلى النساخ والى الطبع.

وقد أورد "الطبري" رواية أخرى في كيفية قدوم "مسيلمة بن حبيب" على رسول الله. فذكر "ان بني حنيفة أتت بمسيلمة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تستره بالثياب، ورسول الله جالس في أصحابه، ومعه عسيب من سعف النخل، في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم،فقال له رسول الله: لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما اعطيتك !. ولم يشر "الطبري" إلى أسماء من جاء معه من وفد بني حنيفة، وقد ذكر بعد هذه الرواية الرواية السابقة التي ذكرناها،دون أن يشير إلى اسماء رجال الوفد. ثم قال بعد ذلك: "ثم انصرفوا عن رسول الله وجاءوا مسيلمة بما أعطاه رسول الله، فلما انتهى إلى اليمامة ارتدّ عدو الله وتنباً وتكذّب لهم، وقال: إني قد أشركت في الأمر معه، وقال لوفده: ألم يقل لكم رسول الله حيث ذكرتموني: أما انه ليس بشرّكم مكاناً ! ما ذلك إلا لما كان يعلم اني قد أشركت معه، ثم جعل يسجع السجعات، ويقول لهم فيما يقول، مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحُبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى. ووضع عنهم الصلاة، وأحلّ لهم الخمر والزنا، ونحو ذلك".

ولا يتفق ما ذكره "الطبري" من وضع "مسيلمة" الصلاة عن أتباعه، مع ما أورده هو من انخاذه مؤذناً يؤذن بين الناس، ومن اتخاذه "مقيماً" يقيم له الصلاة، ئم مع ما ذكره غيره من أنه قلّص الصلوات الخمسة، فجعلها ثلاثة صلوات في اليوم. ولا يوجد دلبل على تحليله الزنا والخمر.

وذكر ان "مسيلمة"، بعد ان عاد إلى قومه كتب كتاباً إلى الرسول فيه :من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد، فإني قد أشركت معك في الأمر، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوماً يعتدون". فكتب اليه رسول الله: "بسم الله الرحمن الرحيم:.من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فالسلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء والعاقبة للمتقين". وقدم بكتاب مسيلمة رجلان، فساًلهما رسول الله عنه فصدّقاه، فقال: أما والله لولا ان الرسل لا تقتل لقتلتكما.

وتذكر رواية أخرى ان مسيلمة قال للرسول يوم وفد عليه مع من وفد من رجال "حنيفة": "إِن شئت خلينا لك الأمر وبايعناك على انه لنا بعدك. فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا ولا نعمة عين ولكن الله لقاتلك". وتذكر رواية أخرى ان "هوذة بن علي الحنفي" صاحب اليمامة. " قد كتب إلى النبي، أن يجعل له الأمر من بعده على من يسلم ويصير اليه "فينصره،فقال رسول الله: لا ولا كرامة اللهم اكفنيه، فمات بعد قليل.

وروي ان رسول اللّه، بعث "حبيب بن زيد بن عاصم" أحد "بني النجار و"عبد الله بن وهب الأسلمي" إلى مسيلمة، فلم يعرض لعبد الله، وقطع يدي حبيب ورجليه.

وذكر ان رسولي مسيلمة اللذين حملا كتابه إلى الرسول، كانا "ابن الفوّ احة و "ابن أثال"، وانهما قالا لرسول الله: نشهد ان مسيلمة رسول إلله. فقال الرسول: لو كنت قاتلاً رسولاَ لقتلتكما. فعادا إلى صاحبهما، وذكر "الطبري" أن "مسيلمة" ضرب حرماً باليمامة، فنهى عنه، وأخذ الناس به، فكان محر ماً، فوقع في ذلك الحرم قُرى الأحاليف، أفخاذ من بني أسيد، كانت دارهم باليمامة فصار مكان دارهم في الحرم"، فصاروا يغيرون على ثمار أهل اليمامة، ويتخذون الحرم دغلاً، فإن نذروا بهم فدخلوه أحجموا عنهم، وإن لم ينذروا بهم فذلك ما يريدرن، فكثر ذلك منهم حتى استعدوا عليهم، فقال: انتظر الذي يأتي من السماء فيكم وفيهم، ثم قال لهم والليل الأطحم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم. فقالوا: أما محرم استحلال الحرم وفساد الأموال ا ثم عادوا للغارة، وعادوا للعدوى. فقال: انتظر الذي يأتيني، فقال: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس. فقالوا: أما النخل مرطبة فقد جدّوها، وأما الجدران يابسة فقد هدموها، فقال اذهبوا وارجعوا فلا حقّ لكم".

وقد أورد أهل الأخبار كلاماً زعموا أن "مسيلمة" نظمه مضاهاة للقرآن. من ذلك قوله: "يا ضفدع نقيّ كم تنقين ! نصفك فْي الماء ونصفك في الطين ! لا الماء تكدرين، ولاَ الشارب تمنعين". "وكان فيما يقرأ لهم فيهم: إن بني تميم قوم طهر لقاح، لا مكروه عليهم ولا إتاوة، نجاورهم ما حيينا بإحسان، نمنعهم من كل إنسان، فإذا متنا فاًمرهم إلى الرحمان". "وكان يقول: والشاة وألوانها، واعجبها السود والبانها، والشاة السوداء واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فمالكم لا تمجعون". "وكان يقول: "يا ضفدع ابنة ضفدع، نقّي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين". "وكان يقول: والمبذّرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، إهالة وسمناً، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه". وذكر بعض أهل الأخبار أن "أبا بكر" لما سأل وفداً من "بني حنيفة" أرسله "خالد" اليه عما كان يقوله لهم: "قالوا: كان يقول يا ضفدع نقي نقي، لا للشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكنّ قريشاً قوم يعتدون".

ويظهر من أسلوب هذه الأيات المنسوبة إلى "مسيلمة"، انها محاكاة ومضاهاة للايات الأولى من القرآن الكريم، الآيات للتي نزلت بمكة في عهد الرسالة الأولى.

وهي بذلك تختلف عن أسلوب الوحي المنزل بعد الهجرة بالمدينة. ولم نجد فيما بقي من كتب أهل الأخبار ما يشير بشيء إلى "قرآن مسيلمة"، أو إلى بقية أخرى منه.

هذا ولا بد لي من التنبيه إلى اننا لا نستطيع التأكيد بان ما نسب إلى مسيلمة من كلام، هو حق وصحيح. فمن الجائز أن يكون قد وضع عليه وضعاً. وقد رأينا كيف انهم اختلفوا في رواية "يا ضفدع" اختلافاً بينا في ضبط العبارات.

وكان الناس يقصدون "مسيلمة" ليسمعوا منه، بعد ان اشتهر امره. وقد تمكن من التاًثير في بعضهم. وكان ممن قصده "المتشمس بن معاوية"، عم "الأحنف بن قيس" الشهير. فلما خرج من عنده قال عنه انه كذاب. وقال عنه "الأحنف"، وقد رآه ايضاً، وقد سئل كيف هو ? ما هو بنبي صادق، ولابمتنبىء حاذق.

وذكر أهل الأخبار ان مسيلمة كان صاحب "نيرجات" و. تمويه واحتيال. يدًعي المعجزات والأيات، وانه أول من أدخل البيضة في القارورة، وأول من وصل جناح الطائر المقصوص، وكان يدّعي ان ظبية تأتيه من الجبل فيحلب لبنها. وقد جربه قوم، فوجدوا آياته "منكوسة. تفل في بئر قوم سألوه ذلك تبركاً، فملح ماؤها. ومسح رأس صبي فقرع قرعاً فاحشاً، ودعا لرجل في ابنين له بالبركة، فرجع إلى منزله، فوجد أحدهما قد سقط في البئر والآخر قد أكله الذئب. ومسح على عيني رجل استشفى بمسحه فابيضت عيناه"، ومسح وجه "أبا بصير"، وهو صبي من "بني يشكر بن وائل"، وكانوا أتوا به "مسيلمة"، فعمي، فكنى "أبا بصير"، وكان يروى عنه. وأتته امرأة من بني حنيفة، تكنى بأم الهيثم، "فقالت: إن نخلنا لسحق وإن آبارنا لجرز، فادع الله لمائنا ولنخلنا، كما دعا محمد لأهل هزمان"، فدعا بسجل، ودعا لهم فيه، ثم تمضمض بفمه منه، ثم مجه فيه، فانطلقوا به حتى فرغوه في تلك الآبار. ثم سقوه نخلهم، فغارت مياه تلك الآبار، وخوى نخلهم. وقد ذكر "الطبري" هذه الملاحظة: "وانما استبان ذلك بعد مهلكه".

وروى " الطبري "، أخبارا أخرى من هذا النوع، ذكر ان " نهاراً" قال له: برك على مولودي حنيفة، فقال له: وما التبريك ? قال: كان أهل الحجاز اذا ولد فيهم المولود أتوا به محمداً فحنّكه ومسح رأسه، فلم يؤت مسيلمة بصبي فحنكه ومسح رأسه إلا قرع ولثغ. وذكر ان "نهاراً" قال له: توضأ واعطِ وضوءك إلى أصحاب الحيطان، أي البساتين كمايفعل محمد، فأعطى أحدهم وضوءه، فسقى به حائطه، فيبست أشجاره، وصارت الأرض يبابأَ لا ينبت مرعاها. وأعطى "مسيلمة" رجلاً سجلاً من ماء، وكانت أرضه سبخة، فأفرغه في بئره، فغرقت أرضه، فما جف ثراها، ولا أدرك ثمرها. وأتته امرأة فاستجلبته إلى نخل لها يدعو لها فيه،فجزت كبائسها يوم عقرباء كلها.

وقد عرف "مسيلمة" بين أتباعه ب "رسول الله"، وكانوا يتعصبون له،ويؤمنون به إيماناً شديداً. وذكر أن "طلحة النميري" جاء إلى اليمامة، فقال: "اين مسيلمة ? قالوا: انه رسول اللّه! فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه. قال: أنت مسيلمة ?قال: نعم. قال: من يأتيك ? قال: رحمن. قال: أفي نور أو في ظلمة ? فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنّك لكذّاب وأن محمداً صادق، ولكن كذّاب ربيعة أسب احب إلينا من صادق مضر "، أو "أنه في قال: كذاب ربيعة أحب اليّ من كذّاب مضر"، فقتل معه" "يوم عقرباء".

ويظهر من بعض ملاحظات "الطبري" عن هذه الأخبار، أنها إنما ظهرت، وقيلت بعد هلاك "مسيلمة ". فقد قال في موضع: " وكانوا قد علموا واستبان لهم، ولكن الشقاء غلب عليهم"، وقال في موضع آخر: "وانما استبان ذلك بعد مهلكه "، و " استبان ذلك بعد مهلكه ". ولهذه الملاحظات أهمية كبيرة بالطبع في تقييم هذه الروايات وصحتها، فالعادة أن من يفشل ويهلك لا سيما اذا كان قد نال حظاً من المكانة والجاه والاسم، يحمل عليه كثيراً، ولا يتورع حتى أصحابه ومن كان يؤمن به من الدس عليه.

واتخذ "مسيلمة" مؤذناً يؤذن له في اتباعه اسمه "حجير". "وكان أول ما أمر أن يذكر مسيلمة في الاذان، توقف. فقال له محكم بن الطفيل: صرح حجير، فذهبت مثلا ً". وكان "محكم بن طفيل الحنفي" صاحب حربه ومدبر أمره، وكان أشرف منه في حنيفة. وذكر "الطبري"، أن الذي كان يؤذن له "عبد الله بن النوّاحة"، وكان الذي يقيم له حُجير بن عمير، ويشهد له. وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة، قال صرح حجير، فيزيد في صوته ويبالغ لتصديق نفسه. وذكر أن مؤذنه "حجير"، كان إذا أذن يقول أشهد أن مسيلمة يزعم أنه رسول الله، فيقول مسيلمة له: أفصح حجير، فذهبت مثلاً.

ورووا أنه تزوّ ج "سجاح" التي تنبأت، وهي تميمة من "بني يربوع"، وكان يقال لها "صادر" وكان لها مؤذن، يقال له "زهير بن عمرو"، من "بني سليط بن يربوع"، ويقال إن "شبث بن ربعي" أذن لها.

وذكروا أنها كانت كاهنة زمانها، تزعم أن رئيها ورئي سطيح واحد، ثم جعلت ذلك الرئي ملكاً حتى ادعت النبوة، فاختلفت مع "مسيلمة" وكذبته وجحدت نبوته،فلما اتصلت به وتزوجته، وهبت نفسها له. فقال لها فيما زعموا: ألا قومي إلى المخدع  فقد هيىّ لك المضجع

فإن شثت سلَـقـنـاك  وان شئت على أربع

وإن شئتَ بثـلـنة  وإن شئت به أجمع

فقالت بل به أجمع. فجرى المثل بغلمتها حتى قيل أغلم من سجاح.

وفيها قال قيس بن عاصم، وقيل عطارد بن حاجب بن زرارة: اضحت نبيتنا أنثى نطيف بهـا  وأصبحت أنبياء ألله ذكـرانـا

يا لعنة الله والأقوام كـلـهـم  على سجاح ومن بالإفك أغرانا

أعني مسيلمة الكذاب لاسقـيت  أصداؤه ماء مزن حثما كانـا

ولما قتل "مسيلمة" رثاه بعض شعراء بني حنيفة بقوله: لهفي عليك أبـا ثـمـامة  لهفى على ركني تهـامة

كم آية لـك فــيهـــم  كالشمس تطلع من غمامة

قتله "وحشي" قاتل حمزة.

وذكر أهل الأخبار ان "مسيلمة" كان قد تزوج "كبشة بنت الحارث بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس" "كيسة بنت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس"، ثم تركها فخلف عليها "عبد الله بن عامر بن كريز"، فولدت له. ويظهر انها لم تلد من "مسيلمة".

والذي يقرأ ما ذكره "الطبري" عن "مسيلمة" وعن صلة "نهار" به، يخرج بصورة تظهره شخصاً جاهلاً بليداً، يحركه ويوجهه "نهار" حيث يريد، لا يفهم ولا يعقل، ولا يعرف كيف يتصرف، ولا يتخذ رأياً حتى يشير عليه "نهار" به. "فكان نهار الرجّال بن عنفوة لا يقول شيئاً إلا تابعه عليه". وهي صورة تخالف ما نقرأه عنه في الموارد الأخرى. ولو كان "مسيلمة" على نحو ما صوّره الطبري، لما التفت حوله "بنو حنيفة"، ولما استماتوا في الدفاع عنه. ولما ضحى "الرحال بن عنفوة" و "محكم بن الطفيل" وغيرهما بأنفسهم في الدفاع عنه. حتى ان منهم من بقي مؤمناً به حتى بعد مقتله،وتغلب المسلمين على اليمامة.

وقد كتب الجاحظ قصة مسيلمة وقصة "ابن النواحة"، ولعلّه قصد به "عبد الله بن النواحة" مؤذنه، في كتابه المفقود حتى اليوم "فصل ما بين النبي والمتنبيّ"، حيث ذكر جميع المتنبين. وذكر "البلاذري" أن "مسيلمة"، كان قد أرسل كتابه الذي كان وجهه إلى الرسول والذي فيه "من مسليمة رسول الله، الى محمد رسول الله، أما بعد: فإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً لا ينصفون، والسلام عليك. وكتب "عمرو بن الجارود الحنفي"، مع "عبادة بن الحارث" أحد بني عامر بن حنيفة، وهو "ابن النواحة " الذي قتله عبد الله بن مسعود بالكوفة.

وكان "مسيلمهّ قد أمر "عمرو بن الجارود الحنفي"، بتدوين كتابه الذي وجهه إلى الرسول، فأمر الرسول كاتبه "أُبي بن كعب" بالردّ عليه. ومعنى هذا أن مسيلمة كان قد اتخذ له كتبة يكتبون له رسائله، على نحو ما كان لرسول الله.

وأنا لا استبعد احتمال علم "مسيلمة" بالكتابة والقراءة. وإن لم ينص أهل الأخبار على ذلك. كما لا استبعد احتمال، التقائه باليهود وبالنصارى وأخذْه منهم، فقد كان في اليمامة قوم من أهل الكتاب، ودعوته الى عبادة إلَه هو "الرحمن"، تدل على تأثره بأتباع هذه الديإنة وبأهل الكتاب.

هذا ولم أجد في الأخبار المتعلقة بمسيلمة خبراً يفيد صراحة أن مسيلمة كان قد اعتنق الإسلام ودخل فيه. فالأخبار التي تتحدث عن مجيئه إلى يثرب لا تشير إلى ذلك، والأخبار الأخرى التي تتحدث عنه وهو في اليمامة لا تشير إلى قبوله الإسلام كذلك، بل نجد فيها كلها أنه ظل يرى نفسه نبياً مرسلاً من "الرحمن" وصاحب رسالة، لذلك فليس من الصواب أن نقول: "ردة مسيلمة"، أو "ارتداد مسيلمة"، أو نحو ذلك، لأنه لم يعتنق الإسلام ثم ارتد عنه، حتى ننعته بالمرتد.

وكان "مجاعة بن مرارة" الذي نزل عليه "مسيلمة"، من رؤساء "بني حنيفة" وممن وفد على الرسول، فأعطاه النبي أرضاً باليمامة يقال لها "الغورة"، وكتب له بذلك كتاباً. وذكر بعض أهل الأخبار انه كان بليغاً حكيماً وقد أسر "يوم اليمامة"، فتوسط له بعض وجوه "بني حنيفة"، لدى خالذ أن يبقيه، فارسله إلى "أبي بكر"، فصفح عنه. وقد كان قد انجرف مع من انجرف فمال إلى "مسيلمة" وأيده، وحارب معه. وله شعر أشار فيه إلى مسيلمة، ونعته فيه ب "الكذاب". ولما وفد على "أبي بكر." اقطعه "الخضرمة"، ثم قدم على عمر، فاًقطعه الرياء، ثم قدم على عثمان، فأقطعه قطيعة أخرى.

وأما "الرحال بن عنفوة" "رحّال بن عنفوة"، فهو "نهار الرجال بن عنفوة"،"الرجّال بن عنفوة" في تأريخ الطبري. وهو من وجوه "بني حنيفة" واسمه "نهار"، وكان في الوفد الذي جاء إلى الرسول، وقد اختلف إلى " أبيّ بن كعب" ليتعلم منه القرآن. وكان رئيس وفد "حنيفة" "سلمى بن حنظلة". وقد تعلّم سورة البقرة وسورأَ من القرآن. وذكر انه كان على غاية من الخشوع واللزوم لقراءة القرآن والخير، ثم انقلب على عقبيه وصار من أشد أعوان مسيلمة المقربين له، فشهد له ان الرسول أشركه معه في الأمر. وكان احد وفد "بني حنيفة" إلى رسول الله، وفيهم "فرات بن حيان".

وأما "محكم بن طفيل بن سبيع" الحنفي، فقد كان من أشراف وسادات "بني حنيفة". وهو اشرف من مسيلمة في حنيفة. وكان من المقدمين عند مسيلمة. وقد عهد " مسيلمة" اليه قيادة احدى المجنبتين في قتاله مع "خالد ابن الوليد". وقد عرف ب "محكم اليمامة". وقد قتل وهو يحارب المسلمين. "قتله خالد بن الوليد يوم مسيلمة".

وأما "فرات بن حيان بن ثعلبة بن عبد العزى بن حبيب" العجلي، فكان عيناً لأبي سفيان في حروبه، وكان ممن هجا الرسول، ثم أسلم ومدحه،وأقطعه الرسول أرضأَ باليمامة.، ثم سكن الكوفة وأقام بها. وكان في حرب الخندق عيناً للمشركين.

وأما أثال بن النعمان الحنفي، فكان معع "فرات بن حيان" حين قدم المدينة وقد كلّم الرسول. وذكر في رواية أنه كان مع ثمامة بن أثال في قتال مسيلمة في الردة.

وكان "ثمامة بن أثال بن النعمان بن سلمة الحنفي"، من قدماء من أسلم من أهل اليمامة. فقد أرسل رسول الله خيلا قبل نجد، فجاءت به، فربطوه بسارية من سواري المسجد بيثرب، فكلمه الرسول، ثم امر فأطلق من رباطه، فدخل في الإسلام.، وأمره ان يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت ! قال: لا والله ولكن أسلمت مع محمد رسول الله ولا واللهِ لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة، حتى يأذن فيها النبيّ. ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً. فكتبوا إلى النبيّ: إنك تأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمآمة أن يخلي بينهم وبن الحمل اليهم. وكانت ميرة قريش من اليمامة ومنافعهم منها، وكانت ريف مكة. ولما ارتد أهل اليمامة، وصاروا مع مسيلمة، ثبت أثال على الإسلام فكان مقيماً باليمامة ينهاهم عن اتباع مسيلمة وتصديقه، فلما عصوه وأصفقوا على اتباع مسيلمة، عزم على مفارقتهم، ففارقهم ولحق بالعلاء بن الحضرمي في مقاتلة المرتدين من اهل البحرين، فلما ظفروا اشرى ثمامة حلة كانت لكبيرهم:"الحطم" فرآها عليه ناس من "بني قيس بن ثعلبة"، فظنوا أنه هو الذي قتله وسلبه فقتلوه. وقد رووا له شعراً في الرسول وفي الردة. وكان له عم اسمه "عامر ابن سلمة بن عبيد بن ثعلبة الحنفي". وقد كان مسلماً.

وجاء في رواية ان رسول الله لما بعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى في رجب سنة تسع، فاسلم المنذر ورجع العلاء، فمر باليمامة، قال له ثمامة بن أثال: انت رسول محمد ? قال نعم. قال: لاتصل اليه ابداً، فقال له عمه: عامر بن سلمة بن عبيد بن ثعلبة الحنفي: مالك وللرجل، فأسلم عامر، ووقع ثمامة بعد ذلك في الأسر.

وكان "معمر بن كلاب الرماني"، جاراً لثمامة بن أثال، وهو ممن وعظ مسيلمة وبني حنيفة ونهاهم عن الردة، فلما عصوه تحول إلى المدينة، فمنعه ثمامة حتى ردّه وشهد قتال اليمامة، مع خالد.

و "الحطم" المذكور، هو "الحطم بن هند" البكري، أحد "بني قيس ابن ثعلبة"، قدم المدينة في رواية في عير له يحمل طعاماً فباعه، ثم دخل على النبي، فبايعة وأسلم، فلما قدم اليمامة، ارتد عن الإسلام، وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة، وكان عظيم التجارة، وأراد المسلمون أن يتلقوه ويأخذوا ما معه، فمنعهم الرسول من ذلك لحرمة الشهر. وذكر انه بعد ان قابل الرسول، وسمع منه مبادىء الإسلام. قال الحطم: في أمرك هذا غلظة، أرجع إلىقومي، فأذكر لهم ما ذكرت، فإن قبلوه أقبلت معهم، وان أدبروا أدبرت معهم. قال له ارجع. فلما رجع مرّ بسرح من سرح المدينة،فساقه فانطلق بهْ.

وذكر أن "الحطم" قتل في الجيار، من نواحي البحرين، لما ارتدت بكر ابن وائل.

هذا هو كل ما ورد إلى علمنا عن الأنبياء العرب في الجاهلية. وقد حصلنا عليه من المؤلفات الإسلامية. أما نصوص جاهلية، فيها شيء عن النبوة والأنبياء، فلم يصل إلينا منها أي شيء.

يقول "أبو العلاء المعري" عن ادعاء بعض الناس بالأمامة والنبوة في الإسلام: "ولم تكن العرب في الجاهلية تقدم على هذه العظائم، والأمور غير النظائم، بل كانت عقولهم تجنح إلى رأي الحكماء، وما سلف من كتب القدماء. إذ كان أكثر الفلاسفة لا يقولون بنبي، وينظرون إلى من زعم ذلك بعين الغبي ". فهو ينكر وجود نبوة وأنبياء عند الجاهليين للسبب المذكور. وهو يقصد ولا شك بها، النبوة على وفق المعنى المفهوم منها في الإسلام. أي أن تكون بوحيّ ينزل على النبي من الإسلام، ويكلام منزل يتلوه على الناس، يكون كلام الله لا كلام النبيّ.

الفصل الرا بع والستون

اللّه ومصير الإنسان

لا نعرف رأي الجاهليين في الخلق، وفي كيفية نشوء هذا ألكون، إذ لم تصل إلينا نصوص جاهلية في هذا المعنى. ولا بد أن يكون لهم كما كان لغيرهم رأي في الخلق وفي نشوء الكون. فموضوع نشوء الكون وظهوره، من الموضوعات التي تثير رأي كل انسان مهما كانت ثقافته وكان تفكيره.

وفي القرآن الكريم كلمات مثل "البارىء" و "المصور" و "الخلاّ ق" و "خلقنا" و "خلقت" و "خلقناكم" و "خالق" وغيرها مما له علاقة بخلق الكون والانسان وبقية المخلوقات، وفيه كيفية خلق الله للكون ومن فيه وكيفية خلق الإنسان ومن أي شيء خلق. ولكن هل كان يعرف جميع الجاهليين هذا المعنى المنزل في كلام الله، وهل نزلت هذه الآيات لإرشاد الناس إلى ذلك، أو انها نزلت لتذكير القوم ولفت نظرهم إلى شيء يعلمونه ولكنهم كانوا ينسبونه لغير الله أو يتجاهلونه، إن كان ذلك على سبيل التذكير، فمعنى هذا ان لأهل الجاهلية رأياً في كيفية الخلق، وإن كان ذلك على سبيل التعليم والإرشاد،إنه يدل على أن من خوطب بتلك الآيات لم يكن له فقه وعلم بما خوطب به.

وفي القرآن الكريم آيات فيها خطاب للمشركين في بيان فساد رأيهم واعتقاداتهم، وفيها ردّ عليهم، منها نستطيع أن نحيط بعض الإحاطة بآرائهم في الوجود وفي البعث والحشر والحساب وغير ذلك من أمور تتعلق بدياناتهم. وهذه الآيات هي الشواهد الوحيدة التي نملكها من اراء القوم في ذلك العهد.أما ما جاء في روايات الأخباريين وفي كتب التفسير والحديث والملل والنحل، ففيه بعض الشيء عن آراء الجاهليين القريبين من الإسلام، ولا سيما عرب مكة ويثرب عن تلك الأمور.

ويفهم من القرآن الكريم ان من الجاهليين من كان يعتقد ان للعالمّ خالقاً خلق الكون وسوّاه، وان منهم من كان يعتقد بوجود إلهَ واحد فهم موحدون، وان منهم من أقر بوجود إلَه واحد غير انه رأى تعذر الوصول اليه بغير وسطاء وشفعاء فاعتقد بالأرواح وبالجن وعبد الأصنام لتكون واسطة تقربه إلى الله.

أما كيف خلق الله الأرض والسماوات وكيف نشأ الكون، فذلك ما لم يتعرض له القرآن الكريم حكاية على لسان الجاهليين. ولذلك لا نعرف رأي أولئك القوم الذين عاصروا الرسول وعاشوا قبيل الإسلام في كيفية ظهور الوجود وخلق الكون. ويفهم من بعض الأخباريين أن من الجاهليين من كان يرى أن خالقاً خلق الأفلاك، غير أنها تحركت أعظم حركة فدارت عليه وأحرقته، لأنه لم يقدر على ضبطها وإمساك حركتها، وأن منهم من كان يقول: " إن الأشياء ليس لها أول البتة، وإنما تخرج من القوة الى الفعل. فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل، تكونت الأشياء مركباتها وبسائطها من ذاتها لا من شيء آخر. وقالوا إن العالم لم يزل ولا يزال ولا يتغير ولا يضمحل مع فعله. وهذا العالم هوالممسك لهذه الأجزاء التي فيه ". وهذا كلام إن صح أنه من كلام الجاهليين ومن مقالاتهم، فإنه يدل على تعمق القوم في المقالات، وعلى أن لهم رأياً وفلسفة في الدين، وأنهم لم يكونوا على الصورة التي يتخيلها معظمنا عنهم، وهي الصورة التي رسمها لهم أهل الأخبار. في أثناء كلامهم العام عن الجاهليين.

اللّه الخالق

ويظهر من القرآن الكريم، أن قريشاً كانوا يؤمنون بإلَه واحد خلق الكون، وهو رب السماوات والأرض. ففي سورة العنكبوت: ) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولنّ: الله، فأنى يؤفكون(.

وفي هذه السورة نفسها سؤال آخر موجه إلى المشركين ) ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها، ليقولن: الله، قل: الحمد لله، بل أكثرهم لا يعقلون(.

وفي سورة لقمان سؤال آخر موجه إلى أولئك المشركين، وجواب صادر منهم، هو هذا الجواب نفسه: إقرار بوجود خالق واحد خلق السماوات والأرض:) ولئن سألهم من خلق السماوات والأرض، ليقولن: الله. قل الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون(. وفي سورة الزخرف: )ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض، ليقولن: خلقهن العزيز العليم (، وفي سورة الزمر: )ولئن سألهتم من خلق السماوات والأرض، ليقولن الله(، وفي سورة الزخرف أيضاٌ: )ولئن سألتهم من خلقهم، ليقولن: الله. فانى يؤفكون (، وفي سورة العنكبوت: )ولئن سألتهم من نزً ل من السماء ماءفاًحيا به الأرض من بعد موتها، ليقولن: الله(. وهناك آيات أخرى على هذا النحو، فيها أسئلة موجهة إلى المشركين عن خلق السماوات والأرض،وأجوية على السنتهم فيها اعتراف باًن خالقها وصانعها هو الله.

وفي القرآن الكريم أيضاً ان قريشاً كانت تعتقد ان الله هو الذي ينزل المطر ويحيي الأرض بعد موتها، وفيه انهم كانوا يقسمون به، وانهم كانوا قد جعلوا له نصيباً مما ذرأ من الحرث والأنعام، وانهم كانوا يقولون إن الله هو الذي شاء فجعلهم وآباءهم مشركين، وانه لو لم يشأ لما أشركوا بعبادته أحداً، وانهم كانوا يتضرعون اليه ويستغيثون به في الكوارث والملمات، وانهم جعلوا له بناتاً وبنين وشركاء الجن. فقريش اذن وفق هذه الآيات قوم، كانوا يؤمنون بإلَه عزيز عليهم، ومن آيات ذلك انهم جعلوا له نصيباً في أموالهم، مع ان المال من أعز الأشياء على الإنسان، لا سيما بالنسبة لتلك الأيام.

وفي تلبية الجاهليين المنصوص عليها في كتب أهل الأخبار اعتراف صريح واضح بوجود إلهَ. كانوا يلبون بقولهم: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريك هو لك. تملكه وما ملك، يعنون بالشريك الصنم، يريدون ان الصنم وما يملكه ويختص به من الآلات التي تكون عنده وحوله والنذور التي كانوا يتقربون بها اليه كلها ملك لله عز وجل" فذلك معنى قولهم: يملكه وما ملك. فهم يعترفون ويقرون بوجود الله، لكنهم يتقربون اليه بالأصنام. وهذا هو الشرك.

وفي دعاء العرب اعتراف بوجود "الله"، فقولهم: "رماه الله يما يقبض عصبه"، و "قمقم الله عصبه"، و "لا ترك الله له هارباً ولا قارباً"، و "شتت الله شعبه"، و "مسح الله فاه"، و "رماه الله بالذبحة"، و "رماه الله بالطسأة"، و "سقاه الله الذيغان"، و "جعل الله رزقه فوت فمه"، و "رماه في نيطه"، و "قطع الله به السبب"، و "قطع الله لهجته"، و "مدّ الله أثره"، و "جعل الله عليها راكباً قليل الحداجة"، و "لا أهدى الله له عافية"، و "أثل الله ثلله"، و "حته الله حت البرمة"، و "رماه الله بالُطّلاطلة"، و "رماه الله بالقصمل"، و "ألزق الله به الحوَبة"، و " لحاه الله كما يلحى العود"، و "اقتثمه الله اليه"، و "ابتاضه الله"، إلى آخر ذلك من دعاء يدل على وجود ايمان بخالق هو اللّه.

وفي الشعر المنسوب إلى الجاهليين اعتقاد بوجود الله، واتقاء منه، وتقرب اليه باحترام الجوار وقرى الضيف ". هذا عمرو بن شأس يقول في شعره: ولولا اتقاء الله والعهد قد رأى  منيته منى أبوك الـلـيالـيا

فلولا اتقاء شأسٍ اللهَ، لفتك بخصمه، وجعله من اهالكين. وفي بعضه اعتراف بان هذه الأرض الواسعة هي "بلاد الله". أينما حللت فيها فهي أرضه وبلاده. وهذه نظرة مهمة جداً عن رأي الجاهليين في الله وفي الأرض، إن صح أن هذا للشعر الوارد فيه حقاً من شعر أهل الجاهلية.

و "اللهُ" كما جاء في شعر زهير بن أبي سلمى، عالم يكل شيء، عارف بالخفايا وبالأسرار، وبما ظهر من الأعمال وما بطن.

فلاتكتمنّ الله ما في نفوسكم  ليخفى، ومهما يكتم الله يعلم

وهو عدو للأشقياء شديد عليهم، لا يرحم ظالماً، وأمرهُ بُلغ به تشقى به الأشقياء وهو يثيب على الاحسان، ويجزي المحسن على جميل إحسانه. وهو الذي يعصم من السيئات والعثرات. وهو مقر بوجود يوم حساب يحاسب فيه الناس على ما قاموا به من أعمال، وقد ينتقم الله من الظالم في الدنيا قبل الآخرة، فلا مخلص له.

والله "كربم" لا يكدر نعمة، اذاُ دعي أجاب. وهذا هو رأي الأعشى في الرب، اذ يقول: ربّي كريم لا يكدر نعـمة  واذا يناشد بالمهارق أنشدا

وقد ورد اسم الجلالة في أشعار كثير من الشعراء الجاهليين: ورد في شعر امرىء القيس وغيره، فامرؤ القيس يقول: "من الله" و "لله"، و "تالله"، و "قبح اللّه"، و "والله"، و "يمين الله" " و "يمين إلإلَه"، و "الإله" هي "اللّه"، و "الحمد لله". ونرى العرب عامة تستعمل في كلامها: "لله دره"، و "لا يبعد الله"، و "لحى اللّه"، و "جزى الله"، و "عمر الله"، وأمثال ذلك مما يرد في أشعار الشعراء الجاهليين، يخرجنا تدوينه وحصره في هذا المكان عن حدود الموضوع.

وقد جاءت لفظة الجلالة في ايمان أخرى، في مثل: "لعمر الله"، و "ها لعمر الله" كالذي ورد في شعر زهير: تعلمن ها لعمر الله ذا قـسـمـاً  فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك

وورد "ها اللّه" و "والله" و "الله " و" نعم الله" و "أي والله لأفعلن"، و "ايم الله" و "ايمن الله" و "يعلم الله" و "علم الله" وأمثال ذلك.

ومن ايمانهم الدالة على الاعتقاد بوجود خالق، قولهم: "لا وبارىء الخلق، و "لا والذي يراني من حيث ما نظر" و "لا والذي نادى الحجيج له"، و "لا والذي يراني ولا أراه"، و "لا والذي كل الشعوب تدينه"، و "حرام الله لا آتيك"، و "يمين الله لا آتيك "، و "لا والذي جلد الإبل جلودها"، و "والذي وجهي زمم بيته"، و "لا والذي هو اقرب إليّ من حبل الوريد"، و "لا ومقطع القطر"، و "لا وفالق الإصباح"، و "لا ومهب الرياح" و "لا ومنشر الأرواح"، إلى غير ذلك من ايمان حلفوا بها، تدل على إبمان وعقيدة بوجود خالق، فحلفوا به.

ونجد في معلقة امرئ القيس قسماٌ باللّه حكي على لسان صاحبة صاحب المعلقة: فقالت: يمين الله ما لـك حـيلة  وما إن أرى عنك الغواية تنجلي

وترى في بيت لامرىء القيس وهو يذكر اقدامه على الشرب: فاليوم أسقى غير مستحقب  إثماً من اللـه ولا واغـل

فالرجل مؤمن بالله، وقد وفى بما عاهد الله عليه، وهو لا يخشى بعد ذلك إثماً اذا شرب، لأنه وفى بنذره.

ونراه يذكر الله أيضاً في هذا البيت: للهِ زبدان أمسى قرقراً جلـداً  وكان من جندل أصم منضودا

ثم نراه يشكر اللهَ بجملة: "والحمد لله" في هذا البيت: أرى إبلى والحمد لله أصبحت  ثقالاً إذا ما استقبلتها صعودها

ونراه يحث الناس على التمسك بحبل الله، فبالله يكون النجاح، ويحث الناس على عمل البر، والبر خير حقيبة الرجل: والله أنجح ما طلبت بـه  والبر خير حقيبة الرجل

ونفهم من هذه الأبيات ومن أبيات أخرى، إن امرأ القيس رجل مؤمن يعتقد بالله الواحد، مؤمن بالله الواحد، مؤمن بالثواب وبالعقاب، وأنه كان يخاف الله ويخشى الإثم والفسوق، ولا أدري أينطبق هذا الذي نقوله على امرىء القيس الذي يتحدث عنه أهل الأخبار ويصفونه بأنه رجل عابس مياّل إلى اللهو و الشهوات رمى صنمه بسهم وأنبّه لما جاء الجواب بخلاف ما كان يرغب فيه ويشتهيه. ثم لا أدري اذا كان اسلوب هذا الشعر من أسلوب الشعر الجاهلي وطرازه ? وإذا كان هذا الشعر صحيحاً، فلمَ ادخل رواته شاعره في الجاهليين الوثنيين ولم يدخلوه في عداد المؤمنين بالله من الأحناف ? وإذا اعتقدنا بصحة الأبيات المنسوبة إلى عَبيد ين الأبرص: من يسأل الناس يحرموه  وسائل اللـه لا يخـيب

بالله يدرك كـلء خـير  والقول في بعضه تلغيب

والله لـيس لـه شـريك  علاّم ما أخفت القلـوب

وقلنا مع القائلين إنها من شعر ذلك الشاعر حقاً، وجب عدّه إذن في جملة الموحدين المؤمنين المسلمين، وإن عاش قبل الإسلام. فرجل يقول هذا القول، لا يمكن إلاّ أن يكون مسلماً مؤمناً بالله الواحد الأحد علاّم الغيوب والعارف بما في آلقلوب، ومن الممهدين للتوحيد بين العرب قبل الإسلام.

وقد أهمل بعض رواة هذه المعلقة البيت الآتي: والله ليس لـه شـريك  علام ما أخفت القلوب

وكأنهم فطنوا إلى ان من غير المعقول نسبته إلى رجل وثني، مهما كان رأيه في الأوثان والتوحيد، لا يمكن أن يستعمل هذه الألفاظ التي لم يستعملها العرب بهذا الشكل إلا في الإسلام.

والى عبيد نفسه ينسب الأخباريون قول هذا البيت: حلفت بالله إنً الله ذو نـعـم  لمن يشاء وذو عفوٍ وتصفاح

ورجل يقول هذه الأبيات وأبياتاً أخرى من لونها، لا يمكن إلا ان يكون موحداً مؤمناً، من فصيلة المؤمنين بالله من الأحناف. وقد"أراح "شيخو" نفسه وأراح الناس حين ذهب إلى ان عبيداً وأمثاله من الشعراء الجاهليين كانوا نصارى وان هذا التوحيد هو توحيد نصراني محض، وقف عليه عبيد في زيارته للحيرة مهد النصرانية في ذلك العهد، فاعتنقه، فهو على رأيه اذن شاعر نصراني، وشعره شعر نصراني لا يرد ولا يرفض.

ونجد "طفبل بن عوف" الغنَوَي يقسم ب "الإله" في شعره. غير أن هناك رواية تضع "رضى" موضعَ "الإلَه" فيكون القسم به، ورضى اسم صنم كان لطيء. وقد ذكر "الله" في مواضع أخرى من شعره، وقال إنه هو الذي يصلح الأمور، ويسد العجز والثُغر التي ليس في وسع الإنسان سدّها، وإنه يجزي الناس على أعمالهم.

وفي معلقة "الحارث بن حِلزة" اليشكريّ: "أمر الله بلغ تشقى به الأشقياء"، وأن الله عالم بالأمور.

ونجد "المتلمس"، يُقسم بالله في شعره، ويذكر الله في مثل جملة "أبى الله"، للتعبير عن مشيئة الله واَرادته، وجملة "لله دري" في التعجب وجملة "تقوى الله"، و "عاداك الله" وغيرها مما يدل على أنه كان يعتقد أن الله يعادي الأعداء ويحبّ المحبين.

ولكننا نجده في مواضع أخرى يقسم باللات وبالأنصاب، والمقصود بالأنصاب الأوثان مما يشعر أنه كان يؤمن بها، فكيف نوفق بين اعتقاده بالله واعتقاده باللات والأنصاب ? وهل نعدّ هذا الشعر صادراً من شاعر واحد ? نعم، يجوز أن يكون قاله هو. قاله لأنه كان يعتقد بوجود إلهَ، فهو يؤمن به ويقر بوجوده، غير أن قسمه باللات والأنصاب، هو من باب.عقيدة الجاهليين المؤمنين بوجود إلهَ، ولكنهم كانوا يتقربون اليه بالأصنام والأوثان والأنصاب. ويتوقف هذا التفسير بالطبع على اثبات أن هذا الشعر له حقاً، وليس مفتعلاً، ولا مما أدخل الرواة عليه تغيبرأ أو تبديلاً.

ونجد في شعر النابغة الجعدي، أبو ليلى عبد الله بن قيس، الشاعر المخضوم المتوفى سنة "65" للهجرة، قصيدة مطلعها: الحمد لله لاشريك لـه  من لم يقلهافنفسه ظلما

يلي هذا المطلع قصة نوح والسفينة، وهي سفينة مصنوعة من خشب الجوز والقار. وفي هذه القصيدة اعتراف بالتوحيد، وبوجود إِلَه واحد لا شريك له، لا يحمد إلا هو، وهو شعر لا يمكن أن يكون إلا من شعرشاعر مسلم،إن صح انه من شعره، فيجب أن يكون مما نظمه في الإسلام.

وينسب إلى "لبيد" اعتقاده ان الله يبسط الخير والشر على عباده، وانه منتقم ممن يخالفه، معاقب له، كما عاقب "إرما" و "تبعا"، وقوم "لقمان بن عاد"، و "أبرهة" وذلك في أبيات أولها: من يبسط الله عليه إصبعأ  بالخير والشر بأي أولعا

وهي رجز، يرى بعض العلماء انها ليست من رجزه.

ونجد معود الحكماء، وهو معاوية بن مالك بن جعفر، يذكر الله ويحمد، فيقول: "بحمد الله"، ويقول "عامر": "أردت لكيما يعلم الله انني"، ويقول."خداش بن زهير": "وذكرته بالله بيني وبينه "

وذكر أهل الأخبار ان الجاهليين الوثنيين كانوا يفتتحون كتبهم بجملة "باسمك اللهم". ساروا في ذلك على هدى "أمية بن أبي الصلت" مبتدعها وموجدها، كما في رواية تنسب إلى ابن الكلبي. وذكر بعض آخر ان قريشاً كانت تستعمل هذه الجملة منذ عهد قبل الإسلام، وانها بقيت تستعملها ألى ظهور الإسلام. وقد استعملها الرسول، ثم تركها، وذلك بنزول الوحي باستعمال "بسم اللّه الرحمن الرحيم". ونحن لا يهمنا هنا اسم مبتدع هذه الجملة، وانما الذي يهمنا منها هو ما فيها من عبارة تدل أيضا على التوحيد، فإذا صح ان الجاهليين كانوا يستعملون هذه الجملة، فإن استعمالها هذا يدل على اعتقاد القوم بإلهَ واحد، أي بعقيدة التوحيد، ولا يعقل بالطبع استعمال شخص لهذه الجملة في رسائله، يفتتح بها كتبه، لو لم يكن من أصحاب عقيدة التوحيد، وقد جاء في بعض الأخبار ان هذا الاستعمال متاًخر، وانه حدث بعد ان تغيرت عوائد القوم في افتتاح كتبهم، فقد كانت عوائدهم القديمة افتتاح رسائلهم بأسماء آلهتهم كاللات والعزى، فرفعوا تلك الافتتاحيات القديمة واستبدلوا بها هذه الجملة الجديدة، جملة "باسمك اللهم". وعلى كل، فإن جملة "باسملك اللهم" وأمثالها إن صح انها من ذلك العهد حقاً فإنها تدل على حدوث تطور في الحياة الدينية عند الجاهليين، وإلا،فكيف يتصور استعمال هذه الجملة الموحدة مع وجود الشرك لو لم يكن قد حدث تطور فكري كبير في هذا العهد حملهم على استعمال هذه الجملة وأمثالها من الجمل والألفاظ الدالة على التوحيد ? وقد درس بعض المستشرقين هذا الموضوع، ولا سيما موضوع ورود اسم الجلالة في الشعر الجاهلي، فذهبوا في ذلك مذاهب. منهم من أيد صحة وروده في ذلك الشعر، وآمن أن الشعر الذي ورد فيه هو شعر جاهلي حقاً، ومنهم من أنكر ذلك، وأظهر أنه شعر منحول مصنوع، صنع على الجاهليين فيما بعد، ومنهم من ذهب إلى أنه شعر صحيح، غير أن رواة الشعر أدخلوا اسم الجلالة فيه، ولم يكن هو فيه في الجاهلية، بأن رفعوا أسماء الأصنام وأحلوا اسم اللّهِ محلها.

وبينما نجد أهل الأخبار ينسبون إلى هؤلاء الشعراء وأمثالهم الاعتقاد بالله، نجدهم ينسبون اليهم، الحلف بالأصنام، والاعتقاد بها. فقد نسبوا إلى "خداش بن زهير" شعراً آمن به بالله، ثم نسبوا له قوله: وبالمروة البيضاء يوم تـبـالة  ومحبسة النعمان حيث تنصرا

والمروة البيضاء،هي ذو الخلصة، ثم هو يقسم بمحبسة النعمان، وهو نصراني.أفلا يدل هذا على وجود تنافر أو تناقض في عقيدة أمثال هؤلاء الشعراء ? والذي لا وقوف له على طبائع أهل الجاهلية، يرى هذا الرأي، أو يذهب إلى أن هذا الشعر مصنوع مفتعل. أما الذي يعرف عادة العرب في القسم، فلا يستغرب منه ولا يرى فيه تنافراً، فقد كان الجاهليون يقسمون بكل شيء، يقسمون بالشجر وبالحجر وبالكواكب، وبالليل وبالنهار، وبالأصنام، وبعمر الإنسان وبحياتهم وبلحى الرجال، وبالأصنام وبالمعابد، وبألله، وبالخبز والملح، لا يرون في ذلك بأساً ولا تناقضاً مع عقيدتهم. هذا "عديّ بن زيد" العبادي، يقسم بمكة، وهو نصراني، لا يري للكعبة في دينه حرمة ولا مكانة. أقسم بها على قاعدة العرب في القسم، وقد أقسم بأمور أخرى من أمور أهل الجاهلية الوثنيين، ولم يذكر أحد أنه بدل دينه، وصار وثنياً. وكذلك الأمر مع غيره من شعراء نصارى ويهود وعبّاد أصنام، أقسموا برهبان النصارى وباًمور نصرانية، مع أنهم كانوا عباّد أوثان.

ومن القائلين بالرأي الأخير، "نولدكه". فقد ذهب إلى ان رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر، وذلك بأن حذفوا منه أسماء الأصنام، وأحلوّا محلها اسم الله. فما جاء فيه اسم "اللات" حل محله اسم "الله". وقد ذهب أيضا إلى ان رواة الشعر في الإسلام حذفوا من شعر الجاهليين ما لم يتفق مع عقيدتهم، وما وردت فيه أسماء الأصنام. ومن جملة ما استدل به على أثر التغيير والتحريف في الشعر الجاهلي ورود كلمة "الرحمان" في شعر شاعر جاهلي من هذيل، زعم ان ورود هذه الكلمة في هذا الشعر دليل كاف لاثبات أثر التلاعب فيه، لأن هذه اللفظة اسلامية استحدثت في الإسلام، ولا بمكن أن ترد في شعر شاعر جاهلي. وقد فات "نولدكه" صاحب هذا الرأي ان الكلمة بهذا المعنى كلمة جاهلية، وردت في نصوص المسند وفي نصوص جاهلية أخرى، وان من جملة من استعملها "أبرهة" الحبشى في نصه الشهير المعروف بنص سد ماًرب، وان قومأَ من الجاهليين تعبدوا للرحمان، على نحو ما تحدثت عن هذه العبادة في موضع آخر من هذا الكتاب.

وادعاء أن لفظة "الله" لم تكن موجودة في الأصل، وإنما أقحمت فيه من بعد، وذلك بإزالة رواة الشعر لأسماء الأصنام النبي ذكرها أولئك الشعراء، واحلالهم اسم الله في محلها، حتى ظهر ذلك الشعر وكأنه شعر شعراء موحدين يعتقدون بوجود إلَه واحد. هو تعليل فيه شيء من التكلف، فليس كل شعر فيه اسم الأصنام بصالح لقبول الجلالة، فقد لا يستقيم من حيث الوزن أو المعنى بإدخال تلك اللفظة في موضع اسم الصنم. ثم إن من الشعر الجاهلي المروي في الإسلام ما بقي محافظاً على اسم الصنم دون أن يمس ذلك الاسم بسوء. ولو كان من عادة الرواة حذف اسم الأصنام عامة لما تركوا لها بقية في الشعر. ثم ما هي الفائدة التي يجنيها إلرواة من طمس أسماء الأصنام، وهم يعلمون أن أهل الجاهلية كانوا وثنيين، يدينون بالأصنام، وكانوا يقسمون بها، وقد رووا أمثلة من ذلك القسم ! أما "ولهوزن"، فيرى أن عدم ورود أسماء الأصنام في الشعر الجاهلي إلاّ في النادر وإلا في حالة القسم أو في أثناء الإشارة إلى صنم، أو موضع عبادة، ليس بسبب تغيير الرواة الإسلاميين وتبديلهم لأسماء الأصنام. وإنما سببه هو أدب الجاهليين وعادتهم في عدم الإسراف والإسفاف في ذكر أسماء الآلهة الخاصة، وذلك على سببل التأدب تجاه الأرباب، فاستعاضوا عن الصنم يلفظة "الله" التي لم تكن تعني إلهاً معيناً، وإنما تعني ما تعنيه كلمة ربّ وإلَه. ومن هنا كثر استعمالها في القسم وفي التمني أو التشفي وأمثال ذلك من حالات.

ويرى "ولهوزن" أن لفظة "الله" كانت بهذا المعنى في الأصل. كانت تعني إلهاً على وجه التعميم، دون التخصيص، أي أنها لا تشير إلى إله معين. استعملتها كل القبائل بهذا المعنى، فهي صفة تشير إلى الألوهية المجردة، وإن كان أفراد كل قبيلة يقصدون بها صنمهم الخاص بهم. استعاضوا بها عن ذكر اسم الصنم. وان استعمالها جملا مثل: "حاشا لله" و "للهِ درك" و "لاها الله"، و "تا لله"، و "ايم الله"، و "لحا الله"، و "جزى الله"، و "جعلني الله فداك"، و "لك الله"، و "أرض الله"، وأمثالها، هو من هذا القبيل، الله فيها بمعنى الرب والإلهَ، ولما كانت أداة التعريف تفيد التخصيصى، فدخولها في اسم الجلالة أفاد التخصيص والعلمية. وهذا ما حدث، إذ فقدت الكلمة معناها العام، واتجهت نحو التخصص حتى صارت بهذا المعنى الذي صارت عليه في الإسلام.

وقد ذهب مستشرقون آخرون الى صحة ورود لفظة الجلالة في الشعر الجاهلي. كما ذهبوا إلى ان ورودها في القرآن الكريم أو في الحديث، لا يمنع من ورودها في الشعر الجاهلي، ولا يكون سبباً للطعن في ذلك الشعر، لأن من الجاهليين من كان يؤمن بوجود إلهَ هو فوق الآلهة عندهم، فورود اسمه في شعرهم، ليس باًمر غريب.

وورود اسم الجلالة في أشعار الجاهليين يحملنا على البحث في أصله: هل هو اسلامي محدث، أو هو اسم جاهلي قديم ? وبحث مثل هذا يجب ان يستند إلى النصوص. غير اننا ويا للأسف لا نملك نصاً جاهلياً يمكن أن يفيدنا في هذا الباب، فكل النصوص الجاهلية التي وصلت إلينا خُرس لم تنطق بشىء عن اسم الجلالة، فليس أمامنا إلا اللجوء إلى الطريقة المألوفة في مثل هذه الأحوال، وهي الرجوع إلى آراء علماء اللغة، والى المقابلة بين العربية واللهجات السامية الأخرى. أما آراء علماء اللغة، فإنها مثل آرائهم الأخرى في أصول الكلمات الصعبة التي على شاكلتها، كلها حدس وتخمين. ولا يمكن أن بسُتنبط منها شيء تاريخي، يرجعك إلى أول عهد ظهرت فيه هذه اللفظة، والى المراد منها. وأما المستشرقون، فمنهم من يرى ان اللفظة عربية اصيلة، ومنهم من يرى انها من "الاها" Alaha ومعناها "الإلهَ" بلغة "بني إرم". أما الذين قالوا بعربيتها، فيرون انها من "اللات"، اسم الصنم المعروف، تحرف وتولد منه هذا الاسم.

واللفظة "الله" من أصل "إلاه"، أي "رب"، و "بعل"، وهي من الألفاظ السامية القديمة. ويقال "إلهة" "إلاهة" للانثى. لأن من الجاهليين من تعبد للالهة الأناث. وتقابل "ه - اله" "ها الاه" "ه الاه" في النصوص الثمودية، أي "اللَه"، كَما ترد هذه اللفظة في نصوص عربية أخرى مثل النصوص اللحيانية.

ويلاحظ ان لفظة "اللّه" هي من التسميات التي وردت في النصوص الشمالية، ويدل ورودها في هذه النصوص على تاًثر العرب الشماليين بمن اختلطوا بهم من الشعوب التي كانت تقيم في شمال جزيرة العرب، وأخذهم عبادة هذا الإلهَ منهم. ولم تكن هذه اللفظة اسم علم في الأصل، ثم تخصصت على مايظهر من النصوص المتأخرة، فصارت تدل على إلهَ معين ثم على إلهَ واحد أحد هو إلهَ الكون في الإسلام.

وبذكر علماء اللغة ان "لاه" الله الخلق يلوههم خلقهم، واللآهة الحية، منها سميّ الصنم اللات بها، وجوز "سيبويه" اشتقاق اسم الجلالة منها. قال الأعشى: كدعوة من أبي كبار  يسمعها لاهه الكبار

ولاه: علا وارتفع. وسميت الشمس إلاهة لارتفاعها في السماء. وذكروا ان "ال" اسم الله، وكل اسم اخره ال أو ايل، فمضاف إلى اللّه، ومنه جبرائيل وميكائيل، فهو "ايل" اذن، إلهَ جميع الساميين القديم.

وتعداد المواضع التي وردت فيها لفظة الجلالة أو لفظة إله والإله في الشعر الجاهلي، يخرجنا عن صلب الموضوع، ويحعل البحث جافاً مملاً. غير أن في استطاعتنا أن نقول إنها وردت في أكثر ذلك الشعر إن لم نقل فيه كله. وأن ورودها فيه يشير الى اعتقاد أصحاب ذلك الشعر بإله واحد قهار هو إله العالمين.

غير أن هذا القول يتوقف، بالطبع على إثبات أن ذلك الشعر هو شعر جاهلي حقاً، وأن من نسب اليهم قالوه من غير شك، وأنه لم يوضع على ألسنة أولئك الجاهليين.

الاعتقاد بإله واحد

والذي يفهم - وذلك كما سبق أن قلت - من القرآن الكريم ومن الحديث أن قريشاً ومن كان على اتصال بهم، أو غيرهم من قبائل أخرى، لم يكونوا ينكرون عباده اللّه، ولم يكونوا يجحدون اللّه، بل كَانوا يقرون بوجوده، ويدينون له، وإنما الذي أنكره الإسلام عليهم وحاربهم من أجله وسفه أحلامهم عليه، هو تقربهم إلى الأصنام والأوثان، وتقديسهم لها تقديسأَ جعلها في حكم الشركاء والشفعاء ومرتبة الألوهية. والإسلام لا يعترف بهذه الأشياء، وهو ينكرها، ومن هنا حاربته قريش ومن كان على هذه العقيدة من حلفائها ومن القبائل إلتي كانت ترى رأيها. فهنا كان موطن الخلاف " لا عقيدة الإيمان باللّه. وإذا أخذنا بهذا الرأي، رأي اعتقاد الجاهليين أو بعضهم بإله واحد، نكون بذلك قد حللنا عقدة الازدواجية، أي العقيدة الثنائية عند الجاهليين ووجودها في شعرهم، فلا نجد عندئذ فى غرابة إذا وجدنا شاعرا يذكر الله في شعره ويحلف به، ثم نجده يذكر الأصنام في الشعر نفسه، ويقسم بها قسمه بالله.

ويكاد يكون الاجماع على ما تقدم. قال ابن قيم الجوزية في معرض مقارنته بين آراء المجوس وعبدة الأوثان من العرب: "بل كفر المجوس أغلظ. وعبّاد الأوثان كانوا يقرون بتوحيد ااربوبية، وأنه لا خالق إلا الله، وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى ولم يكونوا يقرون بصانعين للعالم أحدهما خالق للخير والاخر للشر كما تقوله المجوس ". فالوثنية على هذا الرأي، ليست نكراناً لوجود إلهَ، وإنما هي اعتقاد بوجوده، واعتقاد بفائدة التقرب اليه، بتقربهم إلى الأصنام والأوثان، أي الشفعاء، بمافي ذلك المبالغة في تقديس الأشخاص والقبور.

ولا نجد للعرب إلهاً قومياً خاصاً بهم كالذي نجده عند العبرانيين من تعلقهم ب "يهوه"، وعدهم اياه إلهاً خاصاً باسرائيل. فقد صار هذا الإلهَ إله جميع قبائل اسرائيل ويهوذا. أما العرب، فقد كانوا يعبدون جملة آلهة: كل قبيلة لها إلهَ خاص بها وآلهة أخرى، ولم يكن لها إلَه واحد له اسم واحد يعبده جميع العرب. والظاهر ان القبائل الساكنة في الحجاز ونجد والعراق والشأم، صارت قبيل الإسلام تتنكر لأصنامها العديدة، وتأخذ بالتوحيد وبالاعتقاد بإلهَ واحد هو اللّه، وهو الذي نجده في هذا الشعر الجاهلي الذي هو حاصل تغريد شعراء قبائل عديدة مما يدل على ان قبائل اولئك الشعراء دانوا بالاعتقاد بوجود ذلك الإلَه فوق الأصنام والأوثان، وقد توّ جت هذه العقيدة بتاج النصر في الإسلام. غير ان "الله" في الإسلام يختلف عن الله الجاهليين. فالله هو إلهَ العالمين، إلَه جميع البشر على اختلافهم. ليس له شريك من أصنام وأوثان.

أما الله الجاهليين، فهو رب الأرباب، وإلهَ الآلهة، يسمو فوق آلهة القبائل أي آلهة القبيلة الواحدة. ولهذا ذكر في شعر شعراء مختلف القبائل، لأنه لايختص بقبيلة واحدة.

ويقال لما يعبد من دون الله: الأنداد. وفي كتاب النبي لأكيدر: وخلع الأنداد والأصنام. والند: مثل الشيء والنظير " وفي التنزيل: واتخذوا من دون الله أنداداً، أي ما كانوا يتخذونه آلهة من دون الله.

والله إلَه ذكر. وكيف لا يتصور الإنسان إلهه ذكراً، والذكر هو قوي مقتدر بخلاف الأنثى ! وحيث أن الله هو قوي ومصدر القوة والخلق، فلا بد وأن يكون ذكواً في عقلية تلك الأيام، ولا بد من التعبير عنه بصيغ التذكير. كما يلاحظ أن الجاهليبن قد تصوروه واحداً، فلم يخاطبوه بصيغة الجمع، مما يفهم منه التعدد.

ولم يتطرق الشعر الجاهلي إلى موضوع وجود إلهة أي أنثى تكون زوجاً له. ولم يشر القرآن الكريم إلى اعتقاد الجاهليين بوجود زوجة له. فهو في نظرهم إذن إله واحد متفرد لا يشاركه مشارك في حياته. وإذ كان الله واحداً أحداً أعزبَ، فلا يمكن أن يكون له ولد. ولكن القرآن الكريم يشير إلى اعتقاد الجاهليين بنينُ و بنات لله. ففي سورة الانعام: )وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم، سبحانه وتعالى عما يصفون(. وقد ذهب المفسرون إلى ان العرب قالت الملائكة بنات الله، وقالت اليهود والنصارى عزبر والمسيح ابنا الله، وأن النصارى قالت المسيح ابن الله، وقال المشركون الملائكة بنات الله. وفي سورة النحل )ويجعلون للَه البنات سبحانه ولهم ما يشتهون"، وفي سورة الصافات )فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون(، )ألا إنهم من إفكهم ليقولون: ولد الله وانهم لكاذبون. اصطفى البنات على البنين. مالكم كيف تحكمون(، وفي سورة الزخرف )أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين( وفي سورة الطور )أم له البنات و لكم البنون(. وأجمعوا على أن قريشاً وأضرابهم كانوا يزعمون أن الله اصطفى الملائكة بناتاً له. ولم يذكروا كيف صاروا له بناتاً، وقد ورد في بعض الروايات أن كفار قريش قالوا: "الملائكة بنات الله. فسأل أبو بكر من أمهاتهن ? فقالوا: بنات سروات الجن". وورد في بعض أقوال علماء التفسير، ان "أعداء الله" زعموا: ان الله وابليس اخوان. ولم يذكروا من هم "أعداء الله" أهم من العرب أم من غيرهم !

. ويظهر ان الذين آمنوا بوجود إلَه، تصوروا مكانه فوق الإنسان، اي فوق الأرض، في السماء. لذلك كانوا اذا توجهوا اليه بالدعاء رفعوا أيديهم إلى السماء. والسماء، المكان المرتفع اللائق بان يكون مقر الرب أو الأرباب. وهو اعتقاد نجده عند غير الجاهليين أيضاً، ومن هذه النظرة ظهر "بعل سمين" "بعل سمن"، أي "رب السماء" و "إلَه السماء" المذكور في بعض نصوص المسند، وهو إلَه قبيلة "امر" "أمر" من القبائل العربية الجنوبية. الإلَه المرسل للسحاب ومنزل الغيث وباعث الحركة والخصب والخير للناس. وقد تعبد له الصفويون كذلك، وذكر في نصوصهم. وعرف عندهم ب " ه - بعل سمن".

ولهذه النظرة اتخذ زهادهم لهم معابد خلوية على قمم الجبال وعلى الهضاب والمرتفعات وابتنوا الصروح للتعبد فيها ومناجاة الرب، واتخذوا من الكهوف المنقورة في الجبال مآوي يتعبدون فيها ويعتكفون الأيام والشهور والسنين. وكانوا اذا أمسكت السماء قطرها، وأرادوا الاستمطار، أصعدوا البقر في جبل وعر، وقد أضرموا النار في السلع والعشر المعقودين في أذنابها، وهم يتبعون آثارها، يدعون الله ويستسقونه. ولولا اعتقادهم ان الجبل أقرب إلى الله من الأرض، لما اتعبوا أنفسهم، فصعدوا الجبل المرتفع مع بقرهم، فكان أَستسقاءهم من الأرض.

الجبر والاختيار

هذا وأود ان ابين ان اكثر الذين كانوا يدينون يالتوحيد، ويعتقدون بوجود إلَه واحد خلاّق لهذا الكون، كانوا يؤمنون بما نسميه: "القضاء والقدر" أو "الجبر" بتعبير أصح. فالخير والشر من الله، وكل شيء في هذا الكون محتوم مكتوب، وما يصيب الإنسان، لا بد ان يكون قد كتب عليه، ولا راد لما هو مكتوب، بل نجد هذه النظرة حتى عند من لم يأت اسم الله في شعره، فلا ندري أكان من المؤمنين بالله ام لا. وفكرة ان كل شيء في هذا الكون مقدر محتوم، فكرة قديمهّ غلبت على عقلية الشرقيين، بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية التي كانت سائدة اذ ذاك، أوضاع جعلت الغالبية من الناس تشعر انها مسخرة، وانها تدفع في حياتها دفعاً وفي سبيل خدمة النخبة المتحكمة، المسيرة للامور، أضف إلى ذلك تأثير عامل الجو في الإنسان. وقضية الجبر والاختيار، قضية لا نجدها عند المؤمنين بوجود إلهَ هو "الله"، أو آلهة أخرى من الجاهليين فقط، بل نجدها عند غيرهم أيضاً ممن لم يكن يقر بعبادة "الله"، وينكر وجود خالق، نجدها عند ممن كان يتعبد للاصنام، أو للقوى الخفية، أو لا يدري أي شيء عن الآلهة والخلق، أو من الدهربة، القائلين بالدهر. فهؤلاء أيضاً كانوا يعتقدون أن الإنسان، مسير ولا اختيار له في هذه الدنيا، فكل شيء مكتوب عليه. كتب عليه منذ ولد. والسبب، هو ما قلته: وجود عوامل عديدة سيرت الإنسان واستعبدته من أوضاع سياسية واجتماعية وعسكرية واقتصادية ومناخية تحكمت فيه، حتى رسخ في عقل الجاهلي، أن كل شي في هذه الدنيا مقدر مكتوب، وأن ما كتب على الجبين، لا يمكن تغيره ولا تبديل له،ولا اعتراض على ما هو مكتوب، ولا راد لأمر كتب في السماء.

الموت

وفي مطلع قائمة الموضوعات التي أثارت البشريهَ ولا تزال تثيرها قضية الموت الذي هو ضد الحياة والعالم الثاني الذي يصير اليه الإنسان بعد الموت. إن الموت اْمر مخيف راعب يثير مشاعر كل انسان. فما الذي سيكون مصيره بعد الحياة، وإلى أي مكان سيتجه بعد هذه الحياة، وهل الموت انطفاء لشعلة الحياة وانحلال للجسد إلى الأبد ? أو هو مرحلة من حياة إلى حياة أخرى يحيا فيها الإنسان حياة جديدة، ويبعث بعثاً جديداً يبعثه من خلقه ? ثم ما الذي سيكون عليه في العالم الثاني ? هل يعيش عيشة راضية مطمئنة، عيشة تفوق معيشته في عالمه الأول ? أم سيعيش عيشة أخرى ? إما راضية ناعمة، وإما شقيّة تعسة بحسب عمل الإنسان وما قدمه لنفسه من عمل في العالم الأول ? هذه الأسئلة وعشرات من أمثالها شغلت بال الإنسان البدائي والراقي ولا تزال تشغله. كل وجد لها أجوبة، وكل قنع بما أجاب به عنها، ورضى بها. وكانت للجاهليين على اختلافهم آراء في هذه المشكلات لا شك في ذلك.

والموت في كلام العرب: السكون. يقال مات بمعنى سكن. وهذا هو المعنى المفهوم للموت عند الجاهليين. فالمراد من الموت هو سكون الجسد بعد مفارقة الروح له. وقد حار الجاهليون، كما حار غيرهم في تفسير ظاهرة الموت، وكيفية وقوع الموت وحدوثه. وقد اعتبره بعضهم حدثاً طبيعياً، يحدث للانسان كما يحدث لاْي شيء آخر في هذا الكون من التعرض للهلاك والدمار.واعتبره بعض آخر، مفارقة الروح للجسد. وهم الذين أعتقدوا بالثنائية وبالازدواجية في حياة الإنسان، أي بوجود جسد وروح. واعتبره آخرون موت للنفس، وبوفاة النفس يتوفى الجسد ويصيبه السكون. فالموت عندهم مفارقة الروح للجسد، فإذا مات الإنسان خرجت روحه من أنفه، أو من فمه، فينفض الإنسان نفَسًه. واذا مات ميتة طبيعية، يقال عن الميت: مات حتف أنفه، ومات حتف فيه، أي ان روحه خرجت من أنفه أو من فمه، وهو قليل، لأن النفس في نظر اهل الجاهلية تخرج بتنفسه، كما يتنفس من أنفه. ويقال أيضأَ حتف أنفيه.

وكانوا يعتقدون أن المريض تخرج روحه من أنفه، وأما القتيل، والجريح، فتخرج روحه من موضع جرحه.

ويقال: "زهقت نفس فلان"، اي خرجت روحه. فهم يتصورون اذن ان روح الإنسان كائن مستقل اذا فارق الجسد مات. "وفي الحديث: إن النحر في الحلق واللّبة، وأقروا الأنفس حتى تزهق، اي حتى تخرج الروح من الذبيحة ولا يبقى فيها حركة.

و "الرمق" بقيه الحياة، أو بقية الروح، وآخر النفس. فكَأنهم تصوروا ان الشخص المريض أو الجريح،.قد ودع معظم نفسه، ولم تبق كل من روحه إلا بقية لا تزال في جسده، هي الرمق.

البعث

لم يكن كثير من الجاهليين يؤمنون بالبعث كما يتبين ذلك من القرآن الكريم. لقد كانوا يرون أن الموت نهاية، وانهم غير مبعوثين، وأن البعث بعد الموت شيء غير معقول، لذا تعجبوا من قول النبي بوجود البعث والحساب. )وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين(، )وأقسموا بالله جهد ايمانهم لا يبعث اللّه من يموت، بلي وعداً عليه حقاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون(، )وقالوا اذا كناّ عظاماً ورفاناً إنّا لمبعوثون خلقاً جديداً. قل: كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم، فسيقولون: من يعيدنا ? قل:الذي فطركم أول مرة: فسينفضون اليك رؤوسهم، ويقولون: متى هو ? قل: عسى أن يكون قريباً (. و )زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا، قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير(، و ) إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب(، و ) لئن قلت إنكم مبعوثون بعد الموت، ليقولن الذين كفروا إن هذا الا سحر مبين(، و ) بل قالوا مثل ما قال الأولون. قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون (، و )ان تعجب فعجب قولهم: أ إذا كنّا تراباً أإنا لفي خلق جديد(، و ) ايعدكم انكم اذا متم وكنتم تراباً وعظاماً إنكم مخرجون. هيهات هيهات لما توعدون. ان هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين(. و )قال الذين كفروا أاذا كنّا تراباً وآباؤنا أانا لمخرجون، لقد وعدنا هذا، نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين. قل: سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين. ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون. ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون (، و ) وقالوا: أاذا ضللنا في الأرض أانا لفي خلق جديد، بل هم بلقاء ربهم كافرون. قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم، ثمّ إلى ربكم ترجعون(ا. و)إن هؤلاء ليقولون: إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين. فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين(. والايات المتقدمة وأمثالها كلها حكاية عن رأي كثير من الجاهليين في نفي البعث وفي عدم امكان العودة إلى حياة أخرى بعد موت يهلك الجسم ويفني العظام فيجعلها رميماً وبمحو كل أثر للجسم، لذا كان البعث من أهم ما عارض فيه الجاهليون معارضة قاسية شديدة، وكان من الموضوعات التي تندروا بها وسخروا وآخذوا عليها الرسول. وكانوا يقولون: "إِن هي إلا موتتنا الأولى التي نموتها. وهي الموتة الأولى، وما نحن بمنشربن بعد مماتنا ولا بمبعوثن تكذيباً منهم بالبعث والثواب والعقاب". وقالوا للرسول: "فأتوا بآبائنا الذين قد ماتوا ان كنتم صادقين ان اللّه باعثنا من بعد بلانا في قبورنا،ومحيينا من بعد مماتنا"، وقالوا: ""ذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون ? يقولون منكرين بعث الله اياهم بعد بلائهم. أئنا لمبعوثون احياء من قبورنا بعد مماتنا ومصيرنا تراباً وعظاماً قد ذهب عنها اللحوم. أو آباؤنا الاّولون الذين مضوا من قبلنا فبادوا وهلكوا ?".

وكان من محاججة قريش للرسول ومحاولتهم إفحامه وتعجيزه قولهم له يوم اجتمعوا به: "يا محمد ? فإن كنت غير قابل منا شيئ مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت انه ليس من الناس احد أضيق بلداً ولا اقل ماءً ولا أشد عيشاً منا. فسل لنا ريك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليفجر لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق. وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول، أحق هو ام باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وانه بعثك رسولاً كما تقول ". وسألوه أسئلة اخرى من هذا القبيل، لتعجيزه في اثبات البعث. "جاء عبد الله بن أبيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بعظم حائل فكسره بيده، ثم قال: يا محمد، كيف يبعث الله هذا وهو رميم ? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبعث الله هذا ويميتك ثم يدخلك جهنم"ا. وأتى "أبيّ بن خلف" رسول الله "بعظم حائل ففته ثم ذراه في الريح، ثم قال: يا محمد من يحيي هذا وهو رميم ? قال الله يحييه ثم يميته، ثم يدخلك النار ". و "جاء العاص ابن وائل السهمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعظم حائل ففته بين يديه. فقال يا محمد أيبعث الله هذا حياً بعدما أرم ? قال: نعم يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم ".

وممن أنكر البعث على ما ذكره الأخباريون قوم من قريش كانوا زنادقة أنكروا الآخرة والربوبية، أخذوا زندقنهم هذه من الحيرة. وإذا كان من هؤلاء من كان يقدم القرابين والهدايا لأصنامه، فإن ذلك لا يعني أنه كان يفعل ذلك لترضى عنه في العالم التالي، بل كان يفعل ذلك لترضى عنه في هذه الحياة الدنيا، لتمن عليه بالنعم والخيرات. أما العالم الثاني، فهو عالم لا يهتم به، لأنه لم يكن يتصور وجوده ولا حدوثه بعد الموت.

ويتجلى هذا الانكار للحشر والبعث في أبيات. تنسب إلى "شدّاد بن الأسود ابن عبد شمس بن مالك" يرثي بها قتلى قريش يوم بدر، وهم الذين قتلوا في تلك المعركة وألقوا في القليب: أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا  وكيف حياة أصداء وهام ?

أيعجز أن يرد الموت عني  وينشرني إذا بليت عظامي

أراد الشاعر إنكار البعث،وأن يصير الإنسان مرة أخرى انساناٌ بعد أن تتحول روح الإنسان إلى طير.

وذكر ان "الحارث بن عبد العزى" ابو رسول الله من الرضاعة، لما قدم مكة، قالت له قريش:" ألا تسمع يا حار ما يقول ابنك هذا ? فقال: وما يقول: قالوا: يزعم ان الله يبعث بعد الموت، وان لله دارين يعذب فيها من عصاه، ويكرم فيها من أطاعه. فقد شتت أمرنا وفرّق جماعتنا"ا.

فهم ينكرون البعث والحساب، ولا يريدون سماع شيء عنهما، ولا يصدقون عودة الروح إلى الجسد بعد أن فارقته، فذلك عندهم من المستحيلات، ولذلك سخروا من البعث لما سمعوا به. وكيف يكون. بعثاً وقد فنت الأجساد، فلم تبق منها بقية! فرأي من أنكر الحشر والبعث من أهل الجاهلية، ان الحياة حياة واحدة، هي حياتنا التي نحن فيها في دار الدنيا، ولا يكون بعد الموت بعث ولاحساب، نحيا ونموت، يموت بعضنا ويحيا بعضنا، وما يميتنا إلا الأيام والليالي، اي مرور الزمان وطول العمر. فالحياة اذن حياة وموت في هذه الدنيا، وهي استمرار للاثنين على مدى الدهر، يولد انسان ثم يموت ليحل محله انسان آخر، وهكذا بلا انتهاء.

ونجد رأي الناكرين للبعث في قوله تعالى: ) وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا، وما يهلكنا الا الدهر (. فهم يقولون: ما هي الا حياتنا الدنيا، نموت نحن ويحيا أبناؤنا بعدنا، فجعلوا حياة ابنائهم بعدهم حياة لهم، لأنهم منهم وبعضهم، فكأنهم بحياتهم أحياء. والدهر الزمان، وهو الذي يهلك ويفنى. فالحياة بهذا المعنى، فعل مستمر، وتطور لا ينتهي، يهلك جيل، ليأخذ محله الجيل الذي نبت منه. وكلّ يأخذ دوره في هذه الحياة، فإذا انتهى دور انسان، قام بدوره نسله، وهكذا، وبهذا المعنى تفسر الحياة، ويفسر الموت.

وقد يسأل سائل اذا كان أغلب أهل الجاهلية لا يؤمنون بثواب ولا بحساب وبعث ونشر، فلمَ تعبّدوا اذن لإلهَ، وتقرّبوا إلى الأصنام، وقدّ موا القرابين والنذور ? وجوابي على هذا السؤال، هو ما ذكره المتقدمون عنه. قالوا:

"كانت العرب في الجاهلية تدعو في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدوّ، ولا يطلبون الآخرة، اذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها ". فعبادتهم الله وتقربهم إلى الآلهة، هي لمصلحة دنيوية، لنفع ولزيادة في مال، ولدفع شر الأذى والأمراض وعيون الحساد، ومن كل ما هو شر، أما الاخرة، فلا علم لهم بها.

وما خوفهم من الآلهة إلا لاعتقادهم أنها تضرهم وتهلكهم وتنزل بهم الشرّ في هذه الدنيا. فإذا أقسم أحدهم كذباً، انتقمت الآلهه منه وأنزلت به نازلة، لذلك تجنبوا الايمان الكاذبة، وامتنعوا من الحلف جهد إمكانهم، لخوفهم من عاقبة الحلف الكذب. والعاقبة السيئة تكون في هذه الدنيا. وهي عواقب مادية، لأن عقلية اكثر اهل الجاهلية لا تدرك إلا القيم المادية للاشياء. فتصوروا العاقبة السيئة تصورا مادياً، كنزول مرض بإنسان أو نزول كارثة بماله أو بإبله أو بزرعه أو بأهله، وهي أمور يخشاها الجاهلي، تكون معجلة في نظره، اي في هذه الدنيا. لأنهم لا يعرفون أن في الحياة داراً غير هذه الدار، ولا يؤمنون بحشر وبعث.

جاء في الأخبار ان "ضمام بن ثعلبة" السعدي، ويقال التميمي، لما قدم على الرسول، اقبل حتى وقف على رسول الله، وهو في اصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب ? فقال رسول الله.: انا ابن عبد المطلب، قال: أمحمد? قال: نعم. قال: يا ابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسئلة فلا تجدنّ في نفسك. قال: لا اجد في نفسي. سل عما بدا لك. قال انشدك باللهِ إلهك وإلهَ من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك الله امرك ان نعبده وحده لا نشرك به شيئاً، وان نخلع هذه الأوثان التي كان آباؤنا يعبدون معه ? قال: اللهم نعم. ثم سأله عن الفرائض، فاسلم. فلما قدم على قومه، فاجتمعوا اليه، "فكان أول ما تكلم به، ان قال: بئست اللات والعزى، قالوا: مه يا ضمام اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون. قال: ويلكم انهما والله ما يضران وما ينفعان". فالعقاب عقاب مادي في هذه الدنيا، ترسله الالهة على الإنسان.

غير ان فريقاً من الجاهليين كما يقول أهل الأخبار كان يؤمن بالبعث وبالحشر بالأجساد بعد الموت، ويستشهدون على ذلك ب "العقيرة" وتسمى "البلية" أيضاً. والبلية الناقة التي كانت تعقل عند قبر صاحبها اذا مات حتى تموت جوعاً وعطشاً. ويقولون انه يحشر راكباً عليها، ومن لم يفعل معه هذا حشر راجلاً. وهذا مذهب من كان يقول منهم بالبعث، وهم الأقل. ومنهم زهير فإنه قال: يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر  ليوم حساب أو يعجل فينـقـم

ويذكر أيضاً انهم كانوا يعكسون رأس الناقة أو الجمل أيَ يشدونه إلى خلف بعد عقر احدى القوائم أو كلها لكيلا تهرب، ثم يترك الحيوان لا يعلف ولا يسقى حتى يموت عطشاً وجوعاً،ذلك لأنهم كانوا يرون ان الناس يحشرون ركباناً على البلايا ومشاةً اذا لم تعكس مطاياهم عند قبورهم،وفي هذا المعنى قال الشاعر في البلية: والبلايا رؤوسها في الولايا  مانحات السموم حر الخدود

والولايا هي البراذع، وكانوا يثقبون للبرذعة فيجعلونها في عنق البلية وهي معقولة. وأوصى رجل ابنه عند الموت بهذه الوصية: يا سعدُ اما أهلـكـن فـإنـنـي  أوصيك إن أخا للوصاة الأقرب

لا تتركن أباك يمشي خلـفـهـم  تعباً يخرّ على اليدين وينـكـب

احمل أباك على بعير صـالـح  وابقّ الخطيئة إنه هو أصـوب

ولعلّ مالي ما تركـت مـطـيّة  في اليم أركبها إذا قيل اركبـوا

وذكر أنهم كانوا يحفرون البلية حفرة وتشد رأسها إلى خلفها وتبلى، أي تترك هناك لا تعلف ولأ تسقى حتى تموت جوعأَ وعطشاً. وكانت النساء، يقمن حول راحلة الميت فينحن إذا مات أو قتل، وقد عرفن ب "مُبَكيّات ".

وفي رواية أن بعض المشركين كان يضرب راحلة الميت بالنار وهي حية حتى تموت، يعتقدون أنهم إنما يفعلون ذلك، ليستفيد منها الميت بعد الحشر.

وإذا كانت عقيدة الجاهليين فُي عقر الحيوانات المسكينة وإهلاكها قد ماتت وزالت، بسبب تحريم الإسلام لها، فإن فكرة حشر الناس ركباناً لا تزال باقية حية عند بعض الناس. فالذبن يقدمون "العقيقة" في الحياة أو يقدمونها حين الوفاة ومع نقل الجنازة أو على القبر، يختارون أحسن الحيوانات وأقواها لتتمكن من حملهم يوم الحشر، وتنهض بهم، فيسير راكباً، ولا يحشر وهو مترجل يسير في تلك الساعات الرهيبة ماشيأَ على قدميه.

ويقال للموت وللحساب "اللزام ".

ولا أعتقد أن نحر الإبل على القبر وتبليله بدم الإبل المذبوحة، مجرد عادة يراد بها إظهار تقدير أهل الميت له، أو تمثيل كرم الراحل حتى بعد وفاته، بل لا بد أن يكون هذا النحر من الشعائر الدينية والعقائد الجاهلية التي لها علاقة بالموت وباعتقادهم أن موت الإنسان لا يمثل فناءً تاماً وإنما هو انتقال من حال إلى حال.

وذكر "السكري"، أن أكثر العرب كانوا يؤمنون بالبعث. واستشهد على ذلك بشعر للأعشى، ذكر فيه الحساب. كما ذكر أنهم كانوا يؤمنون بالحساب، واستشهد على رأيه هذا بشعر للأخنس بن شهاب التميمي. وقول "السكري" هذا مردود،بما ورد في القرآن الكريم من إنكار أغلبهم للحساب والبعث والكتاب، واما الذين قالوا بالبعث، فهم طائفة لا تصل إلى مستوى الكثرة أو الكلّ حتى نستعمل صيغة التعميم.

وإذا كان ما تصور أهل الجاهلية عن البعث والحشر صحيحاً على نحو ما ذكره أهل الأخبار، فلا يستبعد أن يكون القائلون به أو بعضهم قد تصوروا الحساب على نحو ما يحاسب الإنسان على عمله في دنياه. ويلاحظ أن القيامة والبعث والحشر والجنة والنار هي من الكلمات العربية التي لا يستبعد أن يكون لها مفهوم قريب من مفهومها الإسلامي عند الجاهلين.

أما كيف تصور أولئك الجاهليون حدوث البعث والحشر،هل هو قصاص وثواب وعقاب وحساب وجنةّ ونار، أو هو بعث وحشر لا غير، فأهل الأخبار لم يأتوا عنه بجواب، ولم يذكروا رأي تلك الفئة المقرة بالبعث والحشر في ذلك. ولهذا فليس في استطاعتنا إعطاء صورة واضحة عن الحشر وعما يحدث بعده من تطورات وأمور.

ولم تتحدث الكتابات الجاهلية عما سيحدث للانسان بعد موته. وكل ما ورد فيها هو توسل إلى الآلهة بأن تنزل غضبهأ على كل من يحاول تغيير قبر، أو ازالة معالمه، أو دفن ميت غريب فيه، وان تنزل به الأمراض والآفات والهلاك. ولم تذكر تلك النصوص السبب الذي حمل أهل القبور على التشدد في المحافظة على القبر وعلى ضرورة بقائه ودوامه. فلا ندري اذا كان ذلك عن تفكير بوجود بعث، وبتصور قيام الميت من قبره مرة أخرى، ورجوعه ثانية إلى الحياة، أو إلى عالم ثان، هو عالم ما بعد الموت، ولهذا حرصوا حرصاً شديداً على عدم السماح بدفن أحًد في قبر، إلا اذا كان من أهل صاحب القبر ومن ذوي رحمه، حتى لا يتأذى الميت من وجود الغرباء: وليستأنس بأهله وبذوي قرابته مرة أخرى بعد عودة الحياة اليه، فيرى نفسه محشوراً معهم، ومع من أحبه في حياته،عائشاً معهم، كما كان قد عاش معهم، أو ان حرصهم عاى حرمة القبر، إنما كان عن مراعاتهم لحرمة القبر، وعلى منزلة الموتى، فالمس بحرمة القبر، مسّ بحرمة الميت، وانتهاك لمقامه ولمكانته، ولما كان عليه في هذه الحياة ! وهناك من كان يعتقد ان الميت وان غيب في قبره وانقطعت علاقته بآله وذويه، الا ان روحه لن تموت، وانه يظل وهو في قبره يقظاً، متتبعاً لأخبار أهله. تخبره بها هامته التي تكون عند ولد الميت في محلته بفنائهم، لتعلم ما يكون بعده فتخبره به، حتى قال الصلت بن أمية لبنيه: هامي تخّبرني بما تستشعروا  فتجنبوا الشنعاء والمكروها

واما ما ورد في الشعر الجاهلي من أمر الحشر والنشر والحساب والكتاب والعالم الثاني، فهو مما ورد ودوّن في الإسلام، ولم أجد في رواية من روايات أهل الأخبار ان أحداً من رواة الشعر الجاهلي، ذكر انه نقل ما نقل من هذا الشعر من ديوان جاهلي، أو من كتاب كتب قبل الإسلام. ومع ذلك، فإن هذا المروي عن العالم الثاني قليل، لذلك لا نتمكن لقلته من تكوين صورة واضحة عن ذلك العالم ومن التحدث بطلاقة عن رأي أصحاب هذا الشعر في الحشروالنشر والبعث.

وأما ما ورد في شعر "أمية بن أبي الصلت" عن الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، فهو أوسع ما ورد في الشعر الجاهلي في هذا الموضوع. وأمية، هو الشاعر الجاهلي الوحيد الذي جاء أكثر شعره في نزعات دينية وفكرية، ذلك لأنه كان في شك من عبادة قومه، وكان على شاكلة غيره ممن سئم تلك العبادة، ينهى قومه عنها، ويسفه أحلامها، وقد تاًثر باليهودية وبالنصرانية، وفي شعره اعتقاد بالجنة والنار والبعث. وبصحة المعاد الجسماني، وبوجود الجنة والنار بالمعنى الحقيقي، لا المجازي، وهو يتفق في ذلك مع الإسلام، كما تحدثت عن ذلك في الفصل الخاص بالأحناف.

وكان "الأعشى" ممن يؤمن بالله وبالحساب، وقد استشهد من قال ذلك عنه بأبيات شعر تشعر أنه كان يؤمن بالحساب وبقيام الإنسان بعد الموت لمحاسبته على عمله. من ذلك قوله: يراوح من صلوات المليلـك  طوراً سُجوداً وطوراً جُوَارا

بأعظم منك تُقى في الحساب  إذا النسمات نفضن الغبـارا

وكان "زهير بن أبي سلمى" على مذهب من كان منهم يقول بالبعث، وهم الأقل قال: يؤخر فـيوضـع فـي كـتـاب  فيدخر ليوم الحساب أن يعجل فينقم

وكان "حاتم" طيء من المتألهين، ومن المعتقدين بالحساب. وقد أورد أهل الأخبار له شعراً في ذلك.

البلية والحشر

ولم يذكر أهل الأخبار كيف تصور القائلون بالقيامة وبالحشر من أهل الجاهلية قيام الموتى ومشيهم إلى المحشر: فقد ذكروا ان قوماً من الجاهليين كانوا اذا مات احدهم عقلوا ناقة على قبره وتركوها حتى تبلى، وتسمى لذلك "البلية". وقالوا: "البلية كغنيّة الناقة التي يموت ربها، فتشد عند قبره، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت جوعاً وعطشاً أويحفر لها وتترك فيها إلى ان تموت، لأنهم كانوا يقولون صاحبها يحشر عليها، و "كانوا يزعمون ان الناس يحشرون ركبانأَ على البلايا ومشاة اذا لم تعكس مطاياهم غد قبورهم". وذكر انهم "كانوا في الجاهلية يعقرون عند القبر بقرة أو ناقة أو شاة، ويسمون العقيرة البلية"، "وفي فعلهم هذا دليل على انهم كانوا يرون فيِ الجاهلية البعث والحشر بالأجساد. وهم الأقل. ومنهم زهير". وفي هذا المعنى يقول جريبة بن أشيم: يا سعدُ إما اهلكـنّ فـإنـنـي  أوصيك أن أخا الوصاة الأقربُ

لا أعرفن أباك محشر خلفكـم  تعباً يخرّ على اليدين وينكـب

واحمل أباك على بعير صالـح  وتقى الخطيئة انه هو أصوب

ولقل لي مما جمعت مـطـيّة  في الحشرأركبها اذاقيل:اركبوا

ومن ذلك قول عمرو بن زيد المتمني يوصي ابنه عند موته في البلية: أبني زوّدني اذا فارقتـنـي  في القبر راحلةً برحل فاتر

للبعث أركبها اذا قيل: اظعنوا  مستوثقين معأَ لحشر الحاشر

من لا يوافيه على عثـراتـه  فالخلق بين مدقع أو عاثـر

وقال عويمر النبهاني: أبني لا تنسَ البليةّ إنـهـا  لأبيك يوم نشوره مركوب

وأوصى رجل ابنه عند الموت بهذا: لا تتركنّ أباك يحشـر مـرة  عدواً يخر على اليدين وينكب

وطريقتهم في ذلك أن أحدهم اذا مات، بلوا ناقته، فعكسوا عنقها إلى مؤخرتها مما يلي ظهرها، أو مما يليما كلكلها أو بطنها، ويأخذون ولية فيشدون وسطها، ويقلدونها عنق الناقة، ويتركون الناقة في حفيرة لا تطعم ولا تسقى حتى تموت، وربما أحرقت بعد موتها، وربما سلخت وملىء جلدها ثماماً.

قال شاعر في البليّة: والبلايا رؤوسها في الـولايا  ما نحات السموم حر الخدود

والولايا هي البراذع. وكانوا يثقبون البرذعة، فيجعلونها في عنق البليّة وهي معقولة حتى تموت.

أما كلمة "جهنم"، فيرى العلماء انها من الكلمات المعربة. ويظن المستشرقون أنها من أصل عبراني. ومن أسماء جهنم على رأي علماء اللغة "الهاوية". و" أم الهاوية ".

الفصل الخامس والستون

الروح والنفس والقول بالدهر

ويحملنا قول بعض الجاهليين بوجود البعث، ويالصدى وألهامة، على التحرش بموضوع الروح وماهيتها عندأهل الجاهلية، وعن كيفية تصورهم لها. وقد سأل اهل مكة الرسول عن ماهية الروح، فنزلت الآية: )ويساًلونك عن الروح، قلِ: الروحُ من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم الاّ قليلاً ". ويذكر المفسرون أن اليهود حرضوهم على توجيه هذا السؤال إلى الرسول، امتحاناً واحراجاً له. وفي سؤالهم له عن الروح معنى اهتمام القوم بالموضوع، ومحاولة إثارة مشكلة للرسول كانت مهمة في أعين الناس يومئذ، مما يدل على أهمية هذه القضية في ذلك العهد. وورد ان يهود يثرب هم الذين سألوه عن أمر الروح ما هي ? وكيف تعذب الروح التي في الجسد ? فنزل الوحي عليه بالأية المذكورة.

و "الروح" في تعريف علماء اللغة ما به حياة الأنفس، والذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة. وذهب بعضهم إلى ان الروح والنفس واحد، غير ان الروح مذكر والنفس مؤنثة. وقال بعض آخر الروح هو الذي به الحياة، والنفس هي التي بها العقل، فإذا نام النائم قبضت نفسه، ولم يقبض روحه، ولا يقبض الروح إلى عند الموت. وذكر بعض العلماء: لكل انسان نفسان: احداهما نفس التمييز، وهي التي تفارقه اذا نام، فلا يعقل بها، والأخرى نفس الحياة، واذا زالت زال معها النفّس، والنائم يتنفس. وقد يراد بالنفس الدم، وفي الحديث: ما ليس له نفس سائلة، فإنه لا ينجس الماء اذا مات فيه. فعبر عن الدم بالنفس السائلة، وكما ورد في قؤل السموأل: تسيل على حد الظبات نفوسنـا  وليست على غير الظبات تسيل

وانما سمي الدم نفساً لأن النفس تخرج بخروجه.

وقد يعبر بها عن الإنسان جميعه، وعن الجسد. وهناك كلمة أخرى ترد في معنى " الروح"، هي "النسيم". و "النسم" نفس الروح كالنسمة، يقال ما بها نسمة، أي نفس، وما بها ذو نسيم، اي ذو روح. والنسم نفس الريح اذا كان ضعيفاً كالنسيم. وقد ربطوا بين النسيم والروح، لما كان قد علق في أذهانهم اذ ذاك من ان الروح نوع من انواع النسيم، وهو النفس الذي يتنفسه الإنسان، ومن ان النفس من النسم كذلك، وان بين التنفس والنفس صلة، والتنفس يكون بالنسيم. ولهذا قالوا لمن يموت موتاً طبيعياً: "مات حتف أنفه"، و "مات حتف فيه"، والحتف الموت، لإن نفسه يخرج بتنفسه من أنفه أو فيه. ولأنهما نهاية الرمق، ومنهما يكون التنفس.

ويظهر من دراسة معاني الكلمات المذكورة، أن لفظة "نفس" هي بمعنى الإنسان والجسد في الشعر الجاهلي القديم، أما "الروح"، فبمعنى النفس، أي التنفس واستنشاق الهواء والريح. وتقابل لفظة "نفس" لفظة "نيفش" Nephesh في العبرانية، وتطلق على نفس كل كائن حي، من إنسان أو حيوان، وبهذا المعنى وردت في العهد القديم. وتقابل لفظة Soul في الانكليزية و Seele في الألمانية. وقد استعملت لفظة" Psyche " اليونانية بمعنى نفس في العهد الجديد. ومن هذه اللفظة اليونانية أخذ العلماء مصطلحهم Psychology Psychologia،أي علم النفس، ثم مصطلحات العلوم الأخرى المتعلقة بموضوع النفس. وهي في الوقت الحاضر علوم عديدة.

أما لفظة "الروح"، فتقابل كلمة "روح" Ruach في العبرانية.، ولفظة Spirit في الانكليزية، و Geist في الألمانية. وتكون في مقابل النفس في علم النفس، وتقابل لفظة Pneuma في اليونانية، ومعناها الهواء والريح والنفس.

ونجد بين المعان التي ذكرها علماء العربية للالفاظ المذكورة، وهي: النفس، والريح، والهواء،.والنسيم، وبين المعاني الواردة في اللغات الأعجمية عنها شبهاً. كبيراً، يرجع إلى وجهة نظر الإنسان في تفسير مظاهر الحياة، وشعوره بوجود شيء في نفسه خارج عن حدود المادة، أي عن الجسم أو الجسد، لا يمكن أن يمسكه ولا أن يلمسه، فسماه "نفساً" تارة وسماه "روحاً" تارة أخرى، وفرق بين الاثنين تارة ثالثة. وقدّ تصور أن النفس والروح، شيئان لهما علاقة بالحياة. فنسب الحياة اليهما أو إلى أحدهما. ونظراً إلى أنهما غير محسوسين، ولا يمكن الامساك بهما أو لمسهما، تصورهما الإنسان تصوراً يختلف باختلاف درجة مداركه ومقدار ثقافته ودرجة ما توصل اليه من علم في ذلك الوقت.

وقد تصور اليونان النفس، على انها هواء ونسيم، وتصوروها على هيأة طائر صغير في شكل الإنسان، أو على شكل طيير، أو فراشة. وهو تصور عرف عند غيرهم ايضاَ، بل يكاد يكون الغالب على الناس. ولا زال الناس يصورون الروح على هيأة طائر، يسبح في الفضاء، فإذا مات الإنسان صعدت روحه إلى خالقها، أو إلى السماء. فالأرواح طيور تكون في الإنسان، اذا انفصلت عن الجسد مات، واخذت هي تطير مرفرفة. في الأعالي، وبهذا الرأي أخذ بعض الجاهليين تفسير النفس. تصوروا "النفس طائراً ينبسط في الجسم، فإذا مات الإنسان أو قتل لم يزل يطيف به مستوحشأً يصدح على قبره". "وكانوا يزعمون ان هذا الطائر يكون صغيراً، ثم يكبر حتى يكون كضرب من البوم، وهو أبدأ مستوحش،ويوجد في الديار المعطلة ومصارع القتلى والقبور، وانها - أي النفس - لم تزل عند ولد الميت ومخلفه لتعلم ما يكون من بعده فتخبره". وزعموا انه أذا قتل قتيل، فلم يدرك به الثار خرج من رأسه طائر كالبومة، وهي الهامة، والذكر الصدى، فيصيح على قبره اسقوني اسقوني، فإن قتل قاتله كفّ عن صياحه. وكان بعضهم يقول ان عظام الموتى تصير هامة وتطير. وذكر ان الصدى حشو الرأس، ويقال لها الهامة أيضاً، أو الدماغ نفسه.

وكان من زعم بعض الجاهليين، ان الإنسان اذا مات أو قتل اجتمع دم الدماغ أو أجزاء منه، فانتصب طيراً هامة، ترجع إلى رأس القبر كل مئة سنة.ويرجع هذا الرأي إلى عقيدة قديمة تعتبر الدم مقراً للنفس، بل تجعل الدم في معنى النفس، والنفس في معنى الدم، وذلك للصلة الوثيقة الكائنة بين الدم والنفس، ولأن الإنسان اذا قتل سال دمه، فتخرج روحه بخروج الدم من الجسم، أي خروج النفس من الدم، بعد ان كانت كامنة فيه. وبمثل هذا الرأي رأي العبرانيين ايضاً في النفس وفي صلتها بالدم، ورأي غيرهم من الشعوب.

وكان اعتقادهم أن مقر الدم ومركز تجمعه في الدماغ، ومن هنا قيل: بنات الهام: مخ الدماغ، فلا غرابة إذا تصوروا ان الروح تنتصب فيه، فتكون هامة تخرج من الرأس، وتطير. ويكون خروجها من الأنف أو الفم، لأن النفس يكون منهما. فتتجمع الأرواح حول القبور، ويكون في وسعها مراقبة أهل الميت وأصدقائه ونقل أخبارهم اليه. ولهذا السبب، تصوروا المقابر مجتمع الأرواح، تطير فيها مرفرفة حول القبور. والى هذه العقيدة أشير في شعر أبي دُواد: سلّط الموت والمنون عليهم  فلهم في صدى المقابر هام

وكذلك في شعر للشاعر لبيد: فليس الناس بعدك في نفيرٍ  وليسوا غير أصداء وهام

ولهذا سموا الدماغ "الطائر" لأنهم تصوروه على صورة طير. قال الشاعر: همُ أنشبوا صم القنا في نحـورهـم  وبيضا ًتقيض البيض من حيث طائر

عنى بالطائر الدماغ. وعبر عنه للسبب المذكور ب "الفرخ" وورد ان "الصدى" ما يبقى من الميت في قبره، وهو جثته، وقيل: حشوة الرأس، أي دماغ الإنسان الهامة والصَّد ىَ. وكانت العرب تقول إن عظام الموتى تصير هامة فتطير. وقال بعض الأخباريين: إن العرب تسمي ذلك الطائر الذي يخرج من هامة الميت اذا بلي، الصدى.

وقد نهى الإسلام عن الاعتقاد بالصدى والهامة. ورد في الحديث: "لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر ".

وذكر بعض العلماء ان المراد من "صفر" في الحديث النبوي المذكور دابة يقال إنها أعدى من الجرب عند العرب.، فأبطل النبيّ أنها تعدي. وقال بعض آخر أراد به النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو تأخيرهم المحرم إلى صفر في تحريمه وجعل صفر هو الشهر الحرام، فأبطله الرسول.

وقد لخص " المسعودي" آراء أهل الجاهلية في النفس والروح، فقال:

"كانت للعرب مذاهب في الجاهلية في النفوس، آراء ينازعون في كيفياتها، فمنهم من زعم ان النفس هي الدم لا غير، وان الروح الهواء الذي في باطن جسم المرء منه نفسه، ولذلك سموا المرأة منه نفساء، لما يخرج منها من الدم، ومن أجل ذلك تنازع فقهاء الأمصار فيما له نفسً سائلة اذا سقط في الماء: هل ينجسه ام لا ? قال تأبط شراً لخاله الشنفري الاكبر وقد سأله عن قتيل قتله، كيف كانت قصته ? فقال: ألجمته عضباً، فسالت نفسه سكباً. وقالوا ان الميت لا ينبعث منه الدم، ولا يوجد فيه، بدأ في حال الحياة، وطبيعته طبيعة الحياة والنماء مع الحرارة والرطوبة، لأن كل حي فيه حرارة ورطوبة، فإذا مات بقي اليبس والبرد، ونفيت الحرارة".

ثم تطرق "المسعودي" إلى رأي من قال ان النفس طائر ينبسط في جسم الإنسان، فإذا مات أو قتل لم يزل مطيفاً به متصوراً اليه في صورة طائر يصرخ على قبره مستوحشا، يسمونه الهام، والواحدة هامة.

ونظراً إلى قلة ما لدينا من موارد عن الروح والنفس وعلاقتهما بالجسد، عند الجاهلين، فإننا لسنا في وضع نستطبع فيه ان نتحدث عن رأي عموم الجاهليين في تركيب الإنسان. هل هو من "جسد" و "روح"، أو "جسد" و "نفسا أي ثنائي التركيب، أو انه من "جسد" و "روح" و "نفس"، أي ثلاثي التركيب. فقد رأينا انهم يجعلون الروح والجسد شيئاً واحداً أحياناً، ويفرقون بينهما أحياناً اخرى. ولكننا نستطيع ان نقول ان غالبيتهم كانت ترى ان الانسلن من جسد، هو الجسم، أي مادة، ومن شيء لطيف ليس بمادة هو الروح أو النفس، وهما مصدرا القوى المدركة في الإنسان ومصدرا الحياة. وان بأنفصالهما عن الجسد، أو بانفصال الجسد عنهما يقع الموت.

ويظهر من مخاطبات الوثنين للاصنام، كانهم كانوا يتصورون أن لها روحأ وأنها تسمع وتجيب. ومن الجائز حلول الروح في الجماد. وقد ورد عن "ابن الكلبي"" عن "مالك ين حارثة" أن والد مالك هذا كان يعطيه اللبن، ويكلفه بأن يذهب به إلى الصنم ود ليسقيه،فكان مالك يشربة سراً ويبخل به على صنمه. واذا صح خبر ابن الكلبي هذا،فإنه يدل على "حارثة"، وربما غيره أيضاً من عبدة الأصنام، كان يرى ان الصنم يعقل ويدرك،يسمع ويرى، وانه وان كان من حجر، إلا أنه ذو روح كما ورد أن من المشركين من كان يرى أن الشمس،ملك من الملائكة ذات نفس وعقل.

ويتبين من تشديد النبي في تسوية القبور مع الأرض، ومن لعن المتخذين على القبور المساجد والسُرُج، ومن النهي عن الصلاة إلى القبور، ومن حديث: اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، ان المشركين كانوا يقدسون قبور اسلافهم، ويتقربون اليها، لزعمهم انهم أحياء، لهم أرواح،تعي وتسمع وتدرك، وتفرح وتغضب وتجيب، وتنفع وتضر، ولهذا حاربها الرسول، وأمر بتسوية القبور، ابعاداً عن أمر الجاهلية في ذلك، وخشية العودة إلى،ما كانت عليه: )ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى(، تعبير عن معنى هذه المشاركة وعن رأيهم في عبادة الأصنام.

الرجعة

واعتقد قوم من العرب في الجاهلية بالرجعة: اي الرجوع إلى الدنيا بعد الموت. فيقولون ان الميت يرجع إلى الدنيا كرة أخرى ويكون فيها حياً، كما كان. ولعل هذه العقيدة هي التي حملت بعض الجاهليين على دفن الطعام وما يحتاج الإنسان في حياته اليه مع الميت في قبره، ظناً منهم، انه سيرجع ثانية إلى هذه الدنيا، فيستفيد منها، فلا يكون معدماً فقيراً. ويفهم من كتب الحديث ان من الناس من سال الرسول عن الرجوع إلى هذه الدنيا، مما يشير إلى معرفة القوم عند ظهور الإسلام بهذا الرأي.

و "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عمر بن الخطاب، فقال:إن رجالاً من المنافقين يزعمون ان رسول الله توفي،وان رسول الله والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع بعد ان قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله فليقطعن ايدي رجال وأرجلهم يزعمون ان رسول الله مات". ثم جاء "أبو يكر" "وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر ? فأنصت، فأبى إلا ان يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه، وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ايها الناس، انه من كان يعبد "محمداً فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا هذه الآية: )وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل( إلى آخر الآية "وقال عمر: والله ما هو إلا ان سمعت أبا يكر يتلوها فعقرت حتى وقعت على الأرض، ما تحملني رجلاي، وعرفت ان رسول الله قد مات".

وقد اعتقد بعض الجاهليين ب "المسخ". وهو تحول صورة إلى صورة أخرى أقبح، وتحول انسان إلى صورة أخرى أقبح، أو إلى حيوان. كأن يصير إنسان قرداً، أو حيواناً آخر، أو إلى شيء جماد. من ذلك ما يراه بعض أهل الأخبار عن "اللات"، من انه كان رجلاً يلت السويق عند صخرة بالطائف، فلما مات قال لهم "عمرو بن لحيّ"، إنه لم يمت.، ولكنه دخل الصخرة،ثم أمرهم بعبادتها وبنى بيتاً عليها يسمى اللات. وما رووه ايضاً عن "أساف،" و "نائلة"، من أنهما كانا رجلا وامرأة، عملا عملاً قبيحاً في الكعبة،فمسخا حجرين. وما رووه من أن "سهيلاً" كان عشاراً على طريق اليمن ظلوماً،فمسخه الله كوكباً.

وورد أن بعض الملائكة عصى الله فأهبط إلى الأرض في صورة رجل تزوج أم جرهم فولدت له جرهماً. وأن ما تولد بين الملك والآدمي يقال له "العلبان". وان "النسناس" جنس من الخلق يثب أحدهم على رجل واحدة، أصلهم حيّ من عاد عصوا رسولهم فمسخوا نسناساً، لكل إنسان منهم يد ورجل من شق واحد، ينقزون كما ينفز الطائر ويرعون كما ترعى البهائم.

وقد ذكر "الجاحظ" أمثلة من امثلة المسخ التي وقعت للحيوان على أعتقاد الناس، من ذلك: اعتقادهم ان السمك "الجريّ " والضباب كانتا أمتين من الأمم مسختا، واعتقادهم ان "الإربيانة" كانت خيّاطة تسرق السلوك، وانها مسخت وترك عليها بعض خيوطها لتكون علامة لها ودليلاً على جنس سرقتها، ومن ان "الفأرة" كانت طحانة، والحية كانت في صورة جَمَل، وان الله عاقبها حتى لاطها بالأرض، وقسم عقابها على عشرة اقسام، حين احتملت دخول ابليس في جوفها حتى وسوس إلى آدم من فيها. ومن ان الإبل خلقت من أعناق الشياطين، وأن الكلاب امة من الجن مسخت، وان الوزغة والحكأة من ممسوخ الحيوان.

ومن أمثلة المسخ: جرهم،فقد زعم ان جرهماً كان من نتاج ما بين الملائكة وبنات آدم، وكان بعغى الملائكة قد عصى الله، فأهبط إلى الأرض في صورة رجل، تزوج أم جرهم فولدت له جرهما. وزعموا ان سهيلاً كان عشاراً باليمن، فلما ظلم مسخه الله نجماً. و "الزهرة"، وقد زعموا انها كانت بغياً عرجت إلى السماء فمسخها الله شهاباً. و "البسوس"، وقد زعموا انها كانت امراة مشؤومة اسمها: البسوس، أعطي زوجها ثلاث دعوات مستجابات، وكان له منها ولد، فكانت محبّه له. فقالت اجعل لي منها دعوة واحدة. قال: فلكِ واحدة. فماذا تريدين ? قالت: ادع الله ان يجعلني أجمل امرأة في بني اسرائيل. ففعل فرغبت عنه، لما علمت أن ليس فيهم مثلها، فأرادت سيئاً. فدعا الله تعالى عليها أن يجعلها كلبة نبّاحة، فذهبت فيها دعوتان. فجاء بنوها، فقالوا: ليس لنا على هذا قرار،قد صارت أمنا كلبة يعيرنا بها الناس. فادع الله تعالى، أن يردها إلى حالها التي كانت عليها، ففعل. فعادت كما كانت: فذهبت الدعوات الثلاث بشؤمها، وبها يضرب المثل.

ونجد عقيدة "المسخ" عند غير العرب أيضاً. في التوراة أن الله مسخ امرأة لوط، فصارت عمود ملح. ونجدها عند الهنود وعند غيرهم من الأمم القديمة. وقد تشرب من اليهودية إلى العرب المسلمين كثير من القصص الوارد في المسخ.

وقد أنكر بعض المتكلمين "المسخ"، وأنكره قوم آخرون، لكنه جوّزو "القلب"، وهو أن يقلب ابن أدم قرداً من غير أن ينقص من جسمه طولاً أو عرضاً.

الزندقة

وقد أشار بعض الأخباريين إلى اعتقاد بعض قريش بالنور والظلمة، زاعمين انهم أخذوه من الحيرة، ويسمي الأخباريون اْصحاب هذا الرأي "الثنوية"، وأطلقوا على تلك الفئة المذكورة من قريش: "الزنادقة". ولم يذكروا شيئاً عن زندقة تلك الجماعة من قريش ولا عن رجالها. وأشار بعض أهل الأخبار إلى وجود الزندقة والتعطيل في قريش: "وكانت الزندقة والتعطيل في قريش". وقد وصفوا الزنديق بانه القائل بدوام بقاء الدهر، ولا يؤمن بالاخرة وبوحدانية الخالق. فهو دهري ملحد لا يؤمن بوجود إلَه واحد، وهو من "الثنوية" على رأي بعض العلماء. والى هذا المعنى في تفسير زندقة قريش، ذهب أكثر أهل الأخبار. وقد عدّ "أبو العلاء" المعري "شداد بن الأسود الليثي" المعروف أيضاً ب "ابن شعوب"، وهي أمه، شاعر زنادقة قريش. وذلك لشعره الذي فيه: ألا من مبلغ الرحمن عنـي  باني تارك شهر الـصـيام

اذا ما الرأس زايل منكبـيه  فقد شبع الأنيس من الطعام

أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا ?  وكيف حياة أصـداء وهـام

أتترك ان ترد الموت عني  وتحييني اذا بليت عظامي

والزندقة كلمة معربة، ذكر علماء اللغة انها. أخذت من الفارسية، أريد بها في الأصل الخارجون والمنشقون،على تعاليم دينهم، فهي في معنى "هرطقة" وقد صار لها في العهدين: الأموي والعباسي مدلول خاص، حيث قصد بها "الموالي الحمر"، الذين تجمعوا في الكوفة، وكانوا يظهرون الإسلام ويبطنون تعاليم المجوسية والإلحاد.

وفي كلام أهل الأخبار عن الزندقة ووصفهم لزندقة قريش إيهام وغموض وخلط. وإذا كان الزنديق هو القائل ببقاء الدهر، وبعدم وجود عالم ثان بعد الموت، فتكون الزندقة "الدهرية" ويكون الزنديق هو الدهرىّ لقوله بالدهر وبأبدية الكون والمادة 0 أما القول بالثنوية: بالنور والظلمة، وبالكفر والالحاد، فشيء آخر، يختلف عن القول بالدهر. والظاهر أن الجمع بين القول بالدهر وبالقول بالنور والظلمة وبالكفر و الالحاد، إنما وقع في الإسلام، بسبب الخلط الذي وقع بين المعنى المفهوم للفظة في الفارسية القديمة وفي الفارسية الحديثة، وبالمعنى الذي ظهر للكلمة في الإسلام. والذي تحول إلى زندقة بغيضة تحوي العناصر المذكورة، والتي كانت تؤدي بمن يتهم بها إلى القتل.

وقد أشير في القرآن الكريم إلى وجود القائلين بالدهر: )وقالوا ما هي إلاّ حياتنا الدنيا، نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر(. وهم على حد قول المفسرين والأخباريين، من لا يؤمن بالآخرة وبوحدانية الله. وهو مذهب ودين كان عليه كثير من أهل الجاهلية، يسخر من البعث بعد الموت، ويرى استحالة ذلك. ولم يذكر المفسرون أن من عقيدة هؤلاء القول بالثنوية،أي بالنور والظلمة، وبوجود إِلهين: إلهَ الخير واله الشر.

وقد ذكر "محمد بن حبيب" أسماء "زنادقة قريش"، فجعلهم: "أبو سفيان ابن حرب"، و "عقبة بن أبي معيط"، و "أبى بن خلف الجمحي"،و "النضر بن الحارث بن كلدة"، و "منبه" و "نبيه" ابنا "الحجاج" الهمّيان، و "العاص بن وائل" السهمي، و"الوليد بن المغيرة المخزومي. ودْكر انهم "تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة". فربط هنا بين الزندقة وبين "نصارى الحيرة". وقد ذهب "ابن قتيبة" أيضأَ، إلى أخذ قريش الزندقة من الحيرة.

والذي نعرفه عن المذكورين،انهم كانوا من المتمسكين الأشداء بعبادة الأصنام وقد كان " أبو سفيان" يستصرخ "هبل" على المسلمين يوم أحد، ويناديه: "أعلُ هُبَلُ، أُعلُ هُبَلُ"، وقد نص على انه كان من أشد المتحمسين لعبادة الأصنام. ولم يذكر أحد من أهل الأخبار، انهم كانوا ثنويين على رآي المجوس، يقولون بإلهين، بالنور والظلمة، وانهم تعبّدوا للنار، أو تأثروا برأي مزدك أو ماني الذي أضيف اليه الزنادقة، ولا نجد في آرائهم المنسوبة اليهم وفي حججهم في معارضة الرسول ما يشير إلى "زندقة" بمعتى "ثنوية"، لذلك فزندقة من ذكرت لا يمكن أن تكون بهذا المعنى ولا على هذه العقيدة.

وللوقوف على زندقة من ذكرت من رجال قريش، ولتحديد معنى زندقتهم، يجب الرجوع إلى ما نسب اليهم من أراء والى ما عارضوا به الرسول وحاربوه من أجله. ويمكن حصر ذلك في أمرين: التقرب إلى الأصنام والتعبد لها،والدفاع عنها بقولهم:)ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى(، ولا علاقة لهذه العقيدة بالزندقة. والأمر الثاني، هو القول باَلدهر وبالتعطيل، أي بنكران البعث والحشر والنشر. ويتجلى ذلك في قولهم لرسول الله: إن كنت صادقاً فيما تقول، فابعث لنا جدّك: "قصي بن كلاب"، حتى نسأله عما كان ويحدث بعد الموت، وامثال ذلك مما له علاقة بنفي وقوع البعث. وهو الذي له صلة بالزندقة. فالزندقة بهذا المعنى قول بالدهر وبدوامه ونكران للبعث، لا الثنوية بمعنى القول: بالنور والظلمة.

وأما ما يرويه أهل الأخبار من أخذ زنادقة قريش زندقتهم من الحيرة، أو من نصارى الحيرة، فإن فيه تاييداً لما قلته من أن الزندقة لا تعني المجوسية والثنوية، وإنما القول بالدهر، وانكار المعاد الجسماني،وهو قول قريب من قول من أنكر بعث الأجسام، وآمن ببعث الروح فقط من النصارى ومن غيرهم من أهل الأديان.

والزندقة بهذا المعنى قريبة من رأي القائلين بالدهر، وهم "الدهرية" الذين أشير اليهم في القرآن الكريم،في الآية: )وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر(. وهم من يقول ببقاء الدهر، وبنكران البعث والآخرة، والخالق والرسل والخلق على بعض الاراء، وينسبون كل شيء إلى فعل الدهر، أي الأبدية مع التأثير في حياة الإنسان وفي العالم. ولهذا أضافوا اليه بعض الألفاظ والنعوت التي تشير الى وجود هذا التأثير في الحياة فقالوا: يد الدهر، وريب الدهر، وعُدواء الدهر،و "الدهر لا يبقي على حدثانه"، و "الدهر يحصد رببه ما يزرع"، وأمثال ذلك من تعابير، فنسبوا اليه الفعل في الكون وفي كل ما فيه.

ونسبوا الإماتة إلى الدهر،. فقالوا: )وما يهلكنا إلا الدهر( أي وما يميتنا إلا الأيام والليالي، اي مرور الزمان وطول العمر، انكاراًَ منهم للصانع. قال أحدهم: فاستأثر الدهر الغداة بهـم  والدهر يرميني وما أرمي

يا دهر قد أكثرت فجعتنـا  بسراتنا ووقرت في العظم

فكانوا في الجاهلية يضيفون النوازل إلى الدهر،والنوازل تنزل بهم من موت أو هرم، فيقولون أصابتهم قوارع الدهر وحوادثه، وأبادهم الدهر، فيجعلون الدهر الذي يفعله، فيذمونه ويسبونه. وقد ذكروا ذلك في أشعارهم.

ومن الجمل التي تنسب الفعل إلى الدهر، قولهم: "أصابتهم قوارع الدهر وحوادثه، وأبادهم الدهر"، والدهر يجلب الحوادث، ففي هذه الجمل وأمثالها معنى أن ما ينزل بالإنسان من قوارع، وما يحلّ به من إبادة هو بفعل الدهر، فهو إذن المهيمن على العالم والمسخر له.

وقد كان هذا الاعتقاد راسخاً في نفوس كثير من الجاهليين، وفي نفوس كثير ممن أدرك الإسلام فأسلم، فكانوا إذا أصيبوا بمكروه وبحادث مزعج نسبوا حدوثه إلى الدهر، فسّبوه كما يتضح من حديث: "لا تسّبوا الدهر،فإن الله الدهر"، أو "فإن الدهر هو الله". ومن حديث: "يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر الدهرَ، وإنما أنا الدهر: اًقلب الليل والنهار". وأحاديث أخرىمن هذا القبيل. وقد ذكر "الجاحظ"، أن مّن الصحابة والتابعين والفقهاء من نهى الناس من قول: طلع سهيل وبرد سهيل، وقوس قزح، كأنهم كرهوا ما كانوا عليه من عادات الجاهلية، ومن العود في شىء من أمرتلك الجاهلية، فاحتالوا في أمورهم، ومنعوهم من الكلام الذي فيه ادنى متعلق.

وفي هذين الحديثين.توفيق لفكرة الجاهيين في الدهر، وللعقيدة الإسلامية في التوحيد بأن صير الدهرُ اللّهَ، وصيره بعض العلماء من أسماء الله الحسنى. والذي حملهم علىذلك،على ما أرى، صعوبة ازالة تلك الفكرة التي رسخت في النفوس منذ القدم عن فعل الدهر، وعن اثره في الكون، فراى القائلون بذلك ازالتها الدهر اسماً من أسماء اللهِ، أو هوّ الله تعالى، وهو واحد أحد، والدهر واحد أبدي أزلي كذلك، فلا تصادم في هذا التوفيق بين الرأيين.

وقد وقع هذا التوفيق على ما أعتقد بعد وفاة الرسول في أمور عديدة نسبت إلى الرسول،وقد ثبت عدم إمكان صدورها منه. وللحكم على صحة نسبة الحديثين الى الرسول أحيل القارىء على الطرق التي وردا بها، والى آراء العلماء فيهما، وأعتقد أنه ان فعل ذلك فسيجد في نسبتهما إلى الرسول بعض الشك، إن لم أقل كل الشك.

وتعبر لفظة "الزمان" عن معنى "الدهر" كذلك.وقد ذهب علماء اللغة:إلى ان الزمان، أقصر من الدهر، اذ يقع على الزمان القصيز، أما الدهر، فالزمان الدائم، اي الزمان الذي لا ينتهي بنهاية. وأنا لا يهمني في هذا المكان تفريق العلماء بينهما في الطول والقصر، إنما المهم عندي هو ان الجاهليين استعملوا الزمان استعمالهم للدهر، ونسبوا اليه ما نسبوه للدهر من فعل في الإنسان وفي الحياة والعالم. هذا "زهير بن أبي سلمى" يشتكى منه في قصيدته التي يمدح بها "هرم بن سنان"، فيقول في مطلعها: لمن الديار بقُنة الـحـجـر  أقوين من حجج ومن دهر

لعبَ الزمان بها وغـيّرهـا  بعدي سوافي الُمورِ والقَطر

وتجد اللفظة في أشعار غيره من الشعراء الجاهليين والإسلاميين تعبّر عن "غدر الزمان" وعن "كذبه"وتلوّنه وتلاعبه بمقدرات الإنسان. وفي كل هده المواضع التي استعملت فيها تعبير عن تلك العقيدة التي لا تزال راسخة في نفوس كثير من الناس، وهي ان الحياة قسمة ونصيب وحظ وبخت، وانه ليس لمخلوق على ما يقدره له القدر من سلطان. وان الزمان يلعب "بالانسان وبالكون كيف يشاء، مع ان الإنسان لو فكر في نفسه وتأمّل في عقله، لوجد انه هو الذي خلق الزمان اي الدهر فأوجده على صورته هذه،بأن حدده وعيّنه بسنين وبقرون، وليس الزمان إلا دوام وبقاء لهذا الكون، وليس له اي فعل حقيقي في هذا الكون، والانسلن هو الذي أوجد السنين ليقيس بها طول الزمان، لحاجته إلى معرفته، وان حسابه بالسنين مهما سيطول، فإنه لن يبلغ ولن يكون في مقدوره بلوغ نهاية الكون".

والمعنى الذي نفهمه من "الدهر" في الشعر الجاهلي، هو،الأبدية مع التأثير في حياة الإنسان وفي العالم. ولهذا أضافوا اليه بعض الألفاظ التي تشير إلى وجود هذا التأثير في الحياة، فقالوا: يد الدهر، وريب الدهر، وعدواء الدهر، وأمثال ذلك من تعابير. فنسبوا اليه الفعل في الكون وفي كل ما هو فيه.

ومن نسب اليه القول بالدهر، الحارث بن قيس، المعروف بابن الغيطلة. وتؤدي لفظة "الأيام" هذا المعنى كذلك، بل استعملت أجزاء اليوم مثل "الليالي" للتعبير عن تلك الفكرة أيضاً. فالليالي هي كالأيام، لا يمكن أن يطمأًن اليها، ولا ان يوثق بها، إنها تتلون وتتبدّل ولا تخلص لأحد. وحيث أن الليالي هي أوقات الراحة والاستقرار والهدوء، وأوقات الانس والطرب والإنفراد بالأحبة، وهي اوقات الغدر والاغتيال والغارات والغزو في الوقت نفسه، فيكون ذكرها في الشعر وتفضيلها على النهار وتقديمها عليه، ونسبة الخير أو الشر اليها أكثر من نسبتهما إلى النهار شيئاً طبيعياً. لذلك يجب ألا يستغرب ما نقرأه فيالشعر وما نسمعه من أفواه الناس من نسبة تبدل الحال والتلون إلى الليالي أكثر من النهار.

وقد استعملت لفظة "عَوْ ض" في معنى الدهر والزمان، وردت في شعر شاعر من شعراء بكر بن وائل، فعبر بهذه اللفظة عن زمانه، واستخدام بكري لهذه الكلمة، يشير إلى الصنم "عوض" الذي كانت بكر قبيلة هذا الشاعر تتعبد له. وقد أقسموا بها، فقالوا: "عوض لا يكون ذلك أبدا"، ولا أستبعد وجود صلة بينها وبين الصنم " عوض".

وأما "الحِمام "، فإنه قضاء الموت وقدره، يقال: "حمَّ أجله" أي قضى وقدر. وقد وردت لفظة "حم" ومتعلقاتها في أشعار عديدة بهذا المعنى.

اي القضاء والتقدير. فورد "ماُ حُمّ واقع"، وورد "أحم الله..." و "حمّه الله"، و "حمت لميقاتي"، و "حمتي"، و "حمام الموت"، و "حمام النفس"، و "حمام المنون"، و "حمام". وهي من حيث هذا المعنى كالحتف والأجل والآجال والحتوف والمنون.

القضاء والقدر

ويسوقنا هذا الموضوع إلىالبحث عن فكرة القضاء والقدر عند الجاهليين. فقد كان بن أهل الجاهليه من كان يقول بالجبر، وبأن الإنسان مسيّر لا مخير. وان كل ما يقع له مكتوب عليه،ليس له دخل في حدوثه. ومن هؤلاء القائلون بالدهر والمنون والحمام و ما شاكل ذلك من مصطلحات تشير إلى وجود هذا الرأي عندهم.

ولا يعني القول بالجبر، ان قائله من المتألهين القائلين بوجود خالق أوجد الكون، فقد كان من المجبرة من كان ملحداً، لا يقول بخالق، وكان منهم من كان مشركاً. كما أن بينهم من كان يؤمن بوجود خالق أو جملة آلهة. فليس لمذهب الجبر علاقة بالخالق، وإنما هو مذهب يرى ان الإنسان مسيّر، وأنه يسير وفق ما كتب له، ومنهم من ينسبه إلى علة، هي الله أوالدهر، ومنهم من لا ينسبه إلى أحد وهو مذهب موجود في اليهودية وفي النصرانية وفي الإسلام.

ونجد هذه العقيدة في شعر الشاعر النصراني "عديّ بن زيد العبادي"، وربما نجدها أيضاً عند سائر إخوانه النصارى ومن كان على هذا الدين من غيرهم من العرب. والواقع ان الاعتقاد بوجود إلهَ خلق الكون منفرداً، أو الهة خلقوا الكون مشتركين، يحمل الإنسان على أن يتصور نفسه أنه لا شيء تجاه خالقه أو الهته وانه من صنعهم، فما يقوم به، هو من صنع الله أو من صنع الآلهة وهي عقيدة لا بد أن يكون للأحوال الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية إذ ذاك دخل في شيوعها بينهم. ونكاد نجد أكثر الشعوب الشرقية على هذا الرأي. وأما ما ظهر من نظرية حرية الارادة وقدرة الإنسان على خلق أفعاله واختياره، فإنه من تاًثير الفلسفة الاغريقية التي دخلت النصرانية.

ونرى "حاتم الطائي" وهو من النصارى على رأي، مؤمناً بالقضاء وبالقدر وبما يأمر به الله، اذ يقول: اتيح له من ارضه وسمـائه  حِمامُ، وما يأمر به الله يفعل

فأسند الأمر والنهي في هذا البيت إلى الله، وأما الإنسان فأنه مامور مسّير ونجده يكل أمره إلى الله، ويدعو قومه إلى تسليم أمرهم للاله الذي يرزقهم اليوم ويرزقهم غدا ً: كلوا اليوم من رزق الالهَ وأيسروا  وان على الرحمان رزقهم غـدا

ونجد "المثقب العبدي" مؤمناً بالله، وبالقدر. فما يقع للانسان بمشيئة الالهَ وقدره: وايقنت إن شاء الاله بأنـه  سيبلغني أجلادها وقصيدها

و "القدر" و "المقدر" و "المقدور" و "الأقدار" و "القضاء"، من الألفاظ القديمة التي كانت تؤدي هذا المعنى الذي نبحث فيه قبل الإسلام. واستعمال المتكلمين للقضاء والقدر وللقدرية، لا يعني ان تلك الكلمات من الألفاظ التي نبعت في الإسلام. بل ان ظهورها في هذا العهد وأشتهارها فيه، هو لاستخدام العلماء لها في مدلولات معينة وفي مصطلحات وأفكار توسعت واستقرت في هذا العهد.

ونجد الاشارة إلى القدر في شعر الجاهليين والمخضرمين بالمعنى الذي نقصده هنا، اي شيء مقدر مفروض على كل انسان. هذا لبيد الشاعر المخضرم يذكر أن ما يرزقه هو من فضل الله عليه، وما يحرمه فإنه مما يجري به القدر. ونجد فكرة القدر مركزة قوية صريحة في شعره، فهو يعتقد ان القدر خيره وشره من الله، وان ما يصيب الإنسان مكتوب عليه، ولا راد لما هو مكتوب. ولا دخل لامرىء في عمله، فليحمد الله على خيره، وليشكره على شرّه ايضاً، فهو العالم وحده بما هو صالح وضار. وشعره هذا لابد ان يكون مما نظمه في الإسلام، اذ لا يعقل ان يكون من نظم عصر وثني، لما يتجلى عليه من الطابع الإسلامي في الفكر وفْي الأسلوب والعرض.

كذلك نجد هذه العقيدة عقيدة القدر في شعر "زهير بن أبي سُلمى" وفي شعر غيره من الشعراء. هذا زهير يقول: إن المنايا أمر لا مفر منه، وإن من جاءت منيته لا بد أن يموت، ولو حاول الارتقاء إلى السماوات فراراً منه. ثم نجده يقول: وجدت المنايا خبط عشواء من تصب  تمته ومن تخطىء يعمر فـيهـرم

فليس للانسان دخل في عمله، وإنما كل شيء يقع له في حياته هو مكتوب عليه. مكتوب عليه أن يموت في أجله، وأن يعيش إلى أجله، وان يكون غنياً وأن يكون فقيراً، وليس للأنسان عمل على سلطان الحظ.

ومن القائلين بالقدر، "عبيد بن الأبرص"، الشاعر الجاهلي الشهير، المقتول في قصة معروفة مشهورة. نجد في الشعر المنسوب اليه اسم "الله" يتردد في كثير من المواضع، ونراه من المتشائمين المؤمنين بالمنايا وبالمحتم المكتوب، ونراه يتوكل على الله، ويدعو الناس إلى الآعتماد عليه، فيقول: من يساًل الناس يحرموه  وسائل اللـه لا يخـيب

باللـه يدرك كـل "خـير  والقول في بعضه تلغيب

والله لـيس لـه شـريك  علاّم ما أخفت القلـوب

ونراه يقول في المنايا: فأبلغ بني وأعمامـهـم  بان المنايا هي الـوارده

لها مدة فنفوس العـبـاد  اليها وإن كرهت قاصده

فلا تجزعوا الحمام دنـا  فللموت ما تلد الوالـده

وفي كثير من مواضع شعره يذكر المنايا ويذكر الموت، ثم هو يتجلد ويتصبر في ملاقاة الشدائد والأهوال، وينصح الناس بالسير على هذا المنوال. والذي يقرأ شعره، يشعر انه أمام رجل حضري رقيق عاطفي المزاج، ذي نفس ميالة إلى التقشف والتصوف، مؤمن بالعدل، كاره للظلم، فهل كان عبيد على هذه الشاكلة? وهل هذا الشعر وخاصة ما جاء منه في البائية هو نظم من منظومه ? أو هو من نظم من عاش بعد في الإسلام ?.

ونجد "عمرو بن كلثوم" في جملة من آمن بالقضاء والقدر، وبأن الموت مقدر لنا، ونحن مقدرون له، وذلك في قوله: وأنّا سوف تدركنا المنايا  مقدرة لنا ومقـدرينـا

وهو من المؤمنين بالله، الحالفين به.وذلك كما جاء في بيت شعر نسبوه اليه: معاذ الله يدعوني لحنث  ولو أقفرت أياماً قتار

وكما ورد في أشعار أخرى تنسب اليه.

والشاعر "لبيد" من هذه الطبقة التي اعتقدت ان الله خالق كل شيء، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا دخل للانسان في عمله. تراه يقول: من هداه سبل الخير اهتدى  ناعم البال ومن شاء أضل

وتؤدي لفظة "منا" معنى القدر، ومنها "الماني" بمعنى القادر، و"المنية" بمعنى الموت، لأن الموت مقدر بوقت مخصوص. وهي من الكلمات السامية المشتركة الواردة في مختلف لهجات هذه المجموعة. ولهذه الكلمهَ صلة باسم الإلهَ الكنعاني "منى"، وهو آلهَ القدر. ولها أيضاً صلة بالصنم "منوات" "منوت "، من أصنام ثمود، وب "مناة" من أصنام الجاهليين.

ومن أصل "منا" "المنايا" الواردة في أشعار الجاهليين. و "الماني" الواردة في شعر منسوب إلى سويد بن عامر المصطلقي، هو: لا تأمن الموت في حلّ ولا حرم  إن المنايا توافي كل إنـسـان

واسلك طريقك فيها غير محتشمً  حتى تلاقي ما يمنى لك الماني

في رواية. و: لا تأمنن وإن أمسيت في حـرم  حتى تلاقي ماُ يُمني لك الماني

فالخيرُ والشر مقرونان في قرن بكل ذلك ياًتيك الجديدان على رواية أخرى.

وفي هذا البيت الذي ينسبه بعض الرواة إلى أبي قلابة اُلُهذلي: فلا تقولن لشىء سوف أفعلـه  حتى تلاقي ما يمني لك الماني

وتؤدي كلمة "المنون" معنى الدهر والموت، وقد تسبق بكلمة "ريب" في بعض الأحيان، فيقال: "ريب المنون " كما يقال "ريب الدهر". ويرى "نولدكه" ان هذه الكلمات هي أسماء آلهة، وليست أسماء أعلام، هي أسماء تعبر عن معان مجردة للألوهية، وهي مما استخدم في لغة الشعر للتعبير عن هذه العقائد الدينية. فالزمان مثلا أو الدهر، لا يعنيان على رأيه هذا إلهاً معيناً، ولا صنما حاصاً، إنما هي تعبير عن فعل الإلهة في الإنسان.

وبعض هذه الكلمات - في رأي " ولهوزن" - مثل قضاء و منيّة، هي بقايا جمل اختصرت، ولم يبق منها غير بقايا، هي هذه الكلمات. فكلمة قضاء هي بقية جملة أصلها "قضاء الله"، سقطت منها الكلمة الأخيرة، وبقيت الأولى. وكذلك الحال في منية، فإنها بقية جملة هي: منية الله، سقط عجزها، وبقي صدرها. وهي تعني ان المنية هي منية الله تصيب الإنسان.

يبدو ان من الغريب ذكر الدهر والزمان والحمام والمنايا وأمثالها في الشعر ونسبة الفعل اليها، بينما يهمل ذكر الأصنام فيه أو نسبة الفعل إلى الله. فهل يعني هذا ان الجاهليين لم يكونوا يعلمون ان لله سلطاناً وحولاً، وان المنايا والحتوف وكل خير أو مكروه هو من فعل الله ? الواقع ان هذا الذي نذكره يذهب اليه أهل الجاهلية ولم يقصدوه. ما ذكر الدهر في الشعر، إلا كتشكي الناس من الزمان أو من الحظ أو النصيب في هذه الأيام. وشكواهم من ذلك لايعني تحديد سلطان الله، أو نكرانه، وانما هو بقية من تصور انساني قديم بنسبة كل فعل وعمل إلى قوة خفية هي القوة العاملة، وهي ما عبرت عنها بالدهر وبالزمان. وذلك لما يتصورونه من مرور الأيام والسنين وبلاء الإنسان فيه، وبقاء الأرض والكون، ومثل هذه النسبة والشكوى عامة عند جميع الشعوب البدائية والمتطورة المتقدمة، فنراها عند القبائل البدائية ونراها عند الغربيين.

ولا يقصر هذا الاستعمال على الشعر وحده، بل نجد ذلك في النثر وفي كلام الناس الاعتيادي. لذلك لا ارى صحيحاً ما ذهب اليه بعض المستشرقين من ان نسبة الفعل إلى الدهر هو من الاستعمالات الخاصة بالشعر.

وهناك كلمات اخرى تشير معانيها إلى هذه الفكرة فكرة القدر، وان الخير والشر وكل ما في يصيب الإنسان" هو مقدر مكتوب. وهي نظرة لا بد أن تكون قد انبعثت من الاّوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن أثر المحيط في الإنسان. ومن شعور الإنسان بأن قوى خفية تلعب به وتوجهه حيث يشاء. فنسب كل ذلك إلى غيره، وصير نفسه مسخرأ موجهاً كالريشة في مهب الرياح. وتؤدي عقيدة القدر بصاحبها الى التشاؤم، والى القنوط والاستسلام والتوجع والتألم، والتشكي من عبث الدهربالإنسان، وهو ليس له دخل في رده وصده. وقد تؤدي بمعتنقها إلى الخمول والكسل، والى العجز في هذه الحياة، والى ردّ كل ما يصيبه بسبب كسله وعدم استخدام قابلياته ومواهبه إلى غدر الدهر به وحنق الزمان عليه، وتلاعب الحدثان بأموره. ونجد أكثر شعراء أهل الجاهلية، هم على هذه الشاكلة، يبكون ايامهم، ويتذكرون الماضى، ويتوجعون، لأنهم سائرون نحو مستقبل مؤلم موجع، لا حول فيه لإنسان ولا قوهّ. انه عالم الشيخوخة أو عالم الموت أو عالم الفقر. وأمثال ذلك من العوالم المفزعة. يستوي في ذلك امرؤ القيس والشعراء المخضرمون، فأنت اذا تمفحت دواوينهم قلما تجد فيهم شاعراً متفائلاَ، أو شاعرأَ غير مبال بالأيام، لا يهمه ما يأتي به الدهر، حتى ليخيل إلينا أن هذا طبع. والواقع أننا نجد الشعراء في الجاهلية والإسلام وأكثر الكتاب والخطباء على هذا المنوال، مما يحمل المرء على القول بوجود التشاؤم في طبع العرب.

وموضوع "القدر" من المواضيع التي حيّرت المسلمين أيضاً. فانقسموا في ذلك إلى مذاهب. وقد مرّ الرسول بناس كانوا يتذاكرون في القدر، فقال: انكم قد أخذتم في شعبين بعيدي الغور. أي يبعد أن تدركوا حقيقة علمه، كالماء الغائر الذي لا يقدر عليه.

وقد ذكر علماء التفسير أن قريشاً خاصموا الرسول في القدر، وأن رجلاٌ جاء إلى الرسول فقال: يا رسول الله ففيم العمل ? أفي شيء نستأنفه، أو في شيء قد فرغ منه ? فقال رسول الله: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، سنيسره لليسرى، وسنيسره للعسرى. ويظهر من ذلك أن قريشاً أو جمعاً منهم، لم يكونوا يؤمنون بالقدر، بل كانوا يؤمنون بان فعل الإنسان منه، وان لا لأحد من سلطان في تصرفه وفعله.

القدرية

وذكر ان الشاعر "الأعشى" كان قدرياً، يرى ان للانسان دخلاً في فعله، وأن له سلطاناً على نفسه، حيث يقول: استأثر الله بالوفـاء وبـال  عدل وولى الملامة الرجلا

فالانسان مسؤول عن فعله، ملام على ما يرتكبه من قبيح. فالله عادل، لا يجازي الإنسان إلا على فعله، ولو كان قد قدر كل شيء له، وحتمه عليه كان ظالماً. وقد أخذ الأعشى رأيه هذا "من قبل العباديين نصارى الحيرة، كان ياًتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك ".

فنحن أمام عقيدتين. عقيدة تقول: إن الله خالق كل شيء، وان فعل الإنسان من تقدير الله وأمره، فهو يفعل بفعله وبحسب ما قدره له، ورأي يقول ان الإنسان خالق فعله، فهو حرّ مختار، ولهذا فهو وحده مسؤول عن عمله، من خير- أو شرّ. والرأي الأول أظهر عندهم وأقوى من الرأي الثاني.

الحظ

وحظ الإنسان، اي ما يصيبه في حياته، هو جزء من هذا الموضوع أيضاً. مشتبك به، متصل بأجزائه، والحظ في اللغة النصيب والجد. أو خاص بالنصيب من الخير والفضل. والنصيب، هو ما قدر وما قسم لك، أي حظك. والحظ وهو "البخت". وقيل: البخت من المعربات، وقيل من الألفاظ التي تكلمت العرب بها قديماً. وذكر علماء اللغة أن الجد البخت والحظ في الدنيا-. ويفهم من الأمثلة الواردة في شرح معنى اللفظة، أنها في معنى الحظوة والرزق. أي في معنى الشيء الحسن المفرح مما يصيب الإنسان.

قالوا: والحظ موجود في المرزوق والمحروم، وفي المحارف، وفي القبائل، فربما سعدت بالحظ، وربما حظيت بالجد. وهو كذلك في الشعر وفي النياهة، ورب عاقل فاهم أديب، لا يكون إلا دائم الصبر على الشدة، لسلطان الحظ على الإنسان.

ونظرية "القسمة والنصيب"، معروفة في الإسلام، وقد بحث فيها علماء الكلام. فهي فن الموضوعات التي بحثت في الجاهلية والإسلام. ونجد احد الشعراء يقول: وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى  ولكن أحاظ قسـمـت وجـدود

وهو بيت ينسب لسويد بن حذاق العبدي، ويروى للمعلوط بن بدل القريعي و صدره: متى ما يرى الناس الغني وجاره  فقير يقولوا عاجـز وجـلـيد

أي "إنما أتاه الغني لجلادته، وحرم الفقير لعجزه وقلة معرفته، وليس كما ظنوا، بل ذلك من فعل القسّام وهو الله سبحانه وتعالى، لقوله: )نحن قسمنا بينهم معيشتهم (. وفي هذا المعنى قول الشهاب المقري: سبحان من قسم الحظـو  ظ فلا عتاب ولا ملامه

وأهل الجاهلية يرجعون القسمة إلى الدهر والزمان والحظ. فاًبطل الإسلام ذلك، اذ جعلها بأمر الله وقدره. فالله هو مقدر الأقدار، ومقسم القسَمْ، وموزع الحظوظ والأرزاق.

الطبع والطبيعة

ومن الموضوعات التي لها صلة بالقضاء والقدر. موضوع الطبع، أي الخليقة والسجية التي جبل عليها الإنسان. فرأي كثير من الجاهليين، ان الإنسان مجبول على طبيعته التي ولد فيها، وكل انسان على طبيعته، ولا يستطيع تبديل طبعه، ولا تغيير السجايا، لأنها مكتوبة على الإنسان مسنونة، ولاْ تبديل لما طبع المرء عليه. وطبائع الإنسان لا يغيرها إلا الموت. جاء في شعر لبيد: فاقنع بما قسم المليك، فإنما  قسم الخلائق بيننا علاّمها

وهو شعر قد يكون مما قاله في الإسلام.

و "زهير بن أبي سلمى"، ممن يعتقدون بهذه العقيدة، ويأخذون بهذا الرأي،فهو القائل: ومهما تكن عند امرئ من خلـيقة  ولو خالها تخفى على الناس، تعلمْ

الفصل السادس والستون

الالهة والتقرب اليها

لا نملك - ويا للاسف - نصوصاً جاهلية فيها وصف لطبائع الآلهة، ولا أساطير فيها شيء على رأي أهل الجاهلية في أخلاق أربابهم، ولهذا صار مرجعنا وسندنا في تكوين صورة عن طبائع الآلهة وأخلاقها، دراسة وتفسير أسماء الالهة ونعوتها التي نعتت بها، لاستخراج شيء منها يعيننا على تكوين هّذه ا الصورة. وتفسير أسماء الآلهة ومعرفة أصولها وجذورها، عملية ليست سهلة يسيرة،بسبب جهلنا بمعاني بعض تلك الأسماء، وعدم وقوفنا على أصولها التي اشتقت منها، لأن اللهجات التي دوّنت بها، لا تزال بعيدة عن مداركنا، ولأن قواعد نحوها وصرفها مختلف بعض الاختلافات عن قواعد وصرف عربيتنا، و نحن لا نملك اليوم المؤهلات الكافية، للحكم في تلك اللهجات حكمنا في عربيتنا.

واسم الإلهَ هو صفة في الغالب، ألبسها الزمن بمضي الوقت لباس العلمية قعدت اسما علما فإذا استطعنا الرجوع الى اصول وجذور هذه الأسماء الصفات، نكون قد استنبطنا شيئاً عن طبائع تلّك الآلهة من صفاتها المذكورة. ونجحنا بعض النجاح من تكوين رأي عن تلك الديانات الجاهلية.

هنالك أسماء مثل "ال" "ايل"، يجد الباحثون صعوبة في الاتفاق على أصولها، وضبط معانيها، وهناك أسماء واضحة جليّة ظاهرة، تدل على أشياء معروفة محسوسة، مثل "شمس" و "ورخ" بمعنى قمر، و "عثتر" و "الشعرى العبور" و "نجم" ة و "ثريا" وأمثال ذلك من أسماء تشير إلى أشياء مادية، هي كواكب ونجوم، يستدل منها على وجود عبادة الأجرام السماوية عند الجاهليين. وهناك أسماء، هي نعوت في الواقع، لا تدل على ظواهر حسية وانما تعبر عن أمور معنوية، مثل "ود-" بمعنى "حبّ" و "رض"،و"سعد"، و "حكم"، و "نهي"، و "صدق"، و "رحمن"، و "ر حم" "ها - ر حم" "الرحيم"، و "سمع"، "سميع"، و "محرمم" "محرم"، وأمثال ذلك من ألفاظ، هي نعوت، جرت بين الناس مجرى الأسماء. وعلى هذه الصفات الأسماء سيكون جلّ اعتمادنا في استنباط الصورة التي نريد تكوينها عن طبيعة آلهة العرب ا لجنوبيين.

وعلينا ان نضيف على ما تقدم الأعلام المركبة المضافة للاشخاص،.مثل "عبد ود"، و "عبد مناف"، و "عبد شمس"، و "عبد يغوث"، و "امت العزى" "أمة العزى"، فالكلمات الثانية من الاسم، أسماء أصنام. وفي تركيب الاسم على هذا النحو، دلالة على تذلل الإنسان تجاه ربه، واعتبار نفسه عبداً له، وفيه تعبير عن صلة الأشخاص بربهم، أضف اليها الأعلام المركبة تركيباً إخبارياً، مثل "ودم ابم"، أي "ود أبٌ" أو "أبٌ ود"، ففي هذا التركيب دلالة على حنو الإلَه على المؤمنين به، واشفاقه عليهم، إشفاق الأب على أولاده.

ودراسة الأمور المذكورة، هي مصدر مهم، بل هي تكاد في هذا اليوم ان تكون المصدر الوحيد لفهم ذات الآلهة وادراك شخصيتها، ولفهم تطور الدين على مر العصور والأجيال، وكيف تطور الدين عند الجاهليين إلى يوم ظهور الإسلام.

هذا، ونجد في النصوص العربية الجنوبية المتأخرة، أسماء الهة لا نجد لها موضعاً في النصوص العربية الجنوبية المتقدمة، واختفاءً لأسماء الآلهة القديمة التي كانت لامعة ساطعة في سماء الألوهية عند العرب الجنوبيين قبل الميلاد. ونجد أسماء آلهة قبائل تعبد عند قبائل أخرى مع معبوداتها القديمة،وأسماء آلهة كانت لامعة شهيرة، تحولت إلى آلهة صغيرة. وفي كل هذه الملاحظات دلالة على حدوث تطور في الحياة الدينية عند الجاهليين، وعلى تأثر العقائد بمؤثرات داخلية وخارجية،فأًحدثت هذا ا التطور الذي نبحث عنه.

ومن بين أسماء الآلهة، أسماء مركبة،0 استهلت ب "ذ"، أو ب "ذت" و "ذ"، بمعنى "ذو" في عربيتنا و "ذت" بمعنى "ذات". و "ذ" للمذكر، و "ذت" للمؤنث، أما الكلمات التالية، فهي صفات فجملة "عثتر ذ قبضم"، تدل على إله ذكر، اسمه "عثتر ذو القبض" "عثتر ذو قبض"، أو "عثتر القابض" بتعبير أصح. وجملة "ذ شقرن"، و "ذ صهرم" و "ذ عذبتم"، و "ذ يسرم"2، و "ذ امر وشمر"، أي الامر الناهي و "ذ انبى"، هي جمل تشير إلى إله ذكر، لوجود "ذ" علامة التذكير فيه. وجملة " ذت حمم"، و "ذت بعسن"، و "ذت برن"، و "ذت غضرن" و "ذت رحبن"، و "ذت صهرن"، و "ذت صنتم، و "ذت ظهرن"، تشير إلى آلهة إناث، لوجود "ذت" " ذات" في الاسم. ومعنى هذا ان العرب الجنوبيين كانوا قد جعلوا الآلهة كالإنسان اناثاً وذكوراً. وهو ما ورد في القرآن الكريم عن أهل مكة وبعض قبائل الحجاز، من قوله تعالى: ) ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون(، ومن قوله: )فاستفتهم أ لربك البنات ولهم البنون(. وقوله تعالى: )واصطفى البنات على البنين( و ) أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين( و )أم له البنات ولكم البنون(. وقد ذكر علماء التفسير انه "لا ينبغي ان يكون لله ولد ذكر ولا انثى، سبحانه نزه جل جلاله بذلك نفسه عما أضافوا اليه ونسبوه من البنات، فلم يرضوا بجهلهم اذ أضافوا اليه ما لا ينبغي اضافته اليه، ولا ينبغي أن يكون له من الولد ان يضيفوا اليه ما يشتهونه لأنفسهم ويحبونه لها ولكنهم أضافوا اليه ما يكرهونه لأنفسهم ولا يرضونه لها من البنات ما يقتلونها اذا كانت لهم. وذكروا "ان مشركي قريش كانوا يقوِلون: "الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونها". وقد وبخهم القرآن الكريم على قولهم هذا،واستخف بأحلامهم وبما قالوه جهلاً وحماقة.

وذكر علماء التفسير أن كفار قريش قالوا: " الملائكة بنات، الله. فسأل أبو بكر من أمهاتهن ? فقالوا سروات الجن. يحسبون أنهم خلقوا مما خلق منه إبليس. وإنهم قالوا: "ان الله وابليس اخوان "، وان بين الله وبين الجنة نسباً. ولم يذكَر علماء التفسير من قال هذا القول من كفّار قريش.ولا كيف صارت الملائكة بناتاً للّه، أو كيف اصطفى الله. له البنات، و لمَ فضلهن على البنين، إذ لم يذكروا ان أهل الجاهلية نسبوا له ولداً ذكراً، وَلم يذكروا هل اختار الله البنات اختياراً من خلقه، أو من زواج ? وقد رأيت ان رواية نسبت إلى قريش قولهم إن امهات الملائكة سروات الجن، وذلك حين سألهم أبو بكر من أمهاتهن.

ولا نجد في نصوص المسند إشارة إلى زواج الالهة، ولوجود بنات لها. وما قلناه من وجود آلهة ذكور، وآلهة إناث، هو إستنباط من وجود علامة التذكير "ذ" وعلامة التأنيث "ذت" في أسماء الآلهة. أما موضوع زواج القمر بالشمس، وظهور ولد ذكر منه هو "عثتر". فهو من استنباط علماء العربيات الجنوبية ومن آرائهم التي استخلصوها من دراستهم لنصوص. فليس في المسند أي شيء عنه. وليس في المسند، أي شيء عن دين العرب الجنوبيين، وعن أساطيرهم في الآلهة وفي الخلق، ولا عن صلواتهم وأدعيتهم وكل مما يتعلق بالدين من امور.

وكل اسم ورد في المسند استهل بلفظة "ذت"،"ذات"، فيراد به الشمس، وهي إلهة، وكل لفظة بدأت بي "ذ"، "ذي"، فإنها تعني إلهاً، هو القمر أو عثتر. فنحن أمام ثالوث سماوي، يمثل عقيدة الجاهليين في الالوهية، كما يمثل عقيدة الساميين عموماً. والثالوث السماوي هو نواة الألوهية عند جميع الساميين، ومنه انبثقت عقيدة التوحيد فيما بعد.

وعثتر، هو "النجم الثاقب" المذكور في القران الكريم. وقد ذهب المفسرون إلى ان العرب كانت تسمي الثريا النجم. وذكر بعض منهم ان النجم الثاقب هو زحل. والثاقب الذي قد ارتفع على النجوم. وذكر بعض آخر ان النجم الثاقب هو الجدي. واقسم في موضع آخر من القرآن الكريم ب "النجم". وقد ذهب المفسرون إلى ان النجم الثرياْ، ونحن لا يهمنا هنا اختلاف علماء التفسير في تثبيت المراد من النجم، إنما يهمنا ان المراد به نجم من النجوم. فنكون أمام ثالوث معبود: هو الشمس و القمر والنجم الثاقب، الذي هو "عثتر" في نصوص العرب الجنوبيين.

ولهد ذكر ان العرب تعبدت للشمس وللقمر، وان طائفة منها،تعبدت لكواكب أخرى مثل الشعرى، حيث تعبدت لها خزاعة وقيس، ومثل "سهيل"، حيث تعبدت لها "طيء". و "عطارد"، وقد تعبّد له "بنو أسد". و "الأسد"، وقد تعبد له بعض قريش. و "الدبران"، وقد تعبدت له "طسم". و "الزهرة"، وقد تعبد لها اكثر العرب. و "زحل"، وقد تعبد له بعض أهل مكة. حتى إن من الباحثين من زعم " ان "الكعبة" كانت معبداً لزحل في بادئ الأمر. وتعبد للمشتري قوم من لخم وجذام.

ونجد في الكتابات العربية الجنوبية جملة: "ودم ابم"، أي "ود" أب" و "ابم ودم"، أيَ "أبٌ ود". كما نجد جملة: "ولد ود" و "اولد ود" "اولد هو ود"، أي "اولاد ود" بمعنى "شعب معين". وتعبر الجمل الأولى عن معنى ان الإلهَ "ود"، هو إله شفيق رحيم عطوف على الإنسان، هو بالنسبة له بمنزلة الأب من الابن. فهو "أب" للانسان لا بالمعنى التطبيقي بالطبع، أي بمعنى ان الإنسان انحدر من صلبه، بل بالمعنى المجازي الذي أشرت اليه. وبهذا المعنى نفسر جملة: "أولاد ودّ" تعبيراً عن معنى "شعب معين". فالإله "ود" هو أب هذا الشعب يحميه ويدافع عنه ويعطف عليه.

وبهذا المعنى وردت أيضاً جملة "ولد عم" عند القتبانيين و "ولد المقه" عند السبئيين.ف "عم" الذي هو "القمر" في لغة القتبانين هو بمنزلة الأب لشعبه، وكذلك "المقه" الذي هو "القمر" في لهجة سبا.

وقد عبرّ عن الشمس بلفظة "ه الت"،الى "الإلهة." في النصوص العربية الشمالية. وقيل لها "نكرح" في النصوص المعينية، و "ذت حمم" "ذات حمم" "ذات حميم" في النصوص السبئية، كما قيل لها "ذت يعدن" و"ذت غضرن"، و "ذت برن"، و "ذت صهرن" في هذه النصوص كذلك، وقيل لها "ذت ص نتم" و "ذت صهرن" و "ذت رحن" في النصوص القتبانية.

ومن الممكن التعرف على بعض هذه الأسماء التي اريد بها الشمس، ف "ذت حمم"، بمعنى "ذات حمم"، و "ذات تهيم". وقد وردت لفظة "جمتم" و"يحموم " في القرآن الكريم. والحميم الحار الشديد الحرارة، المتقد من شده الحر الساخن الشديد السخونة، وقد ذكر علماء التفسير أن "اليحموم"، دخان حميم، ودخان شديد السواد يخرج من نار جهنم، فمعنى "ذت حمم"، إذن، الإلهة ذات الحرارة الشديدة المتقدة المهلكة، التي تلفح وتحرق. والشمس، نفسها حارة، ملتهبة متقدة. لذلك يكون الناس قد أخذوا صفتها هذه منها فأطلقوها عليها، وصاروا ينعتونها بها، ويخيفون الناس منها، بانتقامها منهم إن خالفوا أمرها وعملوا عملاً يثير غضبها عليهم.

ويقابل هذه الإلهة ذات الحميم، الإله "ال حمون" "حمون" و "بعل حمون لما عند الساميين الشماليين، فهذا الإلهَ الذكر عند الساميين الشماليين، بسبب ان لفظة "الشمس"، نفسها مذكرة عندهم، هو ذو حميم وحما، أي ذو سخونة وحماوة وشدة حرارة، وقد نعت عندهم بالنعت الذيَ نهىّ به عند العرب الجنوبيين. فهو إله ذو حرارة مفزعة، وحمم لا يوصف. وقد استمد هذا الوصف من الطبيعة بالطبع. فالشمس مبعث الحرارة على الارض، يدرك الإنسان حرارته في كل مكان. فهي اذن "ذت حمم" حقاً.

وعرفت للشمس ب "اثرت" في كتابات قتبانية، ومعناها: "اللامعة"، أو الشديدة اللمعان بعبارة اصح والمتوهجة. فهي في معنى "ذت حمم". وعرفت أيضاً ب "ذت اثر"، "ذات اثر"، و ب "ربت اثر"، "ربت أثر".ونجد في النصوص النبطية الإلهة الشمس وقد عرفت ب "ربت الاثر" بمعنى ربة التوهج، مما يدل على ان "اثرت"، و "ذت اثر"، و "ربت أثر"، في القتبانية هذه الالهة للشمس.

وقد يعبر عن "الشمس" ب "الفرس". والفرس من الحيوانات التي قدسها قدماء الساميين. وقد كان العرب الجنوبيون يتقدمون بتماثيل الخيل،تقرباً إلى الآلهة. ومنها الإلهة "ذت بعدن" "ذات البعد" أي البعيدة، وهي الشمس.

واما "عثت"، للذي هو "الزهرة"، فيرد اسمه في نصوص عربية جنوبية كثيرة، ولاسمه هذا صلة باسماء بعض الجاهليين الواردة إلينا، مثل "أوس عثت" بمعنى "عطية عثتر" و "لحيعثت" "لحى عثت".

وفي الكتابات العربية الجنوبية أسماء يظن انها تخص الإله "عثتر". منها: "ذ قبضم"، و "ذ يهرق"، و "ذجفت" و "ذ جرب"، و"جرب"، و "متب نطين"، و "متب قبت"، و "مت مضجب"، و "يهر" و "بر" وغيرها.

وقد عرف "عثتر" ب "الشارق" في الكتابات، فورد "عثتر شرقن" لي "عثتر الشارق" وعرف ب "شرقن" فقط. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن المراد من "شرقن" بمعنى الطالع من الشرق، أو "عثتر المشرق".

وهو تفسير رده بعض آخر من الباحثين، إذ رأوا أن "شرقن"، بمعنى "الشارق". وهي لفظة ترد في اللهجات العربية الشمالية. وقد سبق لي أن بينت رأي المفسرين في "النجم الثاقب" المذكور في القرآن الكريم، وقلت باجمال المراد به هذا الكوكب،وان ذهبوا إلى انه الثريا أو زحل أو الجدي. و"الشارق" صنم من أصنام الجاهليين تسمى به عدد من أهل الجاهلية تسموا ب "عبد الشارق" قد يكون رمزاً لهذا الإلَه.

وورد في بعض كتابات المسند: "ذ غريم"، و "عثتر ذ غريم" أي "الغارب" و "عثتر الغارب". ومعنى ذلك "نجمة الغروب"، أو "نجمة المساء"، و "كوكب المساء"، في مقابل "نجمة الصباح" و "كوكب الصباح".

وورد "عثتر نورو"، و "نورو"، أي "عثتر نور"، "نور". نور صفة من صفات الله في الإسلام. )الله نور السماوات والأرض. مثل نوره(. ولفظة "نورو"، هي نعت من نعوت "عثتر". وورد "سحرن"، بمعنى السحر. والسحر، قبيل الصبح وآخر الليل، فيراد بذلك "كوكب السحر"، اي الكوكب الذي يطلع عند طلوع السحر. كما ورد "متب مطين"، أي "الحامل للرطوبة"، وورد "عثتر قهحم"، أي "عثتر القدير" و "عثتر " القادر" و "القاهر"، و "سمعم"، اي "السميع"، و "نوبم" و "نبعن" و "يغل" "يغلن" بمعنى المدمر، والمنتقم. وقد ورد هذا النعت في احجار القبور بصورة خاصة. وذلك لتذكر من يحاول تغيير الحجر أو أخذه من موضعه أو تدميره أو إلحاق أذى به، أو الاستفادة منه في أغراض أخرى، بأنه في حماية إله قدير منتقم.

وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الإله "رضى" "رضو" الذي يرد في

النصوص الثمودية والصفوية، هو الإلَه "عثتر". وهو صنم ذكره أهل الأخبار، لكنهم لم يذكروا شيئاً عن صلته بالكواكب ولا عن المعبود الذي بمثله.

وقد ورد في الأخبار المتعلقة ب "الرها" ان أهل هذه المدينة، كانوا يعبدون الشمس ويعتقدون بوجود إلهَه يطاع قبلها اسمه "أزيزوس" Azizos، وإلَه يظهر بعدها يسمى "مونيموس" Monimos. وذهب الباحثون الى ان "أزيزوس"، هو "عزيز". وهو نجم الصباح، ويطلع قبل طلوع الشمس. وبمثل "رضى" "رضو"، و "عثتر". ويرد اسم "رضى" في الكتابات التدمرية كذلك. و "عزيز" "العزيز" من صفات الله في الإسلام.

وقد ذهب بعض الباحثين الى ان الصنم المنحوت على شكل طفل هو رمز "عثتر"، أي "رضى" "رضو"، و "عزيز". وقد حفر على شكل طفل عاري الجسم في الكتابات التدمرية. أما الشمس والقمر، فقد مثلا إنسانين كاملين. وفي هدا التصور للالهة في الديانات الفطرية، التي استمدت ادراكها لكُنه الالهة عن مظاهر الطبيعة.

ولعل " تصور الجاهليين الإله "رضو" على هيئة طفل، هو الذي يحل " لنا المشكلة الواردة في أخبار "نيلوس" Nilus" " عن تقديم العرب Saracens قرابين أطفالاً لكوكب الصباح. ذكر "نيلوس" أن العرب سرقوا ابنه ألجميل الصغير "ثيودولس" Theodulus، وقرروا تقديمه قرباناً لكوكب الصباح. وقد قضى الطفل ليلة تعسة صعبة، فلما طلع الكوكب، وحان وقت تقريب الطفل قرباناً له، نام مختطفوه، ولم يستيقظوا إلا وقد طلعت الشمس، وفات وقت القربان، وبذلك نجا الطفل من الهلاك. وقد تفسر جملة " إننا نقدم لك قرباً يشبهك " الواردة في دعاء عثر على نصه في "حران" قصة تقديم الأطفال الجميلة قرابين الى هذا الإله.

وقد أشار كتاب يونان إلى تعبد العرب إلى الشمس والقمر وكوكب الصباح، وهي أجرام سماوية تراها العين. ذاكرين أن العرب لا يتعبدون لآلهة روحية لا يبصرونها بأعينهم. ولهذا تعبدوا لهذه الأجرام المادية وللاحجار.

واما "مونيموس" Monimos، فإنه "منعم". و "منعم" من صفات الله في الإسلام. فالله هو "المنعم" المتفضل على عباده العزيز المقتدر.

وذهب بعض الباحثين إلى أن الصنم "ذو الخلصة" المذكور في كتب أهل الأخبار، والدي كان له بيت يدعى: "الكعبة اليمانية"، ويقال له "الكعبة الشامية" أيضاً، والذي هدم في الإسلام، هو تعبير آخر عن الصنم "عثتر"، أي الإلَه المكون مع القمر والشمس الثالوث.

ويظن ان "ملك" اسم آخر من أسماء "عثتر". وقد تسمى به رجل عرف ب "عبد ملك". كما ورد اسم "عبد ملك" في النصوص النبطية والإرمية، بمعنى "عبد الملك". ويرد اسم "ملك ال" "ملك ايل" كثيراً في الكتابات الثمودية. كما ورد في كتابة من الكتابات القتبانية "مختن ملكن". وقد ظن ان لفظة "ملك" تجني ملكاً، أي رئيس حكومة ملكية، فترجمت جملة "مختن ملكن" ب "مختن الملك" أي ملك قتبان. غير أن هذه الترجمة وإن كانت ترجمة مقبولة، إلا انها غير دقيقة. ولو ترجمت لفظة "ملكن" لمعنى "الملك" على انه اسم اِلَه لكانت للترجمة أحق وأصح. فنحن نجد النص القتباني الذي ورد فيه جملة "مختن ملكن " يقول: "بنى الملك ورم معبد ود واثرت ومختن ملكن"، أي "بنى الملك ورم معبد ود واثرت ومختن الملك"، ولو ترجمناها على هذه للصورة: "بنى الملك ورم معبدود واثرت ومعبد الإله الملك" كانت الترجمة أنسب وأقبل، ويجب ان نتذكر ان الله هو: الملك، في الإسلام، وان "عبد الملك"، وهو من أسماء المسلمين كذلك يعني: عبد الله. وان "الملكوت" من الملك مختصة بملك الله. ورد في للقرآن: )وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والأرض(.

ومن الممكن فهم الصلة من لفظة "ملك" التي تعني اله، ومن لفظة "ملك" المالك على الأرض، أي الملك الدنيوي. فالإلَه مالك، والملك مالك أيضاً، مالك شعبه. ومن هنا فلا غرابة اذا ما رأينا عقيدة تقديس الملوك عند الشعوب القديمة، واعتبار بعضها ملوكها من نسل الآلهة. فالآلهة قوة خارقة، والملوك قوة مسيطرة مهيمنة، تفعل في القديم ما تشاء بغير حساب، وهي ألسنة الآلهة الناطقة على الأرض، فلا بد وان تكون للالهة اذن صلة بالملوك، ولا بد وان يكون لملوك الأرض نسب وان تكون لهم قرابة بالالهة. وقد فسر بعض الباحثين جملة: "ولد ود"،التي نعت بها أحد ملوك قتبان، تفسيراً بهذا المعنى، تفسيراً يعبر عن اعتقاد القوم، بأن ملوكهم هم من نسل الإلهَ "ود". ولكني ارى اننا لو فسرنا لفظة "ولد" بالمعنى المجازي، أي ولد الإله ود على سبيل المجاز، بمعنى ان الإله منه بمنزلة الوالد من الولد، في العطف والود، فإن هذا التفسير يكون مقبولاً أكثر من تفسير الولد المتسلسل من صلب الإلهَ ود.

الآلهة

توصلنا من دراساتنا المتقدمة، إلى أن الآلهة كالبشر ذكوراً وأناثاً. وتوصلنا منها إلى أن القمر، هو مذكر عند جميع العرب على اختلاف لهجاتهم، وأما "الشمس"، فهي أنثى عندهم. واما "النجم"، الذي هو "عثتر"، فهو ولد، عند العرب الجنوبيين. وعلى ذلك فنحن أمام ثالوث سماوي يتألف من إلآهين ذكرين و من إلاهة أنثى.

وقد عجزنا على الاهتداء إلى كيفية ظهور هذا الثالوث. أو العائلة الصغيرة المختارة المكونة من ذكرين وأنثى. لأننا لم نعتثرعلى نص جاهلي أو غير جاهلي يتحدث عن كيفية ظهوره. وعجزنا عن التوصل إلى علاقة أعضاء هذا الثالوث بعضهم ببعض، وذلك لسبب مماثل، هو عدم وجود نص لدينا يشرح لنا هذه العلاقة ولم نتمكن من العثور على أي مورد يشرح لنا كيفية ظهور هذه الالهة، ولا سيما الإلَه "عثتر" الذي يعدّ ابناً للقمر وللشمس.

ولم نعثر ويا للاسف على نصوص جاهلية فيها بعض الشيء عن كيفية التقاء القمر بالشمس، وقي كيفية طلوع "النجم" "عثتر". فبينما تجد في اللغات اليونانية والهندية واللاتينية تعابير عن التقاء الشمس بالقمر، فيها معنى النكاح، نجد أنفسنا قد عجزنا عن الحصول على مثل هذه المصطلحات في النصوص الجاهلية، ولهذا لم نتمكن من تكوين رأي عن تصور الصلة التي كان يراها الجاهليون بين الشمس والقمر. وفي اليونانية والهندية وأساطير الشعوب الأخرى، أن القمر اقترن بالشمس، وتزوج بها، وتغنت بذلك الزواج.

وبالنظر لوجود الإلَه الذكر والإلهة الأنثى في نصوص المسند، لأفي مؤلفات أهل الأخبار، فلا يستبعد احتمال مجيء يوم قد نعثر فيه على نصوص قد تتعرض إلى اسطورة زواج القمر بالشمس. وفي عربيتنا لفظة "اقتران" نطلقها على اقتران الشمس بالقمر وعلى اقترانْ الكواكب بعضها ببعض، وترد في كتب النجوم والأنواء. وفي هذه اللفظة معنى الازدواج.

إن هذه الأسطورة التي جعلت من الأجرام السماوية آلهة، وحصرت الألوهية في ثلاثة أجرام منها في الغالب ثم زوجتها و اولدتها، حولت هذا الزواج إلى زواج حقيقي سماوي يشبه زواج الإنسان على سطح الأرض. زواج تكوّن من ذكر وأنثى، من أب وأم، انتج ولداً عند العرب الجنوبيين، وولدين عند شعوب أخرى غير عربية هما كوكبا الصباح والمساء، أو بناتاً هي الملائكة أو الجن عند فريق من الجاهليين.

ونجد الإلَه "القمر" يلعب دوراً كبيراً في الأساطير الدينية عند الجاهليين. دوراً يتناسب مع مقامه باعتباره رجلاً بعلاً اي زوجاً، والزوج هو البعل، والرب والسيد وصاحب الكلمة على زوجه وأهله عند العرب. وهو القوي ذو الحق، وعلى الزوجة حق الطاعة والخضوع له. وبناءً علي هذه النظرية جعل الإلهَ القمر صاحب الحول و الصول والقوة في عقيدة أهل الجاهلية في الأرباب. ومن هذا الإلهَ القوي الجار، جاء "الله" بعد أن تحول الثالوث عند بعض الجاهليين إلى "واحد"، واستخلصوا منه عبادة "الله".

وقد عرف القمر ب "ثور". ولعل ذلك بسبب قرنيه اللذين يذكران بالهلال. ُدعي بهذه التسمية، أي "ثور" في الكتابات. وقد رمز إلى الإلَه القمر ب "ثور" عند شعوب سامية قديمة أخرى.

ونظراً لأن القمر هو الإلَه الذكر،.صار بمنزلة الأب. فدعي ب "ابم"، اي "أب". ونعت بمحب، فقيل له "ودم" "ود"، لأنه يحب عبيده ويشفق عليهم. وهو "كهلن"، أي القادر والقدير، وهو "حكم"، اي الحاكم والحكيم، وهو "سمعم"، اي السامع والسميع، وهو "علم"، اي العالم والعليم، والبصير المبصر، وهو "نهى"، اي الناهي، وهو "صدق" الصادق الصديق المتعالي المنعم الكريم إلى غير ذلك من نعوت عرف بها ورمز بها اليه في النصوص.

ويجب ان ننتبه إلى ان الكتابات الجاهلية وكذلك أخبار أهل الأخبار، قد نص على اسم الإلهة الشمس، فدعوها باسمها، اي الشمس. أما القمر، فلا نجد لاسمه الخاص ذكراً يتناسب مع مقامه. نعم ذكر ب "شهر" و "سين" في النصوص العربية الجنوبية. و "شهر" القصر في ألعربيات الجنوبية، ولا زال الناس يسمونه بهذه التسمية في جنوبي جزيرة العرب. لكننا نجد أسماءه المأخوذة من النعوت، اي من صفاته تطغى عليه. فهو "ود" في الغالب في النصوص المعينية.ويظن من لا علم عميق له بالعربيات الجنوبية، انه اسم إلهَ خاص، بينما هو اسم من أسماء عديدة للاله القمر عند شعب معين، وهو ".المقه"، اي المنير والنور عند السبئيين اي صفة للشر. وهكذا قل عن باقي أسمائه، فهي صفات له في الغالب، لا اسم علم خاص به، كما في حالة الشمس.

ونحن نجد هذه الظاهرة في روايات أهل الأخبار أيضاً. فبينما تنص أخبار أهل الأخبار على تعبد بعض العرب للشمس، وعلى مخاطبتهم لها ب "الالاهة" وب "لاهة"، وعلى تعبد بعضهم لزحل أو للمشتري أو لغيرهما من الأجرام السماوية كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر، لا نجد للقمر ذكراً في أخبار أهل الأخبار. فلم يشيروا إلى اسمه ولا إلى تعبد الجاهليين له، حتى ليذهب الظن بعد تتبع جميع ما ورد في تلك الأخبار واستقصاءها استقصاءً تاماً ان الجاهليين لم يعرفوا عبادة القمر. والظاهر أن أهل الأخبار كانوا في جهل من عبادة الجاهليين للقمر، بسبب ما شاهدوه من تعبد أهل مكة وغيرهم وكذلك القبائل إلى الأصنام وتقربهم اليها، وقولهم انها تقربهم إلى الله، وبسبب نص القرآن الكريم على تعبد الجاهليين وتقربهم للأصنام والأوثان. فذهبوا إلى أنهم كانوا مجرد عبدة أوثان ولم يفطنوا إلى أنهم اتخذوا الأصنام واسطة وشفيعة للالهة التي هي أجرام سماوية في الأصل.

أو لأن أهل الجاهلية القريبين من الإسلام، كانوا قد ابتعدوا عن عبادة الكواكب ولم يعودوا يذكرونها ذكر أجدادهم لها، واختصروا عبادتها، باًن جعلوا من الثالوث إلهاً واحداً، هو "الله". فتقربوا اليه، وعكفوا يتقربون اليه بالتقرب.إلى الأصنام والأوثان. وذلك باتخاذهم إياها رموزاً مشخصة وممثلة الالهَ على الأرض. فكان لكل. قبيلة صنم يقربهم في زعمهم إلى الله.

واذا أردنا تلخيص ما توصلنا اليه عن آلهة العرب الجنوبيين، قلنا انهم تعبدوا كما ذكرنا لثالوث سماوي تألف من القمر والشمس ومن عثتر، وهو الزهرة في رأي معظم الباحثين. وقد عرف القمر ب "ود" عند المعينيين، وب "المقه" عند السبئيين، و ب "عم" عند قتبان، و ب "سن" "سين" عند حضرموت، و ب "ود" عند أوسان " وعرفت الشمس ب "نكرح" عند المعينيين،و ب "شمس" عند السبئيين، وب "اثرت" "اثيرت" عند القتبانيين، وب "شمس" عند أهل حضرموت و أوسان. وعرف "عثتر" ب "عثتر" عند المعينيين والسبئيين وعند قتبان وأهل حضرموت والأوسانييٍن.

وقد رمز الفن العربي الجنوبي إلى هذا الثالوث السماوي المقدس برموز. فرمز إلى القمر بهلال نحت أو نقش على الأحجار والأخشاب والمعادن. والهلال، يشير بالطبع إلى مطلع القمر في أول الشهر القمري. كما اشير اليه برأس ثور ذي قرنين.

أما الشمس، فقد صورت قرصاً أو دائرة، أو كتلة او هالة، والقرص، صورة طبيعية لقرص الشمس، التي تظهر في السماء قرصاً وهاجاً يبعث الحرارة والنور. واما الزهرة، فرمز اليها بصورة نجمة في النقوش العربية الجنوبية وبثمانية خيوط اشعاعية في النصوص البابلية. وهي ذكر وولد عند العرب الجنوبيين.

وقد هدم الإسلام عبادة الكواكب، وحرم السجود للشمس وللقمر، والصلاة لهما، وحاول اجتثاث كل ما له صلة بتلك للعبادة، فلم يبق اليوم من العرب من يتعبد للثالوث السماوي المقدس. ولكننا لا نزال نرى بعض العوام يغضبون إذا مس أحدهم الشمس أو القمر، وبتقرب الأطفال إلى الشمس بأسنانهم التي يخلعونها لتعطيهم أسنان غزال، أي اسناناً جميلة بيضاء، إلى غير ذلك من أوابد يعرفها الأعراب.

وفي القرآن الكريم: )ومن آياته الليل والنهار. والشمس والقمر. لا تسجدوا للشمس ولا للقمر. واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون(. ) فله فاسجدوا وإياه فاعبدوا دونهما، فإنه إن شاء طمس ضوءهما فترككم حيارى في ظلمة لا تهتدون سبيلاً ولا تبصرون شيئاً(. وقد خاطب الله قريشاً وغيرهم بذلك، مما يدل على أنهم كانوا يسجدون للشمس والقمر. ولعلهم كانوا يفعلون ذلك ضد الشروق،وعند الغروب. وقد ذكر "ابن كثير" في تفسيره الآية المذكورة، ما يأتي: "لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون(. أي ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به.

والسجود الخضوع، ومنه سجود الصلاة، وهو وضع الجبهة على الأرض، والانحناء، وسجد طأطأ رأسه. وكان النصارى يسجدون لأحبارهم، اى سادتهم من رجال دينهم. و "المسجد" من الألفاظ المعروفة عند الجاهليين. وهو البيت الذي يسجد فيه، وكل موضع يتعبد فيه، فهو مسجد.

صفات الآلهة

ومعظم أسماء الآلهة هو كما سبق اني ذكرت صفات في الأصل، استعملت استعمال الأسماء الأعلام، وهي كثيرة يتبين من دراستها ان الآلهة كالانسان، تغضب وترض، تحب وتبغض، قوية شديدة، رؤوفة رحيمة شفيقة، اذا رضيت عن انسان اسعدته في هذه للدنيا، وإن غضبت عليه أهلكته، سميعة بصيرة حكيمة حليمة. باقية خالدة خلود الدهر، بينما الإنسان هالك.

ومن النعوت الواردة في نصوص المسند: "رحم"، أي "رحيم"، فالآلهة رحيمة بعبادها، تغفر ذنوبهم وتصفع عن سيئاتهم، وهي "حليمة" "حلم"، سميعة "سمع".، قديمة "كهلن"، تحمي عبادها حماية الأب لأبنائه "ابحمى"، ترضى عنهم رضاء الأب عن أولاده "اب رضو". شفيقة بهم شفقة الأب بأبنائه "اب شفق"، وتهتم بهم "اب شعر". وهي فخورة "ايل فخر" "الفخر"، عالية سيدة العالم "ال تعلى" "ايل - تعلى"، "ايل تعالى"، و"بعل" "بعلت".

ومن الصفات -والنعوت التي أطلقتها النصوص الثمودية على الآلهة: "عم"،. بمعنى رحيم ورؤوف. و "سمع"، بمعنى "سميع".، و "رم بمعنى العظيم، و "الرامي"، والكبير. و "ابتر" "أبتر بالمعنى المفهوم من اللفظة في عربيتنا، اي، ليس له ولد. ولهذه الصفة أهمية كبيرة بالنسبة لدارس الحياة الدينية وتطور فكرة الألوهية عند الجاهليين، لأنها تشير إلى ان صاحب النص الذي خاطب إلهه يقوله: "ه أل ه ابتر"، "ه إله ابتر"، بمعنى " فيا الله الأبتر"، اي الإلهَ الذي لم يلد ولا ولد له، كان يعتقد ان إلهه لم يلد أحداً، فهو فرد واحد أحد. وقد وردت لفظة "ابتر" في نص ختم بهذه الجملة: "ه ال ه ابتر بك سرور لنا "، اي: "فيا إلاه أبتر بك سرور لنا"، أو بتعبير أوضح: "فيا إلهي أو إلاهنا الذي ليس له ولد، بك نسر""، أو "فيا إلهنا أبتر بك سرور لنا" أو "أنت سرور لنا".

والالهة تساعد الناس وتعاونهم وتغيثهم. هذا نص ثموديَ كتبه رجل من قوم ثمود توسل فيه الى إلهه أن يرسل المسرات "ميسر"، إلى من نزلت بهم للدواهي من الناس. وان يعاون العاملين. "ذ اتا يعمل". وهذا نص آخر، كتبه شخص آخر، وجهه إلى الإلهَ "رضو"، يقول فيه: "ه رضو ات عون عمل". أي "يا رضو امنح العون لمن يعمل"، أو "يا إلهي رضو العون للعامل".

والالهة ضياء للناس، تضيء لهم سواء السبيل، تمنحهم نعمة الرؤية وترشدهم إلى النور. هنا نص يقول: "إلى ن ام ت ض ي ل ن". فهو يطلب من الإله أو من المعبد، أن يضيء لكاتبي النص السبيل، وأن ينقذهم من الغفوة التي أصيبوا بها، ليتجلى لهم الحق. وفي نص آخر: "بك ري نور تمت حيت"، ومعناه "بك رأينا النور. وتمت الحياة"، أو "بك نور. ضياء.. حياة،، أو ما شابه ذلك. فالإلهَ هو نور لهذه الحياة، وضياء للناس.

والله عالم بكل شيء، ذو المعرفة والعلم. وقد وردت صفة "ه ع ر ف" "ها عارف" "ها عرف" أي العارف في نص وسم بJSA 568، وفي نص آخر، وسم ب Hu626. وهو العالم المحيط بكل شيء، وقد عبر عن هذه الصفة بلفظة "حصي"، و"أحصى" بمعنى أحاط وأحصى كل شيء عدداً، فالله محيط بكل شيء عالم لا يخفي على علمه شيء.

ووصفت الالهة في النصوص الثمودية بأوصاف أخرى، مثل "عبر" بمعنى"القدير" والقوي والمعتز، و "ذ عبر"، "ذو عبر" بمعنى ذو الحول والطول، وذو القوة والقدرة. و "ذبر"، وهي بهذا المعنى أيضاً. وهو "العوذ"، "عوذ"، والملجأ لكل إنسان. وهو "العلي"، وقد وردت جملة "عل رضو"،بمعنى "أعل رضو"، وهي جملة تذكرنا يقول "أبو سفيان" يوم معركة "أحد":"اعلُ هبل، اعلُ هبل". وإني أرجح أن لفظة "عل" في هذا النص، تعني "على"، أي حرف جر، فيكون المعنى "على رضو الملجأ"، و "على رضو المعولّ".

ولم أعثر في النصوص الجاهلية على نعت يشير إلى استخفاف أو حطة بالآلهة.

فلم أجد إلهاً نعت فيها باللؤم أو بالسرقة،، أو بالاعتداء على الأعراض، أو رمي بالحسد، حسد الناس أو حسد امثاله من الأرباب، كما لم أجد ما تجده في الأساطير اليونانية من وجود فروق بين الآلهة، وتباين بينها في المنزلة والمكانة، بحيث نجد آلهة كبيرة غنية، وآلهة ضعيفة فقيرة تحسد الأولى وتنقم عليها، وآلهة تسرق وتنهب لحاجتها إلى المال ولفقرها، ولم أجد فيها التخصص الذي نجده في الآلهة اليونانية، من وجود آلهة للبحار، وآلهة للهواء، وآلهة للحب، وآلهة للخمر، ونحو ذلك، وكل ما نجده عندهم، هو وجود آلهة شعوب وقبائل، مثل ود إلَه شعب معين، والمقه إلَه شعب سبأ، وهبل إلهَ قريش، وهكذا نشأت من الظروف المحلية التي عاش فيها الجاهليون.

ولا أستبعد وجود "ميثولوجيا" أي أساطير عند الجاهليين، تدور حول آلهتهم، فقد تحدثت عن رأي بعضهم في "الشعرى"، ولكني أستبعد وجود أساطير دينية معقدة عندهم على شاكلة الأساطير اليونانية، أو الأساطير المصرية أو الهندية، لما بين الظروف المحيطة بالجاهليين وبين الشعوب المذكورة من فروق. والأساطير هي من حاصل المجتمع والظروف المتحكمة في الإنسان.

وإذا وجدنا آلهة أهل الجاهلية على هذا النحو من الصفات المذكورة، حساسة ذات حسّ مرهف، تنفعل بسرعة، تغضب وترضى، فيجب أن نعرف أن هذه الصفات، تمثل خلق من اطلقها على أربابه، فأرباب الناس من صنعهم، هو الذي أوجد تلك الأصنام وسوّاها، فما دام هو موجدها، فلن تكون آلهته إلا على شاكلته، إنها صورة صادقة له.

الثواب والعقاب

وما يفعله الإنسان من خير أو شر، سيكون ثوابه وجزاؤه في هذه الدنيا. والآلهة، هي التي تثيب وتعاقب. تثيب المتقي المتعبد لها المتقرب اليها بالنذور وبالبر بمعابدها، فتعطيه مالاً وتبارك له في نفسه وفي أهله، وتعطيه ذرية صالحة ذكوراً. وتنجيه من البلايا والآفات ومن الأوبئة والأمراض، وترجعه سالماً معافى من الحروب، تشفي جروحه اذا جرح، وتغدق عليه بالنعم من غنائم الحرب. فهذا هو الثواب. ثواب في الدنيا وكفى.

اما العقوبة، ففي الدنيا وحدها ايضاً، وتكون بإنزال البلاء بمن يستحقه من الخارجين على أوامر الالهة، المتجاسرين على حرمة المعابد، المارقين على النظام، المخالفين لسلوك المجتمع، المتجاوزين على حقوق غيرهم. ومن البًلاء الأمراض، من عمى وعور، واصابة عضو من اْعضاء الجسم بعطب، والأوبئة. ونجد في النصوص توسلات إلى الآلهة بأن تصيب من يغير النصوص المدونة الموضوعة شواخص على القبور، ومن يتطاول على حرمة المقابر، أو يدفن غريباً فيها بغير اذن، بالعمى والعور، لتجاوزه على حرمة القبور. وكان في روع أهل مكة وما حولها ان من يعرض للسائبة، أو لحرمات ال له، أصابته عقوبة في الدنيا. وعقوبات الدنيا أشد تخويفاً للاعرابي، واكثر وقعاً في نفسه من العقوبات المؤجلة في للعالم الثاني، ثم إن معظم اهل الجاهلية لا يؤمنون باليوم الثاني، ولا بحشر وبعث ونشر. ولولا الثواب والخوف من العقاب في هذه الدنيا، لما تقدم انسان وهو فقير بائس، بأعز ما عنده إلى آلهته، على فقره وجوعه، ليقدَمه قربة اليه، وهو في أشد الحاجة له، ولما بنى الناس المعابد، وتقدموا اليها بالهدايا والنذور، ولما ذكر رجل الهته وتبرك باسمها، ووضع ملكه في حمايتها ورعايتها، ولعمت الفوضى المجتمع، وأكل بعضهم بعضاً، ونهبوا المال. والخوف من العقوبة في هذه الدنيا، ساعد بالطبع كثيراً في ردع الأشرار عن غيهم، وفي منعهم من الاعتداء على الحرمات، كما ان الإثابة في هذه الدنيا حملتم على عمل الخير، وعلى التقرب إلى المعابد والعمل بأوامر رجال الدين، لتحقيق رضى الالهة، وفي نيل رضاها كسب مادي وربح ملموس أكيد في هذه الحياة.

ولولا الأمل في الرضى والثواب، والخوف من الالهة، لما جعل الناس أنفسهم عبيداً إلى الالهة، فسموا أنفسهم "عبد ود" و "امت العزى" "أمة العزى"، و "عبد يغوث"، و "عبدَ مناة"، وما شابه ذلك من أسماءُ دعي أصحابها بها، أملاً في العمر الطويل، وفي التهرب من الموت. فقد كان الآباء والأمهات ينذرون نذراً، انه ان ولد لهم مولود، أخدموه إلهاً من الآلهة، ودعوه عبداً له حتى يعيش. يفعل هذا الفعل من لا يعيش له مولود، ومن يولد له مولود لكنه لا يعمر طويلاً، بل يموت طفلاً أو في مقتبل العمر. فأمل الإنسان في ان يضع الإلَه حمايته ورعايته للمولود، دفعه على ركوب هذا المركب، لاقناع الآلهة بدفع الموت عن أبنائهم وحمايتهم منه.

ولدينا نصوص جاهلية عديدة، تخبر عن تلبية الآلهة توسلات المتعبدين لها، ووفائها لهم بما طلبوه منها. ففي نص ثمودي يخاطب انسان ربه "منف" "مناف" بقوله: "سمعت منف"، أي "سمعت ندائي. يا مناف"، أي استجبت لندائي، فوفيت لى يا إِلهي مناف. وقد دوّنه حمداً له وشكراً واعترافاً بفضله عليه، وفي نص آخر،يخبر صاحبه انه برئ. وان ربه شفاه مما ألم به من مرض. فيقو ل "بر ا ت"، أي "برأت"، و "بر تن"، و "برتتن ". و في نص آخر يشكر انسان ربه "صلم "، ولم يرد في النص السبب الذي حمل صاحب النص على شكر إلهه "صلما"، لكننا نستطيع ان نحزر، فنقول،انه طلب منه شيئاً، فصار على نحو ما اراد فشكر إلهه لذلك وفي نص آخر، توسل من شخص الى إلهه "صلم" لكي يعينه في الفاجعة التي فجع بها. وفي نص آخر، توسل إلى إلهه لأن يمنحه: "خلود"، أي الخلود، بمعنى طول للعمر.

ومن التوسلات الجميلة التي وجهها الثموديون إلى آلهتهم، قول أحدهم: "بالهى امت"، "ب الهى اموت"، "بإلهي اموت"، أو "في حب إلهي أموت "، أو "في إلهي أفنى" فهو يخاطب ربه. وقد ملأ قلبه العشق نحوه، العشق الإلهي الذي نقرأه في كتب اَلمتصوفة، ونسمعه في تغاريدهم يخاطبون بها الله. ونجد هذا الحب الإلهي والهروب إلى الله في نص ثمودي آخر،هذا نصه: "بم مرر. ب ل ه ى جرت، ب ل ه ى ام ت لبب ذ ه غ ث ت". أي "من مرّ". بإلهي استجرتُ " بإلهىِ أموت. اعطني لبك. يا مغيث"، وبعبارة أوضح: "من مر"" و "مر" اسم صاحب النص، فهو يوجه نداءه إلى ربه "استجرتُ بإلهي. وبإلهي اموت. اسمع ندائي يا من يغيث"، أو "يا مغيث".ففي هذه التوسلات وأمثالها رقَة الشعور الديني، والحس المرهف الذي يكون عند كبار المتصوفة في مناجاتهم الله.

?????????????????????????????? ???????التطاول على الأرباب

وفي روع أهل الجاهلية ان من سب الأرباب أو تطاول في كلامه عليها، نزلت به قارعة. فلما أسلم "ضمام بن ثعلبة" السعدي أو التميمي، وقدم على قومه، "فكان أول ما تكلم يه، لن قال: بئست اللات والعزى. قالوا: مه ياضمام اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنونً قال: انهما والله ما يضران ولا ينفعان". ولما تحرش الرسول بالأصنام خوفه المشركون من ان يصاب بسوء، والى تخويفهم هذا أشير في القرآن الكريم: )ويخوفونك بالذين من دونه، ومن يضلل الله، فما له من هاد (. يعني" ويخوفونك "هؤلاء المشركون" يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والالهة أن تصيبك بسوء، ببراءتك منها وعيبك لها، والله كافيك ذلك". و "كانت زنيرة رومية َ، فأسلمت فذهب بصرها، فقال المشركون: أعمتها اللات والعزى"، "وقالت قريش ما أذهب بصرها الا اللات والعزى".

?الفصل السابع والستون

?التقرب الى الآلهة

وكما تقوم الصداقة بين الناس على أساس الود والتقرب والاتصال والتذكر بتقديم الهدايا والألطاف ونفائس الأشياء، كذلك تقوم "الصلة بين الإنسان وآلهته على اساس من الود والصداقة أيضاً. وإذ كانت الآلهة أقدر من الإنسان، كان من اللازم على البشر التودد اليها بشتى الطرق المعبرة عن معاني التقرب والتحبب والتعظيم، لتتذكره، فتمن عليه بالبركه والسعد وبخير ما يشتهيه ويرغب فيه. والبشر عبيد لآلهتهم، فعليهم ان يؤدوا لها ما يجب أن يؤديه العبد لسيده.

إن على العبد واجبات وفروضاً يجب ان يؤديها لصاحبه ومالكه، وعلى الإنسان كائناً ما كان ان يقوم بأداء ما فرض عليه لالهته واربابه في اوقات مكتوبة وفي المناسبات.

ولما كانت عقلية الإنسان القديم وعقلية كل بدائي تقوم على فهم الإدراك الحسي في الدرجة الأولى، كان للهدايا وللنذور والقرابيِن والشعائر العملية المقام الأول في دياناته، لأنها ناحية ملموسة تراها الأعين و تدركها الأبصار، وفيها تضحية تقنع المتدين التقي المتقرب بها إلى آلهته بأنه قد قدم شيئاً ثميناً لها، وانها لذلك سترضى عنه حتماً، لأنه قد آثرها على نفسه فقدم اليها أعز الأشياء وأغلاها. انها سترضى عنه، لأنه لم ينسها، ولم يغفل عنها، ولم يفتر حبه لها.وسترضى عنه كلما تذكرها وقام بأداء هذه الواجبات المفروضة أو المستحبة لها،كما يرضى الصديق عن صديقه أو السيد عن عبده، بإظهار الاخلاص وبالحرص على أداء الأعمال المرضية.

وللدين عقيدة، أي "ايمان Belief وعمل. والعمل أبين وأظهر وأقوى في الديانات القديمة من الايمان، بسبب ان الايمان بالقلب، وهو لا يكون إلا بين المرء وربه، ولا يمكن لأحد الاطلاع على كنهه. أما العمل فهو تجسيد للايمان وتعبير عنه بصورة عملية واقعية. وهو الناحية المحسوسة الظاهرة للتدين. ولا يفهم البدائي من الدين إلا مظاهره، التي ترتكز على تضحية وبذل مادي لارضاء الالهة، فعنده انه متى بذل أعز ما يملكه في سبيل آلهته عدّ مؤمنا ًتقياً، ترضى عنه الآلهة، والسنتها الناطقة بلسانها على الأرض: طبقة رجال الدين. ولهذا رأى بعض العلماء، انه لدراسة دين من الأديان القديمة يجب الاهتمام بشعائره وبالأحكام التي فرضها على أتباعه، لأنها هي أساس ذلك الدين وجوهره.

لقد كانت ديانات الجاهليين ذات حدود ضيقة، آلهتها آلهة محلية، فالإله إما إلَه قبيلة وإما إلهَ موضع. وطبيعي ان تكون صلة الإنسان بإلهه متأثرة بدرجة تفكير ذلك الإنسان وبالشكل العام للمجتمع. والإله في نظرهم هو حامي القبيلة وحامي الموضع، وهو المدافع عنها وعنه في ايام السلم وفي ايام الحرب، ما دام الشعب مطيعاً له منفذاً لأوامره وأحكامه وللشعائر المرسومة التي يعرفها ويقررها ويقوم بتنفيذها رجال الدين.

ويكون ارضاء الآلهة بالتقرب اليها وبتنفيذ أوامرها التي تعينها وتثبتها خاصتها المختصة بين القبيلة أو الشعب، أعني كهَانها ورجال الدين الذين يعرفون اوامرها وأحكامها خير معرفة، وهم الذين يفسرونها ويامرون بتنفيذها بين للناس. وقد يكون هذا التنفيذ في ايام أو أشهر ثابتة معينة تكون لها قدسية وحرمة خاصة، وقد يكون في مواسم. يرى الناس ان آلهتهم تكون في تلك الأوقات حاضرة متهيئة قريبة منهم تسمع شكاواهم وما عندهم من مطالب. ويكون هذا التنفيذ بصور مختلفة أهمها زيارة المعابد والتبرك باصنامها، وتقديم النذور لها، وايقاف الحبوس عليها، والحج اليها في الأوقات المفروضة وفي كل وقت آخر ممكن، وأداء الصدقات والزكاة، تزكية للمال،وتطهيراً للنفس من الذنوب.

ومن اهم ما تقرب به الإنسان إلى آلهته "النذور" و "القرابين" و "المنح"، اي الصدقات والعطايا. وتدخل "الذبائح" في باب النذور والقرابين كذلك.

وبجب ان اضيف "القرى" اي الضيافة عليها أيضاً، لما لها من صبغة أخلاقية دينية، حتى صارت الضيافة من الواجبات المثبتة في نظام "مكة". وهي "الرفادة" أي تقديم الطعام لمن يحتاج اليه.

والمنحة عند العرب ان يعطي الرجل صاحبه المال هبة أو صلة فيكون له، أو ان يمنح الرجل أخاه ناقة أو شاة يحلبها زماناً واياماً ثم يردها. وقد تقع على الأرض،وهي ان يعطي الرجل غيره أرضاً ليزرعهاُ و يستفيد منها،هبة أو عارية. ويظهر من الاشارة اليها في الحديث، انها كانت من أعمال البر المعروفة عند أهل الجاهلية، وكانوا يتقربون بها إلى آلهتهم.

ولم تحدد الوثنية الأشياء التي كان على الإنسان ان يتقدم بها إلى آلهته قربة اليها أو وفاءً لنذر، بل تركت له الأبواب مفتوحة، فله ان يتقرب إلى أربابه بكل ما يختار ويشاء، من امور بسيطة رخيصة إلى أشياء ثمينة غالية، كل حسب مقدوره وقابلياته. فنجد بين النذور مباخر وتماثيل ومصابيح، وأشياء نفيسة من ذهب أو من جواهر. كما كانوا يتبركون بوضع حصونهم وبيوتهم وبساتينهم ومزارعهم في حراسة الالهة ورعايتها، لتحفظها ولتحفظ أصحابها.

ويمكن تقسيم ما تقدم به الجاهليون إلى اربابهم إلى قسمين: قسم إجباري، يجب الوفاء به بسبب "نذر" مثلاً ؛ وقسم تطوعي، أي اختياري مثل "المنح" والذبائح التي تقدم في المواسم وفي سائر الأيام، ويقال لها "ندب" و "ندبت" "ندبة". و "المندوب" في عربيتنا المستحب. وأدخل في القسم الأول ما يقال له "خطَت" "خطاتَ" "خطأة"، ي "الحطيئة". ويراد بها تقديم "فدية" عن عمل مخالف قام به انسان، مثل تقديم ذبيحة بسبب دخول انسان نجس في المعبد.

واذا كنا في شيء من الجهل بالنسبة إلى الزكاة التي كان الناس يدفعونها في نجد أو العربية الشرقية أو في الحجاز إلى المعابد والى رجال الدين، لعدم وجود نصوص جاهلية تكشف النقاب عنها، فإن لنا بعض المعرفة عن الزكاة التي كان يقدمها اهل العربية الجنوبية إلى معابدهم، ظفرنا بها في الكتابات التي عثر عليها هناك، وقد وردت فيها اشارات اليها في نصوص تعرضت لها بالمناسبات.

وهذه الزكاة حصص عينية مقررة تدفع إلى المعبد على شاكلة الحصص التي تدفع إلى أصحاب الأرض والحكومة، تخزن في مخازن المعابد، لتصدّر إلى الخارج، أو لتباع في الأسواق، أو ليصرف منها على المعابد ورجال الدين والمحتاجين. فكان القتبانيون مثلاً يدفعونُ عُشر حاصلهم إلى المعبد، ويعرف ذلك عندهم ب "عصيم"، تدفع هذه الضريبة عن حاصلات الأرض،وذلك في كل سنةً وقد عرفت هذه الضريبة ب "عشر" عند المعينيين، وهي ضريبة تدفع ايضاً عن الحيوان إلى المعبد. وهذه الضريبة هي في الواقع من الضرائب العامة التي كانت تدفعها أمم اخرى عديدة إلى المعابد، وتستند الى تقاليد تأريخية قديمة، والى نظرية ان الأرض هي ملك للالهة، فهي التي تنعم على الإنسان بالحاصل وبالخير وبالبركات، فعلى الإنسان تخصيص جزء من حاصله لتلك الالهة. فإذا قصر انسان في اداء ما عليه إلى الالهة، تعرّض للعقاب ولحرمان الآلهة اياه من البركة والخصب.

ويتبين من نصوص المسند انه كانت في العربية الجنوبية أرضون واسعة مسماة بأسماء الآلهة، أجرّتها المعابد للرؤساء أو سلمّتها إلى ايدي " الكبراء" لاستغلالها في مقابل أجر يدفعونه إلى المعبد يتفق عليه. وهذه الأرضون هي أوقاف حبست على الألهة تعرف ب "وتفم" "وتف"، ومن غلات هذه الأوقاف ومن "العصم" والنذور والهبات الأخرى ينفق على المعابد وعلى رجال الدين.

وقد ظهر في العربية الجنوبية نظام اقطاعي "كهنوتي"، اسياده رجال الدين، تولوا الإشراف على ادارة أملاك المعبد الواسعة وعلى استغلالها وادارة شؤونها، وجباية الأرضين التي يوقفها المؤمنون أصحابها على الآلهة، وعلى استحصال حقوق المعبد من المتمَكنين. وقد أشير في كتابات المسند الى ارضين واسعة كانت اوقافاً للمعابد، أجرّت الى سادات القبائل لاستغلالها في مقابل أجر اتفق عليه. ويظهر ان بعض اولئك السادات كانوا أقوياء وأصحاب نفوذ فاستولوا على "الحبوس" استيلاء في مقابل اجور زهيدة كانوا يدفعونها للمعبد، ولما لم يكن في وسع المعبد فعل شيء تجاههم، اضطر إلى قبول الأجر الزهيد الرمزي الدال على تملك المعبد للارض. اما السادات فكانوا يؤجرون الأرض لأتباعهم باجور عالية، ويربحون من ذلك أرباحاً كبيرة.

وعثر المنقبون على وثائق في خرائب بعض المعابد، تبين منها انها كانت نصوص عقود ايجار واستئجار لأملاك المعبد، أي للاوقاف المحبوسة على أرباب المعبد. وقد ذكر المستأجرون فيها الشروط التي اتفقوا عليها مع المعبد في مقابل استغلال الوقف. واذا كان المستأجر غير متمكن من أداء ما عليه للمعبد في مقابل استغلال الأرض، فإن من حقه الاستدانة من غيره أو الاتفاق معه على المساهمة معه في الاستغلال والاستثمار على شرط اخذ موافقة رجال المعبد على ذلك، وإدخال اسم الشخص الثاني في العقد، كي يكون مسؤولاً شرعاً عن تنفيذ شروط العقد في حالة عدم تمكن زميله من ذلك.

وقد اقتضى تضخم املاك المعابد خلق جهاز خاص لادارة الأملاك والأوقاف والاشراف على استحصال "الأعشار" عن الدخل وتركات الارث والمشتريات إلى جانب النذور والقرابين وتوقيع العقد. جهاز رأسه كبار رجال الدين، الذين يمثلون الالهة على الأرض،وقاعدته صغار رجال الدين ومن عهد اليهم أمر الادارة من غير رجال الدين. فصار للمعبد بذلك نفوذ كبير في اقتصاد العربية الجنوبية في ذلك الوقت.

وفي المعابد مواضع يرمي الزوار فيها ما يجودون به على المعبد، تكون أمام الأصنام في الغالب. وهي خزائن تتجمع فيها النذور والهبات، فياخذها السدنة. وأغلب ما يرمى فيها الحلي والمصوغات المصاغة من الذهب والفضة، والأشياء النفيسة الأخرى. كما كانوا يعلقون السيوف والألبسة الثمينة على الأصنام وعلى الاشجار المقدسة تقرباً اليها، ووفاء بنذور نذروها لها.

ولم يبخل الجاهليون على اصنامهم،فقدموا لها حتى المأكل والمشرب، لاعتقادهم انها تسر بذلك وتفرح. فقد علقوا على "ذي الخلصة"، وهو صنم نصبه "عمرو بن لحي"، القلائد وبيض النعام، والبرد النفيسة، وقدموا له الحنطة والشعير، بل واللبن أيضاً، ليشرب منه، وذبحوا له. فهم يعتقدون أن في الصنم روحاً، وان في مقدوره التلذذ بهذه النذور. وكان في روعهم أنه يشرب من ذلك اللبن.

وقد أشير إلى الهبات التي تقدم إلى المعابد والآلهة بكلمة "وهبم" في النصوص القتبانية. بمعنى "وهبّ" و "هبات". ووردت كلمات أخرى تؤدي هذا المعنى أيضاً. منها: "ودم"، و "شفتم"، و "بنتم". وتقابل هذه ما يقال له: "منحة" و "المنحة" عند العرب الشماليين.

وفي جملة ما يدخل في هذا الباب "بكرت"، أو "الباكورة" أول كل شيء. مثل الثمر وأول مولود بالنسبة للحيوان، حيث يهدى للالهة. وقد كان معروفاً عند العبرانيين وعند غيرهم من الساميين. وذلك أن يجعل صاحب المال ثمرة أول زرعه أو حيوانه نذراً لآلهته. وّقد اشير إلى هذا النذر أو الهبة في نصوص المسند. ومن "الباكورة" العقّيقة التي تحدثت عنها في موضع آخر من هذا الكتاب.

وتلعب النذور دوراً خطيراً في الحياة الدينية عند الجاهليين، حتى صارت عندهم بمثابة المظهر الأول وللوحيد للدين. فالعامة لا تكاد تفهم من الدين إلا تقديم النذور للالهة، لتجيب لها طلباتها وتنعم عليها بنعمائها. والنذور هي وعد على شرط. يتوسل الناذر إلى آلهته بأنها ان أجابت طلباً عينه، وحققت مطلباً نواه، فعليه كذا نذر، يعينه ويذكره. فهنا عقد ووعد بين طرفين في مقابل تنفيذ شرط أو شروط، أحد طرفيه السائل صاحب النذر، أما الطرف الثاني فهو الإله أو الالهة. وأما الشرط، فهو تنفيذ المطالب التي يريدها الناذر. وأما النذر، فهو أشياء مختلفة، قد تكون ذبيحة، وقد تكون جملة ذبائح، وقد تكون نقوداً، وقد تكون فاكهة أو زرعاً، وقد تكون أرضاً،وقد تكون تمثالاً، وقد تكون حبساً لانسان يهب نفسه أو مملوكه أو ابنه لإلهه أو لآلهته، وقد يوهب ما في بطن المرأة أو ما في بطن الحيوان، وقد يكون النذر حيوانات حية. وهكذا نجد مادة النذر كثيرة مختلفة متباينة بتباين النذر والأشخاص.

ولا يشترط في وفاء النذر ان يكون عيناً اي مادة، إذ يجوز ان يكون امرأَ معنوياً، كأن يذكر الناذر في نذره انه إن اجاب الإلهَ الفلاني طلبه وبارك له ومنحه طفلاً، يخدمه له أو يسميه عبده، اي عبد ذلك الإله الذي نذر له. وكثير من الأسماء المبتدأة ب "عبد".يليها اسم "صنم"، هي من هذا القبيل، دُعي اصحابها بها ليحمي من سمّي به صاحب ذلك الاسم في مقابل تلك التسمية. ومن هذا القبيل عبد مناف وعبد مناة.

ومن هذا القبيل ايضاً نذر المواهب، كأن ينذر شخص مواهبه لصنم او لمعبد، باًن يتعهد ان يقوم بترنيم التراتيل الدينية في الأعياد أو في اوقات الصلوات والمناسبات في ذلك المعبد، أو يقوم فيه بأعمال فنية مثل رسم منظر ديني أو تزيين معبد الإله، والنذر بالصيام وبغير ذلك.

ويعبر عن الابن الذي ينذره أبوه أو أمه بأن يجعله خادماً للمعبد أو للصنم أو للكنيسة ذكراً كان أم أنثى "النذيره"، وذلك لأنه حبس على خدمة الإله أو الصنم أو المعبد وتفرغ، فلا يخدم أحداً سواها. وفي التنزيل: )إني نذرت لكَ ما في بطني محرراً".

ويقال للنذر "النَّحْب"، وهو ما ينذره الإنسان على نفسه فيجعله نحباً واجباً، وقيل: إنما قيل للنذر نذراً، لأنه ينذر فيه، أي أوجب على النفس. ووردت لفظة "نذر" "نذرم" "نذرن" في نصوص المسند، بمعنى "نذر" و"نذور".

ومن هذه النذور "الربيط". فقد كان الجاهليون ينذرون أنهم إذا عاش لهم مولود جعلوه خادماَ للبيت، أي لبيت الصنم. ومن هنا لقب "الغوث بن مرّ" بالربيط " لأن أمه كانت لا يعيش لها ولد، فنذرت لئن عاش هذا لتربطن برأسه صوفة، ولتجعلنه ربيط الكعبة، فعاش ففعلت وجعلته خادماً للبيت حتى بلغ الحلم، فنزعته فلقب الربيط".

ويظهر من بعض الروايات انهم كانوا يربطون الربيط بالبيت. فقد ذكروا أن أم "الغوث" لما "ربطته عند البيت اًصابه الحرّ، فمرت به، وقد سقط وذوى واسترخى "، فيظهر أنهم كانوا يربطونه برباط بالموضع المقدس، ليكون على اتصال تام به، كما يفعل الناس اليوم من ربط مرضاهم ومن لا يعيش طويلاً من الأولاد بقبور الأولياء بخيط أو حبل، رجاء الشفاء وطول العمر، وقد يعقدون خيطاً أو شريطاً بالقبر، لهذا الغرض.

وقد كان اصحاب النذور يتنسكون ويكثرون من تعبدهم ومن تقربهم للصنم الذي نذروا له، ليمنّ عليهم ويحقق لهم ما طلبوه. وقد اشار "لبيد" الى الناسكات ينتظرن النذر بقوله: توجس النُبوُحَ شُعٌثا غُبراً  كالناسكات ينتظرن النذرا

ومن نذورهم في الجاهلية، انهم كانوا ينذرون بألا تهب الصبا حتى يذبحوا أو ينحروا، ويظهر ان هذه عادة كانت لها صلة بطقوس دينية جاهلية قديمة،نجدها عند اهل مكة وعند الأعراب.

وتكون النذور في حالات الشدة والضيق في الغالب. فإذا أصيب انسان بمكروه أو أصيب عزيز له بذلك، نذر إلى آلهته نذراً، يقدمه لها حالة تحقق الشرط، فإن صادف ان تحقق ما طلبه، وجب على الناذر الوفاء بنذوره. ونظراً لظروف ذلك الوقت، فقد كانت النذور كثيرة ومتنوعة. منها نذور مادية، ومنها نذور معنوية، مثل التعبد والتبتل وخدمة بيوت الأصنام وما شاكل ذلك من نذور. وقد كانوا لا يحلون لأنفسهم التملص والتخلص من الوفاء بالنذور، لاعتقادهم

انهم إن أكلوها ولم يوفوا بها، غضبت عليهم الالهة، ولاسيما الإلَه الذي جعلوا نذرهم له، فيصابون بغضب منها، و ينالهم مكروه، فهم لذلك يوفون نذورهم ولا يقصرون في الأداء، إلا لحاجة أو لاستهتار. أو لتغلب الشح على النفس، ومع ذلك، فقد كاّنوا يلجأون الى الحيل الشرعية في هذا التهرب، بإيجاد الحلول و الأعذار.

ونجد في نصوص المسند عدداً كبيراً من الكتابات تفيد ان صاحب الكتابة قد قدّم إلى الإلهَ الفلاني كذا وكذا، لأنه أجاب طلبه وأعطاه ما أراد ووفاه بحسب طلبه، فقدم اليه كذا وكذا وفاء لنذره. وتذكر في النص أحياناً جملة لتنزل اللعنة أو لينزل الهلاك والدمار أو ما شابه ذلك على من يحاول ازالة النذر والأثر عن موضعه أو إلحاق الأذى به أو ما شابه ذلك من عبارات. وقد ورد مثل ذلك في النصوص الثمودية والليانية والنصوص الأخرى. وتفهم فكرة النذر والغاية منه صراحة من هذه الكتابات، فالناذر قدّم نذره، لأن الإلهَ المذكور أو الآلهة المذكورة أجابت طلبه ووفت له ما أراد، فوفى هو له أو لها ما أشترط على نفسه تقديمه عند عقده صيغة النذر. فالإلهَ أو الالهة طرف يسمع ويتعاقد ويجيب ويفعل أو تفعل تماماً كما يفعل الإنسان، وهي تشترط على الطرف الثاني اي على السائل الوفاء بالنذر، لأنه دين يجب عليه دفعه في مقابل تنفيذ الآلهة الشروط المذكورة، وإلا فإن الآلهة تغضب عليه وتوقع القصاص عليه، وقد تسحب ما قدمت له حينما عقدت النذر معه.

وكانت القرابين البشرية في جملة الأشياء التي قدمها الإنسان نذراً إلى آلهته. وكان "عبد المطلب"، كما يذكر أهل الأخبار قد نذر إن توافى له عشرة رهط أن ينحر أحدهم. فلما اكمل العدد، قرر الوفاء بنذره، وذلك بذبح أحدهم. وإِذ لم يكن قد عين الولد الذي سيذبحه، ذهب كعادة أهل مكة إلى هُبل يستقسم عنده. فلما أصاب النصيب "عبد الله"، ذهب إلى "إساف" ونائلة وثَني قريش الذين تنحر عندهما، ليذبحه، "فقامت اليه قريش من أنديتها: فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب ? قال: أذبحه. فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبداً حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا ?". ثم سألوه أن يذهب إلى عرّافة كانت بالمدينة لها "تابع"، لترى رأيها في الموضوع وتفتي فيه، فلما ذهب اليها،وجدها بخيبر، فأشارت عليه أن يعود الى مكة، ثم يضرب بالقداح على ابنه وعلى عشر من الإبل وهو مقدار الدية عندهم، فإن خرجت القداح على عبد الله ضربوا القداح مرة أخرى، فإن خرجت القداح على عبد الله مرة أخرى، أعادوا الضرب حتى يقع على الإبل، فيكون الرب قد رضي عنه، فتنحر الإبل عندئذ، فسمع نصيحتها وفعل، ونحرت الإبل فدية عن ابنه "عبد الله". والظاهر أن عادة نحر الأبناء عند الكعبة قد بقيت حتى بعد دخول العرب في الإسلام، بدليل ما ورد عن نذر امرأة أن تنحر ابنها عند الكعبة في أمر إن فعلته، ففعلت ذلك الأمر، فجاءت إلى المدينة تستفتي علماءها في الأمر. فأشار عليها من استفتتهم بوجوب الوفاء بالنذر، ولكنهم ذكروا لها أن الله قد نهى عن قتل أنفسكم، وذكروا لها قصة عبد المطلب المذكورة، ومعنى ذلك تقديم الفداء.

كذلك كان من عادة الجاهليين النذر في ساعات الشدة والخطر، فكان بعض النساء ينذرن أن يجعلن ولدهن "حمساً" إن شفي الرب ابنها من مرض ألم به، كما كانوا ينذرون بحلق شعر الرأس أو جز شعر الناصية أو الاعتكاف والانزواء بعيداً عن الناس. وهي عادات نجدها عند غير العرب أيضاً.

وقد أشار المفسرون وأصحاب الحديث والأخبار الى نذور كانت معروفة في الجاهلية، فمنعها الإسلام وفي بعضها نوع من التحايل والتلاعب، حيث كانوا يتصرفون بحسب أهوائهم وشهواتهم ومنافعهم وقت استحقاق النذر. ومن ذلك ما أشير اليه في القرآن الكريم: )وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا: هذا لله بزعمهم، وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون(. وقد ذكر المفسرون ان من الجاهليين من كان يزرع لله زرعاً وللأصنام زرعاً، فكان اذا زكا الزرع الذي زرعوه لله ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام، جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه عليها، ويقولون ان الله غني والأصنام أحوج، وان زكا الزرع الذي زرعوه للاصنام، ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله لم يجعلوا منه شيئاً لله. وقالوا هو غني.

وكانوا يقسمون الغنم، فيجعلون بعضه لله، وبعضه للاصنام، فما كان لله أطعموه الضيفان، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم. فكانوا اذا اختلط ما جعل للاصنام بما جعل لله تعالى ردوه، واذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه. وقالوا الله أغنى. واذا هلك ما جعل للاصنام، بدّ لوه مما جعل للّه، واذا هلك ما جعل لله لم يبدلوه بما جعل للأصنام.

فهم يتطاولون على ما خصصوه لله من نصيب، ويتصرفون به كما يشاؤون، و يحافظون على ما خصصوه للاصنام، بزعمهم أنها شركاء لله، ويقدمونه لها. ولعل ذلك بسبب أن ما كان يخصصونه للاصنام كان يجد له معقباً وسائلاً،يراجع أصحاب الحرث أي الزرع وأصحاب الأنعام لاستحصال حق الأصنام منهم. وهو حق مفروض، وهم السدنة ورجال الأصنام، فكانوا يستحصلون حقوق الأصنام منهم، على حين كان ما يخصصونه لله نذراً لا يعرف به غير الناذر، فكان يتلاعب به، ويعطيه أو يعطي جزءاً منه إلى جامعي حق الأصنام، على اعتبار أنها شريكة لله، وبذلك يتهرب من أداء النذر كاملاً بهذه الحيلة الشرعية، فلا يستخرج من ماله الذي خصصه لنفسه شيئاً عن الوفاء بالنذر وفاءً تاماً، أو لاعتقادهم أن الله بعيد عنهم، وهو غفور رحيم، أما الأصنام، فقريبة منهم، وهي منتقمة أشد الانتقام.

ويتبين من دراسات النذور عند الشعوب القديمة أنها كانت نتيجة حاجة،وتصور الإنسان أن بإمكانه التأثير على آلهته بهذه النذور، فيجعلها تميل إلى اجابة طلبه وحل مشكلاته، وذلك بتقديم مطالب مغرية تطمعها، وهدايا سارة تفرح بها، كما يفرح الإنسان عند تقديم أمثالها اليه، فيهش لصاحب الهدية ويرتاح له ويتقرب اليه، ويعد الهدية نوعاً من التقرب والتودد والتحبب، فمن واجب من أهديت اليه الهدية مقابلة المتودد بالمثل. وأما الحاجات التي كان يرجو الناذرون تحقيقها، فهي في الغالب الحصول على ثروة، أو صحة وعافية أو ذرية أو نصر وتوفيق. والناذر على يقين بالطبع من أن الإلهَ الذي نذر له النذر قادر على تحقيق ذلك، وإلا لم يتقدم اليه بهذا النذر.

ويدخل في باب النذور ما يأخذه المرء عهداً على نفسه بتجنب الطيبات واللذيذ من العيش، أو بالابتعاد عن الناس، واعتزالهم على نحو ما يفعله الرهبان والناسكون لأمد معين أو لأجل غير معلوم. ونجد أمثلة عديدة من هذا العهد في أخبار الجاهليين، كالذي ذكروه عن "امرىء القيس" من أنه قال حينما بلغه مصرع والده: " الخمر عليّ والنساء حرام حتى أقتل من بني أسد مئة وأجز نواصي مئة "، وكالذي رووه عن غيره من الجاهليين. وهي كلها من هذا الطراز. أخذ الشخص عهداً على نفسه بألا يقرب امرأة أو يشرب خمراً أو يضع طيباً أو يقرب اللذائذ حتى يأخذ بثأره أو يتحقق ما نوى عليه، وقد يحدد ذلك بوقت بأن يعين أجل العهد.

وإذ كان النذر عهداً، كان من اللازم تنفيذ العهد ? فإذا مات من أخذ عهداً على نفسه بأن يفعل شيئاً لم يفعله، فعلى ورثته وقبيلته الوفاء بعهده. فإذا مات شخص كان قد نذر على نفسه الأخذ في بثأر قتيل ولم يوف بعهده، بسبب موته، فعلى اهله وذوي قرابته وأفراد قبيلته الأخذ بالثأر. ولذلك كانت أحقاد الثأر تنتقل من الآباء إلى الأبناء فالأحفاد، وتستغرق أحياناً زمناً طويلا حنى يؤخذ بالثأر. وقد نشأت عن هذه العهود مشكلات خطيرة في المجتمع الإسلامي في موضوع العهود التي يمكن تنفيذها والعهود التي لا يجوز تنفيذها، أو التي يسمح بعدم تنفيذها وفي مبلغ التبعة التي تترتب على الورثة في تنفيذ العهود.

القرابين

وتؤلف القرابين جزءاً مهماً من عبادة الأمم القديمة، بل تكاد تكون العلامة الفارقة عندهم للدين. والرجل المتدين في عرفهم هو الرجل الذي يتذكر آلهته ويضعها دائماً نصب عينيه، وذلك بتقديم القرابين لها، ولست أخطئ اذا قلت انها كانت عندهم أبرز من العبادات العملية كالصلوات، لأن الإنسان القديم لم يكن يفهم آنئذ من الحياة إلا مفهومها المادي،وهو يرى بعينيه ويدرك ان ما يقدم اليه من هدايا يؤثر في نفسه كثيراً، ولذلك كان من الطبيعي ان يتصور بعقله ان القرابين هي أوقع في نفوس آلهته من اي شيء كان، فقدمها على كل شيء، وجعلها عبادة يتقرب بها إلى الآلهة كما يتقرب اهل الأديان السماوية إلى الإلَه بالدعاء والصلوات، فهي في نظره عبادة تقربه إلى الأرباب.

وقد كان الجاهليون، يعظمون البيت بالدم، ويتقربون إلى أصنامهم بالذبائح، يرون ان تعظيم البيت أو الصنم لا يكون إلا بالذبح، وان الذبائح من تقوى القلوب. والذبح هو الشعار الدال على الاخلاص في الدين عندهم،وعلامة التعظيم. "قال المسلمون: يا رسول الله، كان اهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم،فنحن أحق ان نعظمه".

ويظهر من قول أحد الشعراء الجاهليين: فلا لعمر الذي مسحت كعـبـتـه  وما هرُيق على الأنصاب من جسدِ

أن الجاهليين كانوا يريقون دم الضحية على الأنصاب،وهي موضوعة في الكعبة، ويمسحون الكعبة.

وكلمة "قربان" وجمعها "قرابين"، هي من أصل "ق ر ب"، وقد استعملت وخصصت بهذا المعنى لأنها تقرب إلى الآلهة. والقربان هو كل ما يتقرب به إلى الله. فليس القربان خاصاً بالذبائح، وان صار ذلك مدلوله في الغالب.

ومن القرابين ما يقدّم في أوقات معينة موقوتة، ومنها ما ليس له وقت محدد ثابت بل يقدم في كل وقت. ومن أمثلة النوع الأول ما يقدم في الأعياد أو في المواسم أو في الأشهر أو في أوقات معينة من اليوم وفي ساعات العبادات، ومن أمثلة النوع الثاني ما يقدم عند ميلاد مولود، أو انشاء بناء أو القيام بحملة عسكرية أو لنصر وما شابه ذلك من احوال. ويدخل في النوع الأول الأحتفاء بأعياد الآلهة، حيث تكسى أصنامها أحسن الحلل، وتزين باجمل زينة، ثم يوضع أمامها ما لنَّ من الطعام وما حسن من الهدايا، وتذبح لها الذبائح، تذبح على الأنصاب. ويأتي الكهاّن ليقوموا بتأدية الشعائر الدينية المقررة في هذه الأحوال. ومعظم نصوص المسند كتابات دونت عند تقديم قربان أو نذر إلى الآلهة في ميلاد مولود، أو شفاء مريض، أو بناء معبد أو بيت، أو حفر خندق أو تشييد برج أو سور، أو حفر بئر أو زواج وما شاكل ذلك. ويظهر منها ان الناس في ذلك العهد كانوا يقدمون القرابين إلى آلهتهم في مناسبات كثيرة، تقرباً اليها وارضاء لها، ولكي تمنّ على أصحابها بالخير والبركة.

وقد استعملت نصوص المسند لفظة "ذبح" و "ذبجم" بمعنى "ذبحوا" و "ذبح" و "ذبيحة" و "ذبائح". وقد تسبق بكلمة "يوم"، فتكون "يوم ذبح"، اي "يوم ذبحوا"، ثم يذكر بعدها عدد ما ذبح ونوعه، ثم كلمة "اذبح" بمعنى "ذبائح" في بعض الأحيان. والذبائح التي تقدم إلى الآلهة هي الإبل والبقر والثيران والغنم والمعز، وهي اكثر الحيوانات شيوعاً في الذبح عند الشعوب السامية الأخرى. ولم نجد في نصوص المسند ذكراً لحيوانات اخرى كالأسماك أو الدجاج مثلاً، ولعل ذلك بسبب ضآلة قيمتها وتفاهتها بالقياس إلى أثمان الحيوانات الأخرى، مما جعل الناس يأنفون من الاشارة اليها في النصوص. وفي بعض الأديان حرق الذبائح وسكب دمائها على النار كما يفعل العبرانيون،إذ اتخذوا مذبحاً للمحروقات، ويسمى أيضاً بمذبح النحاس. وكانت ناره لا تطفأ، وتقدم اليه الذبائح على الدوام، ويعرف ذلك عندهم ب "عولاه" Olah، وتفسير الكلمة الشيء الذي يعلو.

وينفي "ولهوزن" وجود المحارق عند الجاهليين، وعنده أن العرب لم يكونوا يحرقون الذبائح للارباب، بل كانوا يكتفون بالذبح وبسكب دم الذبيحة على النصب كله أو بعضه، أو انهم يتركونه يسيل إلى "الغبغب"، وليس في الذي بين أيدينا من نصوص ما يدل على ان الجاهليين كانوا يحرقون ذبائحهم لأربابهم على نحو ما كان يفعله العبرانيون،غير أن ذلك لا يمكن أن يكون مع ذلك دليلا قاطعاً وحجة كافية في اثبات أن هذه العادة لم تكن عند جميع الجاهليين.

وهناك ذبائح من نوع آخر قدمها الإنسان إلى آلهته، من نوع لا تشمله كلمة خروف أو شاة أو بقرة أو ثور أو جمل، من نوع آخر لا تشمله اية تسمية من هذه التسميات التي تطلق على هذه الحيوانات التي يأكلها الإنسان في العادة، هي ذبائح يعاقب القانون كل من يمارسها في الوقت الحاضر بأشد العقوبات، هي ذبائح بشرية قدمها الإنسان إلى الهته لاعتقاده انها زلفى محببة الى نفوسها، وانها ستفيد المجموع وتنقذه من كثير من الأوبئة والأمراض وأنواع الشر والضر، إن كان الإنسان الحديث يتبرأ منها في الزمن الحاضر ويتنكر لها ويحاول تبرئة أجداد أجداده من ممارستها قبل مئات من السنين، فالتأريخ لا يستطيع ان يجد دليلاً يثبت تبرئة أكثر أديان شعوب العالم القديمة من تقديم هذا النوع مهن القرابين، وفي التوراة أمثلة عديدة تتحدث عن تقديم العبرانيين لهذا النوع من القرابين إلى "يهوه"، ليرضى عن شعبه، ويعفو عنه، ويتقرب منه. كذلك نجد هذه العادة عند اليونان والرومان والهنود والفراعنة والصينيين واليابانيين وغيرهم.

أما عند الجاهليين، فذكر "فورفيريوس" Forphyrius أن أهل "دومة" Duma كانوا يذبحون في كل سنة إنساناً عند قدم الصنم تقرباً اليه. وذكر "نيلوس" Nilus أن من عادة بعض القبائل تقديم أجمل من يقع أسيراً في أيديهم إلى "الزُهرة"،ضحية لها تذبح وقت طلوعها، وقد وقع ابنه "تيودولس" Theodolus أسيراً حوالي سنة 400 م في أيدي الأعراب Saracenes، و هيىء ليذبح قرباناً إلى الزُهرة غير ان أحوالاً وقعت أفاتت عليهم الوقت المخصص لتقديم الذبائح، أنقذته من الذبح، فاكتفى آسروه ببيعه في أسواق الرقيق ب "ألوسة" Elusa، فاستقر هناك إلى أن صار أسقفاً على المدينة. وذكر أيضاً أن الملك "المنذر" ملك الحيرة قدم احد ابناء الحارث الذي وقع أسيراً في يديه ونحو من أربع مئة راهبة قرابين إلى العُزّى. غير أننا يجب أن نكون في حذر شديد من قراءة أمثال هذه الروايات، لأن مصدرها في الغالب هو الخيال. كذلك يجب ان نمر برواية الاخباريين عن قصة عبد المطلب وعبد الله بشيء من الاحتراس والحذر، بل والشك والريبة، ويخيل اليّ إن الاخباريين استفادوا في هذه القصة من حكاية ابراهيم واسحاق.

وليس في الذي بين أيدينا من نصوص المسند نصّ ما فيه خبر يشير إلى تقديم شخصً ما ملك أو كاهن أو اي انسان آخر ذبيحة بشرية إلى الآلهة، كذلك لا نجد في النصوص الأخرى مثل النصوص الثمودية أو اللحيانية أو الصفوية مثل هذه الاشارات.

وتلعب "المذابح" التي سبق ان تحدثت عنها، دوراً خطيراً في العبادة عند الساميين، بل تكاد تكون المظهر الأساس للدين والتعبد عندهم في ذلك العهد..ولهذا كان المتدين يكثر من ذبح الذبائح لأنها تقربه إلى الآلهة في نظره.

الترجيب

وقد عرف شهر "رجب" بكثرة ما كان ينحر فيه من عتائر للاصنام، فلا بد ان يكون لذلك أصل وسبب، كأن يكون هذا الشهر من الأشهر التي كان لها حرمة خاصة في الجاهلية القديمة. وشهر رجب هو من الأشهر الحرم المعظمة التي لم يكن يحلّ فيها القتال. وقد سمى الذبح في هذا الشهر ب "الترجيب"، وقيل للذبائح التي تقدم فيه "العتائر" جمع "عتيرة". وقد عدّت العتائر من شعائر الجاهلية. وأطلق بعض علماء اللغة كلمة "العتائر" على ذبح الحيوانات الأليفة، وأطلق لفظة "النافرة" على ذبح الحيوانات الوحشية. "وفي الحديث: هل تدرون ما العتيرة، وهي التي يسمونها الرجبية ? كانوا يذبحون في شهر رجب ذبيحة، وينسبونها اليه. يقال هذه ايام ترجيب وتعتار. وكانت العرب ترجب، وكان ذلك لهم نسكاً".

وذكر بعض أهل الأخبار ان أول من عتر العتائر وسن العتيرة للعرب، هو "بورا"، وهو "بوز"، وهو ابن شوحا، وهو سعد رجب، وهو أول من سن الرجبية للعرب. وهو ابن يعمانا، وهو قموال، و كان في عمر سليمان ابن داود. والظاهر ان أحد أهل الكتاب قص على الاخباريين هذه القصة، فنسبوا هذه السنّة الجاهلية إلى هؤلاء الأشخاص.

وكان بعض السادة ينحرون إذا أهلّ "الشهر الأصم"، اي "شهر رجب". روي: ان "حاتماً الطائي" كان ينحر اذا أهلّ الشهر، ينحر عشراً من الإبل ويطعم الناس لحومها، وذلك لحرمته ومنزلته عنده، ولتعظيم "مضر". فهو من شهود مضر الخاصة.

وعرفت "العتيرة" ب "الرجبية" عند الجاهليين كذلك، لأنها كانت تذبح في شهر رجب، فنسبوها اليه. وعرفت ايام رجب ب "ايام الترجيب". وورد "ايام ترجيب وتعتار". وقيل للذبائح التي تقدم فيه "النسائك" كذلك.

وأصل "النُسك": الدم، وبهذا المعنى ورد من فعل كذا وكذا فعليه نسك، اي دم يهريقه. و "النسيكة": الذبيحة. و "منسك": الموضع الذي تذبح فيه النسيكة، وهذا هو المعنى القديم الأصلي للكلمة. وقد صار من معانيها في العربية الشمالية، العبادة والطاعة، وكل ما يتقرب به إلى الله تعالى، لما كان للذبح من شأن في الديانات القديمة بحيث كان يعدّ عبادة أساسية عندها، ولذلك قيل لمن انصرف إلى التعبد: الناسك.

وقد فسر علماء التفسير لفظة "نسك" الواردة في الآية: "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك"، بذبح ذبيحة شاة أو ما فوق ذلك.

والعرف في الذبح عندهم، انهم كانوا يسوقون ما يريدون تعتاره اي ذبحه إلى النصب الخاص بالصنم أو إلى الصنم نفسه، ثم يذبحونه بعد التسمية باسم ذلك الصنم، وبيان السبب في ذبح هذه العتيرة، ثم يلطخ رأس الصنم بشيء من دم تلك العتيرة،وقد منع المسلمون من أكل ذبائح المشركين، لأنها مما أهل لغير الله، ولأن المشركين لم يكونوا يذكرون اسم الله عليها، بل كانوا يذكرون اسم الصنم الذي يذبحون له عليها. فحرم ذبائح المشركين لذلك على المسلمين.

وقد أبطل الإسلام "الرجبية" وهي العتيرة، كما أبطل "الفرع"، وهو ذبح أول نتاج الإبل والغنم لأصنامهم، فكانوا يأكلونه ويلقون جلده على الشجر. ويذكر انهم كانوا اذا أرادوا ذبح الفرع زيتوه والبسوه، ليكون ذلك أوكد في نفوس الآلهة، وتعريفاً للناس. وكانوا يفعلون ذلك تبركاً. وفي الحديث: لا فرع ولا عتيرة.

وذكر انهم كانوا اذا بلغت الإبل ما يتمناه صاحبها ذبحوا، أو اذا تمت إبل احدهم مائة عتر عنها بعيراً كل عام فأطعمه الناس ولا يذوقه هو ولا أهله، قيل بل قدم بكره فنحره لصنمه.وقد كان المسلمون يفعلونه في صدر الإسلام ثم نسخ. وذكروا ان العتيرة الذبيحة التي كانت تذبح للاصنام ويصب دمها على رأسها. و "العتر" الصنم الذي يصاب رأسه من دم العتر. قال زهير: فزلّ عنها واوفى رأس مـرقـبة  كناصب العتر دمى رأسه النسك.

وكانوا يؤكدون على تلطيخ الصنم الذي يعتر له، أو "النصب" بشيء من دم العتيرة. يفعلون ذلك على ما يظهر،ليحس الصنم بالدم فوقه. فيتقبله ويرضى به عنهم: ويتقبل عتيرتهم.

ويظهر من غربلة ما جاء في روايات علماء اللغة والأخبار عن العتيرة والرجبية،أن العتيرة بمعنى الذبيحة، وأن "العتر" الذبح عامة، في رجب وفي غير رجب. و "العتائر" الذبائح التي كانوا يذبحونها عند أصنامهم وأنصابهم في رجب وفي غير رجب، والتي كانوا يلطخون بدمائها.الصنم الذي كانوا يعترون له. وأما "الرجبية" فهي العتائر التي تعتر في رجب خاصة، وقد كانت كثيرة. ولذلك نسبت إلى هذا الشهر. ونظراً إلى كون الرجبية عتيرة، ذهب البعض إلى أن العتيرة الرجبية. فظن أنهم قصدوا بذلك أن العتيرة هي الرجبية، مع ان الرجبية من العتائر، أي بعض من كل، وليست مساوية لها.

وقد كان بعض أهل الجاهلية إذا طلب أحدهم أمراً نذر لئن ظفر به ليذبحن من غنمه في رجب كذا وكذا، أو أن يقول: إن بلغت ابلي مائة عترت عنها عتيرة، فإذا ظفر به، أو بلغت مائة، فربما ضاقت نفسه عن ذلك، وضن بغنمه، فصاد ظبياً فذبحه، أو ياخذ عددها ظباء، فيذبحها مكان تلك الغنم، وهي "الربيض". والى ذلك أشير في شعر للحارث بن حلزة اليشكري: عنتاً باطلا وظلماً، كـمـاتـع  تر عن هجرة الربيض الظباء

فذلك نوع من أنواع التحايل للتخلص من الوفاء بالنذور.

وكان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم، وانما ياكل لحومها غيرهم. كما كانوا يضرجون البيت بدماء ألبدن،، ويضرجون أصنامهم بها. وورد في رواية أخرى، انهم ينحرون هديهم عند الأصنام، فإذا نحروا هدياً قسموه فيمن حضرهم.

من ذبائح اهل الجاهلية "الشريطة". كانوا يقطعون يسيراً من حلق الشاة ويتركونها حتى تموت ويجعلونه ذكاة لها. وقد نهي عن ذلك في الإسلام. وقيل ذبيحة الشريطة، هي انهم كانوا يشرطونها من العلة، فإذا ماتت قالوا قد ذبحناها.

ومما يلاحظ في تقديم الذبائح، ان النافر يراعي الجنس في اختيار الذبيحة،فإذا كان مقرب القربان ذكراً، اختار قربانه حيواناً ذكراً، وان كان المقرب أنثى، اختيرت الذبيحة أنثى. ولا زال الناس يراعون ذلك حتى اليوم. وفي هذه العادة عند غير العرب أيضاً، فقد كان أهل العراق يقسمون كتف حيوان، في مقابل شفاء كتف انسان، ورأس ذبيحة في مقابل رأس ناذر، وهكذا وكانوا يجعلون الرأس رمزاً أحياناً، فينذرون تقديم رأس المريض أو الصبي إلى الإلَه،إن منّ عليه بالعافية وبالصحة. ويقصدون بذلك بدلاً، رأس حيوان أو رمزاً يرمز اليه من ذهب أو فضة.

البحيرة والسائبة والوصيلة والحام

ومن النذور والقرابين ما يكون حيوانات حية، تسمى كلها أو بعضها باسم الأرباب، فتحبس عليها، وتكون حرة طليقة لا يجوز مسها بسوء. وقد أشير في القرآن الكريم إلى "البحيرة"، و "السائبة"، و "الوصيلة"، و "الحام"،، وللعلماء في هذه المصطلحات كلام، مهما تضارب واختلف، فإنه يوصلنا إلى نتيجة هي ان الجاهليين كانوا يراعون هذه الأمور مراعاة شديدة،ولهم فيها قواعد وأحكام ترجع إلى تقاليد موروثة قديمة، حافظوا عليها، وظلوا يحافظون عليها إلى ان منعها الإسلام.

فاما البحيرة، فالناقة او الشاة تترك فلا ينتفع من لبنها ولا تحمل ولاتركب، وترعى وترد الماء فلا ترد، فاذا ماتت حرموا لحمها على النساء وأباحوه على الرجال، ذلك بعد ان تنتج خمسة أبطن أو عشرة أو ما بين ذلك. وقيل ايضاً الناقة اذا نتجت خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فان كان ذكرا نحروه،فأكله الرجال والنساء جميعاً، وان كانت أنثى شقوا أذنها، فتلك البحيرة، فلا يجز وبرها ولا يحمل عليها، وحرم على النساء ان يذقن من لبنها شيئاً وان ينتفعن بها، وكان منافعها للرجال دون النساء. وقيل للشاة التي تشق أذنها،وذلك شيء كان لأهل الجاهلية. تشق أذنها أو أذن الناقة بنصفين، وقيل بنصفين طولا، ليكون التبحير علامة لها.

وقيل: البحيرة هي التي يمنع درّها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس. قيل لها البحيرة، لأنهم بحروا اذنها، أي شقوها، وكان البحر علامة التخلية. وقال بعض العلماء: البحيرة هي ابنة السائبة. وقال بعض آخر: البحيرة من الإبل يحرم أهل الجاهلية وبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلاّ على الرجال، فما ولدت من ذكر وأنثى، فهو على هيئتها، وان ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها، وورد أن البحيرة من الإبل، كانت الناقة اذا نتجت خمسة أبطن نحروا الخامس ان كان سقباً، وان كان ربعة شقوا أذنها واستحيوها وهي بحيرة. وأما السقب فلا يأكل نساؤهم منه، وهو خالص لرجالهم، فإن ماتت الناقة أو نتجوها ميتا فرجالهم ونساؤهم فيه سواء يأكلون منه. والمرار من "السقب" الذكر من ولد الناقة.

وورد في الأخبار أن أول من بحر البحائر رجل من "بني مدلج"، كانت له ناقتان فجدع آذانها وحرم البانهما وظهورهما، وقال هاتان لله، ثم احتاج اليهما، فشرب ألبانهما وركب ظهورهما. كما نسب التبحير إلى "عمرو بن لحيّ"، إذ قيل إنه كان أول من بحر البحيرة وسيب السائبة.

وأما السائبة، فهي الناقة أو البعير أو الدابة تترك لنذر، أو بعد بلوغ نتاجها حدا معلوماً، فلا تركب ولا يحمل عليها ولا يمنع من ماء وكلأ، وتترك سائبة لا يحل لأحد كائناً من كان مخالفة ذلك. "وكان الرجل في الجاهلية اذا قدم من سفر بعيد، أو بريء من علة، أو نجَته دابة من مشقة أو حرب، قال ناقتي سائبة، أي تسيب، فلا ينتفع بظهرها، ولا تحلا عن ماء، ولا تمنع من كلا، ولا تركب، وقيل: بل كان ينزع من ظهرها فقارة، أو عظما، فتعرف بذلك.فاغير على رجل من العرب، فلم يجد دابة يركبها،فركب سائبة، فقيل: أتركَب حراماً ? فقال: يركب الحرام من لا حلال له، فذهبت مثلاً"، و " قيل: هي أم البحيرة، كانت الناقة اذا ولدت عشرة أبطن، كلهن اناث: سيبت فلم تركب، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت. فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعاً، وبحرت اذن بنتها الأخيرة، فتسمى البحيرة، وهي بمنزلة أمها في أنها سائبة".. وقيل السائبة: كان الرجل من أهل الجاهلية يسيب من ماله من الأنعام، فلا يمنع حوضاً أن يشرع فيه، ولا مرعى أن يرتع فيه، فيهمل في الحمى، فلا ينتفع بظهره، و لا بولده ولا بلبنه ولا بشعره ولا بصوفه، فهو مخلاة لا قيد عليه، ولا راعي له. وكان في روعهم ان من تعرض للسوائب أصابته عقوبة في الدنيا.

ويذكر اهل الأخبار ان أول من سيب السوائب "عمرو بن عامر الخزاعي"، أي "عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف"، أخا بني كعب، وهو أول من غير دين ابراهيم. وقد رجعوا خبرهم هذا الى رسول الله. وقيل ان أول من ابتدع ذلك "جنادة بن عوف"، وهو من النسأة، كما سيأتي الكلام عنه فيما بعد.

وأما الوصيلة، فالناقة التي وصلت بين عشرة أبطن، أو الشاة التي وصلت سبعة أبطن. وفي رواية: ان الشاة اذا ولدت ستة أبطن نظروا، فإن كان السابع ذكراً ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وان كان أنثى تركت في الغنم، وان كان ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها، ولم يذبح، وكان لحمه حراماً على النساء. وفي رواية: ان لبن أم الوصيلة حلال على الرجال دون النساء. وقالوا: الوصيلة الشاة اذا أتامت عشر اناث متتابعات في خمسة أبطن، ليس بينهن ذكر. فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الاناث، إلا ان يموت شيء منها فيشترك في اكله ذكورهم واناثهم.

وأما الحام، فالبعير اذا نتج عشرة أبطن من صلبه، قالوا: قد حمى ظهره،فلا يركب ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى. وقالوا: الحام من الإبل، كان الفحل اذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه. وقالوا بل الحام ان الفحل اذا نتج له عشر اناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى ظهره ولم يركب ولم يجز وبره ويخلى في إبله يضرب فيها لا ينتفع به بغير ذلك. وذكر ان الحام، الفحل يضرب في الإبل عشر سنين، ويقال: اذا ضرب ولد ولده قيل قد حمى ظهره، فيتركونه لا يمس ولا ينحر أبدا ولا يمنع من كلا يريده. وهو من الأنعام التي حرمت ظهورها.

وذكروا ان أول من حمى الحامي هو "عمرو بن لحي ""، وذلك في سنن أخرى سنها لأهل الجاهلية.

وقد أشير في سورة "الأنعام" إلى أشياء كان يفعلها أهل الجاهلية، يتقربون بها إلى آلهتهم، كانوا يحرمون من انعامهم أشياء لا يأكلونها ويعزلون من حرثهم شيئاً معلوماً لالهتهم ويقولون لا يحل، لنا ما سمينا لالهتنا. فورد: )وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصباً. فقالوا: هذا لله بزعمهم، وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون" وورد )وقالوا هذه أنعام وحرث، حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم، وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراءَ عليه سيجزيهم.بما كانوا يفترون. وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا. ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء. سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ".

وذكر المفسرون أن من المشركين من حرم ظهور بعض أنعامهم، فلا يركبون ظهورها، وهم ينتفعون برسلها ونتاجها وسائر الأشياء منها غير ظهورها للركوب. وحرموا من أنعامهم أنعاماً أخر فلا يحجون عليها. وقد ذكروا أن المراد بذلك: البحيرة والسائبة والحام. وأنهم كانوا قد جعلوا ألبان البحائر للذكور دون الإناث. وان كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه، وكان للرجال دون النساء، فان كانت أنثى تترك فلم تذبح، وان كانت ميتة فهم فيه شركاء. فالمراد بهذه الآيات مما ذكرته عن الأمور المتقدمة. وقد كان بعض أصحاب النذر ينذر، فإذا تم النذر وصار وبلغت ابلهم أو غنمهم ذلك العدد، بخل بإبله أو شاته وضاقت نفسه عن الوفاء وضن بإبله وبغنمه فاستعمل التأويل، وقال: إنما قلت إني أذبح كذا وكذا شاة والظباء شاء، كما ان الغنم شاء.: فيجعل ذلك القربان شاءً كله مما يصيده من الظباء فلَذلك يقول الحارث بن حلزة اليشكري: عنناً باطلاً وظلماً كمـا تـع  ترعن حجرة الربيض،الظِباءُ

وكان الرجل من العرب في الجاهلية اذا بلغ إبله ألفاً عار عين بعير منها، وسرحه لا ينتفع به. وكان من عادتهم اذا بلغ إبلهم المئة، ترك ركوب ظهر بعير منها، فلا يركب ولا ينتفع به، ويقولون لذلك: الأخلاق.

وكانوا يتصدقون بمائة من الإبل على الفقراء والمحتاجين والمعابد، وما شاكل ذلك. روي ان "حنيفة" النعم، وهو من أثرياء الجاهلية، لما شعر بدنو أجله، جمع بنيه، ثم أوصى بمائة من إبله على يتيمه صدقهّ. وكانوا يسمونها "المطيبة"، وقد عرف ما كان يحبسه أهل الجاهلية على أصنامهم من السوائب والبحائر والحوامي وغيرها.ب "الحبس". وقد أطلق الإسلام ما حبسوا وحلل ما حرموا،. وهو جمع حبيس.

وكانت لهم مكرمات، فعلوها في الجاهلية عن خلق ودين ورغبة في شهرة وسمعة. منها انهم كانوا يتصدقَون بأموالهم على أبناء السببل وعلى الفقراء والمحتاجين، ذكر ان "الأسود بن ربيِعة بن أبي الأسود" لليشكري، قال لرسول الله: "يا رسول الله إن أبي كان تصدق بمال من ماله على ابن السبيل في الجاهلية، فإن تكن لي مكرمة تركها، وإن لا تكنً لي مكرمة، فأنا أحق بها. فقال: بل هي لك مكرمة فتقبلها". وذكر ان رسول الله قال: "ألا ان كل مكرمة كانت في الجاهلية، فقد جعلتها تحت قدمي، إلا للسقاية والسدانة". وهذه المكرمات هي من مآثر العرب في الجاهلية، مكارمها وتفاخرها للتي تؤثر عنها. وتحريم أكل لحوم الحيوانات في مثل هذه الحالات على النساء وتخصيصه بالرجال، وجوازه في حالات أخرى،ثم تحريم الانتفاع من لبنها على النساء في بعض الحالات وعلى الرجال والنساء في حالات أخرى إلا للضيوف وعلى جواز ركَوبها: كل هذه تشير إلى أنها من شريعة قديمة. وقد رجع بعض العلماء ذلك إلى الطوطمية، غير أن من للعسير قبول هذا التفسير.

وقد كان الجزارون المجازون شرعاً يقومون بذبح الذيائح عند العبرانيين، وهم الذين يقررون صلاح الذبيحة أو عدم موافقتها لأحكام الشرع. أما عند الجاهليين فلا نعرف شيئاً عمن كان يقوم بذبح الضحايا التي تقدم إلى الأصنام، كما أننا لا نستطيع أن نبحث عن الشروط التي كانوا يثسترطونها في الذبيحة ليكون لحمها صالحاً للأكل.

والطيب والبخور من أهم المواد النبي كان يتقرب الجاهليون إلى آلهتهم بإهدائها إلى المعابد. ولم تكن هذه عادة خاصة بالجاهليين وحدهم، بل هي عادة معروفة في جميع الأديان، ولا تزال باقية مستعملة. يحرق البخور في المباخر والمجامر، لتنبعث روائحه الزكية في أبهاء المعبد. أما الخلوق وأنواع الطيب، فتلطخ بها الأصنام وجدران المعبد، وطالما يقدم المؤمنون إلى آلهتهم بمبخره ليحرق البخور فيها. ومن بين نصوص المسند، نصً كتبه مؤمن اسمه "عبد أصدق" وأبناؤه إلى الإلَه "ود"، ذكروا فيه أنهم قدموا اليه مبخرة تعويظ عن المبخرة التي سرقها اللصوص من معبده.وقد عثر في اليمن على مباخر كبيرة نحتت من الصخر، أهديت إلى المعابد، ليحرق فيها البخور.

وبين ما قدم إلى الآلهة، الملابس والأقمشة وأنواع الأطعمة، حتى اللبن قدّم إلى الصنم "ود" على رواية الأخباريين.

ووردت لفظة "الهدي" في القرآن الكريم. ويراد بها ما أهدي إلى مكة من النعم وغيره من مال أو متاع. والعرب تسمي الإبل هَدْياً، لأنها تهدى إلى البيت لتنحر، فأطلقت على جميع الإبل،وإن لم تكن هدياً تسمية للشيء ببعضه. وذكر ان الهدي ما أهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة أو ثياب وكل ما يهدى. فهو عام في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات. إلا ان الاطلاق إنما ينصرف إلى احد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه. وقد ذكر "الهدي" في شعر لزهير بن أبي سلمى: فلم أر معشراً أسروا هدياً  ولم أر جار بيت يستبـاء

يذكر رجلاً أسر يشبهه في حرمته بالبدنة التي تهدى.

وعرف الهدي المقلد بقلائد، تشعر انه مما أهدى إلى بيت الله ب "القلائد".فلا يجوز لأحد ان يتحرش به، أو ان يفك قلائده، لأن ذلك تجاوز على مال الله، وهو مال معلم عليه معروف بقلادته انه من الهدي المخصص بالبيت. فماذا فكت قلادته سرق وحسب من أموال الناس،الخاصة. والظاهر ان من الجاهليين من كان يتطاول على أموال البيت، يستولي على الهدي، ويفك القلائد، ويسطو بذلك على الإبل المقلدة والبقر المقلد، وذلك كما يظهر من الآية: )لا تحلوا شعائر الله، ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد (. ومنهم من كان يسطو على الهدي قبل وصوله موضعه من البيت.

وكانوا يهدون الإبل والبقر إلى بيوت أصنامهم. وقيل الناقة أو البقرة أو البعير تهدى إلى مكة "البدنة". وقد أشير إلى البدن في القرآن، فورد: )والبدن جعلناها لكم من شعائر الله (. تهدى إلى بيت الله فلا تركب. وذكر ان البدن السمان من الإبل والبقر. ويظهر من غربلة ما ورد في روايات علماء التفسير عن البدن، انها الهدايا التي تقدم إلى الكعبة، تحبس فتبقى حية، لا يجوز لأحد التطاول عليها، وكانوا ينحرونها أيضاً. والإبل تنحر قياماً معقولة. فكانوا اذا ا أرادوا نحر البعير، عقلوا احدى يديه،فيقوم على ثلاث قوائم. ولم يكونوا يركبون البدن إلا عن ضرورة. فالبدن إذن ما يهدى إلى مكة، ليحبس على اسمها، أو ليذبح تقرباً إلى رب البيت.

حمى الآلهة

ولحماية الحبوس من أرض ومن حيوان، شددت شرائع الجاهليين في وجوب المحافظة على حرمتها وعدم الاعتداء عليها. وهددت من يتجاسر على مال الأرباب بعقوبة تنزل عليه منها وبغضب الآلهة عليه، وبمصير سيئ يلحق به، فضلاً عن العقوبة التي تنزلها المعابد به، قد تصل حد القتل. فصار من المحظور اعتضاد نبات الحرم وصيد الحيوان فيه، ومن يفعل. ذلك يكون آثماً، وقد يعرض نفسه لغضب الناس عليه. فصار الحرم مرتعاً آمناً للطيور، ولا زال الناس لا يتحرشون بطيور المعابد ولا يمسونها بأي سوء، بل يقدمون لها ما تحبه من المأكول، لتعيش عليه.

وجعلت المعابد لحيواناتها وللهدي وللقلائد مواضع خاصة، اختارتها لترعى فيها جعلت "حمى" للارباب. لا يجوز لأحد رعي سوائمه بها ولا التطاول على دواب تلك الأحمية، لأنها مما حبس للاصنام. وتكون هذه المواضع مخصبة معشبة ذات حياة، وقد تزرع. وتكون غلتها للمعبد.

الفصل الثامن والستون

رجال الدين

أقصد برجال الدين، أولئك الذين خدموا الأصنام، أو زعموا أنهم ألسنة الأرباب الناطقة على سطح الأرض، والذين كانوا يوجهون الناس توجيها روحياً دينيا، ويرعون حرمة المعابد والأماكن المقدسة وشعائر الدين ويحافظون عليها، ويضون قواعدها للناس.

ومعارفنا عن هذا الموضوع قليلة ضئيلة، لعدم وجود نصوص جاهلية نتحدث عن ذلك، ولعدم ورود شيء مهم عنه في روايات أهل الأخبار. وليس لنا من أمل في زيادة علمنا بهذه الناحية، إلا في المستقبل، فلعله يكشف عن نصوص جاهلة جديدة، قد يرد فيها شيء جديد عن رجال الدين عند الجاهليين، أو في موارد أخرى عربية أو غير عربية قديمة، قد تكون مختبئة مطمورة، يأمر الزمن باخراجها، ليقف عليها الباحث عن هذا الموضوع.

ومن الألفاظ الخاصة برجال الدين، لفظة "رشو"، الواردة في النصوص المعينية والقتبانية، أطلقت على من كان يقوم بخدمة الإلَه "ود" إله معين الرئيس و "عم" إله شعب قتبان الرئيس. فهي في معنى سادن في لغة أهل الحجاز. ووردت لفظة "شوع" في المعينية أيضاً في المعنى نفسه. و "رشوت" "رشوة".بمعنى سادنة وكاهنة. مما يدل على وجود سادنات وكاهنات بين رجال الدين الجاهليين.

ووردت في إلمعينية وفي ألليحانية لفظة "افكل" "أفكل" بمعنى رشو وسادن، أي القائم بأمر الصنم، و السادن له، فورد: "افكل ود"، أي سادن ود. وتقابل هذه اللفظة لفظة "ابكلو" Apkalu في الأكادية. وعرفت السادنة ب افكلت وأفكلة.

والسدنة، قومة الاصنام ومتولو امرها وكان امر فتح البيت بمكة وغلقه وتولي امره الى السادن وهو من بني عبد الدار وفد اقر الرسول السدانة فيهم عام الفتح ويعرف السادن ب الحاجب كذلك فالسدان والحجابة هما بمعنى واحد غير ان الحجابة تخصصت بحجابة الملوك والحكام فصارت وظيفة ادارية ذات مدلول خاص فالحاجب هو الذي يتولى تقديم الناس الى الملوك او منعهم من الوصول اليهم وذلك في الجاهلية وفي الإسلام اما السدانة فأنها ظلت محافظة على معناها هذا الخاص بالمعابد والمواضع المقدسة ولهذه المنزلة وصلتها بالآلهة وبالاصنام عدت السدانة من درجات الشرف والجاه وكانت لاصحابها حرمة ومكانة في النفوس.

والسدانة تنتقل بالارث من الاباء الى اكابر الابناء وتنحصر في الاسرة فتكون من حقها ومن نصيبها لا يمكن انتزاعها منها الا بقوةَ لا يمكن التغلب عليها ومن واجب العشيرة التي تنتمي اليها هذه الاسرة الدفاع عنها ان حاول غريب انتزاع هذا الشرف منها لقد كانت سدانة الكعبة في بني عبد الدار وكانت حجابة ود في دومة الجندل الى بني عامر الاجدار بنو الفرافصة بن الاحوج من كلب وكانت سدنة العزى من بني صرمة بن مرة"، وكان سدنة "جهار" من "آل عوف" من "بني نصر"، وكان سدنة "سواع" "بنو صاهلة"،من هذيل. وكان سدنة بيت "الربة" أي الشمس، من "بني أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيّد بن عمرو بن تميم"، وكان سدنة "الفلس"، "بنو بولان"، وكان سدنة "مناة" "الغطاريف" من الأزد. وسدنة "السعيدة "" "بنو العجلان"، وسدنة "ذو الخلصة"، "بنو هلال بن عامر"، وكان سدنة "ذو اللبا"، "بنو عامر"، وسدنة "المحرق"، "آ ل الأسود" العجليوّن. وسدنة "مرحب" "ذو مرحب"، أي من يتولى أمر الصنم.

وكان "مسعود" الثقفي، زوج "سبيعة"، وقائد ثقيف في الفجار، من من سدنة اللات. وهو من سادات ثقيف. ومن أبناء" "عروة بن مسعود"،وأمه "سبيعة" بنت "عبد شمس". وذكر انه الذي ذكر اللّه عزّ وجل في التنزيل من القريتين عظيم. وأحد أربعة اتصل سؤددهم في الجاهلية والإسلام.

، وكان لهذه الأسر التي تولت السدانة، مكانة كبيرة في قومها، فعدّت من الأسر الشريفة ذات النفوذ عند الجاهليين. وقد استفادت من النذور والقرابين التي ّتقدم إلى بيوت الأصنام، إذ تكون من حقها ونصيبها. وقد ظهر من "بني مخاشن بن معاوية بن شرُيف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم"، حكام حكموا بعكاظ. والحكومة من امارات الشرف والجاه والتقدير، كما ظهر منها أئمة تولوا الإجازة بالمواسم، وهي من علائم التعظيم والتفخيم عندهم.

غير ان هذا الحق لا يستوجب ولا يشترط أن تكون السدانة في أسرة من القبيلة أو الموضع الذي فيه بيت الصنم أو الأصنام، فقد كان دَير من سدنة الأصنام من قبيلة لا تنتمي اليها من يقع بيت الصنم في أرضها. فكانت السدانة مثلاً لبني أنعم في جرش، ولبني الغطريف في قديد، ولبني شيبان في نخلة، ولآل أمامة في تبالة وهكذا. ويظهر ان هؤلاء توارثوا هذا الحق من عهد سابق، إما لأنهم استوردوا الصنم أو تلك الأصنام إلى هذه المواضع فأقاموا فيها وإما لأنهم كانوا يسكنون مع قبيلتهم في تلك الأماكن، ثمَ حدث لسبب من الأسباب أن جلت قبيلتهم عن الموضع. أما السدنة، ففضلوا البقاء في الموضع الذي كانوا فيه حيث أصنامهم والبيت. ونجد مثل ذلك أيضاً عند العبرانيين.

ويظهر من تفسير لفظة "صوفة" و "صوفان"، على رأي بعض العلماء، أن هذه الكلمة كانت تقال لكل من ولي البيت شيئاً من غير اهله. أو قام بشيء من خدمة البيت أو بشيء من أمر المناسك. ومعنى هذا أن خدمة البيت: بيت مكة أو غيره، لم تكن خاصة بأهل الموضع الذي يكون فيه هذا البيت، بل كان من ا لجائز أن في يتولاها أناس من أهل ذلك الموضع، واناس من غيرهم أيضاً كأن يقيم أشخاص في ذلك المكان فتطول اقامتهم به وتظهر منهم زعامة او من اولادهم تؤدي بهم الى الاستحواذ على رئاسة البيت ورئاسة ذلك المكان كالذي كان من امر قصي ولا بد من ادخال "النسأة"، في رجال الدين. فقد كان الناسئ هو الذي ينسئ النسيء يعين موسم الحج ويثبته للناس فهو اذن فقيه القوم وعالمهم ومفتيهم في أمر الحج.

وقد كان من أهم واجبات "النسأة". تثبيت وتعيين الأشهر. فقد كانت لدى الجاهليين أشهر حرم " لها حرمة ومنزلة خاصة في نفوسهم، لما كان لها من علاقة بآلهتهم وبتعبدهم لها، وبالحج فيها إلى معابد الآلهة. مثل شهر "ذ الالت" "ورخن ذ الالت"، وهو شهر خصص بالآلهة، كما يظهر من تسميته بها. يظهر أنه كان شهر تقرب وعبادة الأرباب، ومثل شهر "ذ عم"، "ذو عم"، و "عم" هو إله قتبان الرئيس،فيظهر أنه شهر مقدس خصص بعبادة هذا الإلهَ، أو أن يوماً أو عيداً خاصاً به، كان يقع فيه، فدعي لذلك. بأسمه ومثل شهر "ذ حجن"، أي شهر "ذو الحجة"، وهو شهر خصص بالحج. ومثل الأشهر الاربعة الحرم التي تتحدث عنها الموارد الإسلامية. والإجازة بعرفة م ن الأعمال التي لها تماس بالدين،فهي من شعائر الجج ومناسكه.

ولا بد وان نعد "المجيز"، وهو الذي يجيز الناس من المزدلفة إلى منى من رجال الدين. وممن كانت له منزلة وحرمة في قومه، لما لمركزه من أهمية في الحج. وقد أشار - "السكري " الى"أئمة العرب"، فذكر انهم الذين تولوا أمر ألمواسم وأمر القضاء بعكاظ، والذين كانوا سدنتهم على دينهم وامناؤهم على قبلتهم، وكانوا م قريش، والذين تولوا الإفتاء في دينهم. وهم من "بني مالك بن كنانة". ولما تحدث عن "النسأة"، قال: "نسأة الشهور من كنانة وهم "القلامسة، واحدهم قلمّس ؛ وكانوا فقهاء العرب والمفتين لهم في دينهم". والفقيه العالم وفقيه العرب عالمهم ". والفقه العلم، "وقد جعلته العرب خاصاً بعلم الشريعة". وفقهه تفقيهاً علمه. "ومنه الحديث: اللهم علمهم الدين وفقهه في التأويل، أي علمه تأويله.

وفي القران الكريم )فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين(. والفقه العلم بالشيء والفهم له والفطنة.وقد خصصت اللفظة بعلم الفقه في الإسلام. مما يدل على أن لها صلة منذ أيام الجاهلية باعلم وبالدين. وأن "الفقهاء"، العلماء بأمور إلدين عند الجاهليين كذلك. وفيه ألفاظ يستدل منها على وجود مفهوم العلم وا لعلماء والتعلم والدين وفهمه والشريعة " والأحكام عند الجاهليين، ولا تكون هذه عنداقوم ليس لهم علماء ورجال دين يعلمون منهم دونهم أحكام الدين،ليتفقهوا فيه وليتعلموا ما هو واجب عليهم وما هو غير واجب ومفروض عليهم. والإفتاء الاجابة عن مسألة ومنه قوله تعالى ) قل الله يفتيكم في الكلالة ( والفتيا والفتوى ما افتى به الفقيه في مسألة وقد استفتى اصحابه رسول الله الرسولَ في أمر النساء وإرثهن فنزل الوحي: ) ويستفتونك في النساء. قل: الله يفتيكم فيهن(. فقد كان أهل الجاهلية يستفتون فقهاءهم وأهل الفتيا منهم فيما يشكل عليهم من أمور الدين، فيفتون لهم ما يرونه من رأي واجتهاد. فنحن، اذن أمام فقه في الدين واجتهاد فيه عند أهل الجاهلية.

والإمام ما ائتم به قوم من رئيس أو غيره،كانوا على دين أو كانوا مشركين. فهو الذي يقتدى به. وقد وردت الكلمة في سبمعة مواضع من القرآن ا لكريم في حالة الإفراد، ووردت خمس مرات في حالة الجمع،، أي "أئمة"، اًطلقت على أئمة الكفر وعلى الغواة كما أطلقت فيه على المؤمنين الهادين إلى الحق. وأئمة الكفر في قوله تعالى :) فقاتلوا أئمة الكفر( "، أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان، وهم الذين كانوا يؤذون الرسول، وهموّا بإخراجه وعادوه. فالإمام إمام دين وإمام دنيا: رجل دين يقتدى به، ورئيس قبيلة وشريف قوم وسيدهم. ونظراً لقلة استعمال اللفظة في الرئاسة الدينية ولاستعمالها في معنى الرئاسة الدينية في الغالب، ولا سيما في الإسلام حيث خصصت برئاسة دينية، من إمامة للمسلمين، وإمامة في الفقه، وإمامة في الصلاة، ولعدم اطلاق الجاهليين لها على سادات القبيلة أو سادة القوم، إلا في القليل. فإن في استطاعتنا القول انها كانت عندهم في معنى الرئاسة الدينية كما هو الحال في الإسلام.

ونجد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد بوجود رجال دين كان لهم رأي في الخلق وفي الخالق وفي الحياة، منهم من بشر برأيه وحاول نشره: ومنهم من تبتل واعتكفْ وقنع بإيمانه برأيه وبصحة عقيدته. حتى ان منهم من كان قد تبتل وتنسك وسلك طريق الزهاد في اجتناب الطيبات ولذات الحياة، ومن ذلك أكل اللحم. فقد عرف "عبد الله بن عبد الملك بن عبد الله" الغفاري، ب "أبي اللحم" "آبي اللحم"، لأنه كان يأبى أن يأكل اللحم. وكان شريفاً شاعراً، ينزل "الصفراء"، وشهد "حنين" وقتل بها.

وعرف "عثمان بن مظعون" بتبتله، حتى انه ابتعد عن زوجه، فلم يقربها، وكاد ان يختصى، حتى نهاه عن ذلك رسول اللهَ. وكان على هذا الرأي في جاهليته من شدة التمسك بالزهد عن الدنيا والابتعاد عن ملذاتها،وقد كان نصرانياً متأثراً بالرهبانية، أخذ آراءه هذه من زهاد النصارى، الذين غلب التصوف علهم، وابتعدوا عن الدنيا، ورأوا ان الخلاص من الخطيئة والإثم،هو بالتقشف وبالابتعاد عن كل حلو محبوب في هذه الدنيا.

وقد عرفت الجاهلية رجالاً آخرين كانوا مثل عثمان بن مظعون والرهبان في التأمل والتفكر والابتعاد عن الناس. وهي رهبانية حاربها الإسلام، إذ نهى عن الرهبنة. رأى "عمر" رجلاً مطأطئاً رأسه، فقال: ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمريض. ورأى رجلاً متماوتا، فقال: لا تمت علينا ديننا، أماتك الله. ونظرت عائشة إلى رجل كاد يموت تخافتاً، فقالت: ما لهذا ? قيل: انه من القراء، فقالت: كان عمر سيد القراء، وكان اذا مشى أسرع،واذا قال أسمع، واذا ضرب أوجع. وذكر ان عشرة من الصحابة اجتمعوا في بيت "عثمان بن مظعون"، واتفقوا على ان يصوموا النهار َويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش، ولا يأكلون اللحم والودك، ويلبسوا المسوح، فسمع، رسول الله بهم، فنهاهم عن ذلك، و " الصارورة" والصرار الذين تبتلوا وتركوا النكاح. وهذا من فعل الرهبان.

وهو معروف عند العرب. والصرورة الرجل في الجاهلية يحدث حدثا فيلجأ الى الكعب، فلا يهج. فكان إذا لقيه ولي الدم في الحرم، قيل إله هو صرورة ولا تهجه، تعظيماً للبيت واحتراما له،ومثل "صرمة" إلى المعروف ب "أبي قيس "، وكان الترهب في الجاهلية واغتسل من الجنابة وهم بالنصرانية ثم امسك وكان قوّالا بالحق لا يدخل بيتا فيه جنب او حائض الى ان ادرك الإسلام فأسلم ويظهر من ذلك أن الاغتسال من الجنابهَ والابتعاد عن الحائض من الشعائر التي راعاها المتدينون من اهل الجاهلية، من الموحدين الذين تأثروا باليهودية، لكنهم لم يدخلوا فيها ولا في النصرانية، بل أمسكوا عن الديانتين، ودعوا إلى عبادة واحد أحد، وماتوا على هذا الدين.

ومثل "وكيع بن سلمة" الإيادي، صاحب الصرح بحزورة مكة " فقد كان كاهنا ورجل دين، وقالوا كان صديقاً من الصديقين. اتخذ صرحاً يصعد اليه بسلالم، فكان يدعي أنه يناجي ربّه من ذلك الموضع. وكان يعظ الناس وينصحهم التدين بدينه وبالابتعاد عن عبادة الأوثان، على شاكلة الأحناف. وهو في الواقع واحد منهم، ويجب اعتباره أحدهم، لأن ما ينسب اليه ينسب أيضاً إلى الحنفاء. والصديق الكثير الصدق، ومن صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله."قال الله تعالى )واذكر في الكتاب ابراهيم.انه كان صديقاً نبياً. وقال تعالى )وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام(، أي مبالغة في الصدق و التصديق". وهم من آمن بالله وصدق به وبشر بعبادته بين الناس، وكان باراً بنفسه وبغيره. وهي بمعنى " بار" في لغة بني إرم.

وقد نسب أهل الأخبار إلى رجال من الجاهليين فتاوى وأحكام صارت سنناً في قومهم. من ذلك ما نسبوه إلى "قصي" من أمور، زعموا انها صارت سنةّ احدثت بها قريش، وان بعضاً من أحكامه بقيت إلى الإسلام، فأقرها، وما نسبوه إلى "عامر بن الظرب" العدواني من حكم في "الخنى" جرى حكم الإسلام به. وما ذكروه من افتاء "عامر بن جشم بن غنم"، المعروف ب "ذي المجاسد" في التوريث على قاعدة: ان للذكر مثل حظ الانثيين، وهو حكم حكم به الإسلام. ومن أمور أخرى، يرد ذكرها في المواضع المناسبة من هذا الكتاب، مما يدل على ان الحياة الدينية عند الجاهليين، هي آراء وفتاوى، أفتى بها رجي الدين أهل الدين والمروؤة والعقل والعلم من أهل الجاهلية، فأخذ بها قوم من أتباعهم، وساروا بموجبها. وبقي بعض منها إلى الإسلام. غير ان تلك الفتاوى لم تكن عامة، شملت كل العرب، بل حتى كل قوم ذلك المفتي أو الإمام، إذ لم تكن عند إلى العرب سنة واحدة ملزمة، لسبب انهم كَانوا شيعاً وقبائل، ولكراهتهم الخضوع للقيود العامة، إلا كرها، وذلك في الأمور التي لا بد لهم من الخضوع ولحكمها لأنها من أصول الأعراف ا لتي يقوم عليها وجودهم مثل عرف الاخذ بالثأر.

ومن الصعب تصور وجود طبقة خاصة كبيرة لرجال الدين على نحو ما كان عند المصريين مثلاً أو الآشوريين أو البابليين أو اليونان أو الرومان،أو في الكنيسة، بسبب النظام القبلي الذي كان غالباً على جزيرة العرب. وصغر المجتمعات الحضرية. فالأصنام هي أصنام محلية. " أصنام قبيلة، لذلك كان عبدتها هم عبدة القبيلة أو القبائل المتعبدة لها. وفي محيط اجتماعي ضيق مثل هذا المحيط، لا يمكن ظهور طبقة خاصة برجال الدين ذات نفوذ واسع، إنما تكون قدرتها بقدرة المحيط الذي تعيش بها. ولما كانت حياة البداوة حياة بسيطة غير معقدة، تعذر علينا أن نتصور حياة دينية معقدة عند أبناء البادية. وكل ما يمكن وجوده عندهم، هو ما كان له علاقة بمحيطهم وبمعيشتهم البسيطة " مثل السدانة و الكهانة وأمثال ذلك مما يحتاج اليه البدوي لحل مشكلات حياته ولجلب السعادة له، ولم أجد في نصوص الجاهليين ولا في اخبار أهل الأخبار، ما يفيد قيام رجال الدين من أهل الجاهلية، بتلقين الناس أصول الدين وتعاليمه، أو شرح نصوص دينية لهم. أو تعليمهم الناس مبادئ القراءة والكتابة في المعابد على نحو ما كان يفعله اليهود والنصارى في ذلك الوقت. ولكن هذا لا يكون دليلاَ على نفي وجود شيء من ذلك عندهم. فقد يجوز أن يعثر في المستقبل على نصوص تفيد بوجود ذلك عندهم. ذكر أن رجلاً من "خثعم" قال: " كانت العرب لا تحرم حلالاً ولا تحلل حراماَ. وكانوا يعبدون الأوثان ويتحاكمون اليها.

وفي القرآن الكريم آيات مثل: ) وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فقالوا: هذا لله بزعمهم. وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم، فلا يصل إلى الله، وما كان لله، فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون ( وكذلك زين لكثير. من الناس قتل أولادهم،شركاؤهم ليردوهم، وليلبسوا عليهم دينهم. ولو شاء الله ما فعلوه،فذرهم وما يفترون. وقالوا: هذه أنعام وحرث حجرً لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم،وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها، افتراء عليهم، سيجزيهم بما كانوا يفترون"، وآيات أخرى وكلمات تفيد وجود تسريع ومشرعين لدى الجاهليين، أي رجال دين يبينون لهم الحلال والحرام وأوامر الأصنام، ويشرعون لهم من تشريع كالذي نراه في هذه الآيات وغيرها من أحكام وضعوها للناس باسم آلهتهم، فوبخهم الله في القرآن.على افترائهم هذا على الله وعلى الأصنام التي لا تنطق ولا تعقل.

وكان من أهم واجبات رجال الدين والزهاد والمتنسكين، الاشراف على المعابد وصيانة أموالها، وخدمة الأصنام وتنفيذ الأحكام، وتلبية طلبات الناس في التوسط لدى الآلهة برفع الضر والكرب عنهم، أيام الشدة وساعات العسر. من ذلك التوسل إلى الآلهة. بحفظ القوافل، وانزال الرحمة بالناس سني القحط. ومن ذلك ما يسمونه بالاستسقاء. فقد كانوا يستسقون إذا أجدبوا، فإذا أرادوا ذلك أخذوا من ثلاثة أشجار وهي: سلع وعشر وشبرق، من كل شجرة شيئاً من عيدانها وجعلوا ذلك حزمة، وربطوا بها ظهر ثور وأضرموا فيها النار، ويرسلون ذلك الثور، فإذا أحس بالنار عدا حتى يحترق ما على ظهره ويتساقط. وقد يهلك ذلك الثور فيسقون.

وذكر انهم كانوا اذا أرادوا الاستمطار في الجاهلية اجتمعوا وجمعوا ما قدروا عليه من البقر ثم عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها السلع والعشر، ثم صعدوا بها في جبل وعر، وأشعلوا فيها النيران، وضجوا بالدعاء والتضرع، فكانواّ يرون ان ذلك من أسباب السقيا. ولأمية بن أبي الصلت شعر في ذلك.

وكان من عادة أهل مكة في الاستسقاء، انهم كانوا اذا أجدبوا وقحطوا،واشتدت بهم الحاجة، خرج من كل بطن منهم رجل، ثم يغتسلون بالماء، ويتطيبون، ثم يلتمسون الركن ويطوفون بالبيت العتق سبعاً،تم يرقون أبا قبيس،فيتقدم رجل منهم، يكون من خيارهم، ومن رجال الدين فيهم، ممن يتبركون به،فيدعو الله ويستغيث،طالباً الرحمة والغوث بالمتوسلين اليه، ويذكرون ان "عبد المطلب"، كان ممن استسقى لأهل مكة ولغيرهم مراراً.

التبرك برجال الدين

ويظهر من أخبار أهل الأخبار، ان رجال الدين من أهل الجاهلية كانوا يباركون أتباعهم ويقدسونهم ويلمسون رؤوسهم. لمنحهم البركة والشفاء من الأمراض. فكان أحدهم يضع يده على رأس مريض، أو يلمس جبهته، ليمنحه بركة تشفيه،أو عافية تصيبه، أو تبركاً وتقرباً بذلك إلى الالهة. وكانوا يتفلون في فم الصبيان، لتكون التفلة بركة لهم،وعافية، وشفاء من مرض، أو علماً يصيب الصبي، حينما يكون رجلاً.

ويظهر من القرآن ومن الحديث النبوي، ان أهل الكتاب من الجاهليين كانوا يبالغون في التقرب من رجال دينهم وفي التبرك بهم، حتى انهم كانوا يتسابقون في الحصول على قطعة من ملابس أوليائهم ورجال دينهم ورهبانهم ونسّاكهم للتبرك بها. وفي شعر امرىء القيس،وشعر غيره إشارة إلى هذا التبجيل والتعظيم.

تنفيذ الأحكام

ولم يكن تنفيذ الأحكام الدينية إلزامياً، إنما كان عن طاعة وموافقة. ثم إن العرب لم يكونوا على دين واحد يرجع إلى شرائعه، حتى يلزم المرء بتنفيذ ما جاء في حكمه.فكان أمر إطاعة أحكام. رجال الدين رهناً بمكانة رجل الدين وبما له من هيبة ونفوذ بين قومه.

وقد رأينا أن من الناس من كان يثور حتى على آلهته، إذا وجد أنها لم تلبّ طلباته. وأنه كان يتوسل اليها ويلوذ بها لمساعدته عند الشدة، ثم يهددها ويتوعدها بالابتعاد عنها وبترك زيارتها وبنبذها، إن هي صمت آذانها عنه، ولم تجب ما طلبه منها. وقد قصصنا حكاية امرئ القيس مع صنمه، اذ رمي السهام في وجهه وعنفه وشتمه، لأن جواب الاستقسام لم يكن على نحو ما كان يريد. ولم يكن ذلك من عمل أهل الجاهلية م وحدهم، بل في وقوع مثل هذه الحوادث في الإسلام أيضاً.

وقد رأينا أن في الجاهليين - كما في كل قوم - أناس كانوا لا يقيمون وزناً لحلال أو حرام، فكانوا يستحلون المظالم، ولا يجعلون للحرمات حرمة،ويعتدون في الأًشهر الحرم. كانوا إذا حضروا الأسواق، أباحوا لأنفسهم الاعتداء فيها على أموال الناس فسمّوا: "المحلون". ومنهم قبائل من أسد و طىء وبني بكر ابن عبد مناة بن كنانة، وقوم من بني عامر بن صعصعة. فهؤلاء لا يعرفون الحلال ولا الحرام، والشهور والأيام عندهم سواء بسواء، يغزون فيها متى شاؤوا،حتى في الأشهر الحرم، اذا لا حرمة عندهم لشهر.

وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر، فيسمون الذادة المحرمون. وهم من بني عمرو بن تميم،وبني حنظلة بن زيد مناة،وقوم من هذيل،وقوم من بني شيبان،وقوم من بني كلب بن وبرة. فكانوا يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس. وكان العرب جميعاً بين هؤلاء تضع أسلحتهم في الأشهر الحرم.

ولم تكن للجاهليين أحكام في الحلال والحرام بالنسبة إلى المأكول على ما يظهر، بل كان مرجع الحرمة والإباحة عندهم إلى عرف القبائل. فلما نزل الأمر في الإسلام بتحريم أكل الميتة، أي الحيوان الميت، عجبت قريش من ذلك، واحتجوا قائلين: كيف تعبدون في شيئاً لا تأكلون مما قتل،وتأكلون أنتم مما قتلتم ? وكانوا يقولون ما الذي يموت، وما الذي تذبحون إلا سواء. وذكر " ان ناساً من المشركين دخلوا على رسول الله،صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أخبرنا عن الشاة اذا ماتت من قتلها ? فقال الله قتلها. قالوا: فتزعم ان ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتله الله حرام ! ". وذكر ان فارس أوحت إلى أوليائها من مشركي قريش ان خاصموا محمداً وقولوا له: ان ما ذبحت فهو حلال وما ذبح الله بشمشار من ذهب،فهو حرام. فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ". فقد كانت قريش تأكل كل شيء،من ميتة ومختنقة ومن نطيحة وما أكل السبع وما أهل للصنم، فنزل تحريم ذلك في الإسلام.

وذكر انهم كانوا يقطعون يسيراً من حلق الشاة ويتركونها حتى تموت،يجعلون عملهم هذا ذكاة لها. وقيل: ذبيحة الشريطة، هي انهم كانوا يشرطونها من العلة، فإذا ماتت، قالوا: قد ذبحناها. وذكر ان الشريطة الشاة أثر في حلقها أثر يسير كشرط المحاجم،لا يستقصي في ذبحها،والشريطة أيضاً المشقوقة الأذن من الإبل، لأنها شرطت آذانها، واذا كان التعريف الأول صحيحاً،فإن معنى هذا انهم كانوا يراعون بعض، الأحكام في الذبح، أي ان لهم أحكاماً دينية في كيفية الذبح. وقد نهى الإسلام عن أكل الشريطة.

واستباح الجاهليون أكل "النطيحة"،وهي المنطوحة التي ماتت من النطح.واستباحوا أيضاً أكل الفريسة والأكيلة والرمية.

وقد كان رجال الدين وسادات القبيلة، يحرمون بعض الاشياء على أنفسهم اذا شعروا بوجود ضرر بها، وبأن في فعلها الحاق أذىَ في الإنسان وخدشا في الاسم فحرم لعض رجال الجاهلية الخمر على انفسهم تكرما وصيانة لانفسهم.،منهم عامر بن الظرب العدواني، وقيس بن عاصم، وِصفوان بن أمية بن محرث الكناني " وعفيف بن معد يكرب، وسويد بن عدي بن عمرو بن سلسلة الطائي. وغيرهم لما وجدوا فيها من ضرر على الابدان واثر في العقل واضاعة للمال وورد في بعض الموارد ان اول من خرم الخمر في الجاهلية الوليد بن المغيرة وقيل قيس بن عاصم ثم جاء الإسلام بتقريره.

ليأمنوا به على أنفسهم، لأنهما قد خالفا بذلك العهود وما اتفق عليه من وجوب مراعاة الحرمات.

وقد كان من عرفهم: انهم كانوا يتقلدون من لحاء شجر مكة،فيقيم الرجل بمكانه، حتى اذا انقضت الأشهر الحرم فأراد ان يرجع إلى أهله قلّد نفسه وناقته من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتي أهله. وكان من عرفهم في رواية من روايات أهل الأخبار، انهم اذا خرجوا من بيوتهم يريدون الحج، تقلدوا من لحاء السمر واذا أرادوا العودة إلى ديارهم تقلدوا قلادة شعر، فلم يعرض لهم أحد بسوء. وذكر أيضا، ان الرجل منهم كان يتقلد قلادة من لحاء شجرة من شجر الحرم، ثم يذهب حيث يشاء، فيأمن بذلك. وان اهل مكة كانوا يفعلون ذلك في تجارتهم أ فيضعون القلائد في أعناقهم وفي أعناق بهائمهم، فلا يعرض لهم أحد بسوء. إذ كانوا يرون الوفاء بالميثاق عهداً في أعناقهم وديناً يلزمهم بالوفاء في أحكامه.

كسوة رجال الدين

يقول أهل الأخبار في معرض كلامهم على كسوة العرب: وأما أهل الحضر وسكنة المدن منهم، فكانوا يتفننون في لبوسهم، ويختلفون في كسوتهم، فكان الكَاهن لا يلبس المصبغ والعراف لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه، والحكم لا يفارق الوبر و الشاعر منهم كان اذا أراد الهجاء دهن أحد شقي رأسه، وأرخى إزاره، و انتعل نعلاً واحدة، وكان لحرائر النساء زيّ " ولكل مملوك زي، ولذوات الرايات زي. لا يظهر من قولهم هذا انه قد كان لرجال الدين أو لبعض منهم زي، يميزون أنفسهم به عن بقية الناس، وهو شيء معروف عند البشر من قديم الأيام الى اليوم فلا نستبعد وجود زي خاص لرجال الدين عند الوثنيين الجاهليين. أما رجال الدين من أهل الكتاب فقد كانوا يتزيون بزي خاص يميزهم عن بقية اتباعهم وقد نص على ذلك اهل الكتاب.

الفصل التاسع والستون

الاصنام

نجد في كتاب الأصنام لابن الكلبي في المؤلفات الإسلامية الأخرى، أسماء عدد من الأصنام كان الجاهليون يعبدونها، وهي على الأكثر أصنام كان يتعبدها أهل الحجاز ونجد والعربية الشمالية،وذلك قبيل الإسلام. ومن هذه الموارد الإسلامية استقينا علمنا عن هذه الأصنام. وقد ذكر أهل الأخبار ان بعض هذه الأصنام اناث. وهن اللات، والعزى، و مناة. وهي أصنام ذكرت في القرآن الكريم: ) أ فرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى(. ويجب ان نضيف اليها الشمس.

اللات

و اللات من الأصنام القديمة المشهورة عند العرب. ذكر ابن الكلبي أنه كان صخرة مربعة بيضاء، بنت ثقيف عليها بيتاً صاروا يسمرون اليه، يضاهون به ما كان في مكة وفي بيوت الآلهة الأخرى.

ويرى ابن الكلبي ان الصنم "اللات" هو أحدث عهداً من مناة. أما نحن فلا نستطيع ان نجرؤ فنقول بهذا القول، لأن الصنمين هما من الاصنام القديمة التي ورد ذكرها في كتابات النبط والصفويين ثم ان هيرودوتس اشار الى اللات كما ساذكر بذلك وليس من السهل حتى بالنسبة الى ابن الكلبي او غيره ممن تقدم عليه بالزمن الحكم على زمن دخول عبادة الصنمين الى جزيرة العرب لان ذلك يعود الى زمن سابق لا تصل ذاكرة الرواة اليه.

ومكان بيت اللات في موضع مسجد الطائف،أو تحت منارة مسجد الطائف. وقد عرف البيت الذي بني على اللات بيت الربة، ويقصدون بالربة اللات، لأنه أنثى في نظر عابديه. ولا ندري أكان انشاء مسجد الطائف على موضع معبد اللات رمزاً لحلول بيت الله محل بيت الربة،وبيت الأصنام، وتعبيراً عن حلول الإسلام محل عبادة اللات والأصنام، أم كان ذلك "لسبب آخر، هو وجود أسس، سابقة وحجارة قديمة موجودة، واسهل لذلك إقامة بناء المسجد في هذا المكان ? وقد فسر بعض المستشرقين إقامة المسجد في هذا المكان، بأته تخليد لذكرى الوثنية في نفوس بعض من أسلم لسانه وكفر قلبه، فسرهم قيام المسجد في هذا المكان ليبقى أثراً يذكرهم بذكرى صنمهم القديم اللات.

وللاخباريين روايات عن صخرة اللات، منها أنها في الأصل، حجرة كان يجلس عليها رجل، يبيع السمن واللبن للحجاج في الزمن الأول، وقالوا: إنها سميت باللات لأن عمرو بن لحي كان يلت عندها السويق للحجاج على تلك الصخرة، وقالوا: بل كانت اللات في الأصل رجلاً من ثقيف. فلما مات، قال لهم عمرو بن لحي: لم يمت، ولكن دخل في الصخرة، ثم أمر بعبادتها، وأن يبنوا بنياناً يسمى اللات. وقالوا: "قام عمرو بن لحي، فقال لهم: إن ربكم كان قد دخل في هذا الحجر، يعني تلك الصخرة،نصبها لهم صنماً يعبدونها. وكان فيه وفي العزى شيطانان يكلمّان الناس، فاتخذتها ثقيف طاغوتاً، وبنت لها الطبرى ان "اللات، هي من الله، ألحقت فيه. التاء، واللات، كما قيل عمرو للذكر وللأنثى عمرة، وكما قيل للذكر عباس ثم قيل الأنثى عباسة".

وورد في بعض روايات اْهل الأخبار ان الثقفي الذي كان يلت السويق بالزيت ويقدمه للناس، لما توفي قبر في موضع أللات، فعكفوا على قبره،فعبدوه وجعلوه وثناً، وزعم بعض آخر انه قبر عامر بن الظرب العدواني. فترى هذه الروايات ان "بيت الربة"، هو قبر رجل، دفن، فيه فعبد وصير الهاً. وزعم قوم انه كان رجلا من ثقيف، يقال له "صرمة بن غنم"، وكان يسلأ السمن، فيضعه على صخرة، فتْأتيه العرب، فلما مات، عبدته ثقيف.

وتفسير أهل الأخبار لاسم "اللات"، هو بالطبع من تفسيراتهم المألوفة الكثيرة التي لا يمكن أن نثق بها، ولا يمكن أن نحملها على محمل الصدق والعلم. فالاسم هو من الأسماء القديمة التي عرفت قبل الميلاد. ويرى بعض المستشرقين أنه ادغام وسط بين "الالاهت"،"ال سال هت"ِ Al Alahat والإدغام التام "اللات" "ال لت" Allat، على نحو ما حدث للفظ الجلالة: "الا لاه "ال ال ه" الذي صار "ا لله".

وفي قول أهل الأخبار أن صخرة اللات كانت ليهودي، يلتّ عندها السويق أو لرجل من ثقيف، غمز وطعن في ثقيف، وقد غمز بها في أمور أخرى أشرت اليها في مواضع أخرى. ويعود سبب هذا الغمز ان المنافسة التي كانت بين أهل الطائف وأهل مكة، ثم إلى الكراهية الشديدة التي حملها اهل العراق وأهل الحجاز وغيرهم للحجاج لأعماله القاسية، وعدم مبالاته ومراعاته للحرمات حتى بالنسبة إلى الكعبة، مما حمل الناس على كرهه وكره قومه ثقيف، وعلى وضع قصص عن ثقيف.

ولا يستبعد أن تكون صخرة اللات صخرة من هذه الصخور المقدسة التي كان يقدسها الجاهليون ومن بينها "الحجر الأسود" الذي كان يقدسه اهل مكة ومن كان يأتي إلى مكة للص ج وفي غير م وسم الحج، لذلك كانوا يلمسونه ويتبركون به. وإذا أخذنا برأي ابن الكلبي من أن عمرو بن لحي قال للناس: "إن ربكم كان قد دخل في هذا الحجر "، أو أن الرجل الذي كان عند الصخرة لم يمت، ولكن دخل فيها أو أن روح ميت حلت فيها ونظرنا إلى رأيه هذا بشيء من الجد، فلا يستبعد أن يشير هذا الرأي إلى ما يعني ب "الفتيشزم"fetichism" أي عبادة الأحجر في اصطلاح علماء الأديان. ويعنون بها عبادة الأرواح التي يزعم المتعبدون لها أنها حالة في تلك الأحجار، وخاصة الأحجار الغريبة التي لم تصقلها الأيدي، بل عبدت على هيأتها وخلقتها في الطبيعة، وهي من العبادات المنحطة بالنسبة الي عبادة الصور والتماثيل والأصنام.

وذكر ان قريشاً تعبدت للصنم اللات بموضع نخلة عند سوق عكاظ، وقيل انه كان بالكعبة. وذكر ان "اللات بيت كان بنخلةّ تعبده قريش" ويلاحظ ان من أهل الأخبار من جعل العزى بيت كان بنخلة أي هذا البيت المذكور. ويظهر من روايات أهل الأخبار ان منهم من رأى ان اللات بيت للصنم، الذي كان بالطائف، وان منهم من رأى انه كان بنخلة تعبده قريش. وأما عباد البيت الأول، فهم ثقيف. ولا أستبعد وجود بيوت عبادة اخرى. في غير هذين المكانين فيّ الحجاز وفي غير الحجاز.

واللات من الآ لهة المعبودة عند النبط أيضاً، وقد ورد اسمها في نصوص "الحجر" و "صلخد" و "تدمر"، وهي من مواضع النبطْ. وهو "ه ل ت" "ه لت" "ها لت" في النصوص الصفوية، و منها "اللات"، لأن "الهاء" حرف تعريف في اللهجة الصفوية. وقد ذكر أكثر من ستين مرة في الكتابات الصفوية. وهو أكثر آلهة الصفويين وروداً في نصوصهم، و يدل ذلك على شيوع عبادته بينهم.

ويذكر الباحثون ان النبط عدّوا اللات أماً للالهة، وهي في نظر "روبرتسن سمث" الإلهة الأم لمدينة "بطر"، وتقابل الإلهة Artemis عند أهل قرطاجة. وقد عبدت اللات في تدمر، وفي أرض "مدين" عند اللحيانين. وقد وصف "أفيفانيوس" Epiphanius معبد الإلهة اللات في مدينة "بطرا"، فذكر انه معبد "الأم العذراء Virgin mother. كما انها كانت معبودة عند أهل "الوسة" "الوس" Elusa كذلك. و يظهر ان عبادتها كانت قد انتقلت من النبط ومن القبائل العربية الشمالية إلى أهل الحجاز.

وصنم اللات، هو "أليلات" "أللات" Alilat=Alelat المذكور في تاريخ "هيرودوتس". ذكر انه من آلهة العرب الشهيرة، والتسمية عربية النجار، وقد غيرت تغيراً طفيفاَ، اقتضته طبيعة اللغة اليونانية، فذكره "هيرودوتس" على النحو المذكور. فهذا الصنم إذن هو أول صنم عربي يرد اسمه في نص مؤرخ يوناني. وهو يقابل الإله Minerva أي "أثينة" Atheneعند اليونان.

وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن "اللات" تمثل "الشمس"، وهي أنثى أي إلهة اًما "رينه ديسو"، فيرى أنها لا تمثل الشمس، وانما تمثل كَوكب الزهرة، وخطأ رأي من يقول إن اللات الشمس.

وقد انتهت إلينا أسماء رجال أضيفت إلى اللات، مثل: "تيم اللات"، و "زيد اللات"، و "عائذ اللات"، و "شيع اللات". و "شكم اللات"، و "وهب اللات" وما شاكل ذلك من أسماء. ومما يلفت النظر أننا لم نلاحظ ورود اسم "عبد اللات" بين أسماء الجاهليين.

وقد أقسموا باللات. كما أقسموا بالأصنام الأخرى، ونسب إلى أوس بن حجر قوله: وباللات والعزى ومن دان دينها  وباللهِ، ان اللهَ منهـن أكـبـر

وهدم اللات في جملة ما هدم من الأصنام،وأحرق البيت وقوضت حجارته، هدمه بأمر الرسول المغيرة بن شعبة في أغلب الروايات. وكان الناس ينظرون إلى هدمه في خوف وفزع وهلع خشية أن ينالهم شيء من أذى انتقاما منهم، لانهم لم يدافعوا عن بيت ربتم، وكانت نساء ثقيف حسراً يبكين عليه. فلما انتهى الهدم، ولم يحدث لهن شيء، أخذ المغيرة مالها وحليها من الذهب والجزع وأعطاه أبا سفيان، وكان الرسول قد أرسله مع المغيرة في وفد ثقيف الذي جاء اليه عارضاً عليه الإسلام، فأخذه منه أبو سفيان، ليقضي نت مال اللات دين عروة والأسود ابني مسعود.

ولما أصيبت ثفيف بهزيمة، واحتمت بالطائف قال الشاعر: وفرّت ثقيف الى لاتها  بمنقلب الخائب الخاسر

ويظهر من هذا الشعر الذي ينسب الى "شداد بن عارض الجشمي". وقد قاله حين هدمت وحرقت اللات: لا تنصروا اللات ان الله مهلكها  وكيف نصركم من ليس ينتصر?

ان التي حرقت بالنار فاشتعلـت،  ولم تقاتل لدى احجارهـا هـدر

ان الرسول متى ينزل بساحتكـم  يظعن، وليس بها من اهلها بشر

ان ثقيفا بقيت مخلصة لصنمها مؤمنة به،حتى بعد هدمه وتحريقه، فقال الشاعر شعره، ينهى ثقيفاً عن العود اليها والغضب لها.

ويظهر من بيت ينسب الى كعب بن مالك الأنصاري، هو قوله: وننسى اللات والعزى وودا  ونسلبها القلائد والسـيوفـا

ان الناس كانوا يعلقون القلائد والسيوف على تلك الأصنام. وروايات الأخباريين تؤيد هذه الدعوى، إذ نذكر ان الجاهليين كانوا يقدمون الحلي والثياب والنفائس وما حسن وطاب في أعين الناس هدية ونذوراً إلى الأصنام، فكانوا يعلقون ما يمكن تعليقه عليها، ويسلمون الأشياء الأخرى إلى سدنة الأصنام.

وقد ذكر الرحالة الانكليزي "جيمس هاملتون" ان صخرة اللات كانت لا تزال في ايامه بالطائف. وقد شاهدها فوصفها بأنها صخرة من الغرانيت ذات شكل خماسي، وان طولها زهاء اثنتي عشرة قدماً.

ويظهر انه كان للات بيت وقبة يحملها الناس معهم حين يخرجون إلى قتال، فينصبان في ساحة الجيش، ليشجع المحاربون فيستميتوا في القتال، وينادي المنادون بنداء تلك الأصنام مثل: يا للات، وقد كانت لبقية الأصنام بيوت وقباب أيضاً. وعادة حمل الأصنام إلى المعارك والحروب واشتراكها مع الناس في القتال بإحضارها ساحة المعارك عادة قديمة،معروفة عند العرب وعند غيرهم. وقد سبق أن قلت إن الآشوريين ذكروا أنهم أسروا أصنام "أريبي" العرب في أثناء قتالهم معهم، أسروها مراراً، وكانوا يثبتون عليها خبر الأسر. كان أن الفلسطينيين والعبرانيين وغيرهم كانوا يحملون معهم اصنامهم في القتال.

العُزى

والعزُى صنم أنثى كذلك، وهي أحدث عهداً في نظر ابن الكلبي من اللات ومناة. وأما الذي اتخذ العُرى على رواية ابن الكلبي،فهو ظالم بن أسعد. وضعت "بواد من نخلة الشامية، يقال له حراض، بازاء الغمير،عن يمين المصعد إلى العراق من مكة، وذلك فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، فبنى عليها بيسا "يريد بيتاً"، وكانوا يسمعون فيه الصوت" وينسب اليه بيت العزى كذلك.

وقد زعم بعض اهل الأخبار ان "العزى" كان بيتاً بالطائف تعبده ثقيف. ويظهر ان هذا اشتباه قد وقع لهم، وأنهم خلطوا بين اللات والعزى، فتوهموا أن بيت اللات هو العزى فقالوا ما قالوه. ونجد في تفسير الطبري تأييداً لهذا الرأي.

وورد في بيت شعر ينسب إلى "حسان بن ثابت" ان بيت العزى كان "بالجزع من بطن نخلة".

ويظهر أن العزى كانت "سمرات"، لها حمى، وكان الناس يتقربون اليها بالنذور. وهي بالطبع عبادة من العبادات المعروفة للشجر. وقد ذكر الطبري روايات عديدة تفيد أن "العزُى" شجيرات، ولكنه أورد روايات أخرى تفيد انها حجر أبيض. فنحن إذن أمام رأيين: رأي يقول إن العزى شجيرات،ورأي يرى أنها حجر. وذكر "ابن حبيب" ان العزُى شجرة بنخلة عندها وثن تعبدها غطفان، سدنتها من بني صرمة بن مرة. وذكر غيره انها سمرة لغطفان.

وقد تسمى العرب وقريش بالعزى، فقالوا: "عبد العزى". وقد أقسموا بها، ولها يقول درهم بن زيد الأوسي: إني ورب العزى السعيدة  والله الذي دون بيته سرف

وأقدم من سمي باسم "عبد العزى" في رأي ابن الكلبي هو عبد العزى بن كعب. وقد ذكر ابن دريد أسماء عدد من أهل مكة عرفوا ب "عبدالعزى"، منهم ب "عبد العزى بن قصي"، و "عبد العزى بن عبد مناف"،و "عبد العزى بن عبد المطلب".

ويظهر من هذا الشعر المنسوب إلى "زيد بن عمرو بن نفيل": تركت اللات والعزى جميعا  كذلك يفعل الجلد الصبـور

فلا العزى أدين ولا ابنتيهـا  ولا صنمي بني غنم أزور

ان عباد العزى كانوا يتصورونها أماً، ولها ابنتان، ولعله أراد ب "ابنتيها" اللات ومناة. وقد نسب بعض أهل الأخبار عبادة العزى إلى عمرو بن لحي جرياً على عادتهم في نسبة عبادة الأوثان اليه، فقالوا انه قال لعمرو بن ربيعة والحارث ابن كعب: إن ربكم يتصيف باللات لبرد الطائف، ويشتو بالعزى لحر تهامة. وفي رواية لابن اسحاق: ان عمرو بن لحي اتخذ العزى بنخلة، فكانوا اذا فرغوا من حجهم وطوافهم بالكعبة، لم يحلوا حتى ياتوا العزى، فيطوفون بها، ويحلون عندها، ويعكفون عندها يوماً. وكانت لخزاعة. وكانت قريش وبنو كنانة كلها تعظم العزى مع خزاعة وجميع مضر. وكان سدنتها الذين يحجبونها بنو شيبان من بني سليم، حلفاء بني هاشم.

وتشير رواية من زعم ان عمرو بن لحي قال لقومه: "إن ربكم يتصيف باللات لبرد الطائف، ويشتو بالعُزى لحر تهامة"، صحت أو لم تصح، إلى وجود صلة بين اللات والعُزى. وقد ذكرت العُزى بعد اللات في القرآن الكريم.

و كذلك ترد بعد اللات في جميع روايات الاخباريين. مما يشير إلى وجود صلة بين اللات والعزى. ولا يستبعد ان تكون هذه الصلة بين الصنمين قد جاءت ان أهل الحجاز من بلاد الشام من اهل تدمر وبادية الشام والصفويين، إذ وردا وكأنهما إلهان متقابلان، فحمل ذلك بعض المستشرقين على تصور أنهما يمثلان كوكبين: كوكب الصباح وكوكب المساء.

والعزُى مثل اللات ومناة من الآلهة المعبودة عند عرب العراق وعرب بلاد الشام، وعند النبط والصفويين. وقد ذكر اسم العزى مرتين في المصادر المؤلفة. بعد الميلاد، وأشار اسحاق الأنطاكي Isaac of Antioch من رجال القرن الخامس للميلاد، إلى اسم العُزى في، حديثه عن مدينة "بيت حور" Beth-Hur ودعاها ب Beltis، وسماها "كوكبتا". ويظن ان "كوكبتا" Kawkabta، أي "كوكبة" المذكورة في المصادر السريانية، هي أنثى كوكب، تعني الكوكب الذي يظهر عند الصباح، وهو العُزى عند الجاهليين: ويراد بها "الزهرة" Venus، عند النبط. حيث اتخذوا لها معبداً في مدينة "بصرى" في منطقة "رم" عرف ب "بيت ايل،" وقد نص "بروكوبيوس"، Procopiusعلى انها "أفروديت". وهي كناية عن القمر على رأي بعض المستشرقين. ولعل العزى هي "ملكة السماء Melekheth Hash-Shamaالمذكورة في سفر "ارميا"، وقد جاء فيه: ان أهل "اورشليم" كانوا يصنعون كعكاً، يتقربون به إلى تلك الإلهة: إلهة السماء. وقد كان الجاهليون يتقربون بالخبز والكعك إلى "كوكب السماء".

ويظهر من ورود اسم امرأة هو: "امت عزى"، "أمة العزى"، في نص عربي جنوبي، ان عبادة العزى كانت معروفة هناك. وقد قدم أحد العرب تمثالا من ذهب إلى هذه الإلهة.

وقد كان آل لخم، ملوك الحيرة، ينحرون الأسرى قرباناً للعزى. وقد زعم بعض المؤرخين السريان ان "المنذر بن ماء السماء" ضحى بأربع مئة راهبة للعزى.

وذكر "إسحاق الأنطاكي" ان العرب كانوا يقدمون الأولاد والبنات قرابين للكوكبة "كوكبتا"، فينحرون لها، ويقصد ب "كوكبتا" العزى.

وكانت قريش تتعبد للعزى، وتزورها وتهدي اليها، وتتقرب اليها بالذبائح. وذكر ابن الكلبي انها كانت أعظم الأصنام عند قريش، وان قريشا كانت تطوف بالكعبة وتقول:"واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى. فإنهن الغرانيق العلا،وإِن شفاعتهن لترتجى". و كَانوا يقولون: هن بنات الله، وهن يشفعن اليه. وكانت قريش قد حمت لها شعباً من وادي حراض، يقال له سقام يضاهون به حرم الكعبة.وكان لها منحر ينحرون فيه هداياهم، يقال له الغبغب، فكانوا يقسمون لحوم هداياهم فيمن حضرها وكان عندها.

وكانت قرِيش تستعين بأصنامها حين تحارب، تستجير بها وتستمد منها العون في الحرب، لتبعث الهمة والنشاط في النفوس بذكرها. فلما كان يوم أحد نادى "أبو سفيان: "اعلُ هبل، اعلُ هبل" فقال المسلمون:" الله أعلى وأجل". فقال "أبو سفيان": " لنا العزى ولا عزى لكم". فقال المسلمون: " الله مولانا ولا مولى لكم ".

ويقول ابن الكلبي أيضاً: " ولم تكن قريش بمكة ومن أقام بها من العرب يعظمون شيئاً من الأصنام إعظامهم العزى، ثم اللات، ثم مناة.. فأما العزى، فكانت قريش تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية. وكانت ثقيف تخص اللات كخاصة قريش للعزى وكانت الأوس والخزرج تخص مناة كخاصة هؤلاء الآخرين، وكلهم كان معظماً لها"، أي للعزى.

ولابن الكلبي رأي في اقبال قريش على العزى، إذ يقول: " فأما العزى،فكانت قريش تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية. وذلك فيما أظن لقربها منها ". فجعل قرب بيت العزى من قريش،هو السبب في إقبال قريش عليها.

وهو يرى هذا الرأي نفسه حين تكلم على الأصنام: ود، وسواع، ويعوق، ونسر، وقارن بينها وبين الأصنام اللات والعزُى ومناة، إذ قال: "ولم يكونوا يرون في الخمسة الأصنام التي دفعها عمرو بن لحي.. كرأيهم في هذه ولا قريباً من ذلك. فظننت أن ذلك كان لبعدهم منهم ".

وقال ابن الكلبي في كتابه الأصنام " وقد بلغنا أن رسول الله، صلى الله عليه و سلم. ذكرها يوماً، فقال: لقد أهديت للعزى شاة عفراء، وأنا على دين قومي".

وكان فيمن يتقدم إلى العُزى بالنذور والهدايا، والد خالد بن الوليد. ذكر خالد أن والده كان يأتي العزى بخير ما له من الإبل والغنم، فيذبحها للعزى، ويقيم عندها ثلاثة ايام، و ممن تعبد للعزُى بنو سليم وغطفان وجشم ونصر وسعد بن بكر. وغني وباهلة وخزاعة وجميع مضر وبنو كنانة. وقد ارتبطت قبائل غطفان بعبادة العزُى وتقديمها بصورة خاصة،حتى لقد ذكر "ياقوت الحموي" ان "العزُى سمرة كانت لغطفان يعبدونها،وكانوا بنوا عليها بيتا، وأقاموا لها سدنة". وقد عرف البيت ب "كعبة غطفان". وذكر "الطبري" أن العُزى "صنم لبني شيبان"، بطن بن سليم حلفاء بني هاشم، وبنو أسد بن عبد العزى، يقولون: هذا صنمنا، وانها "كَانت بيتاً يعظمه هذا الحي من قريش وكنانة ومضر كلها". وقد تعبدت لها ثقيف كذلك، بأن اتخذت صنماً. والظاهر ان قريشاً كانت تعدّ العزى حامية وشفيعة لها.

وكان لحرم العزى شعب حمته قريش للصنم، يقال له سقام في وادي حراض.على طريقة قريش في اتخاذ حرم للكعبة. وقد صار هذا الحمى موضعاً آمناً لا يجوز التعدي فيه على أحد، ولا قطع شجره، ولا القيام بعمل يخل حرمة المكان. فذاك قول أبي جندب الهذلي تم القردي في امرأة كان يهواها، فذكر حلفها له بها: لقد حلفت جهداً يميناً غلـيظة  بفرع التي أحمت فروع سقام

وينسب "ابن الكلبي" بناء "بيت العزى" إلى "ظالم بن أسعد"، إذ يقول: "بس: بيت لغطفان بن سعد بن قيس عيلان كانت تعبده. بناه ظالم بن أسعد بن ربيعة بن مالك،بن مرة بن عوف، لما رأى قريشاً يطوفون بالكعبة ويسعون بين الصفا و المروة، فذرع البيت. ونص العباب: وأخذ حجراً من الصفا وحجراً من المروة، فرجع إلى قومه، وقال: يا معشر غطفان، لقريش بيت يطوفون حوله والصفا والمروة، وليس لكم شيء، نبنى بيتاً على قدر البيت، ووضع الحجرين فقال: هذان الصفا والمروة فاجتزئوا به عن الحج. فأغار زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة الكلبي،فقتل ظالماً، وهدم بناءه".

وجاء في رواية أخرى ان "بني صداء" قالوا: أما والله لنتخذن حرماً مثل حرم مكة، لا يقتل صيده، ولا يعضد شجره، ولا يهاج عائذه، فوليت ذلك بنو مرة بن عوف. ثم كان القائم على أمر الحرم وبناء حائطه رباح بن ظالم ففعلوا ذلك، وهم على ماء لهم يقال له بس، فلما بلغ فعلهم هذا وما أجمعوا عليه زهير بن جناب، قال: والله لا يكون ذلك وأنا حي، ولا أخليّ غطفان تتخذ حرماً أبدا، ثم سار في قومه حتى غزا غطفان، وتمكن منها، واستولى على الحرم، وقطع رقبة أسير من غطفان به، وعطل الحرم وهدمه.

وذكر بعض أهل الأخبار، ان العزى صنم كان لقريش وبني كنانة، أو سمرة عبدتها غطفان بن سعد بن قيس عيلان. أول من اتخذها منهم: "ظالم بن أسعد" فوق ذات عرق الى البستان بتسعة أميال، بالنخلة الشامية بقرب مكة، وقيل بالطائف، بنى عليها بيتاً وسمّاهُ بهاً، وقيل بساء، وأقاموا لها سدنة مضاهاة للكعبة، وكانوا يسمعون فيها الصوت، فبعث اليها رسول الله خالد بن الوليد، عام الفتح، فهدم البيت، وقتل السادن وأحرق السمرة.

ويظهر مما تقدم أن البيت هدم مرتين: مرة في الجاهلية، على يد زهير بن جناب،وقتل إذ ذاك بانيه ظالم، والمرة الثانية عام الفتح على يد خالد بن الوليد. وأما سدنة العزى، فكانوا من بني صرمة بن مرة، أو من بني شيبان بن جابر بن مرة بن عبس بن رفاعة بن الحارث بن عتبة بن سليم بن منصور.فهم من بي شيبان، من بني سليم حلفاء بني هاشم.

وكان آخر سادن للعزُى "دبية بن حرمي السلمي ثم الشيباني"، قتله خالد بن الوليد بعد هدمه الوثن والبيت وقطعه الشجرة او الشجرات الثلاث وفي رواية ان هدم العزى كان لخمس ليال لقين من شهر رمضان سنة ثمان وكان سادنها افلح بن النضر السلمي من بني سليم فلما حضرته الوفاة دخل عليه ابو لهب يعوده وهو حزين فقال له مالي اراك ? حزينا قال اخاف ان تضيع العزى من بعدي قال ابو لهب فلا تحزن فانا اقوم عليها بعدك فجعل ابو لهب يقول لكل من لقي ان نظهر العزى كنت قد اتخذت عندها يدا بقيامي عليها وان يظهر محمد على العزى وما اراه يظهر فألن اخي فأنزل الله تبارك وتعالى ) تبت يدا ابي لهب وتب( وتدل هذه الرواية ان صحت على ان افلح بن النضر لم يكن آخر سادن للعزى وان الهدم لم يكن في حياته وانما كان بعد وفاته.

وتشبه هذه القصة قصة اخرى وردت في الموضوع نفسه عن ابي احيحة وأبي لهب. فلما مرض أبو أحيحة، وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف، مرضه الذي مات فيه، كان اهم ما شغل باله عبادة العزُى وخشيته ان لا تعبد من بعده، فلما اجابه ابو لهب مهوناً عليه الأمر: رد والله ما عبدت حياتك "لأجلك"،ولا تترك عبادتها بعدك لموتك سره هذا الجواب، وأفرج عنه. فقال: الآن علمت ان لي خليفة.

ويروي ابن الكلبي ان الرسول أمر بالقضاء على العزُى، وذلك عام الفتح، فلما افتتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال له: ايت بطن نخلة، فإنك تجد ثلاث سمرات، فاعضد الأولى، فأتاها فعضدها، فلما جاء اليه عليه السلام: هل رأيت شيئاً ? قال لا، قال: فاعضد الثانية ? فأتاها فعضدها. ثم أتى النبي عليه السلام، فقال: هل رأيت شيئا قال: لا. قال: فاعضد الثالثة. فأتاها. فإذا هو بحبشية نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها، تصرف بأنيابها، وخلفها دبية بن حرمي الشيباني ثم السلمي، وكان سادنها. فلما نظر إلى خالد، قال: أعـزّ شـدي شـدة لا تـكـذبــي  على خالد القي ألقي الخمار وشمري

فإنك الا تقـتـلـي الـيوم خـالـدا  تبوئي بذل عـاجـلاً وتـنـصـري

فقال خالد: يا عز كفرانك، لاسبحانك  إني رأيت اللّه قد أهانك

ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة. ثم عضد الشجرة، وقتل دبية السادن.

ثم أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب. أما انها لن تعبد بعد اليوم.

ويظهر من شعر ل "أبي خراش الهذلي" أن "دبية" كان كريماً، يطعم الناس، عظيم القدر،له جفنة حين الشتاء، وقد مدحه، إذ حذاه نعلين جيدين، كما رثاه يوم قتل بأبيات ذكرها "ابن الكلبي" في كتابه الأصنام.

وذكر بعض أهل الأخبار أن "خالد بن الوليد" هدم بيت العزى عام الفتح، وقتل إذ ذاك سادنه "ربيعة بن جرير السلمي"وروايات الأخبارين عن العزُى يكتنفها شيء من الغموض واللبس، ويدل ذلك على أنهم لم يكونوا على علم تام بالعُزى. فبينما هم يذكرون أن العزى شجرة أو سمرة. تراهم يذكرون في روايات أخرى أنها شيطانة تأتي ثلاث سمرات، أي ان العزى هي تلك الشيطانة، لا السمرة أو السمرات الثلاث. ثم تراهم يذكرون في روايات أخرى أن العزى صنم، وان الرسول حينما أمر خالد بن الوليد بهدمه، قال له لما هدم العزى، وعاد: " أرأيت شيئاً قال: لا، قال: فارجع فاهدمه، فرجع خالد إلى الصنم، فهدم بيته، وكسر الصنم، فجعل السادن يقول: أعزى اغضبي بعض غضباتك. فخرجت عليه امرأة حبشية عريانة مولولة، فقتلها وأخذ ما فيها من حلية، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فقال: تلك العزى، ولا تعبد العزى أبداً. ومعنى هذا أن العزى صنم، كان في داخل بيت العُزى، وأن خالد بن الوليد كسره، وهدم بيته. ولم يكن شجرة. أما تلك السمرة أو السمرات الثلاث، فلم تكن إلا أشجاراً نبتت في حرم البيت. لذلك صارت محرمة لا يجوز مسها بأي سوء كان.

وقد سمىّ بعض أهل الأخبار اسم اخر سدنة العزى "دُبيَة" و "دبية بن حرمس السلمي" وسمّاه بعض آخر "ربية السلمي"، و "ربية بن جرمي"، و "ربيعة بن جرير السلمي".

والرأي المعقول المقبول، هو ان العزى صنم، له بيت، وأمامه غبغب، أي خزانة يضع فيها العباد المؤمنون بالعزى هداياهم ونذورهم لها، كما كانوا ينحرون لها، إذ لا يعقل ان يقال إن خالداً كسر الصنم وهدم بيته ثم لا يكون العزى، صنماً بل يكون شجرة، أو شجرات. وأما الشجيرات، فإنها شجيرات مقدسة أيضاً، لأنها في حرم العزى، وشجر الحرم هو شجر مقدس لا يجوز قطعه، ولذلك كان أهل مكة يجتنبون مس شجر الحرم بسوء، فلما أراد "قصي" اعتضاده، هابت قريش عمله وخافت سوء العاقبة، ونهته عن مسه بسوء، ولكنه أقدم على قطعه، لم يبال برأيهم، ولم يحفل بنصائحهم، فقطعه. وكان بيت العزى يسمع فيه الصوت. وقد ذكر الأخباريون انه كان في كل من اللات والعزى ومناة شيطانة تكلمهم، وتظهر للسدنة وقد نسبوا ذلك إلى صنع ابليس. والظاهر ان الحبشية المذكورة التي قتلها خالد،وزعم انها شيطانة ان صح ما ذكره الرواة عن وجودها، كانت امرأة كان السادن يخفيها في موضع سري، وهي التي تجيب عن أسئلة السائلين فينسب السادن كلامها الى العزى.

ومما يؤيد رأيي في ان "العزى" صنم، ما ورد في تفسير "الطبري" من قوله: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، خالد بن الوليد إلى شعب بسقام ليكسر العزى، فقال سادنها، وهو قيمها: يا خالد أنا أحذركها إن لها شدة لا يقوم اليها شيء. فمشى اليها خالد بالفأس فهشم أنفها. مما يدل على انها كانت صنماً أنثى، أي تمثالاً لامرأة، لأنها أنثى.

ويظهر من هذا البيت: أما ودماء مائرات تـخـالـهـا  على قنة العزى وبالنسر، عندما

ان عبّاد العزى كانوا قد لطخوا قنة الصنم، أي أعلاه ورأسه بدم الأضاحي. وكذلك فعل عباد الصنم نسر بقة صنمهم.

مناة

ويعد الصنم مناة أقدم الأصنام عند الأخباريين. وهو من الأصنام المذكورة في القرآن الكريم: ) أ فرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى (. وهذه الأصنام الثلاثة هي إناث في نظر الجاهليين.

وموضع مناة بالمشلل على سبعة أميال من المدينة، وبقديد بين مكة والمدينة، وقيل أيضاً انه بموضع "ودان" أو في موضع قريب منه. وذكر اليعقوبي ان مناة كان منصوباً بفدك مما يلي ساحل البحرْ. والرأي الغالب بين أهل الأخبار انه كان على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد. وذكر "محمد بن حبيب" أنه كان بسيف البحر وكانت الأنصار وأزد شنؤة وغيرهم من الأزد تتعبد له. واًما سدنته، فهم "الغطاريف" من الأزد. وذكر أن تلبيته كانت على هذه الصورة: "لبيك اللهم لبيك،.لولا ان بكراً دونك، يبرك الناس ويهجرونك، و ما زال حج عثج يأتونك. أنا على عدوائهم من دونك".

وتسكت أكثر روايات أهل الأخبار عن معبد "مناة" فلم تذكر شيئاً عنه، ولكن "الطبري" يشير في تفسيره إلى أنه كان بيتاً بالمشلل، وهو كلام منطقي معقول، إذ لا يعقل أن يكون هذا الصنم، مجرد صخرة أو صنم قائم في العراء تعبث به الرياح والشمس،.ثم ان له سدنة، ولا يعقل أن تكون لصنم سدنة، ثم لا يكون له بيت يؤويه. ولست أستبعد أن يكون له، "جب" يلقي المؤمنون فيه هداياهم ونذورهم. وذكر "الطبري" أيضاً أن معبده كان في "قديد". وأما عبدته، فخزاعة، وبنو كعب.

والأخباريون على خلاف فيما بينهم على هيأة "مناة" وشكله، منهم من يقول إن مناة صخرة، سميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها، أي تراق. ومنهم من يقول إنه صنم كان منصوباً على ساحل البحر، فهو على هيأة تمثال، وقد نحت من حجارة، وجعله بعض الرواة في الكعبة مع بقية الأصنامْ.

و الذين يذكرون أن مناة صخرة، يرون أن اناس كانوا يذبحون عندها فتمنى دماء النسائك عندها، أي تراق، فهي إذن، وبهذا الوصف مذبح تراق عنده الذبائح الذي تقدم نسيكة للالهة. ويذكرون أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك " كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها. ويتبين من ذلك ان هذا الموضع كان مكاناً مقدساً، وقد خصص بإلهه ينشر السحب ويرسل الرياح فتأتي بالأمطار لتغيث الناس، وان لهذا الإلهَ صلة بالبحر وبالماء، ولذلك أقيم معبده على ساحل البحر قد تكون هذه الصخرة مذبحاً أقيم عند الصنم، أو عند معبده لتذبح عليه ما يهل للصنم، فسمي باسمه، ولذاك يمكن التوفيق بن الرأيين: كونه صخرة، وكونه صنماً.

ويظهر من أقوال ابن الكلبي ان هذا الصنم كان معظماً، خاصة عند الأوس والخزرج، أي أهل يثرب ومن كان يأخذ مأخذهم من عرب المدينة والأزد وغسان "فكانوا يحجون ويقفون مع الناس.المواقف كلها، ولا يحلقون رؤوسهم، فإذا نفروا أتوا منآة وحلقوا رؤوسهم عنده وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تماماً إلا بذلك. ولكن القبائل العربية الأخرى كانت تعظمه كذلك، وفي جملتها قريش وهذيل وخزاعة. وأزد شنؤة، وغيرهم من الأزد. وقيل ثقيف أيضاَ، وذكرت رواية أخرى ان العرب جميعاً كانت تعظمه وتذبح حوله. أما سدنته، فالغطاريف من الأزدْ.

وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمون مناة، ويهلون منها للحج إلى الكعبة.

فمناة اذن من الأصنام المعظمة المقدسة عند "الخزرج". وكانوا يحلفون بها ويقفون عندها. وفي ذلك ورد شعر ينسب إلى عبد العزى بن وديعة المُزني أو غيره من العرب: إني حلفت يمين صدق برة  بمناة عند محل آل ألخزرج

فالمحل الذي يقف فيه "آل الخزرج"، هو المحل الذي يحلف به أمام مناة. وكان العرب في الجاهلية يسمون الأوس والخزرج جميعاً: الخزرج، ولذلك يقول الشاعر في بيته: "عند محل آل الخزرج".

وترجع بعض الروايات تاريخ مناة إلى "عمرو بن لحي" فتزعم أنه هو الذي نصبه على ساحل البحر مما يلي قديداً. وقد أخذت من الرواية التي ترجع أساس عبادة الأصنام وانتشارها بين العرب إلى ذلك الرجل.

وكان المتعبدون لهذا الصنم يقصدونه، فيذبحون حوله، ويهدون له. ويظهر من روايات ابن الكلبي عن هذا الصنم، أنه.كان من الأصنام المعظمة المحترمة عند جميع العرب. وقد قصد ابن الكلبي بعبارة: "وكانت العرب جميعا ًتعظمه وتذبح حوله" عرب الحجاز على ما اعتقد. وكان سدنته يجنون من سدانتهم له أرباحاً حسنة من هذه الهدايا التي تقدم إلى معبده باسمه.

وقد بقي سدنة هذا الصنم يرتزقَون باسمه، إلى أن كان عام الفتح، فانقطع رزقهم بهدمه وبانقطاع سدانته. فلما سار الرسول في سنة ثمان للهجرة، وهي عام للفتح اربع أو خمس ليال من المدينة، بعث عليا اليه، فهدمه وأخذ ما كان له، فأقبل به إلى النبي، "فكان فيما أخذ سيفان كان الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان أهداهما له، أحدهما: يسمى مخذماً، والآخر رسوباً. وهما سيفا الحارث اللذان ذكرهما علقمة في بيته: مظاهر سربالي حديد عليهما  عقيلاً سيوف: منخم ورسوب

فوهبهما النبي لعليّ، فيقال: إن ذا الفقار، سيف علي أحدهما. ويقال: إن علياً وجد هذين السيفين في الفلس" وهو صنم طيء، حيث بعثه النبي فهدمه.

وفي رواية للواقدي أن الذي هدم الصنم هو سعد بن زيد الأشهلي، هدمه سنة ثمان للهجرة. وفي رواية أخرى ان الذي هدم الصنم هو أبو سفيان.

وقد كانت القبائل تتجنب ان تجعل ظهورها على "مناة" إعظاماً للصنم، ولذلك كانت تنحرف في سيرها، حيث لا يكون الصنم إلى ظهرهاْ. وفي ذلك قال الكميت بن زيد الشاعر، أحد بني أسد بن خزيمة بن مدركة وقد آلت قبائل لا تولي  مناة ظهورها متحرِّفينا

ويظهر من ورود اسم هذا الصنم في القران الكريم ومن انتشار التسمية به في مثل عبد مناة وعبدة مناةوزيد مناة وعوذ مناة وسعد مناة و اوس مناة بين القبائل المختلفة مثل طيء وكنانة. ان عبادة مناة كانت منتشرة انتشارا واسعا بين القبائل ولهذه الكلمات المتقدمة على كلمة مناة شأن كبير في وصف الصورة التي كانت مخيلة عبدة مناة عنه اذ تمثله الهاً كريما يسعد عباده ويساعدهم في المكاره والملمات ويعطيهم ما يحتاجون اليه.

والصنم مناة هو منوتن ومنوت Manavat عند النبط ويظن ان لاسمه صلة بمناة Menata في لهجة بني ارم ومنا 'Mana في العبرانية وجميعها مانوت منوت Manot وباسم الالهة منى Meni بكلمة منية وجمعها منايا في عربية القرآن الكريم وهي لذلك تمثل الحظوظ والاماني وخاصة الموت ولهذا ذهب بعض الباحثين الى ان هذه الالهة هي الهة المنية والمنايا عند الجاهليين.

وقد ذكر منى Meni مع جد Gad في العهد القديم والظاهر ان كلمة جد كانت مصدرا ثم صارت اسم علم لصنم وذكر منى مع جد له شأن كبير من حيث معرفة الصنمين فالاول هو معرفة المستقبل وما يكتبه القدر للانسان من مناية ومخبآت لا تكون في مصلحة الإنسان والثاني وهو جد لمعرفة المستقبل الطيب والحظ السعيد t yche fortune في اليونانية فهما يمثلان اذا جهنين متضادتين.

هبل

يقول ابن الكلبي:" وكانت لقريش اصنام في جوف الكعبة وكان اعظمها هبل وكان فيما بلغني من عقيق اخمر على صورة انسان مكسور اليد اليمنى. أدركته قريش فجعلت له يداً من ذهب. وكان أول من نصبه خزيمة ابن مدركة بن الياس بن مضر. وكان يقال له هبل خزيمة.

وكان في جوف الكعبة قدامه سبعة أقّداح، مكتوب في أولها: صريح والاخر ملصق. فإذا شكوا في مولود أهدوا اليه هدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج صريح ألحقوه، وإن خرج ملصق دفعوه. وقدح على الميت،وقدح على النكاح، وثلاثة لم تفسر لي على ما كانت. فإذا اختصموا في أمر، أو أرادوا سفراً أو عملاً، أتوه فاستقوا بالأزلام عندّه. فما خرج، عملوا به وانتهوا اليه. وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله.

وتذكر رواية أخرى أن خزيمة بن مدركة كان أول من نزل مكة من مضر فوضع هبل في موضعه، فكان يقال له صنم خزيمة، وهبل خزيمة. وورث أولاده سدانته من بعده. وقد ذهب "ابن الكلبي" هذا المذهب أيضاً، إذ قال: "وكان أول من نصبه خزبمة بن مدركة ".

ولا خلاف بين أهل الأخبار في أن "هبل"، كان على هيأة انسان رجل. وهناك روايات تنسب هبل إلى عمرو بن لحي، تقول إنه جاء به إلى مكة من العراق من موضع هيت، فنصبه على البئر وهي الأخسف والجب الذي حفره إبراهيم في بطن الكعبة، ليكون خزانة للبيت، يلقى فيه ما يهدى إلى ااكعبة.، و أنه هو الذي أمر الناس بعبادته، فكان الرجل إذا قدم من سفر بدأ به على أهله بعد طوافه بالبيت، وحلق رأسه عنده، وكان على هذه الروايات من خرز العقيق على صورة إنسان، وكانت يده اليمنى مكسورة، فأدركته قريش فجعلت له يداً من ذهب. وكانت له خزانة للقربان وكان قربانه" مائة بعير. وله حاجب يقوم بخدمته.

وجاء في رواية ان عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام. في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق، ويقال عمليق، وجدهم يتعبدون للاصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ? قالوا له: هذه الأصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنماً، فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدوه ? فأعطوه صنماَ يقال له هبل، وأخذه، فتقدم به إلى مكة فنصبه، وأمر الناس بعبادته.

ولسنا نجد في كتب أهل اللغة أو الأخبار تفسيراً مقبولاً لمعنى "هبل". وقد ذهب بعضهم إلى انه من "الهبلة"، و معناها القبلة. وذكر بعض آخر انه من "الهبيلي"، بمعنى الراهب، وذكر ان "بني هبل" كانت تتعبد له. و ذكر انه من "هُبل" بوزن "زُ فَر"، ومعناها كثرة اللحم والشحم، أو من "هبل" بمعنى غنم، وما شاكل ذلك من آراء. ويكمن.سبب اضطراب العلماء في تسميته في انه من الأصنام المستوردة من الخارج التي حافظت على تسميتها الأصلية، فوقع لديهم من ثم هذا الاضطراب.

وكانت تلبية من نسك هبل: "لبيك اللهم لبيك. اننا لقاح، حرمتنا على أسنة الرماح، يحسدنا الناس على النجاح.

ويذكر أهل الأخبار ان "هبل" كان أعظم أصنام قريش، وكانت تلوذ به وتتوسل اليه، ليمن " عليها بالخير والبركة، وليدفع عنها الأذى وكل شر. وكانت لقريش أصنام أخّرى في جوف الكعبة وحولها، ولكن هبل هو المقدم والمعظم عندها على الجميع. وقد نصب على الجب الذي يقال له "الأخسف"، وهو بئر، وكانت العرب تسميها "الأخشف.

وذهب بعض المستشرقين إلى ان "هبل"، هو رمز إلى الإلهَ القمر، وهو إلهَ الكعبة، وهو الله عند الجاهليين. وكان من شدة تعظيم قريش له انهم وضعوه في جوف الكعبة. وانه كان الصنم الأكبر في البيت.

ويرى بعض الباحثين ان صورة الحية أو تمثالها يشيران إلى هبل، أو إلى هبل وود. وقد عثر على صورة لحيّة في "رم"، يظهر انها رمز إلى "هبل" أو ود.

وذكر "ياقوت الحموي" أن هبل "صنم" لبتن كنانة: بكر ومالك وملكان، و كَانت كنانة تعبد ما تعبد قريش، وهو اللات والعزى. وكانت العرب تعظم هذا المجمع عليه، فتجتمع عليه كل عام مرة. وقال غيره: " وكان هبل لبني بكر ومالك وملكان وسائر بني كنانة. وكانت قريش تعبد صاحب بني كنانة، وبنو كنانة يعبدون صاحب قريش. وقد ورد اسم هبل في الكتابات النبطية النبي عثر عليها في الحجر، ورد مع اسم الصنمين: دوشرا "ذي الشرى"، و "منوتو" "مناة". وقد تسمى به أشخاص وبطون من قبيلة كلب، مما يدل على أن هذه القبيلة كانت تتعبد له، وأنه كان من معبودات العرب الشماليين. وباسم هذا الصنم سمي "هبل بن عبد اللّه بن كنانة الكلبي جدَ زهير بن جناب.

ولما أراد النبي الانصراف عن أحد، علا صوت أبي سفيان: أعل هُبل، أعل هبلْ. فقال النبي لعمر: أجبه، قال: ما أقول له ? قال: الله أعلى وأجل. فقال: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي لعمر قل: الله مولانا ولا مولى لكم.

أصنام قوم نوح

وزعم ابن الكلبي أن خمسة أصنام من أصنام العرب، من زمن نوح، وهي: ودّ، و سواع، و يغوث، ويعوق، ونسر. وقد ذكرت في القرآن الكريم: "قال نوح: رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً، ومكروا مكراً كباراً، وقالوا: لا تذرون آلهتكم، ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ولا يعوق ونسراً، وقد أضلوا كثيراً". ويظهر ان ورود اسمها على هذا النحو في القرآن، هو الذي حمله على رجع هذه الأصنام إلى أيام نوح. وزعم "ابن الكلبي" ان الأصنام المذكورة كانت في الأصل قوماً صالحين، ماتوا، في شهر، وذلك في أيام "قابيل"، فجزع عليهم بنو قابيل، و ذوو أقاربهم، وقام رجل من قومهم، فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم ونصبها لهم، فصار الناس يعظمونها ويسعون حولها، ثم جاء من بعدهم من عبدها، وعظم أمرها، ولم يزل أمرها يشتد، حتى أدرك "نوح" فدعاهم إلى الله، والى نبذ هذه الأصنام، فكذبوه، فكان الطوفان، فأهبط ماء الطوفان هذه الأصنام من جبل "نوذ" إلى الأرض، وجعل الماء يشتد جريه وعبابه من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جدة، ثم نضب الماءْ وبقيت على الشط، فسفت الريح عليها حتى وارتها. وبقيت مطمورة هناك أمداً، حتى جاء "رئي" "عمرو ابن لحي " وكان يكنى أبا ثمامة، فقال له: عجل بالمسير والظعن من تهامة بالسعد والسلامة. قال عمر: جير ولا إقامة فقال الرئي ايت ضف جدة تجد فيها أصناماً معدة، فأوردها ولا تهاب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجاب. فأتى شط جدة فاستثارها، ثم حملها حتى ورد تهامة. وحضر الحج، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة. فأجابه سادات القبائل، ووزع تلك الأصنام عليهم، وأشاعوا عبادتها بين الناس، ومن ثم عبد العرب هذه الأصنام.

وذكر أيضاً ان الأصنام المذكورة هي أصنام نحتها الشيطان على صورة. خمسة بنين من أبناء "آدم"، ماتوا فجزع الناس عليهم، لأنهم كانوا عباداً صالحين.

فسول لهم الشيطان ان يصنع لهم تماثيل على هيأتهم وصورهم، لتذكرهم بهم فسرّوا برأيه، وصنعها لهم، فما لبث الناس ان عبدوها، حتى تركوا عبادة ال له، وكان "ود" أكبرهم وأبرهم، فصار أول معبود عبد من دون الله.

ود

وكان الصنم ود من نصيب "عوف بنُ عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحلف بن قضاعة"، أعطاه اياه "عمرو بن لحي" فحمله إلى وادي القرى، فأقره بدومة الجندل. وسمىّ ابنه عبد ود، فهو أول من سمي به، وهو أول من سمىّ عبد ود، ثم سمّت العرب به بعد. وقد تعبّد له بنو كلب.

ومنهم من يهمز فيقول أدٌّ. ومنه سمي "عبد ودّ" و "أد بن طابخة"، و "أدد" جد معد بن عدنان.

وجعل عوف ابنه عامراً الذي يقال له عامر الأجدار سادناً له، فلم يزل بنوه يسندونه حتى جاء الله بالإسلام.

وقد استنتج "ياقوت الحموي" من هذه الرواية التي يرويها "ابن الكلبي" أن الصنم اللات أقدم عهداً من ودّ لأن وداً على هذه الرواية قد سلم إلى عوف وعوف هو حفيد زيد اللات الذي سمي ب "زيد اللات"،نسبة الى الصنم اللات، فوّد على هذا أحدث عهداً من اللاتْ.

وفي رواية لمحمد بن حبيب أن وداً كان لبني وبرة، وكانت سدنته من بني الفرافصة بن الأحوص من كلب. ويشك "ولهوزن" Wellhausen في صحة هذه الرواية، فقد كان الفرافصة بن الأحوص على رأيه نصرانياً، وهو والد نائلة زوج الخليفة عثمان. ثم ان "الفرافصة" لم يكن من بني عمرو بن ود، ولا من بني عوف بن عذرة، فهل يعقل ان تكون السدانة اليه وفي نسله.

وود على وصف "ابن الكلبي" له في كتابه الأصنام "تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال قد ذبر عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوساً، وبين يديه حربة فيها.لواء، و وفضة فيها نبل". وقد أخذ ابن الكلبي وصفه هذا لود من أبيه عن مالك بن حارثة الأجداري.

ومالك بن حارثة الأجداري، هو من بني عامر الأجدار، وهم سدنة ود. وزعم ابن الكلبي ان أباه محمد بن السائب الكلبي حدثه عن مالك بن حارثه أنه قال له: إنه رأى وداً، وأن اباه كان يبعثه،وهو صغير، باللبن اليه، فيقول: اسقه إلهك فيشربه مالك، فيعود وقد شرب اللبن. أما أبوه فيظن انه قد أعطى وداً إياه.

وذكر "جارية بن أصرم الأجداري"،من بني عامر بن عوف، المعروف بعامر الأجدار،انه رأى وداً بدومة الجندل في صورة رجل. وورد أن من عبدة "ودّ" بعض تميم،و طيء،والخزرج، وهذيل، ولخمْ.

ويظهر انه "أدد" عند ثمود. وأدد من الأسماء المعروفة.وقبيلة "مرة" نسبة إلى "مرة بن أدد". وقد عرف ب "كهلن"،أي "الكاهل" "هكهل" "ها - كهل". ويظن أن الإلهَ "قوس" "قيسو" "قوسو"،هو" ود"، أي اسم نعت له. وذهب بعض الباحثين الى أن "نسراً" و "ذا غابة" "ذ غبت" يرمزان اليه.

وقد بقي ود قائماً في موضعه إلى ان بعث رسول الله خالدَ بن الوليد من غزوة تبوك لهدمه. فلما أراد خالد هدمه، اعترضه بنو عبد ود وبنو عامر الأجدار،وأرادوا الحيلولة بينه وبين هدمه، فقاتلهم وأوجعهم، وقتل منهم، فهدمه وكسره. وذكر ابن الكلبي انه كان فيمن قتل رجل من بني عبد ود يقال له قطن بن شريح،ورجل آخر هو حسان بن مصاد ابن عم الأكيدر صاحب دومة الجندل.

ويرى بعض المستشرقين استناداً إلى معنى كلمة "ود" بأن هذا الصنم يرمز إلى الود، اي الحب، وانه صنو للالهين "جيل" Gel و "بحد" Pahad عند الساميين. ويستندون في رأيهم هذا إلى بيت للنابغة مطلعه: "حياّك ود"، غير ان من العسير علينا تكوين رأي صحيح عن هذا الصنم.ولا أستبعد أن تكون كلمة "ود" صفة من صفات الله لا اسم علم له.

وهناك من يرى وجود صلة بين "ود" و "ايروس" Eros الصنم اليوناني، ويرى انه صنم يوناني في الأصل استورد من هناك، وعبدته العرب. وهو رأي يعارضه "نولدكه"، لانتفاء التشابه في الهيأة بين الصنمين. و "ود" هو الإلَه الأكبر لأهل معين. وسوف أتحدث عنه فيما بعد.

سواع

أما سواع فكان موضعه برهاط، من أرض ينبع. وذكر انه كان ضخماً على صورة امرأة، وهو صنم هذيل. وينسب ابن الكلبي انتشار عبادته - كعادته - الى عمرو بن لحي، فذكر ان مضر بن نزار أجابت عمرو بن لحي، فدفع إلى رجل من هذيل "يقال له الحارث. بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر" سواعاً،فكان بأرض يقال لها رهاط من بطن نخلة، يعبده من يليه من مضر. وذكر "ابن حبيب" انه كان ب "نعمان"، وأن عبدته: بنو كنانة، وهذيل،ومزينة، وعمرو ين قيس بن عيلان. وكان سدنته بنو صاهلة من هذيل. وفي رواية اًن عبدة سواع هم آل ذي الكلاع. وذكر "اليعقوبي" أنه كان لكنانة.

وفي رواية أخرى يرجع سندها إلى "ابن الكلبي" كذلك، تزعم أن سواعاً صنم كان برهاط من أرض ينبع، وينبع عرض من أعراض المدينة. وكانت سدنته بنو لحيان. ثم تقول إنه لم يسمع بورود اسم هذا الصنم في شعر هذيل، إنما بورود اسمه في شعر رجل من اليمن وورد في رواية أخرى ان "سواعاً" صنم من أصنام همدان.

ويرى "نولدكه" أن سواعاً لم يكن من الأصنام الكبرى عند ظهور الإسلام، وهو في نظره من الأصنام التي لم ترد أسماؤها في الأعلام المركبة، ويدل عدم ورود اسمه في هذا ا الإعلام على خمول عبادته بين الجاهليين.

وفي السنة الثامنة من الهجرة هدم سواع،وكان الذي هدمه عمرو بن العاص، فلما انتهى الى الصنم، قال له السادن: ما تريد: قال: هدم سواع،قال: لا تطيق تهدمه، قال له عمرو بن العاص: أنت على الباطل بعد. فهدمه عمرو، ولم يجد في خزانته شيئاً، ثم قال للسادن: كيف رأيت، قال: أسلمت والله. و "سواع" من الأصنام التي ورد اسمها في القران الكريم )وقالوا: لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً (. وقد ذكر بعض العلماء، انه صنم عبد في زمن نوح، فدفنه الطوفان، فأشار "ابليس" على الجاهليين بالتعبد له، فعبدته همدان،ثم صار لهذيل، وكان برهاط وحجّ اليه. وقال "ابن الكلبي" انه لم يسمع بذكره في أشعإر هذيل. وقد قال رجل من العرب.: تراهم حول قيلهم عكـوفـا  كما عكفت هذيل على سواع

يظل جنابه برهاط صرعـى  عتائر من ذخائر كـل راع

وذكر بعض أهل الأخبار ان سواعاً وبقية الأصنام التي ذكرت معه في سورة نوح، كانوا قوماً صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صوّرناهم كان أشوق لنا الى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبّ اليهم ابليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم. ورهاط من بلاد بني هذيل، ويقال وادي رهاط ببلاد هذيل، ذكر انه على ثلاثة أميال أو ثلاث ليال من مكة.

ونسب بعض أهل الأخبار هدم الصنم "سواع" إلى "غاوي بن ظالم السلمي" "غاوي بن عبد العزى". ذكروا أن هذا ا!صنم كان "لبني سليم بن منصور"، فبينما هو عند الصنم، اذ أقبل ثعلبان يشتدان حئ تسنّماه، فبالا عليه فقال: أربّ يبول الثعلبان بـرأسـه  لقد ذل من بالت عليه الثعالب

ثم قال: يا معشر سليم ? لا والله هذا الصنم لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع ! فكسره ولحق بالنبيّ عام الفتح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم، ما اسمك ? فقال: غاوي بن عبد العزى. فقال: بل أنت راشد بن عبد ربه. وعقد له على قومه. وقيل إن هذه الحادثة إنما وقعت لعباس بن مرادس السلمي،.وقيل لأبي ذر الغفاري.

يغوث

وأما يغوث، فكان أيضاً على رواية ابن الكلبي، في جملة الأصنام التي فرقها عمرو بن لحي على من استجاب إلى دعوته من القبائل، دفعه إلى أنعم بن عمرو المرادي، فوضعه باًكمة مذَحج باليمن، فعبدته مذحج ومن والاها وأهل جرش. وقد بقي في أنعم إلى ان قاتلتهم عليه بنو غطيف من مراد، فهربوا به إلى نجران، فاًقروه عند بني النار من الضباب، من بني الحارث بن كعب. واجتمعوا عليه جميعاً. وفي رواية أن عبدة يغوث هم بنو غطيف من مراد.

وفي رواية أن يغوث بقي في أنعم وأعلى من مراد. إلى ان اجتمع أشراف مراد وتشاوروا بينهم في أمر الصنم، فقر رأيهم أن يكون فيهم، لما فيهم من العدد والشرف. فبلغ ذلك. من أمرهم إلى أعلى وأنعم، فحملوا يغوث وهربوا به حتى وضعوه في بني الحارث بن كعب، في وقت كان النزاع فيه قائماً بين مراد وبني الحارث بن كعب. فلما أبت بنو الحارث تسليم الصنم إلى مراد،وتسوية أمر الديات، أرسلت عليها مراد جيشاً فاستنجدت بنو الحارث بهمدان، فنشبت بينهما معركة عرفت بيوم الرزم،. انهزمت فيها مراد ومنيت بخسارة كبيرة قبيحة، وبقي الصنم في بني الحارث. وقد وافق يوم الرزم يوم بدر.

وذكر "الطبرسي" أن بطنين من طيء أخذا يغوث، فذهبا به إلى مراد،فعبدوه زماناً ثم اْن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم " ففروا به إلى بني الحارث بن كعب.

ويظهر من غربلة هذه الروايات أن الصنم يغوث كان في جرش أو على مرتفع قريب من هذه المدينة. أما سدنته، فكانوا من بني أنعم بن أعلى من طيء، وكانوا في جرش. وفي حوالي سنة 623، أي السنة التي وقعت فيها معركة بدر، حدث نزاع على الصنم: أراد بنو مراد ان يكون الصنم فيهم وسدنته لهم، وأراد بنو أنعم الأحتفاظ بحقهم فيه. فهرب بنو أنعم بصنمهم إلى بني الحارث،واحتفظوا به بعد أن وقعت الهزيمة في مراد.

وفي الحرب التي وقعت بين بني أنعم" و "غظيف" حمل عبدة "يغوث" صنمهم معهم وحاربوا، مستمدين منه العون والمدد. وفي. ذلك يقول الشاعر: وسار بنا يغوث إلى مراد  فناجوناهم قبل الصبـاح

ويظهر ان "بني أنعم"، وسائر عبدة هذا الصنم، كانوا يحملون صنمهم معهم في غالب الأحوال عند قتالهم القبائل الأخرى.

ولا يستبعد ان تكون لاسم هذا الصنم علاقة بفكرة المتعبدين له عنه، بمعنى ان المتعبدين له كانوا يرون انه يغيثهم ويساعدهم. وقد ظن بعض الباحثين انه يمثل الإلَه الأسد. وانه كان "طوطم" قبيلة مذحج، يدافع عنها ويذب عن القبيلة التي تستغيث به، على نحو ما فعله الاسرائيليون من استغاثتهم ب "حية النحاس" المسماة "نحشتان" Nahushtan، التي كانت "طوطماًَ" في الأصل على رأي "سمث".

ونجد بين أسماء الجاهليين عدداً من الرجال سموا ب "عبد يغوث"، منهم من كان فيِ مذحج، ومنهم من كان في قريش، ومنهم من كان في هوازن. وقد كان قائد بني الحارث بن كعب على تميم في معركة "الكلاب" عبد يغوث، كما كان لدريد بن الصمة أخ اسمه "عبد يغوث". ومن مذحج: "عبد يغوث" ابن وقاص بن صلاءة الحارثي الذي قتلته "التيم" يوم الكلاب الثاني. ومن بني زهرة : عبد يغوث بن وهب، وعبيد يغوث، وامهما صفية بنت هشام بن عبد مناف. ويدل ذلك على ان عبادته كانت معروفة بين مذحج واًهل جرش وقربش وهوازن. وقبائل أخرى مثل تغلب.

ولم يرد اسم هذا الصنم في الكتابات. وقد ذهب "روبرتسن سمث" إلى انه "يعوش" Ye,ush المذكور في سفر التكوين، وهو أحد أجداد أدوم. وبمثله الأسد في نظر "روبرتسن سمث".

يعوق

ويعوق أيضا في جملة هذه الأصنام التي فرقها عمرو بن لحي على القبائل. لقد سلمه عمرو الى مالك بن مرثد بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيبوان بن نوف ابن همدان فوضعه في كل موضع خيوان، حيث عبدته همدان وخولان ومن والاها من قبائل. وكان في أرحب.

وذكر "ياقوت الحموي" ان ابن الكلبي قال: "واتخذت خيوان يعوق،وكان بقرية لهم يقال لها خيوان من صنعاء على ليلتين مما يلي مكة، ولم أسمع لها ولا لغيرها شعراً. فيه. وأظن ذلك لأنهم قربوا من صنعاء واختلطوا بحمير، فدانوا معهم باليهودية أيام تهود ذي نواس، فتهودوا معه". ونسب "الطبرسي" عبادة يعوق إلى كهلان، وذكر انهم توارثوه كابراً عن كابر،حتى صار إلى همدان. وذكر في رواية أخرى ان يعوق اسم صنم كان لكنانة.

وذكر بعض أهل الأخبار: " يعوق" صنم كان لكنانة، "وقيل كان لقوم نوح عليه السلام، كما في الصحاح. أو كان رجلا من صالحي أهل زمانه. فلما مات جزعوا عليه فاًتاهم الشيطان في صورة إنسان. فقال: أمثله لكم في محرابكم حتى تروه كلما صليتم، ففعلوا ذلك به وبسبعة من بعده من صالحيهم، ثم تمادى بهم الأمر إلى أن اتخذوا تلك الأمثلة أصناماً يعبدونها".

وتشير ملاحظة " ابن الكلبي" من أنه لم يسمع بأن همدان أو غير همدان سمت "عبد يعوق" إلى أن يعوق لم يكن من الأصنام المهمة بين العرب عند ظهور الإسلام، وان عبادته كانت قد تضاءلت. وانحصرت في قبائل معينة. وهناك بيت ينسب إلى مالك بن نبط الهمداني الملقب بذي المعشار، وهو من بني خارف أو من يام بن أصى، هذا نصه: يربش الله في الدنيا ويبري  ولا يبرى يعوق ولا يريش

النسر

وأما نسر فكان من نصيب حمير، أعطاه عمرو بن لحي قيلَ ذي رعين "معديكرب" فوضعه في موضع بلخع من أرض سبأ، فتعبدت له حمير إلى أيام ذي نواس، فتهودت معه، وتركت هذا الصنم. وكان عباد نسر آل ذي الكلاح من حمير على رواية من الروايات. وذكر "محمد بن حبيب"، أن حمير تنسكت لنسر، وعظمته ودانت له، وكان في همدان قصر ملك لليمن. وذكر اليعقوبي أنه كان لحمير وهمدان منصوباً بصنعاء.

ونسر هو "نشر" Nesher في العبرانيةْ. وهو صنم من اصنام اللحيانيين كذلك، ويجب ان يكون من أصنام العرب الشماليين لورود اسمه في الموارد العبرانية والسريانية على انه اسم إله عريي.

وأشير في التلمود إلى صنم ذكر ان العرب كانوا يعبدونه اسمه "نشرا" Neshra و "نشرا" هو "نسر". وقد ورد اسم الصنم "نسر" عند السبئين كذلك، وكان من الآلهة المعبودة عند كثير من الساميين، وقد عبد خاصة في جزيرة العرب.

ولم يشر ابن الكلبي إلى صورة الصنم نسر، ولكننا نستطيع ان نقول استناداً إلى هذه التسمية انه كان على هياًة الطائر المسمى باسمه، وقد وجدت أصنام على صورة نسر منحوتة على الصخور خاصة في أعالي الحجاز. ويؤيد هذا الرأي رواية ذكرها الطبرسي في أشكال الأصنام، أسندها إلى الواقدي، قال فيها: "كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير".

عميأنس

وعميأنس "عم أنس"، هو صنم خولان، وموضعه في أرض خولان. وكان يقدم له في كل عام نصيبه المقرر من الأنعام والحروث. وذكر ابن الكلبي ان الذين تعبدوا له من خولان هم بطن منهم يقال لهم "الادوم" وهم الأسوم. وفيهم نزلت الآية: )وجعلوا الله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا: هذا لله، بزعمهم،وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى،شركائهم، ساء ما محكمون". وكانوا "يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسماً بينه وبين الله بزعمهم. وما دخل في حق الله من حق عميأنس، ردوه عليه، وما دخل في حق الصنم من حق الله الذي سموه له، تركوه له(.

وقد ورد ذكر هذا الصنم في خبر "وفد خولان" الذي قدم على رسول الله في شعبان سنة عشر، إذ ذكر أن رسول الله. قال لهم: "ما فعل عم أنس"، فقالوا: بشرّّ وعرّ، أبدلنا اللّه به، ولو قد رجعنا اليه هدمناه. "وقد بقيت منا بعد بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به".

وقد كانوا يقدمون له القرابين حتى في أيام الضيق وأوقات المحنة، تقرباً اليه. لقد قالوا للرسول حين سألهم: "ما أعظم ما رأيتم من فتنته" "لقد رأيتنا وأسنتنا حتى أكلنا الرمة، فجمعنا ما قدرنا عليه، وابتعنا مئة ثور، ونحرناها لعم أنس قرباناً في غداة واحدة، وتركناها تردها السباع، ونحن أحوج اليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا. لقد رأينا العشب، يوارى الرجال، ويقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس ". وذكروا له أنهم كانوا يقتسمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم، وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءاً له.

اساف ونائلة

وللأخبارين قصص في اساف ونائلة، وهما في زعم بعضهم إنسانان عملا عملاً قبيحاً في الكعبة، فمسخا حجرين، ووضعا عند الكعبة ليتعظ الناس بهما. فلما طال مكثهما، وعبدت الأصنام، عبدا معها. وكان أحدهما بلصق الكعبة، والآخر في موضع زمزم. فنقلت قريش الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخر، فكانوا ينحرون ويذبحون عندهما. وفي رواية أن اسافاً كان حيال الحجر الأسود. وأما نائلة، فكان حيال الركن اليماني. وفي أخرى أنهما "أخرجا إلى الصفا والمروة فنصبا عليهما ليكونا عبرة وموعظة، فلما كان عمرو بن لحي، نقلهما إلى الكعبة ونصبهما على زمزم: فطاف الناس بالكعبة وبهما حتى عبدا من دون الله".وذكر "اليعقوبي"، أن "عمرو بن لحي" وضع "هبل" عند الكعبة، فكان أول صنم وضع بمكة. ثم وضعوا به اساف ونائلة كل واحد منهما على ركن من اركان البيت. فكان الطائف إذا طاف بدأ بأساف فقبله وختم به. ونصبوا على الصفا صنماً يقال له مجاور الريح وعلى المروة صنماً. يقال له مطعم الطير". فاليعقوبي ممن يرون إن اسافاً ونائلة كانا عند الكعبة، لا على الصفا والمروة.

وتذكر رواية أخرى ان أساف صنم وضعه عمرو بن لحي الخزاعي على الصفا، ونائلة على المروة. وكانا لقريش. وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة. أو هما رجلان من جرهم، أساف بن عمرو ونائلة بنت سهل فجرا في الكعبة، وقيل أحدثا فيها، فمسخا حجرين، فعبدتهما قريش. وورد ان موضع أساف ونائلة عند الحطيم. وورد ان اسافاً رجل من جرهم، يقال له اساف بن يعلى، ونائلة امرأة من جرهم يقال لها نائلة بنت زيد، وكان اساف يتعشقها في أرض اليمن، فأقبلا حجاجاٌ، فدخلا الكعبة، فوجدا غفلة من الناس وخلوة في البيت، ففجر بها في الكعبة، فمسخا حجرين، فأصبحوا فوجدوهما ممسوخين،فوضعوهما موضعهما. فعبدتهما خزاعة وقريش، ومن حج البيت بعد من العرب.

وذكر "محمد بن حبيب" ان اسافاً كان على الصفا. وأما نائلة، فكان على المروة. "وهما صنمان وكانا من جرهم. ففجر اساف بنائلة في الكعبة، فمسخا حجربن، فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما.، ثم عبدا بعد". وكان نسك قريش لأساف: "لبيلك اللهم لبيلك، لبيلك، لاشريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك ".

وورد اسم اساف في بيت شعر ينسب إلى بشر بن أبي خازم الأسدي، هو: عليه الطير ما يدنون منـه  مقامات العوارك من اساف

وورد ان نائلة حين كسرها الرسول عام الفتح، خرجت منها سوداء شمطاء تخمش وجهها وتنادي بالويل والثبور.

ويظهر أن مردّ هذا القصص الذي يقصه علينا أهل الأخبار عن الصنمين، إنما هو إلى شكل الصنمين. كان "اساف" تمثال رجل على ما يظهر من روايات الأخباريين، وكان "نائلة" تمثال إمرأة. يظهر أنهما استوردا من بلاد الشام، فنصبا في مكة، فتولد من كونهما صنمين لرجل وامرأة، هذا القصص المذكور ولعله من صنع القبائل الكارهة لقريش، التي لم تكن ترى حرمة للصنمين.

وكانت قريش خاصة تعظم ذينك الصنمين وتتقرب اليهما، وتذبح عندهما وتسعى بينهما. أما القبائل الأخرى، فلم تكن تقدسهما، لهذا لم تكن تتقرب اليهما، ومن هنا لم يكن الطواف بهما من مناسك حج تلك القبائل.

وكانت قريش تحلف عند هذين الصنمين. ولهما يقول "أبو طالب"، وهو يحلف بهما حين تحالفت قريش على بني هاشم: أحضرت عند البيت رهطي ومعشري  وأمسكت من أثوابـه بـالـوصـائل

وحيث ينخ الأشعـرون ركـابـهـم  بمغضي السيول من أسـاف ونـائل

فكانا على ذلك الى أن كسرهما الرسول يوم الفتح فيما كسر من الأصنام. ويظهر من الشعر المتقدم، أن أسافاً ونائلة كانا في موضعين مكشوفين،وعندهما كان. ينيخ الأشعرون. ويؤيد ذلك هذا الشعر المنسوب إلى بشر بن أبي خازم الأسدي: عليه الطير ما يدنون منـه  مقامات العوارك من أساف

حيث يظهر أن الطير كانت تقف مكتظة،عليه، لا تخاف من أحد، ولا تفزع من قادم، لأنها في حرمة صنم.

رضى

ورضى، ويكتب رضاء في بعض الأحيان، هو صنم آخر. وذكر ابن الكلبي انه كان لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فهدمه المستوغر،وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. هدمه فيَ الإسلام. وتعبدت لهذا الصنم قبيلة تميم. وقد ورد اسم "عبد رى" بين أسماء الجاهليين. ويظهر ان قبيلة طيء كانت قد تعبدت له كذلك.

و "رضى" من الأصنام المعروفة عند قوم ثمود. وقد ورد اسمه في كتابات ثمودية عديدة. وكانت عبادته منتشرة بين العرب الشماليين. وورد في نصوص تدمر وبين أسماء بني ارم، كما ورد في كتابات الصفويين. وورد على هذا الشكل: "رضو" و "رضى"، و "هر ضو" "ها - رضو". ويظن انه يرمز إلى كوكب.

ويظهر من بيت شعر ينسب الى المستوغر في كسره رضى في الإسلام، هو: ولقد شددت على رضاء شدة  فتركتها تلا تنازع أسحمـا

ان الصنم "رضى" "رضاء"، هو انثى، بدليل استعمال ضمير التأنيث في لفظة " فتركتها". فهو إلهة. ويرى بعض الباحثين، انه إلهةّ أيضاً عند العرب الصفويين.

مناف

و "مناف": صنم من أصنام الجاهلية، قال عنه ابن الكلبي: "وكان لهم مناف، فيه كانت تسمى قريش "عبد مناف". ولا ادري اين كان، ولا من نصبه ?". وسمي به أيضاً رجال من هذيل. و "به سمي عبد مناف. وكانت أمه اخدمته هذا الصنم".

وفيه يقول بلعاء بن قيس: وقرن وقد تركت الطير منه  كمعتبر العوارك من مناف

ويتبين من ورود اسم" مناف" بين عرب الشام أنه كان إلهاً معبوداً عندهم كذلك. وقد عثرعلى اسمه في كتابة دوَّنها شخص اسمه: "أبو معن" على حجر توجه بها إلى الإلهة مناف، ليمن عليه بالسعد والبركة، وحفرت على الحجر صورة الإلَه "مناف" على هيأة "رجل لا لحية له" يتحدر على عارضيه شعر رأسه الصناعي المرموز به إلى الإلهة الشمس، وحول جفنيه وحدقتيه خطّان ناعمان: ويزين جيده قلادة، كما ترى غالباً في تصاوير الآلهة السوريين، وعلى صدره طيات ردائه، ويرى طرف طيلسانه الإلهي الذي ينعطف من كتفه الأيسر فيتصل إلى الأيمن ويعقد به. وقد ذهب المتخصصون الذين فحصوا هذه الكتابة إلى أنها من حوران.

وقد عثر على كتابة وجدت في حوران، ورد فيها اسم"مناف " مع إلَه اخر، ورد اسم مناف فيها على هذا الشكل."MN,PHA " وقد عثرعلى كتابة أخرى وجد فيها الاسم على هذه الصورة: "منافيوس" Manaphius مما يدل على أن المراد بالإسمين شيء واحد، هو الإلَه مناف.

ذو الخلصة

أما ذو الخلصة، فكان صنم خثعم وبجيلة ودوس وأزد السراة ومن قاربهم من بطون العرب من هوازن، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة، والحارث بن كعب وجرم وزبيد والغوث بن مر بن أد وبنو هلال بن عامر،.وكانوا سدنته. وذكر ابن الكلبي ان سدنته بنو أمامة من باهلة بن أعصر.

وصفته انه "كان مروة بيضاء منقوشة، عليها كهيأة التاج". وكان بتبالة بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة. وله بيت يحج إليه. وجعل "ابن حبيب" موضع البيت في العبلاء على أربع مراحل من مكة.

وفي رواية لابن اسحاق ان عمرو بن لحي نصب ذا الخلصة بأسفل مكة، فكانوا يلبسونه القلائد، ويهدون إليه الشعير والخطة، ويصبون عليه اللبن، ويذبحون له، ويعلقون عليه بيض النعام.

وهناك روايات جعلت ذا الخلصة "الكعبة اليمانية" لخثعم، ومنهم من سماه كعبة اليمامة. وأظن ان هاتين الروايتين هما رواية واحدة في الأصل، صارت روايتين من تحريف النساخ. ومنهم من جعل ذا الخلصة بيتاً في ديار دوس. ويستنتج من كل هذه الروايات ان ذا الخلصة بيت كان يدعى كعبة أيضاً، وكان فيه صنم يدعى الخلصة، لدوس وخثعم وبجيلة وغيرهم.

ويظهر من حديث: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة، والمعنى انهم يرشدون ويعولون إلى جاهليتهم في عبادة الأوثان، فتسعى نساء بني دوس طائفات حول ذي الخلصة، فترتج أعجازهن". ويستنتج من ذلك ان بي دوس وغيرهم كانوا يطوفون حول كعبة ذي الخلصة التي في جوفها صنم الخلصة.

وكان "بيت ذي الخلصة" من البيوت التي يقصدها الناس للاستقسام عندها بالأزلام. وكانت له ثلاثة أقدح: الآمر، والناهي، والمتربص.

وفي ذي الخلصة قال الرجّاز:

لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا مثلي، وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زورا وكان سبب قوله أنه قُتل أبوه، فأراد الطلب بثأره، فأتى ذا الخلصة، فاستقم عنه بالأزلام، فخرج السهم ينهاه عن ذلك، فقال تلك الأبيات. ومن الناس من ينحلها امرأ القيس. وذكر "ابن الكلبي" ايضاً أنه لما أقبل امرؤ القيس بن حجر، يريد الغارة على بني أسد، مرَ، بذي الخلصة، فاستقسم عنده ثلاث مرات. فخرج الناهي. فكسر القداح وضرب بها وجه الصنم، ثم غزا بني أسد، فظفر بهم.

وقد هدم البيت في الإسلام، "فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وأسلمت العرب ووفدت عليه وفودها، قدم عليه جرير بن عبد الله مسلماً. فقال له: يا جرير: ألأ تكفيني ذا الخلصة ? فقال: بلى.. فوجهه اليه. فخرج حتى أُتي بني أحمس من بجيلة، فسار بهم اليه. فقاتلته خثعم وياهلة دونه. فقتل من سدنته من باهلة يومئذ مئة رجل، وأكثر في خثعم، وقتل ستين من بني قحافة بن عامر بن خثعم. فظفر بهم وهزمهم، وهدم بنيان ذي الخلصة، وأضرم فيه النار فاحترق. وورد في رواية أن هدمه كان قبل وفاة الرسول بشهرين أو نحوهما.

ويذكر "ابن الكلبي" أن موضع بيت ذي الخلصة عند عتبة باب مسجد تبالة أما "أبن حبيب"، فذكر أنه صار بيت قصار في العبلاء. وذكر أن موضعه مسجد جامع لبلدة.يقال لها العبلات من أرض خثعم.

ويظهر من رثاء امرأة من خثعم لذي الخلصة حين هدمه جرير بن عبد الله،وأحرق بيته، وهو قولها: وبنو أمامة بالوليّة صرعوا  ثملا يعالج كلهم انبـوبـا

ان "الخلصة" كان صنماً أنثى، أي إلهة، ولذلك قيل له "الولية"،كما ترى ذلك في البيت المذكور. ونجد في مواضع أخرى من روايات أهل الأخبار ما يؤيد هذا الرأي، فقد استعملوا ضميرالتأنيث للتعبير عنها، كما قالوا فيه "المروة البيضاء". وأما تعبيرهم عنه بضمير التذكير، مثل قولهم "وكان"،فإنهم أرادوا بذلك لفظ "صنم" فذكروه.

سعد

وكان لمالك وملكان، ابني كنانة، بساحل جدة وتلك الناحية صنم يقال له سعد. وكان صخرة طويلة. وذكر "اليعقوبي" انه كان لبني بكر بن كنانة. وذهب "ابن اسحاق" إلى انه في موضع قفر، وقيل انه قرب اليمامة. وقد أورد الأخباريون عنه هذه القصة: "أقبل رجل منهم بإبل له ليقفها عليه،يتبرك بذلك فيها. فلما أدناها منه نفرت منه، وكان يهراق عليه الدماء، فذهبت في كل وجه وتفرقت عليه، وأسف فتناول حجراً فرماه به، وقال: لا بارك الله فيك إلهاً. أنفرت عليّ إبلي"ا. ثم خرج في طلبها حتى جمعها، وانصرف عنه،وهو يقول: أتينا إلى سعد ليجمع شـمـلـنـا  فشتتنا سعد،فلانحن من سـعـد

وهل سعد إلا صخرة بـتـنـوفة  من الأرض لايدعي لغيّ ولارشد

وذكر "ابن قتيبة" أن سعداً صنم على ساحل البحر بتهامة، تعبده عك ومن يليها، ويقال كانت تعبده هذيل.

وقد ورد اسم "سعد" في أسماء الأشخاص المركبة المضافة، مثل "عبد سعد"، وهو مما يدل على أن الناس كانوا يتبركون به بتسمية أبنائهم باسمه.

وقد ورد اسم هذا الصنم في كتابات النبط، فدعي ب "سعدو". كما ورد في كتابات الصفويين، مما يدل على أنه كان بين الأصنام التي تعبد لها أولئك القوم. ويظن انه يرمز إلى كوكب.

ذو الكفين

وهناك صنم عرف عند الأخبارين ب" ذي الكفين" وكان لدوس، ثم لبني منهب بن دوس. فلما أسلموا، بعث النبي صلى الله عليه وسلم،الطفيل بن عمرو الدوسي، فحرقه وهو يقول: يا ذا الكفين لست من عبادكـا  ميلادنا أكبر من مـيلادكـا

اني حشوت النار في فؤادكا

ويظهر من هذا الرجز أنه أحرقه بالنار. ومعنى هذا أنه لم يكن صنماً من حجر، وإِنما كان من خشب،أو أنه أراد بيت الصنم. وذكز أن هذا الصنم كان صنم "عمرو بن حممة الدوسي" أحد حكام العرب.

ذو الشرى

وكان لبني الحارث بن يشكر بن مبشر من الأزد، صنم يقال له ذو الشرى. وورد في رواية للاخباربين أن "ذا الشرى" صنم لدوس كان بالسراة. وقد ورد اسم هذا الصنم في الحديث النبوي، وورد بين أسماء الجاهليين اسم "عبد ذي الشرى".

ويرى بعض اللغويين ان الشرى ما كان حول الحرم، وهو إشراء الحرم،فإذا كان هذا التعريف صحيحاً،فإنه يكون في معنى "ذات حمى" عند السبئيين. وكان له حمى، به ماء يهبط من جبل حمته دوس له.

و "ذو الشرى" إله ورد اسمه في كتابات "بطرا" و "بصرى"، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد.

الأقيصر

أما الأقيصر، فكان صنم قضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان، وكان في مشارف الشام. وقد ذكر اسمه في شعر لزهير بن أبي سلمى، ولربيع بن ضبع الفزاري، وللشنفرى الأزدي. وكانوا يحجون اليه ويحلقون رؤوسهم عنده، ويلقون مع الشعر قرة من دقيق. وهي عادة كانت متبعة عند بعض قبائل اليمن كذلك.

ويذكر "ابن الكلبي" أن هوازن كانت تنتاب حجاج الأقيصر، فإن أدركت الموسم، قبل أن يلقي القرة، أي قبضات من دقيق، قال أحدهم لمن يلقي: "أعطنيه. فإني من هوازن ضارع، وإن فاته، أخذ ذلك الشعر بما فية من القمل والدقيق، فخبزه وأكله. وقد عبرت هوازن في ذلك، فقال معاوية بن عبد العُزى بن ذراع. الجرمي، في "بني جعدة" وكانوا قد اختصموا مع بني جرم في ماء لهم إلى النبي يقال له العقيق، فقضى به رسول الله لجرم،شعراً منه: ألم تر جرمـاً أبـحـدت وأبـوكـم  مع القمل في جفر الأقيصر شارع ?

إذا قرة جاءت بقـول:أصـب بـهـا  سوى القمل? إني من هوازن ضارع

ويظهر من بيت شعر رواه "ابن الأعرابي"، هو: وأنصاب الأقيصر حين أضحت  تسيل على مناكبها الـدمـاء

ومن بيت لزهير بن أبي سلمى، هو: حلفت بأنصاب الأقيصر جاهداً  وما سحقت فيه المقاديم والقمل

انه كان عند الصنم الأقيصر أنصاب ينحر الناس عليها ذبائحهم التي يتقربون بها إلى هذا الإلَه. وكانت أكثر من نصب واحد، وقد تلطخت بالدماء من كثرة ما ذبح عليها.

وأشير إلى "أثواب الأقيصر" في بيت للشنفرى الأزدي. ويظهر ان عباده كانوا يطوفون حوله، وهم يلبون ويغنون.

نهم

وكان لمزينة صنم يقال له: نهم، كسره سادنه خزاعي بن عبد نهم، وهو من مزينة من بني عداء، وأعلن إسلامه. ويظهر من ابيات لأمية بن الأسكر ان أتباع الصنم كانوا يقدمون. الذبائح له، ويقسمون به. وقد سمى منهم جملة رجال عرفوا ب "عبد نهم" من بني هوازن وبجيلة وخزاعة. وهذا مما يدل على انتشار عبادة هذا الصنم بين هذه القبائل أيضاً.

عائم

وكان لأزد السراة صنم يقال له عائم.ورد اسمه في شعر لزيد الخير،المعروف أيضاً بزيد الخيل

سعير

أما سعير، فهو صنم عنزة. وكان الناس يحجون اليه ويطوفون حوله، ويعترون العتائر له، وقد ورد في شعر لجعفر بن خلاس، الكلبي، وكان راكباً ناقة له، فمرت به، وقد عترت عنزة عنده، فنفرت ناقته منه، فأنشأ يقول؛ نفرت قلوصي من عتائر صرعا  حول السعير تزوره ابنا يقـدم

وجموع يذكر مهطعين جنـابـه  ما ان يحير اليهم بـتـكـلـم

وبين أسماء الرجال أناس عرفوا ب "سعير". والسعير النار واللهب، ولا استبعد وجود صلة بين هذا المعنى وبين هذا الصنم. بان يكون هذا الصنم ممثلاً للشمس.

الفلس

وكان لطيء صنم يقال له الفلس، وكان أنفاً أحمر في وسط جبلهم الذي يقال له أجأ، أسود، كأنه تمثال إنسان. وكانوا يعبدونه، ويهدون اليه، ويعترون عنده عتائرهم، ولا يأتيه خائف إلاّ أمن عنده، ولا يطرد أحد طريدة فيلجأ بها اليه إلاّ تركت له ولم تخفر حويته أي حوزته و حرمه. ذكر "ابن حبيب" انه كان بنجد، وكان قريباً من فيد وسدنته بنو بولان.

وبولان جد بني بولان هو الذي بدأ بعبادته على رواية ابن الكلبي. وكان آخر من سدنه منهم رجل يقال له صيفي " فاًطرد ناقة خلية لامرأة من كلب من بني عُليَم، كانت جارة لمالك بن كلثوم الشمجي، وكان شريفاً، فانطلق بها حتى وقفها بفناء الفلس. وخرجت جارة مالك، فأخبرته بذهابه بناقها، فركب فرساً عُرياً وأخذ رحمه، وخرج في أثره،. فادركه وهو عند الفلس، والناقة موقوفة عند الفلس، فقال له: خل سبيل ناقة جارتي. فقال: انها لربك. قال: خل سبيلها. قال: أتخفر إلهك ه ?فبوأ له الرمح، فحل عقالها،وانصرف بها مالك، وأقبل السادن على الفلس، ونظر إلى مالك، ورفع يده وقال، وهو يشير بيده اليه:

يا ربّ إن مالك بن كلـثـوم  أخفرك اليوم بنابٍ علـكـوم

وكنت قبل اليوم غير مغشوم

يحرضه عليه. وعدي بن حاتم يومئذ قد عثر عنده وجلس هو ونفر معه يتحدثون بما صنع مالك. وفزع لذلك عدي بن حاتم وقال، انظروا ما يصيبه في يومه هذا. فمضت له أيام لم يصبه شيء. فرفض عدي عبادته وعبادة الأصنام وتنصر. فلم يزل متنصراً حتى جاء الله بالإسلام، فأسلم.

فكان مالك أول من أخفره. فكان بعد ذلك السادن إذا أطرد طريدة، أخذت منه. فلم يزل الفلس يعبد حتى ظهرت دعوة النبي عليه السلام، فبعث اليه علي بن ابي طالب، فهدمه، وأخذ سيفين كان الحارث بن أبي شمر الغساني، ملك غسان قلده اياهما، يقال لهما مخذم ورسوب، فقدم بهما علي بن أبي طالب على النبي، فتقلد أحدهما، ثم دفعه إلى علي بن أبي طالب، فهو سيفه الذي كان يتقلده". وجاء في بعض الروايات ذكر ثلاثة سيوف، هي: مخذم، و رسوب، واليماني.

وقد عرف "مالك بن كلثوم بن ربيعة" الشمجي المذكور، ب "مخفر الفلس"، لأنه أخفر ذمته، وكان لا تخفر ذمته.

و "الفلس"، هو "هفلس" "ها - فلس"، عند لحيان. وقد تعبدوا له مع أصنام أخرى، وردت أسماؤها في نصوصهم.

ويلاحظ أن "ابن الكلبي" الذي يروي هذا الخبر، كان نفسه قد روى قبل ذلك أن السيفين مخذماً ورسوباً،كانا على الصنم مناة، صنم الأوس والخزرج، وان الذي أهداهما،له هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وأن علي بن أبي طالب لما هدم مناة، أخذ السيفين معه، فجاء بهما إلى الرسول. فيظهر من ذكره للخبر مع صنمين انه وقع في هفوة أو نسي، فجعل من القصة الواحدة قصتين.

أصنام اخرى

وكانت لطيء اصنام أخرى، منها اليعبوب، وهو صنم لجديلة طيء، وكان لهم صنم أخذته منه بنو أسد، فتبدلوا اليعبوب بعده. وقد ورد ذكره في شعر لعبيد: فتبدلوا اليعبوب بعـد إلـهـهـم  صنماً، فقروا، يا جديل، وأعذبوا

أي: لا تأكلوا على ذلك، ولا تشربوا.

وأما باجر، فكان صنماًً للازد ومن جاورهم من طيء وقضاعة.

ولم يذكر ابن الكلبي في كتابه الأصنام اسم الصنم الجلسد. وهو صنم كانت كندة تتعبد له، وكذلك تعبد له أهل حضرموت. وكان سدنته بنو شكامة من السكون، وهم من كندة. وكان للصنم حمى،ترعاه سوامه وغنمه، فإذا دخلته هوافي الغنم، حرمت على أربابها، وصارت ملكاً للصنم.

وقد وصف بأنه كان كجثة الرجل العظيم، من صخرة بيضاء، لها كالرأس أسود، إذا تأمله الناظر رأى فيه كصورة وجه الإنسان. وكانوا يكلمون منه، وتخرج منه همهمة، ويقربون القرابين اليه، ويلطخون بدمه، ويكترون ثياب السدنة يلبسونها حينما يقربون قرباناً اليه ويريدون مكانه.ويلاحظ أن تغيير الملابس، وابدالها للتطهر، له مثيل عند العبرانيين.

المحرق

وكان المحرق "محرق" صنماً لبكر بن وائل وبقية ربيعة في موضع سلمان. وأما سدنته، فكانوا أولاد الأسود العجلي. وقد نسب اليه بعض الرجال فورد "عبد محرق". ويظن بعض المستشرقين انه عرف ب "محرق" لأن عبدته كانوا يقدمون اليه بعض القرابين البشرية محروقة. وكان بنو بكر بن وائل وسائر ربيعة، قد جعلوا في كل حي من ربيعة له ولداً. "وكان في عنزة بلج بن المحرق. فكان في عميرة وغفيلة عمرو بن المحرق. وكان سدنته آل الأسود العجليون".

الشمس

والشمس صنم كان لبني تميم، وله بيت. وكانت تعبده بنو أد كلها: ضبة: وتميم، وعدي، وعكل، وثور. وأما سدنته، فكانوا من بني أوس بن مخاشن ابن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم. فكسره هند بن أبي هالة وصفوان بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن. وقد قيل لها: الإلاهة. وذكر "اليعقوبي" ان قوماً من "عذرة" تعبدوا لصنم يقال له: شمس.

وقد ذكر بعض أهل الأخبار، ان الشمس صنم قديم. وأول من تسمى به سبأ بن يشجب. وذكر"اليعقوبي"، انه صنم قوم من عذرة.

وقد وردت جملة أسماء منسوبة إلى الشمس،عرف أصحابها بعبد شمس،منهم من قبائل أخرى من غير تميم. ويدل ذلك على ان عبادتها كانت معروفة في مواضع مختلفة من جزيرة العرب. وعرف بعض الأشخاص ب "عمرو شمس" عند العرب الشماليين.

وفي جملة أصنام تميم الأخرى، الصنم تيم، وبه سمي رجال من تميم ومن غيرهم، مثل "عبدتيم" و "تيم الله".

وهناك أسماء أصنام أخرى لم ترد في كتاب الأصنام، إنما وردت في كتب أخرى. وقد ذكرها "ابن الكلبي" نفسه في بعض مؤلفاته. ومن هذه الأصنام: الأسحم، و الأشهل، وأوال، و البجة، و بلج، والجهة، وجريش، و جهار،و الذار، وذو الرجل، والشارق، وصدا، وصمودا، والضمار، و الضيزن،و العبعب، و عوض، و عوف، و كثرى، و الكسعة، والمدان، و مرحب، ومنهب، و الهبا، و ذات الودع و يا ليل، وذريح، و باجر، و الجد، وحلال، والحمائم، وذو اللبا، والسعيدة، وغنم، وفراض، وقز ح، وقيس،والمنطبق، و نهيك.

أما أوال، فإنه ايال، وهو صنم بكر وتغلب.

وأما جهار، فقد كان من أصنام هوازن، وموضعه بعكاظ، وسدنته آلعوف النصريون، ومعهم محارب فيه. وكان في أسفل أفطح. وكانت تلبية من نسك لجهار: " لبيلك، اللهم لبيلك، لبيلك، اجعل ذنوبا جبار، وأهدنا لأوضح المنار. ومتعنا وملنا بجهار ".

وأما الدار، فصنم سمي به عبد الدار بن قصي بن كلاب.

وأما الدوار، فصنم كانت العرب تنصبه، يجعلون موضعاً حوله،يدورون به، واسم ذلك الصنم والموضع الدوار، ومنه قول امرىء القيس: فعنّ لنا سرب كأن نعـاجـه  عذارى دوار في ملاءٍ مذيل

وقد ذكر "ابن الكلبي" ان العرب تسمي الطواف حول الأصنام والأوثان الدوار. وعرف بعض أهل الأخبار الدّ وار بأنه "نسك للجاهلية يدورون فيه لصنم أو غيره".

ويظهر من دراسة ما ورد في كتب أهل الأخبار وفي كتب اللغة عن "الدوار" ان الدوار لم يكن صنماً، وانما هو طواف حول صنم من الأصنام، أي عبادة من العبادات لا تختص بصنم معين. وقد كان من عادة الجاهليين الطواف حول الأصنام. فظن بعض أهل الأخبار ان الدوار صنم معين، أو انه صنم ينصب، فيدور الناس حوله.

وأما ذو الرجل، فهو صنم من أصنام أهل الحجاز،. ويظهر ان هذا الصنم، وكذلك الصنم "ذو الكفين"، هما من الأصنام التي تغلبت صفاتها على أسمائها.، فنعتت بهذه النعوت، كأن تكون لرجل أحد الصنمين، ولكفي الصنم الآخر ميزة خاصة وعلامة فارقة مثل كسر أو دقة صنعة، جعلت الناس يدعون الصنمين بالنعتين البارزين. ويرى "نولدكه" احتمال كون هذين الصنمين حجرين في الأصل من الأحجار المقدسة Fetish التي كان يعبدها الناس في القديم، ثم تحولت إلى صنمين بعد ان رسمت عليها بعض التصاوير صيرتهما على شكل انسانين.

وسمي بالصنم "الشارق" جملة رجال عرفوا بعبد الشارق. ولكلمة الشارق علاقة بالشروق. وقد ذهب "ولهوزن" إلى ان المراد به الشمس لشروقها. و "الشريق"اسم صنم أيضاً. وعندي ان الشارق وشريقاً نعتان للالهة، وليسا اسمين لصنمين، وانهما في معنى "شرقن" الواردة في نصوص المسند، وتعني "آلشارق "، أي اللفظة المذكورة تماماً. وقد وردت نعتاً في نصوص عربية جنوبية كثيرة، مثل جملة: "عثتر شرقن"، أي "عثترالشارق".

فالشارق إذن نعت من نعوت الآلهة، أو اسم من أسماء الله الحسنى، بالتعبير الإسلامي. وقد يقابل لفظة "نور" الذي هو نعت من نعوت الله في الإسلام، كما ورد في القرآن الكريم: ) الله نور السماوات والأرض(.

وأما صدا وصمودا والهبا، فإنها من أصنام قوم عاد على رواية الأخباريين. وأما الضمار، فكان صنماً عبده العباس بن مرداس السلمي، وبنو سليم."ولما حضرت مرداس الوفاة، أوصى به إلى ابنه العباس، وطلب منه العناية به، لأنه يضر وينفع. فلما ظهر الإسلام، أحرق العباس ضماراً، واتى النبي فأسلم.

والعبعب، هو صنم كان لقضاعة ومن داناهم. وقد يقال بالغين المعجمة، فيخلط بينه وبين الغبغب. ورأيي ان الكلمتين أصلهما كلمة واحدة، حرفها النساخ فصارت كلمتين.

وأما "عوض" فهو صنم كان من أصنام بكر بل وائل. وقد ذكر مع الصنم سعير في بيت شعر نسب الى الأعشى، أو الى رشيد بن رميض العزى.

وكان "جد" "الجد" صنماً معروفاً عند عدد من الشعوب السامية، وليس من المستبعد أن يكون لاسم القبيلة الإسرائيلية "جد" "جاد" علاقة باسم هذا الصنم. وقد ورد في النبطية "جدا". وورد في الأسماء العربية "عبد جد" و "عبد الجد".

و "كثرى" من الأصنام المنسوبة إلى طسم وجديس، ظل باقياً معروفاً إلى أيام للرسول، فكسره نهشل بن عرعرة ولحق بالنبي. وقد ورد بين أسماء الجاهليين منُ دُعي ب " عبد كثرى". ويرى "نولدكه" في عدم ورود اداة التعريف "ال" مع "كثرى" في "عبد كثرى"، دلالة على ان هذا الصنم هو من الأصنام القديمة. ويرى ايضاً ان كلمة "كثرى" هي مجرد لقب من ألقاب "العزُى"، نسي فظن أنه اسم صنم مستقل.

وأما المدّان، فصنم يظهر انه كان من أصنام أهل الحجاز. وقد سمي به جملة رجال عرفوا ب "عبد المدان"، وكان له بيت.

وأما "مرحب"، فصنم من أصنام حضرموت، وبه سمي "ذو مرحب" سادن هذا الصنم. وكانت تلبية من نسك له: " لبيك. لبيك، اننا لديك. لبيك، حببنا اليك ".

وللأخباريين جملة آراء في معنى ذات الودع، وهي أنثى. وقد ورد اسمها في الشعر، وكانت العرب تقسم بها. قيل انها وثن بعينه، وقيل هي مكة لأنه كان يعلق الودع في ستورها. وقيل سفينة نوح، كانت العرب تقسم بها، فتقول بذات الودع، قال عدي بن زيد العبادي: كلا يميناً بذات الودع لو حدثت  فيكم وقابل قبر الماجد الزارا

و ياليل، اسم صنم كذلك، أضيف اليه فقيل "عبد ياليل "، كما قيل " عبد يغوث " و " عبد مناة " و " عبد ودّ".

وأما "ذريح" "ذرح"، فكان لكندة بالنجير من اليمن ناحية حضرموت، يظهر أنها كانت تحج اليه، وأن له بيتاً يقصد، بدليل ورود تلبية من نسك اليه، وهي: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، كلنا كنود، وكلنا لنعمة جحود. فأكفنا كل حية رصود ". ويظن "ولهوزن" أنه يمثل الشمس. "وذرح" اسم من الأسماء، ويرد في الأعلام العربية الجنوبية المركبة، مثل "ذرح ايل".

وذهب "نو.لدكه" إلى ان "ذرح" هو مثل الشارق و "محرق" صنم يمثل الشمس. والظاهر ان عبادة هذا الصنم لم تكن منتشرة خارج حدود العربية الجنوبية.

وأما باجر، فإنه من أصنام الأزد ومن داناهم من طيء. وقد سمي به رجال عرفوا ب "عيد باجر".

وحلال، هو صنم فزارة، أما الحمام، فإنه صنم بنو هند من بني عذرة. وكان في المشقر صنم لبني عبد القيس يسمى ذا اللبا، سدنته بنو عمرو. وكانت تلبية من نسك له: " لبيك اللهم لبيك. لبيك، رب فاصرفن عنا مضر. وسلمن لنا هذا السفر. أن عما فيهم لمزدجر. واكفنا اللهم أرباب حجر ".

وكان المنطبق صنماً، للسلف وعك والأشعريين، وهو من نحاس، يكلمون من جوفه كلاماً لم يسمع بمثله. فلما كسرت الأصنام، وجدوا فيه سيفاً،فاصطفاه الرسول، وسمّاه "مخدماً ". وذكر "ابن حبيب" ان تلبية من نسك لمنطبق: لبيك اللهم لبيك. لبيك ". ويلاحظ ان الأخباريين ذكروا ان السيف "محدم" "مخذم" كان سيفاً على الصنم مناة أو "الفلس" صنم طيء، كما ذكروا ان السيف "رسوب" كان على الصنم "مناة"، أو الفلس كذلك.

وأما الصنم نهيك، فقد كان من الأصنام الموضوعة في مكة. وذكر "الأزرقي" ان عمرو بن لحي نصب هذا الصنم عند الصفا، وانه كان يعرف ب "مجاود الريح " "مجاور الربح"، وانه نصب الصنم: مطعم الطير عند المروة، فكان الناس في موسم الحج يحجون إلى الصنمين.

ولعل هذين الصنمين كانا من الأصنام التي خصصت بالسماء،وان الناس كانوا يضعون الحبوب عندهما لتأكلها الطيور. ولذلك قيل لنهيك "مجاود الريح"، ولصنم المروة "مطعم الطير".

وغنم، ذكر أنه كان في جملة الأصنام الموضوعة بمكة. وقد ورد اسم رجال، واسم أسر.

وفراض، صنم كان بأرض سعد العشيرة. وقد حطمه رجل منهم اسمه "ذُباب"، وهو من "بني أنس الله بن سعد العشيرة". حطمه، ثم وفد إلى النبي فأسلم، وقال شعراً في ذلك، أشار فيه إلى هدمه ذلك الصنم. وكانوا يذبحون له ويلطخونه بالدم.

أما قزح "قزاح"، فالظاهر أنه صنم، كان الناس يتصورون أنه يبعث الرعد والعواصف. وقد نسي على ما يظن. ولا بد أن يكون لقوس قزح علاقة ما بهذا ا!صنم القديم. وقد يكون لاسم قزح، وهو من مواضع الحرم بمكة، علاقة باسم هذا الوثن العتيق، وقد تعبد بنو أدوم لصنم اسمه "قزح" Koze مما يدل على أنه هو الصنم العربي الذي نتحدث عنه. والظاهر أنه كان من الأصنام القديمة المعروفة، غير أنه فقد منزلته وقلَّت أهميته، فلم يكن من الأصنام الكبرى عند ظهور الإسلام. ويخالف "نولدكه" رأي بعض المستشرقين الذين ذهبوا الى أن المراد بقزح الشيطان، لا صنم من الأصنام.

و "قيس" اسم صنم قديم. نسيت عبادته، وصار السم أشخاص. ودليل كونه صنم قديم وروده في الأعلام المركبة، مثل "عبد القيس"، فإن في هذه التسمية دلالة على أن قيساً اسم إلَه. ولقيس علاقة ب "قوس" Quas، وهو إله من آلهة أدوم.

وقد ورد اسم "قيس" "قس" و "قوس" في الكتابات. وهما اسم إلهَ واحد. عثر على معبد له في مدائن صالح.

وأما "عوف"، فقد استدل من التسمية ب "عبد عوف" على انه اسم صنم، غير اننا لا نعرف من أمر عبادته شيئاً، فلعله من الأصنام التي ذهب ذكرها قبل الإسلام بزمن طويل. وقد ذكر أهل الأخبار انه "صنم"، ولم يذكروا اسم عبدته.

و ذكر "اليعقوبي " ان للأزد صنم، يقال له "رئام".

وَالسعيدة، صنم أنثى وعلامة تأنيثه وجود تاء التأنيث بآخره. وكان لسعد هذيم وسائر قضاعة إلا "بني وبرة"، وعبدته الأزد أيضاً.وكان سدنته "بنو عجلان" وموضعه بأحد "وورود ان "السعيدة" بيت كان يحجه ربيعة في الجاهلية".

وورد في جملة أسماء أهل الجاهلية اسم "سعد العشيرة". وقد ذهب أهل الأخبار إلى ان "مذحجًاً كان يعرف بذلك الاسم. و "العشيرة" اسم صنم من الأصنام القديمة، وله علاقة بعبادة الساميين. فقد كان الكنعانيون يضعون وثناً في محلات العبادة يسمونه "العشيرة"، كما كانوا يتعبدون له لأنه من آلهتهم القديمة. وهو إلهة، أي أنثى عند الكنعانيين. ويظهر ان "العشيرة" من الآلهة السامية القديمة التي كانت تعبد بصورة خاصة عند الساميين الغربيين،كما عبر بلفظة "العشيرة" عن "المذبح" "المزبح. واسم "عبد عشيرة" مرتبط بالطبع باسم هذا الإلَه.

ومن دلائل عبادة "الأشهل"، ورود الأشهل في الأعلام المركبة، مثل "عبد الأشهل". وقد ذكر "ابن دريد" ان الأشهل صنم.

وأشار "محمد بن حبيب" إلى صنم قال له: "زائدة"، لم يذكر من كان يتعبد له.

وذكر علماء اللغة اسم صنم قالوا له: "الضيزن". وقال بعضهم: "والضيزنان صنمان للمنذر الأكبر، كان اتخذهما بباب الحيرة ليسجد لهما من دخل الحيرة امتحاناً للطاعة".

وأدخل بعض علماء اللغة "ألغري" في عداد الأصنام. فقال: "والغريّ: صنم كان طلي بدمٍ". وذكر بعض آخر أن الغري: نصب كان يذبح عليه النسك. وذكروا أن الغريين بناءان طويلان، يقال هما قبر مالك وعقيل نديمي جذيمة الأبرش، وسميا الغريين لأن النعمان بن المنذر كان يغريهما بدم من يقتله في يوم بؤسه.

ومن الأصنام صنم اسمه "عير"، قيل إنه كان لعبد عمرو المعروف ب "بكرابن جبلة الكلبي"، كان قومه يعضمونه. وصنم اسمه "جريش"، اليه نسب:"عبد جريش".

وذكر بعض أهل الأخبار أن "كعباً" و "كعيباً" المذكورين في قصة "القليس" التي أقامها "أبرهة" بصنعاء، هما صنمان.

الفصل السبعون

أَصنام الكتابات

أقصد ب "أصنام الكتابات" الأصنام التي عرفنا خبرها وأمرها من الكتابات الجاهلية ومن الكتابات الاشوربة ومن كتب الكتبة "الكلاسيكيين"، وذلك تمييزاً لها عن الأصنام التي أخذنا علمنا بها من روايات الأخباريين في الغالب.

وقد سبق لنا أن وقفنا على أسماء بعض آلهة الأعراب، وذلك أثناء حديثنا عن الآشوربين والعرب. وقد ذكرت تلك الأسماء في الكتابات الآشورية لمناسبة سقوط أصنامها أسيرة في أيدي الاشوريين. وكان الأعراب الذي