9 مصاحف

9 و 12 مصحف

 

Translate

الخميس، 13 أبريل 2023

الرحمن الرحيم العلي - الأعلى - المتعال جل جلاله { الفطرة السليمة تشهد بوجود الله من غير نص:}


(( الرحمن - الرحيم ))

جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه

أولاً : المعنى اللغوي

الرحمة : هي الرقة والتَّعَطُّف ، والاسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ، و(( رحمن )) أشد مبالغة من (( رحيم )) ؛ لأن بناء (( فعلان )) أشد مبالغة من (( فعيل )) ونظيرهما نديم وندمان . وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا([1]) .

ثانيًا ورود الاسمين في القرآن الكريم :

ذُكر (( الرحمن )) في القرآن سبعًا وخمسين مرة ؛ منها قوله تعالى : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 163 ] ، وقوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، وقوله : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [ الفرقان : 26 ] .

وأما اسمه (( الرحيم )) ، فقد ذُكر أكثر من مائة مرة ؛ منها : قوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 54 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ البقرة : 143 ] ، وقوله سبحانه : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، وهو كثير في القرآن ، انظر سورة (( البقرة )) ( 173 ، 182 ، 189 ) .

معنى الاسمين في حق اللَّه تعالى :

الاسمان مشتقان من الرحمة ، و(( الرحمن )) أشد مبالغة من (( الرحيم )) ، ولكن ما الفرق بينهما ؟ هناك ثلاثة أقوال في الفرق بين هذين الاسمين الكريمين:

الأول : أن اسم (( الرحمن )) : هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا وللمؤمنين في الآخرة. و(( الرحيم )) : هو ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة، واستدلوا بقوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } [ الفرقان : 59 ] ، وقوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، فذكر الاستواء باسمه (( الرحمن )) ليعم جميع خلقه برحمته ، وقال : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب : 43 ] ، فخصَّ المؤمنين باسمه (( الرحيم ))([2]) .

ولكن قد يُردُّ على هذا القول بقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ البقرة : 143 ] .

القول الثاني : هو أن (( الرحمن )) دال على صفة ذاتية ، و(( الرحيم )) دال على صفة فعلية .

قال ابن القيم رحمه اللَّه: إن (( الرحمن )) دالٌ على الصفةِ القائمة به سبحانه، و(( الرحيم )) دال على تعلقها بالمرحوم (( أي بمن يرحمهم اللَّه )) ، فكان الأول للوصف والثاني للفعل .

فالأول دال على أن الرحمة صفته ، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته .

وإذا أردت فهم هذا فتأمَّل قوله : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب : 43 ] ، وقوله تبارك وتعالى : { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 117 ] ، ولم يجئ قط (( رحمن بهم )) فعُلِمَ أن (( رحمن )) هو الموصوف بالرحمة و(( رحيم )) هو الراحم برحمته([3]).

القول الثالث : أن (( الرحمن )) خاص الاسم عام المعنى ، و(( الرحيم )) عام الاسم خاص المعنى .

إذ أن (( الرحمن )) من الأسماء التي نُهِيَ عن التسمية بها لغير الله تبارك وتعالى ، كما قال عز وجل : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ الإسراء : 11 ] ، فعادل به الاسم الذي لا يشاركه فيه غيره ، وهو (( اللَّه ))([4]) .

ولذلك قال ابن القيم رحمه اللَّه عن اسم (( الرحمن )) : ولما كان هذا الاسم مختصًا به تعالى حَسُنَ مجيئه مفردًا غير تابع كمجيء اسم الله كذلك . ولم يجيء قط تابعًا لغيره بل متبوعًا وهذا بخلاف العليم ، والقدير ، والسميع والبصير ، ونحوها ، ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة ، فتأمل هذه النكتة البديعة([5]) .

وعن الحسن أنه قال : (( الرحمن )) اسم لا يستطيع الناسُ أن ينتحلوه ، تسمى به تبارك وتعالى ، ولذا لا يجوز أن يُصْرَف للخلق([6]) .

وأما (( الرحيم )) فإنه تعالى وصف به نبيَّه عليه الصلاة والسلام ، حيث قال: { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] ، فيُقال : رجل رحيم ، ولا يقال : رحمن .

قال ابن كثير : والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يُسمى به غيره ، ومنها ما لا يُسمى به غيره ، كاسم (( اللَّه )) ، و(( الرحمن )) ، و(( الخالق )) ، و(( الرزاق )) ، ونحو ذلك ، فلهذا بدأ باسم اللَّه ووصفه بالرحمن ؛ لأنه أخص وأعرف من الرحيم ؛ لأن التسمية أولاً تكون بأشرف الأسماء ، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص([7]) . اهـ .

من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين :

أولاً : التعرُّف على اللَّه برحمته والإيمان بها .

وسنحاول فيما يلي التعرض إلى جانبٍ من رحمة اللَّه عزَّ وجلَّ ، عسى أن ترق القلوبُ إلى خالقها وتشتاق النفوس إلى بارئها .

1- ربكم ذو رحمة واسعة :

قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] ، وقال تعالى إخبارًا عن حملة العرش ومن حوله أنهم يقولون : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [ غافر : 7 ] .

2- رحمة اللَّه تغلب غضبه :

قال تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [ الأنعام : 54 ] . قال ابن كثير في هذه الآية : أوجبها على نفسه الكريمة تفضلاً منه وإحسانًا وامتنانًا([8]) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن اللَّه لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه : إن رحمتي سبقت غضبي )) . وفي رواية : (( لما خلق اللَّه الخلق كتب في كتابه هو يكتب على نفسه ، وهو وضع عنده على العرش : إن رحمتي تَغْلِبُ غضبي ))([9]) .

3- إن للَّه مائة رحمة :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن للَّه مائة رحمة أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجن والإنسِ والبهائمِ والهوامِّ ، فبها يتعاطفون ، وبها يتراحمون ، وبها تعطف الوحشُ على ولدها )) . وفي رواية : (( حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه وأخَّر اللَّه تسعًا وتسعين رحمة يرحمُ بها عباده يوم القيامة )) . وفي رواية : (( إن اللَّه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة )) . وفي رواية : (( كل رحمةٍ طباق ما بين السماء والأرض ، فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة ))([10]) .

هذه رحمة اللَّه المخلوقة ، فكيف برحمة اللَّه التي هي من صفاته وليست مخلوقة ولا تنفد أبدًا وليس لها حدّ ، ولا نهاية . قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] . ولذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لو يعلم الكافر ما عند اللَّه من الرحمة ما قنط من جنته أحد ))([11]) .

4- إن اللَّه تبارك وتعالى بيده الرحمة وحده :

ومن رحمته : أن أحدًا من خلقه لا يستطيع أن يحجب رحمته أو منعها عن أحبابه ، قال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] .

فرحمة اللَّه لا تعزُّ على طالب في أي زمان أو مكان : وجدها إبراهيم وسط ألسنة النار ، ووجدها يوسف في غيابت الجُبِّ وغياهب السجن ، ووجدها إسماعيل وأمُّه هاجر في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء ، ووجدها يونس في بطن الحوت ، ووجدها موسى في اليمِّ وهو طفل وفي قصر فرعون وهو متربص به ، ووجدها أصحاب الكهف حين افتقدوها في القصور بين أقوامهم ، ووجدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار وهما مطاردان([12]) .

5- اللَّه سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها :

وذلك لأن رحمة والديك بك مهما بلغت فهي جزءٌ من جزءٍ من المائة جزءٍ التي خلقها اللَّه فكيف برحمته هو الواسعة جل جلاله وتقدست أسماؤه ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بسبي ، فإذا امرأة من السبي تبتغي - وفي رواية البخاري -: تسعى إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته . فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أترون هذه المرأة طارحة وَلَدَها في النار ؟ )) قلنا: لا واللَّه ! وهي تقدر على أن لا تطرحه . فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : (( اللَّه أرحم بعباده من هذه بولدها ))([13]) .

وقال حماد بن سلمة : (( ما يسرني أن امري يوم القيامة صار إلى والديَّ إن ربي أرحم بي من والديَّ )) .

* * *

ثانيًا : فانظر إلى آثار رحمة اللَّه :

إن آثار وعلامات رحمة اللَّه أظهر من أن تُبين وأكثر من أن تُحْصَى ، قال تعالى : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] . ففي كل نعمة رحمة يستدل عليها كل ذي عقل صحيح ، ويعرفها كل ذي قلب سليم ، ولا ينكرها إلا كل ظلومٍ كفارٍ ، وهذا أمرٌ لا يحتاج إلى دليل . كما قال الشاعر :

وكيف يَصحُّ في الأذهان شىءٌ

إذا احتاجَ النهارُ إلى دليلٍ

وقد اخترنا بعض هذه الآثار على سبيل المثال ، فمن ذلك :

1- خلق الإنسان :

فمن رحمة اللَّه تعالى أنه خلق الإنسان من عدم وأنشأه وجعل له السمع والبصر والفؤاد والعقل ، كل هذا من تراب فأيُّ فضل وأيُّ نعمة بعد اصطفاء اللَّهِ لبعض التراب والطين ليجعله إنسانًا يعقل ويشعر ويؤمن ثم يدخله الجنة ، فسبحان اللَّه وبحمده . قال تعالى : { الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [ الرحمن : 1 - 4 ] .

2- النبوة والرسالة رحمة :

فقد سُمَّيت النبوة والوحي رحمة كما في قوله تعالى مخبرًا عن نوح عليه السلام : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ } [ هود : 28 ] . قال ابن كثير : في هذه الآية : أي على يقين وأمرٍ جليّ ، ونبوةٍ صادقة وهي الرحمة العظيمة من اللَّه به([14]) .

3- إرسال النبيِّ صلى الله عليه وسلم :

قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] . وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : (( إني لم أُبعث لعانًا وإنما بُعثت رحمة ))([15]) . وفي الحديث الآخر : (( إنما أنا رحمة مهداة ))([16]) .

4- نزول القرآن :

قال تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل : 89 ] .

5- أن جعلك مسلمًا :

قال تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ]. قال ابن كثير : أي بهذا الذي جائهم من الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به([17]) .

وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي أُمر فيه بالفرح .

6- ندائه في الثلث الأخير من الليل ليرحم عباده :

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : (( يتنزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلثُ الليل الآخرُ يقولُ : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ ))([18]) .

وفي حديث آخر : (( من ذا الذي يَسْتَرْزِقُني أرْزُقْه ؟ من ذا الذي يستكشفُ الضرَّ أكْشِفْه )) . حتى ينفجر الصبح([19]) .

وفي حديث آخر : (( ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول ، فيقول : أنا الملكُ ، أنا الملك ، من ذا الذي يدعوني .. ))([20]).

بالله عليك لو أن أمير بلدك ، أو رئيس دولتك بعث إليك أنه سوف يأتي إليك ليحقق لك ما تتمنى منه ، ألا يجعلك هذا له مُحبًّا وإلى لقائه متشوقًا ؟ هل كنت تنام وتتركه ؟ أو تنسى موعده ؟ وهل ستكون موقنًا على تنفيذ ما تتمنى أم لا ؟

هذا من بشر ضعيف لا يملك لك ولا لنفسه نفعًا ولا ضرًا فكيف برب العالمين جل جلاله .

7- تقرُّبُه إلى خَلْقِهِ :

سبحان اللَّه يتقرب من خلقه وهو غني عنهم ، ويتودَّدَ إليهم وهم لا يملكون له نفعًا ولا ضرًا ، ولكن نعمة منه وفضلاً ورحمة وإحسانًا .

وانظر أخي الكريم وتأمَّل هذا الحديث الذي تنفطر له القلوبُ وتدمعُ له العيونُ . فعن أبي هريرة قال : رُبَّما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( قال اللَّه عز وجل : إذا تَقَرَّبَ العبدُ منِّي شِبْرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا ، وإذا تقرَّب مني ذراعًا تقربت منه باعًا أو بوعًا ))([21]) .

يا اللَّه ، يا اللَّه ، مَنْ يتقرب إلى مَن ؟ ومَنْ يُهرول إلى مَنْ ؟ يتقرب الخالق إلى المخلوق ويهرول ملك الملوك إلى عبد فقير صعلوك . سبحان اللَّه ما أرحمه وما أكرمه .

8- ذكره لعباده الصالحين :

وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قال اللَّه : يا ابن آدم ، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة ، أو في ملأ خير منهم ، وإن دنوتَ مني شبرًا ، دوتُ منك ذراعًا ، وإن دنوتَ مني ذراعًا دنوتُ منك باعًا ، وإن أتيتني تمشي ، أتيتك أهرول )) . قال قتادة : فاللَّه عز وجل أسرع بالمغفرة .

أخي الكريم ، هل تصورت كيف يذكرك ربك ؟ هل تَخَيَّلْتَ أن يذكرك اللَّهُ باسمك ؟ نعم يذكرك أنت باسمك بين ملائكته في الملأ الأعلى . من الذي يذكرك ؟ اللَّه . اللَّه . اللَّه الذي يذكرك .

فيا له من عظيم شرفٍ وكبير قدرٍ لا يعرفه إلا من عرف ربَّه وأحبَّه ، فانظر إلى واحد من هؤلاء وهو أبي بن كعب رضي الله عنه حين عَلِمَ أن اللَّه تبارك وتعالى قد ذكره باسمه ، وكيف هطلت عيناه دمع الفرح والحنين إلى أرحم الراحمين .

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُبي بن كعب : (( إن اللَّه أمرني أن أقرأ عليك : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } )) . قال : وسمَّاني لك ؟ قال : (( نعم )) . فبكى([22]).

قال يحيى بن معاذ الرازي : يا غفول يا جهول لو سمعت صرير الأقلام وهي تكتب اسمك عند ذكرك لمولاك لمتَّ شوقًا إلى مولاك .

فليس العجب من قوله : (( فاذكرونى )) ، ولكن العجب كل العجب من قوله : (( أذكركم )) ، فليس العجب أن يذكر الضعيفُ القوىَّ ، أو يذكر الفقيرُ الغنىَّ ، أو يذكر الذليلُ العزيزَ ، إنما العجب أن يذكر القوىُّ الضعيف ، والغنىُّ الفقير ، والعزيزُ الذليلَ .

9- صبر اللَّه جلال جلاله على الأذى من خلقه :

فسبحان اللَّه ما أحلمه ، وما أكرمه وما أرحمه ، يخلق ويُعْبَدُ غيرُه ، ويرزق ويُشكرُ سواه ، خيره إلى العباد نازل وشرهم إليه صاعد من الذين يدَّعون له الولد يصبر على أذاهم ويبعث إليهم بأرزاقهم ، عسى أن يصادف هذا الكرم عقلاً ذاكيًا أو قلبًا واعيًا أو نفسًا طيبة أو فطرة سليمة تفيق من غفوتها وترجع عن ضلالتها تعرف ربَّها فتعبده وحده وتحبه وحده سبحانه وتعالى .

وعن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما أحدٌ أصبر على أذى سمعه من اللَّه يدَّعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم ))([23]) .

هذه رحمته سبحانه بمن أشرك به ، فكيف رحمته بمن وحَّده وعبده وأطاعه وأحبه وأحب رسوله وجاهد في سبيله .

10- رحمته بالتائبين([24]) :

فإن التائبين قد انكسرت قلوبهم لعظمته ، وذلَّت جباهم لعزته ، وأتوه راجين رحمته ويخافون عذابه ، فما عسى أن تكون رحمة اللَّه بهم ؟

فإليك شيء منها :

أولاً : يغفر الذنوب مهما عَظُمَت :

عن أنس رضي الله عنه قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( قال اللَّه تعالى : يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة ))([25]) .

ثانيًا : ويبسط يده للتائبين ليلاً ونهارًا :

عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن اللَّه تعالى يبسط يده بالليل لتيوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها ))([26]) .

ثالثًا : ويفرح بتوبة عبده :

ومع هذا فقد فرح بها فرحًا هو أشد من فرحة رجلٍ وجد حياته بعدما عدَّ نفسه من الأموات ، وهي فرحة إحسانٍ وبِرٍّ ولطف ، لا فرحة محتاجٍ إلى توبة عبده منتفعٍ بها .

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( للَّهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة ))([27]) .

وفي رواية : (( للَّهُ أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك ؛ إذ هو بها قائمة عنده بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ))([28]) . ففي هذا الحديث دليل على فرح اللَّه عز وجل بالتوبة من عبده إذا تاب إليه ، وأنه يحب ذلك سبحانه وتعالى محبة عظيمة ، ولكن لا لأجل حاجته إلى أعمالنا وتوبتنا ، فالله غني عنا ، ولكن لمحبته سبحانه للكرم فإنه يحب أن يغفر وأن يغفر أحب إليه من أن ينتقم ويؤاخذ ، ولهذا يفرح بتوبة الإنسان([29]) .

رابعًا : ويبدل السيئات حسنات :

قال تعالى : { إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ الفرقان : 70 ] .

وقال الحسن البصري : أبدلهم اللَّه العمل السيء العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصًا ، وأبدلهم بالفجور إحصانًا ، وبأدلهم بالكفر إسلامًا([30]) .

11- صَلاتُه جل جلاله على المؤمنين :

قال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [ الأحزاب : 43 ] . قال ابن كثير : والصلاة من اللَّه ثناؤه على العبد عند الملائكة . حكاه البخاري عن أبي العالية ... وقال غيره : الصلاة من اللَّه عز وجل الرحمة ، وقد يقال : لا منافاة بين القولين . واللَّه أعلم([31]) .

12- مضاعفة الحسنات والأجور :

فمن رحمته سبحانه مضاعفة الحسنات إلى ضعاف كثيرة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ))([32]) . ومن الأعمال ما ينميها اللَّه حتى يجعلها كالجبل . فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيبٍ ولا يقبل اللَّه إلا الطيب ، فإن اللَّه يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل ))([33]) .

13- رحمة اللَّه تبارك وتعالى بقلوب عباده :

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ))([34]) .

1- فإذا شاء اللَّهُ لعبد الهدى شرح قلبه للإسلام . قال تعالى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسْلاَمِ } [ الأنعام : 125 ] .

2- وإذا أراد بعبد رشادًا حبَّبَ إليه الإيمان وزينه في قلبه فعاش بالإيمان سعيدًا وعن الكفر والعصيان بعيدًا . قال تعالى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } [ الحجرات : 7، 8 ] .

3- ويُسعد المؤمنين بحبهم له ولرسوله وحب المؤمنين في اللَّه فيشعر بحلاوة الإيمان ولذة القرب من الرحمن جل جلاله . عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون اللَّهُ ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ))([35]) .

وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } [ مريم : 96 ]. وذلك بعكس الطغاة والعصاة أمثال المشركين من أهل الكتاب ، فقد قال تعالى في النصارى : { فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [ المائدة : 114 ] .

14- الجنة من رحمة اللَّه عز وجل :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تحاجَّت الجنة والنار ، فقالت النار : أُوثِرْتُ بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاءُ الناس وسقطُهم ، قال اللَّه تبارك وتعالى للجنة : أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنتِ عذابٌ أعذِّبُ بك من أشاء من عبادي ))([36]) .

15- دخول الجنة برحمة اللَّه عز وجل :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يدخل أحدًا الجنة عمله )) . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : (( ولا أنا ، إلا أن يتغمدني اللَّه بمغفرة منه ورحمة ))([37]) .

16- شفاعة أرحم الراحمين في أهل النار :

فما من أحدٍ يملك لغيره شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد أن يأذن اللَّه لمن يشاء ويرضى . قال تعالى : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } . وسيجعل اللَّه درجاتٍ للشفاعة والشافعين ، فهناك شفاعة للأنبياء والمرسلين ، وشفاعة للصديقين ، وشفاعة الشهداء فيُشَفِّعُهم اللَّه عز وجل ، ثم بعد ذلك يشفع هو سبحانه وبحمده شفاعة فيخرج أضعاف ما أخرجه كل هؤلاء حتى يعجب أهلُ الجنة من ذلك ، وإليك صورًا من شفاعة أرحم الراحمين :

شفاعته عز وجل في الموحدين :

عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة الطويل : (( ثم يقال : ادعوا الصديقين فيشفعون ، ثم يقال : ادعوا الأنبياء ، قال : فيجيء النبيُّ ومعه العِصابة ، والنبي ومعه الخمسةُ والستة ، والنبي وليس معه أحد ، ثم يقال : ادعوا الشهداء فيشفعون لمن أرادوا ، وقال : فإذا فعلت الشهداء ذلك . قال : يقول الله عز وجل : أنا أرحم الراحمين ، أَدْخِلُوا جَنَّتِي من كان لا يُشْرِك بي شيئًا )) . قال : (( فيدخلون الجنة ... ))([38]) .

وفي حديث آخر : (( فيقول : وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأُخْرِجَنَّ منها من قال : لا إله إلا اللَّه ))([39]) .

وفي رواية : أن اللَّه تبارك وتعالى يقول للرسل : (( اذهبوا ، أو انطلقوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردلٍ من إيمان فأخرجوه )) . ثم يقول اللَّه عز وجل : (( أنا الآن أُخْرِج بعلمي ورحمتي )) . فيُخرج أضعافَ ما أخرجوا وأضعافه فيكتب في رقابهم عتقاء اللَّه عز وجل ، ثم يدخلون الجنة([40]) .

17- رحمته بالنمل ، سبحان اللَّه وبحمده :

عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قَرَصَتْ نملةُ نبيًا من الأنبياء ، فأمر بقرية النمل فأُحْرقت ، فأوحى اللَّه إليه : (( أنْ قَرَصَتْك نملة أحرقت أمةً من الأمم تُسبح اللَّه ))([41]) . وفي رواية : (( فأوحى اللَّه إليه : فهلا نملةً واحدةً ))([42]) .

فسبحان من لم تمنعه عظمته وكبريائه من رحمة الضعيف الصغير من خلقه حتى يعاتب نبيًا له من أجل نملٍ ، لا حول له ولا قوة إلا بربه . ===========

===========

==============

العلي - الأعلى - المتعال

(( جل جلاله وتقدست أسماؤه ))

المعنى اللغوي :

يأتي العُلُو في اللغة على أربعة معاني :

1- علو كل شيء ارتفاعه ، ويقال : علا فلانٌ الجبل إذا رقيه ويعلو عُلُوًا .

2- القهر والغلبة : يقال : علا فلانٌ فلانًا إذا قهره ، وعلوتُ الرجل غلبتُه ، ومن قول العرب :

فلما علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسرٍ وكاسرٍ

3- رفعة الشأن وعُلُو القدر : تقول العرب : (( على كعبه أي ارتفع شأنه ، كقوله تعالى : { وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى } [ طه : 4 ] ، والمعنى : هي الأشرفُ والأفضل بالإضافة إلى هذا العالم ، وتعالى : أي ترفَّع .

4- الكبر : كما قال تعالى في فرعون : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ } [ القصص: 4 ]. وقال أيضًا : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } [ يونس : 83 ] ، وأيضًا كما قال تعالى في قوم فرعون : { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ } [ المؤمنون : 46 ] .

ورود هذه الأسماء في القرآن الكريم :

ورد اسم اللَّه (( العليُّ )) في ثمانية مواضع منها :

- قوله تعالى : { وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة : 255 ] .

- وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ الحج : 62 ] .

- وقوله تعالى : { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [ غافر : 12 ] .

وأما اسم (( الأعلى )) فقد جاء في موضعين :

- في قوله تعالى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [ الأعلى : 1 ] ، وقوله : { إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى } [ الليل : 20 ] .

وأما (( المتعال )) فقد جاء مرة واحدة في قوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [ الرعد : 9 ] .

معنى الأسماء في حق اللَّه تعالى :

قال ابن كثير رحمه اللَّه : (( وقوله : { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ الحج : 62 ] كما قال : { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة : 255 ] ، وقال : { الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [ الرعد : 9 ] فكل شيءٍ تحت قهره وسلطانه وعظمته لا إله إلا هو ولا رب سواه ؛ لأنه العظيم الذي لا أعظم منه ، العلي الذي لا أعلى منه ، الكبير الذي لا أكبر منه تعالى وتقدس ، وتنزَّه عزَّ وجلَّ عما يقول الظالمون المعتدون علوًا كبيرًا([1]).

فتعالى اللَّهُ عما يقول الجهميةُ وأشباهُهُم أن اللَّهَ في كل مكان ، وأنه أعلى وأسفل ووسط ومع كل شيء وفي كل موضع من أرض وسماء وفي أجواف جميع الحيوان ، تعالى اللَّه عما يقولون علوًا كبيرًا .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه : (( وهو سبحانه وصف نفسه بالعلو ، وهو من صفات المدح له بذلك ، والتعظيم ؛ لأنه من صفات الكمال كما مدح نفسه بأنه العظيم ، والعليم ، والقدير والعزيز والحليم ونحو ذلك وأنه الحي القيوم ، ونحو ذلك من معاني أسمائه الحسنى فلا يجوز أن يتصف بأضداد هذه الصفات )) .

فلا يجوز أن يوصف بضد الحياة والقيومية والعلم والقدرة مثل الموت والنوم والجهل والعجز واللغوب ولا بضد العِزة وهو الذُّل ولا بضد الحكمة وهو السفه ، فكذلك لا يُوصف بضد العلو وهو السفول ، ولا بضد العظيم وهو الحقير ، بل هو سبحانه مُنزَّه عن هذه النقائص المنافية لصفات الكمال الثابتة له ، فثبوت الكمال له ينفي اتصافه بأضدادها وهي النقائص([2]). اهـ.

وقال ابن القيم رحمه اللَّه :

هذا ومن توحيدهم إثبات أو

صاف الكمال لربنا الرحمن

كعلوِّه سبحانه فوق السمــ

ـاوات العُلى بل فوق كل مكان

فهو العليُّ بذاته سبحانه

إذ يستحيل خلافُ ذا ببيان

وهو الذي حقًا على العرش استوى

قد قام بالتدبير للأكوان

* * *

من آثار الإيمان بهذه الأسماء الكريمة

1- وجوب الإيمان بالعلو المطلق لله تبارك وتعالى من كل الوجوه :

قال ابن القيم رحمه اللَّه :

وهو العليُّ فكل أنواع العلـ

ـوِّ له فثابتةٌ بلا نكران([3])

وقال السعديُ (( العليُّ الأعلى )) : وهو الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه : علو الذات وعلو القدر والصفات ، وعلو القهر والكبرياء ، فهو الذي على العرش استوى ، وعلىالملك احتوى ، وبجميع صفات العظمة والكبرياء والجلال والجمال وغاية الكمال اتصف وإليه فيها المنتهى([4]). اهـ.

إذن فجميع أنواع ومعاني العلوم ثابتة له سبحانه وتعالى دون أن نُعطِّل أو نُؤول شيئًا منها ، ومن أنواع العلو الثابتة لله جلَّ جلاله ما يلي :

أولاً : إن اللَّه هو العلي في ذاته([5]) :

فقد قال تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه : 5 ] ، وأخبر تعالى أن الأعمال الصالحة والكلام الطيب إليه يصعدان . قال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] . وقال تعالى : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ } [ غافر : 15 ] .

قال ابن كثير في تلك الآية : يقول تعالى مخبرًا عن عظمته وكبريائه وارتفاع عرشه العظيم على جميع مخلوقات([6]) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى([7]) عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها ))([8]) .

ثانيًا : هو العلي في كلامه :

قال تعالى : { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } [ التوبة : 40 ] ، فكلام اللَّه أعلى الكلام وأحكام الله أعلى الأحكام ، ومن ذلك كلامه الشرعي وكلامه القدري ، فأما كلامه الشرعي فقد قال تعالى عن القرآن الكريم : { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الزخرف : 4 ] ، وقال تعالى : { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } [ عبس : 13، 14 ] .

قال ابن كثير : جميع القرآن في صحف مكرمة أي معظمة موقرة ، (( مرفوعة )) أي عالية القدر ، (( مطهرة )) أي من الدنس والزيادة والنقص([9]).

وقد وصف الوليد بن المغيرة - وهو رجل كافر - كلام الله بقوله : (( وإنه يعلو ولا يُعلى عليه )) .

أما كلامه القدري ، فإن الله إذا أراد شيئًا فَعَلَه وإذا أَمَرَ بشيءٍ حدث ، قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] . وقال تعالى : { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } .

ثالثًا : العلي في أسمائه وصفاته :

فهو العلي في الملك ، قال تعالى : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } ، والعلي في أسمائِه قال تعالى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } .

رابعًا : واللَّه تعالى هو العلى في حكمه :

قال تعالى : { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } .

خامسًا : وهو العلى في وحدانيته : (( فليس له زوجة أو ولد )) .

فهو العلي المنزه أن تكون له صاحبةٌ أو ولد ، وهذا ما آمنت به الجن واعترفت به في قوله : { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا } [ الجن : 3] .

وهو العلي أن يكون له شركاءٌ أو أندادٌ :

قال تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } [ الإسراء : 42، 43 ] .

2- النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي اللَّه عنهم يؤمنون بأن اللَّه في السماء :

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء؟ ))([10]) .

وعن أنس رضي الله عنه أن زينب زوجة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول : (( زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ ، وزوجني اللَّهُ تعالى من فوق سبع سماوات )) . وفي رواية : وكانت تقول : (( إن اللَّه أنكحني في السماء ))([11]).

تعني قوله تعالى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } . وكذلك كانت عقيدة التابعين بإحسان للسلف الصالح . فقد قال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب (( الإبانة )) : (( وأَئِمتنا كسفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، وسفيان بن عُيَيْنَة وحماد بن سلمة ، وعبد الله بن المبارك ، والفضيل بن عياض ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، متفقون على أن اللَّه سبحانه بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يُرى يوم القيامة بالأبصار ، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا ))([12]) .

وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في العقيدة المشهورة عنه : (( طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأُمة ، فما اعتقدوه اعتقدناه ، فممَّا اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها ، من غير تكييف ، ولا تمثيل ، ولا تشبيه ، وأن اللَّه بائن من خلقه ، والخلق بائنون منه ، لا يَحِلُّ فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستوٍ على عرشه في سمائه دون أرضه ))([13]) .

3- ثبوت الإيمان لمن آمن بعلو الله تبارك وتعالى :

من غير تعطيل ولا تأويل ، فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد بالإيمان لمن آمن بعلو الله . فعن معاوية بن الحكم السُّلمي رضي الله عنه قال : وكان لي جارية ترعى غنمًا لي قِبَلَ أُحدٍ والجوانية ، فاطَّلَعْتُ ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم ، أسف كما يأسفون ، لكني صَكَكْتُها صكَّةً ، فأتيت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فعظَّم ذلك عليَّ قلتُ : يا رسول اللَّه ، أفلا أعْتِقُها ؟ قال : (( ائتني بها )) . فأتَيْتُه بها ، فقال لها: (( أين اللَّه ؟ )) قالت : في السماء ، قال : (( من أنا ؟ )) قالت : أنت رسول اللَّه. قال : (( اعتقها فإنها مؤمنة ))([14]) .

قال أبو سعيد الدارمي : ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا دليل على أن الرجل إذا لم يعلم أن اللَّه عز وجل في السماء دون الأرض فليس بمؤمن ، ولو كان عبدًا فأُعتق لم يَجُزْ في رقبة مؤمنة إذ لا يعلم أن اللَّه في السماء([15]) . اهـ .

4- التواضع وذم التعالي والتكبر :

قال ابن مسعود رضي الله عنه : من تواضع لله تخشعًا رفعه اللَّه ، ومن تكبَّر تجبرًا قسمه اللَّه .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تواضعًا لربه ، فكان يقول : (( آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد ))([16]) .

وانظر إلى ذكائه صلى الله عليه وسلم وكم كان ربانيًّا ، فعندما نزل قوله تعالى : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قال : (( اجعلوها في ركوعكم )) ، وعندما نزلت : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [ الأعلى : 1 ] قال : اجعلوها في سجودكم([17]) ، فاختار للناس تعظيم اللَّه في حال الخضوع وهو الركوع ، وأمرهم في أعظم موقف تذل فيه جباهُهُم وتغبر فيه وجوههم بأن يذكروا الله ويسبحوه باسمه الأعلى ليتذكروا ذِلتهم لعزته وخضوعهم لقوته ، فيكون ذلك سبب عزهم وهو أقرب المواقف للعبد من ربه ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء ))([18]) .

5- ما علا شيءٌ من الدنيا إلا وُضِع :

وما من طيرٍ طار وارتفع

إلا كما طار وقـع

عن أنس رضي الله عنه قال : كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تُسْبق أو لا تكاد تُسبق ، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها ، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( حقٌ على اللَّه أن لا يرتفع شيءٌ من الدنيا إلا وضعه ))([19]) .

وصدق من قال : الدنيا إذا حلت أوحلت ، وإذا كست أوكست ، وكم من مَلِكٍ له عَلاَمَاتٌ ، فلما عَلاَ ماتَ .

أما التعالي الذي يعني التكبر ورغبة الترفع بالنفس عن الناس يجعل العبد جبارًا متكبرًا حتى يظن نفسه ندًا لله جل جلاله فيكون في ذلك هلاكه ، كما قال فرعون لقومه : { أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } .

والمتكبر الذي يريد التعالي عن خلق اللَّه إنما ينازع اللَّهَ صفاته ، وقد قال تعالى في الحديث القدسي : (( العز إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني بشيءٍ منهما عذَّبتُه ))([20]) .

ما من يدٍ إلا ويد اللَّه فوقها

ولا ظالم إلا سَيُبْلى بظالم

6- الإخـلاص

فإذا علم العبد أن الله تعالى هو العلى الأعلى فوق خلقه فهو فوقهم قاهر وعليهم قادر فلابد وأن يخشاه وحده ويرجوه وحده ويطلب منه الثوابَ وحده وقد وصف الله المخلصين بذلك كما قال تعالى : {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 19، 20].

7- إن الله يحب معالي الأمور :

إن اللَّه تبارك وتعالى هو العلي ، ولذلك فهو يحب معالي الأمور في كل شيء كالتوحيد والجهاد وحسن الخُلق ... وهكذا .

وقد رُوى في بعض الحديث قال : (( إن اللَّه يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها ))([21]) .

8- (( أولئك لهم الدرجات العُلى )) :

فإن اللَّه عز وجل هو العلي وهو الذي يرفع ويخفض ولا يعلو أحدٌ إلا بطاعته ، ولعلوِ الناس عند اللَّه تبارك وتعالى أسباب .

فمن أسباب العلو :

1- الإيمان ، والعلم . قال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة: 11] .

فإن الله يرفع بالعلم العبدَ المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك وقد جاء فى الصحيح أن نافع بن الحارث أتى عمر بن الخطاب بعسفان وكان قد استعمله على أهل مكة فقال له عمر : (( من استخلفت على أهل الوادى ؟ قال : استخلفت عليهم ابن أبزى فقال : ومن ابن أبزى ؟ فقال : رجل من موالينا ، فقال عمر : استخلفت عليهم مولى ؟ فقال : إنه قارىء لكتاب الله عالم بالفرائض . فقال عمر : أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين ))([22]) .

قال إبراهيم الحربى : كان عطاء بن رباح عبدًا أسودًا لامرأة من مكة وكان أنفه باقلاه ، قال : وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه فجلسوا إليه وهو يصلى فلما صلى انفتل إليهم فمازالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه إليهم ، فقال سليمان لابنيه قوما فقاما ، فقال : يا بنيا لا تُقصرا فى طلب العلم فإنى لا أنسى ذُلَّنا بين يدى هذا العبد الأسود .

وقال الحربى : وكان محمد ابن عبد الرحمن الأوقص عنقه داخلة فى بدنه وكان منكباه خارجين كأنهما زجان فقالت أمه : يا بنى لا تكون فى مجلس قومٍ إلا كنت المضحوك منه المسخور به فعليك بطلب العلم فإنه يرفعك ، فوَلِىَ قضاء مكة عشرين سنة ، قال وكان الخصم إذا جلس إليه بين يديه يرتعد حتى يقوم .

وقال عبد الله بن داود : سمعت سفيان الثورى يقول : (( إن هذا الحديث عز فمن أراد به الدنيا وجدها ومن أراد به الآخرة وجدها .

قال سفيان بن عيينة : أرفع الناس منزلة عند الله من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء .

وصدق القائل :

ما الفَضْلُ إلاَّ لأَهْلِ العِلْـم إنَّهُمُ عَلَى الهُدَى لِمَن اسْتَهْدى أَدلاَء

وقَدْرَ كُلِّ امْرىءٍ ما كَانَ يُحْسَنُه والجَاهِلُونَ لأهْلَ العلِم أَعَدَاءُ

فَفُزْ بِعلم تَعش حـــيا به أَبدًا الناسُ مَوْتَى وأَهْلُ العِلْم أَحْيَاءُ

2- القرءان تلاوته وحفظه والعمل به

عن عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) قال : قال النبى صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين ))([23]) .

فإن الله يرفع صاحب القرءان فى الدنيا والآخرة فأما فى الدنيا بالبركة فى العمر والسعة فى الرزق وحب الناس .

وأما فى الآخرة فإن صاحب القرءان يرفعه الله فى الجنة ولا يزال يُرَّقِيَه حتى آخر آية معه .

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضى الله عنهما) عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ((يُقال لصاحب القرءان : اقرأ وارتقِ([24]) ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤوها ))([25]) .

وعن عائشة (رضى الله عنها) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الذى يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذى يقرأن القرءان ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ))([26]) .

والماهر : أى الذى يُجيد لفظه على ما ينبغى بحيث لا يتشابه ولا يقف فى قراءته ، (مع السفرة) أى الملائكة أو الرسل (عليهم الصلاة والسلام) أى معهم فى منازلهم فى الآخرة .

قال القاضى : يُحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له فى الآخرة منازل يكون فيها رفيقًا للملائكة السفرة لإتصافه بصفتهم مِنْ حَمْل كتاب الله تعالى قال ويُحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم وسالك مسلكهم ))([27]) .

3- التواضع :

لله ما أجمل هذه الصفة وما أعظمها فكم قرَّبت من الله عبدًا بعيدًا وكم أعقبت بعد تعبٍ عهدًا سعيدًا ، وكم أثمرت بعد خمول ذكرٍ صيتًا مجيدًا ، وكم رفعت بعد ذُلٍّ عبدًا رشيدًا .

والجزاء من جنس العمل .

قال تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا } [ القصص : 183 ] .

وقال النبى صلى الله عليه وسلم : (( ما نَقَصُتْ صدقةٌ من مال وما زاد اللهُ عبدًا بعفو إلا عِزَّا ، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله )) ([28]) .

وعن ابن عباس (رضى الله عنهما) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ما من آدمى إلا فى رأسه حَكَمَة([29]) بيدِ مَلَك ، فإذا تواضع قيل للملك : (( ارفعْ حكمته ، وإذا تكبر قيل للملك : ضع حكمته ))([30]) .

ولذلك فإن المتكبر والذى يُريد العلو على الخلق فإن الله يجزيه بضد ما قصد .

فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : (( يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر فى صور الناس يعلوهم كل شىء من الصغار حتى يدخلوا سجنا فى جهنم يقال له بولس تَعلوهم نار الأنيار يُسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار ))([31]) .

وقيل أن التواضع : (( هو أن تخرج من بيتك فما تلقى أحدًا إلا ظننته خيرًا منك )) .

4- "الشهادة فى سبيل الله" :

فإن الشهيد قد قاتل لتكون كلمةُ اللهِ هى العُليا وقُتِل من أجل ذلك فجازاه الله بأن رفعه وأعلى درجاته فى الجنة فمن ذلك .

(( أولاً )) جُعِل مأواهم تحت العرش :

عن ابن مسعود (رضى الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن أرواح الشهداء فى جوف طير خضر ، لها قناديل تحت العرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوى إلى تلك القناديل … )) ([32]) .

(( ثانيًا )) للمجاهدين فى الجنة مائة درجة :

عن أبى هريرة (رضى الله عنه) عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( وإن فى الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها اللهُ للمجاهدين فى سبيله ))([33]) .

(( ثالثًا )) من الشهداء من يسكن الفردوس الأعلى .

عن أنس (رضى الله عنه) أن أم الربيع بنت البراء وهى أم حارثة بن سراقة أتت النبى صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ألا تحدثنى عن حارثة ، (وكان قتل يوم بدر) فإن كان فى الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه فى البُكاء فقال : (( يا أم حارثة إنها جنان فى الجنة ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى ))([34]) . الله أكبر . ما أهنئه من عيش ، وما أعظمه من رزق فى الفردوس الأعلى أتدرى أخى الحبيب ما هى الفردوس ؟

لقد قال النبى صلى الله عليه وسلم : (( إذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ))([35]) .

رابعًا : من الشهداء من يكلمه الله بغير حجاب :

عن جابر بن عبد الله (رضى الله عنهما) قال : لقينى رسول اللهصلى الله عليه وسلم فقال لى : (( يا جابر مالى أراك منكسرًا ؟ )) .

قلت : يا رسول الله استُشْهِدَ أبِى ، قُتِل يوم أُحُدٍ وترك عِيَالاً ودَيْنًا .

قال : (( أفلا أبشرك بما لَقِى اللهُ به أباك ؟ )) .

قال : قلت بلى يا رسول الله . قال : (( ما كَلَّم اللهُ أحدًا قطُّ إلا من وراء حجاب )) . وأحيا أباك فكلَّمه كِفاحًا([36]) فقال : (( يا عبدى تمَنَّ على أُعْطِك ))، قال يارب تحيينى فأُقْتَل فيك ثانيةً ، قال الربُّ عز وجل : (( إنه قد سبق منِّى : أنهم إليها لا يرجعون )) . قال : وأُنزلت هذه الآية : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا } [آل عمران : 16]([37]) .

9- ليس كمثله شيءٌ في عُلُوِّهِ :

فإن اللَّه هو العلي الأعلى جل جلاله وتقدست أسماؤه ، فلا يدانيه أحدٌ في علوه ، ولا يماثله شيءٌ في رفعته ، وذلك من وجوه منها :

1- له العلو المطلق من جميع الوجوه :

فما من أحد من الخلق بلغ علوًا إلاَّ كان علوًا ناقصًا ، فقد يعلو في مالٍ ولا يعلو في رياسة أو حُكم ، أو يعلو في الدنيا ولا يعلو في الآخرة ، وقد يعلو في وقتٍ دون آخر ، أو في حال دون حال ، كمثل من يعلو في حال قوته دون ضعفه ، أو صحته دون مرضه ، أو شبابه دون هرمه .

أما العلو المطلق من جميع الوجوه وفي كل الأحوال فهو لله عز وجل ، فإن اللَّه تعالى هو العلي الذي لا أعلى منه ولا يعلو عليه بل لا يدانيه أحدٌ من خلقه .

ولذلك قال اللَّه عز وجل : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ... } . فإنه قد علا في الأرض وتكبر فيها ولم يستطع أن يعلو في السماء .

2- علو اللَّه دائم :

فعلو الخلق مؤقت يسبقه العدم ويلحقه الفناء .

أما علو اللَّه عز وجل فهو علوٌ لم يسبقه انخفاض ولا يلحقه دنو ، دائم لا يتغير ، ثابت لا يتبدل .

3- رحمته في علوه :

فكل من أصابه شيءٌ من علو الدنيا فإنه يبتعد عن الضعفاء والمساكين ، وقد يأنف منهم .

أما اللَّه سبحانه وبحمده قريب في علوه ، رحيم في كبريائه ، ودودٌ في عظمته ، عفوٌ في قدرته ، لا يمنعه شيءٌ عن خلقه إذا دُعي أجاب ، ولا يقف على بابه الحُجَّاب ، قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة ] .

([1]) تفسير ابن كثير (3/222، 223) .

([2]) (( مجموع الفتاوى )) (16/97- 98) .

([3]) النونية (2/213- 214) .

([4]) تيسير الكريم الرحمن (5/300) .

([5]) فقد تضمنت هذه الأسماء إثبات علو ذات ربنا سبحانه وأنه عال على كل شيء وفوق كل شيء ولا شيء فوقه ، بل هو فوق عرشه كما أخبر عن نفسه ، وهو أعلم بنفسه .

([6]) تفسير ابن كثير (4/72) .

([7]) فتأبى عليه . قال الشيخ الألباني : أي تمتنع إلا كان الله تبارك وتعالى ساخطًا عليها حتى يرضى عنها زوجها . والحديث دليل من عشرات الأدلة على أن اللَّه تعالى في السماء أي العلو المطلق ، فوق العرش والمخلوقات كلها .

([8]) رواه مسلم (2/1436 - 121) .

([9]) تفسير ابن كثير (4/455) .

([10]) رواه البخاري (8/67) ، ومسلم (2/742) مطولاً .

([11]) رواه البخاري (13/7420، 7421) .

([12]) نقض تأسيس الجهمية (2/38) .

([13]) تلبيس الجهمية لابن تيمية (2/40) .

([14]) رواه أحمد (5/448) ، ومسلم (1/573) .

([15]) الرد على الجهمية ( ص 39) .

([16]) تقدم تخريجه .

([17]) أخرجه الطيالسي (1093) ، وأحمد 4/155، وأبو داود (869) ، وابن ماجه (887) ، وابن خزيمة (600، 670) ، وابن حبان (1898) ، والحاكم 1/225 . وصححه أيضًا الحاكم ، وتعقبه الذهبي . وانظر فتح الباري لابن رجب الحنبلي 7/176، والإرواء 2/40 .

([18]) رواه مسلم .

([19]) رواه البخاري .

([20]) صحيح : أخرجه البخاري في الأدب المفرد (552) .

([21]) عزاه الشيخ الألباني إلى ابن عساكر ، والضياء في المختارة عن سعد تبعًا للسيوطي في زوائد الجامع الصغير ، وصححه الشيخ الألباني . ( صحيح الجامع الصغير 2/123) .

([22]) رواه مسلم (6/98) صلاة المسافرين .

([23]) سبق تخريجه .

([24]) وارتق : أى فى درج الجنة بقدر ما حفظته من آى القرءان .

([25]) رواه أبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .

([26]) متفق عليه .

([27]) شرح الحديث فى صحيح مسلم (6/84) بشرح النووى "فضيلة حافظ القرءان" .

([28]) رواه مسلم .

([29]) الحَكَمَة هى لجام الدابة ولكل إنسان من بنى آدم حكمة يمسكها ملك من الملائكة .

([30]) صحيح لغيره . أخرجه الطبراني في الكبير ( ج 2 /12939) .

([31]) رواه الإمام أحمد ، ورُوى عن ابن عمرو وقال ابن حجر فى المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية : موقوف ، إسناده حسن . انظر (4/375) حديث رقم 4629 عن المطالب .

و(الذرُّ) هو النمل الصغير .

([32]) رواه مسلم ، والترمذي عن ابن مسعود .

([33]) رواه البخاري (6/11) ، ومسلم (13/28) الإمارة ، والترمذي (10/8) صفة الجنة ، وابن ماجه (4331) الزهد .

([34]) أخرجه البخاري (2809) من حديث أنس ، رضي الله عنه .

([35]) أخرجه البخاري (2790، 7423) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه .

([36]) كفاحًا : أى مواجهةً ليس بينهما حجاب ولا رسول .

([37]) حسن : أخرجه الترمذي (5/3010) ، وابن ماجه (1/190، 2/2800) .

----------------------------------------------

الفطرة السليمة تشهد بوجود الله من غير دليل :

لم يطل القرآن في الاستدلال على وجود الله تعالى ، لأنّ القرآن يقرّر أنّ الفطر السليمة ، والنفوس التي لم تتقذر بأقذار الشرك ، تُقرّ بوجوده من غير دليل ، وليس كذلك فقط ، بل إنّ توحيده – سبحانه – أمر فطري بدهي ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) [ الروم : 30 ] .

هذه الفطرة هي التي تفسر الظاهرة التي لاحظها الباحثون في تاريخ الأديان ، وهي أنّ الأمم جميعاً – التي درسوا تاريخها – اتخذت معبودات تتجه إليها وتقدَّسها . (1)

وقد يقال هنا : لو كان التوجه إلى الله أمراً فطرياً لما عبد النّاس في مختلف العصور آلهة شتى .

والجواب : أنّ الفطرة تدعو المرء إلى الاتجاه إلى الخالق ، لكنّ الإنسان تحيط به مؤثرات كثيرة تجعله ينحرف حينما يتجه إلى المعبود الحق .

فيما يغرسه الآباء في نفوس الأبناء ، وما يلقيه الكتّاب والمعلمون والباحثون في أفكار الناشئة يبدّل هذه الفطرة ويقذرها ، ويلقي عليها غشاوة ، فلا تتجه إلى الحقيقة .

وقد نصّ الرسول صلى الله عليه وسلم على صدق هذا الذي قررناه ، ففي الصحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ) (2) . ولم يقل يُسلمانِه ، لأنّ الإسلام مُوافقٌ للفطرة .

وقد يقال : إذا تركنا الطفل من غير أن نُؤثّر في فطرته هل يخرج موحداً عارفاً بربّه ، فنقول : إذا ترك شياطين الإنس البشر ، ولم يدّنسوا فطرهم ، فإنّ شياطين الجنّ لن يتركوهم ، فقد أخذ الشيطان على نفسه العهد بإضلال بني آدم : ( قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين – إلا عبادك المخلصين ) [ ص : 82-83 ] .

وأعطي الشيطان القدرة على أن يصل إلى قلب الإنسان ، كما في الحديث الصحيح ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً ) أو قال : ( شيئا ً ) . (3)

والقرآن وصف الشيطان المطلوب الاستعاذة منه بأنّه ( يوسوس في صدور الناس ) [ الناس : 5 ] ، وقد صح أيضاً أنّ لكل إنسان قريناً من الجنّ يأمره بالشرّ ، ويحثه عليه ، وفي القرآن ( قال قرينه ربَّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيدٍ ) [ ق : 27 ] .

ولا يتخلص المرء من هذا إلا بالالتجاء إلى الله ( قل أعوذ برب الناس – ملك الناس – إله الناس – من شر الوسواس الخناس – الذي يوسوس في صدور الناس – من الجنة والناس ) [ الناس : 1-6 ] .

وشياطين الجنّ يقومون بدور كبير في إفساد الفطرة وتدنيسها ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم ، فكان مما جاء في خطبته : ( ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا : كلّ مال نحلته (4) عبادي حَلالٌ ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين ، فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ) . (5)

المصائب تصفي جوهر الفطرة :

وكثيراً ما تنكشف الحجب عن الفطرة ، فتزول عنها الغشاوة التي رانت عليها عندما تصاب بمصاب أليم ، أو تقع في مأزق لا تجد فيه من البشر عوناً ، وتفقد أسباب النجاة ، فكم من ملحد عرف ربّه وآب إليه عندما أحيط به ، وكم من مشرك أخلص دينه لله لضرّ نزل به ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصفٌ وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئنِ أنجيتنا من هذه لنكوننَّ من الشاكرين ) [ يونس : 22 ] .

وقد سمعنا كيف آب ركاب طائرة ما إلى ربّهم عندما أصاب طائرتهم خلل ، فأخذت تهتز وتميل ، وتتأرجح في الفضاء ، والطيار لا يملك من أمره شيئاً فضلاً عن الركاب ، هناك اختفى الإلحاد ، وضجّت الألسنة بالدّعاء ، ورغبت القلوب إلى ربها بصدق وإخلاص ، ولم يبق للشرك والإلحاد وجود في مثل هذا الموقف الرهيب .

المشركون الذين بُعث إليهم الرسول كانوا يقرّون بوجود الخالق :

العرب الذين جابههم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا مقرّين بوجود الله ، وأنّه الخالق وحده للكون ، كما يقرّون بأنّه وحده الرزاق النافع الضّار ، ... ولكنهم كانوا يبعدون غيره معه ، ولا يخلصون دينهم لله وحده .

وفي معرض إلزام المشركين بالعبودية لله وحده ، وإخلاص الدّين له كان يسألهم عن الخالق المالك للسماء والأرض ، فكانوا يعترفون ، ولا ينكرون ، ( ولئِن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنَّ الله ) [ لقمان : 25 ] .

وفي سورة المؤمنون ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون – سيقولون لله قل أفلا تذكرون – قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم – سيقولون لله قل أفلا تتقون – قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون – سيقولون لله قل فأنَّى تسحرون ) [ المؤمنون : 84-89] . ومن المعروف أنّ العرب كانوا يُعظمون الكعبة ، ويحجون ، ولهم بقية من عبادات يتنسّكون بها .

كفر النّاس – اليوم أعظم :

إلا أن الانحراف اليوم وصل الدّرك الأسفل ، فأصبحنا نرى أقواماً يزعمون أن لا خالق ، ويجعلون هذه المقولة مذهباً يقيمون عليه حياتهم ، وقامت دول على هذا المذهب تعدّ بمئات الملايين من البشر .

وانتشرت هذه المقولة في كل مكان ، وألفت فيها كتب ، وأصبح لها فلسفة تدرس ، وحاول أصحابها أن يسموها بالمنهج العلمي ، ويدللوا عليها .

من أجل ذلك كان لا بّد أن نتوسع شيئاً ما في الاستدلال على هذه القضية .

===============

دليل المخلوق لا بد له من خالق

يحتجّ القرآن على المكذّبين المنكرين بحجة لا بدّ للعقول من الإقرار بها ، ولا يجوز في منطق العقل السليم رفضها ، يقول تعالى : ( أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون – أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ) [ الطور : 35-36 ] .

يقول لهم : أنتم موجودون هذه حقيقة لا تنكروها ، وكذلك السماوات والأرض موجودتان ، ولا شك .

وقد تقرر في العقول أنّ الموجود لا بدّ من سبب لوجوده ، وهذا يدركه راعي الإبل في الصحراء ، فيقول : " البعرة تدلّ على البعير ، والأثر يدلّ على المسير ، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ، ألا تدل على العليم الخبير " . ويدركه كبار العلماء الباحثين في الحياة والأحياء .

وهذا الذي أشارت إليه الآية هو الذي يعرف عند العلماء باسم : ( قانون السببية ) . هذا القانون يقول : إن شيئاً من ( الممكنات ) (( لا يحدث بنفسه من غير شيء )) ؛ لأنه لا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده ، (( ولا يستقل بإحداث شيء )) ؛ لأنّه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئاً لا يملكه هو .

ولنضرب مثالاً نوضح به هذا القانون :

منذ سنوات تكشفت الرّمال في صحراء الربع الخالي إثر عواصف هبت على المنطقة عن بقايا مدينة كانت مطموسة في الرمال ، فأخذ العلماء يبحثون عن محتوياتها ويحاولون أن يحققوا العصر الذي بنيت فيه ، ولم يتبادر إلى ذهن شخص واحد من علماء الآثار أو من غيرهم أن هذه المدينة وجدت بفعل العوامل الطبيعية من الرياح والأمطار والحرارة والبرودة لا بفعل الإنسان .

ولو قال بذلك واحد من الناس لعده الناس مخرّفاً يستحقّ الشفقة والرحمة ، فكيف لو قال شخص ما : إنّ هذه المدينة تكونت في الهواء من لا شيء في الأزمنة البعيدة ، ثم رست على الأرض ؟ إنّ هذا القول لا يقلّ غرابة عن سابقه ، بل يفوقه .

لماذا ؟ لأنّ العدم لا يوجد شيئاً هذا أمر مقرر في بدائه العقول ، ولأن الشيء لا يستطيع أن يوجد نفسه .

والمدينة على النحو الذي نعرفه لا بد لها من موجد ، والفعل يشي ، ويعرّف بصانعه ، فلا بدّ أن تكون المدينة صناعة قوم عقلاء يحسنون البناء والتنسيق .

ولو رأينا إنساناً انتقل من أسفل بناية إلى أعلاها فلا نستنكر ذلك ، ولا نستغربه ، لأنّ الإنسان لديه القدرة على ذلك .فإذا رأينا حجراً كان في ساحة البناية قد انتقل إلى أعلاها ، فإنّنا نجزم بأنّه لم ينتقل بنفسه ، بل لا بدّ من شخص رفعه ونقله ؛ لأنّ الحجر ليس لديه خاصية الحركة والصعود .

ومن الغريب أنّ الناس يجزمون بأنّ المدينة لا يمكن أن توجد من غير موجد ، ولا يمكن أن تبني نفسها ، ويجزمون بأنّه لا بدّ للحجر من شخص صعد به إلى أعلى ، ولكن يوجد فيهم من يجيز أن يصنع الكون من غير صانع ، ويوجد من غير موجد ، مع أنّ بناء الكون أشدّ تعقيداً وأعظم خلقة ( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ) [ غافر : 57 ] .

ولكنّ المنكرين عندما يواجهون بذلك بمنطق علمي يخاطب العقل ، لا يستطيعون إلا أن يقروا أو يكابروا .

وبهذا الدليل كان علماء الإسلام ولا يزالون يواجهون الجاحدين ، فهذا أحد العلماء يعرض له بعض الزنادقة المنكرين للخالق ، فيقول لهم : ما تقولون في رجل يقول لكم : رأيت سفينة مشحونة بالأحمال ، مملوءة من الأنفال ، قد احتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة ، ورياح مختلفة ، وهي من بينها تجري مستوية ، ليس لها ملاح يُجريها ، ولا متعهد يدفعها ، هل يجوز في العقل ؟ .

قالوا : هذا شيء لا يقبله العقل .

فقال ذلك العالم : يا سبحان الله ، إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجر ، فكيف يجوز قيام هذه الدّنيا على اختلاف أحوالها ، وتغيّر أعمالها ، وسعة أطرافها ، وتباين أكنافها من غير صانع ولا حافظ ؟! فبكوا جميعاً ، وقالوا : صدقت وتابوا .

هذا القانون الذي سلمت به العقول وانقادت له هو الذي تشير إليه الآية الكريمة : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) [ الطور : 35 ] وهو دليل يُرغم العقلاء على التسليم بأنّ هناك خالقاً معبوداً ، إلا أن الآية صاغته صياغة بليغة مؤثرة ، فلا تكاد الآية تلامس السمع حتى تزلزل النفس وتهزها .

روى البخاري في صحيحه عن جبير بن مطعم قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآية ( أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون – أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون – أم عندهم خزائِن ربك أم هم المصيطرون ) [ الطور : 35-37 ] كاد قلبي أن يطير " . (1)قال البيهقي (2) : قال أبو سليمان الخطابي : " إنما كان انزعاجه عند سماع هذه الآية لحسن تلقيه معنى الآية ، ومعرفته بما تضمنته من بليغ الحجة ، فاستدركها بلطيف طبعه ، واستشف معناها بزكي فهمه ... " .

واختار الخطابي في معنى ( أم خلقوا من غير شيء ) [ الطور : 35 ] " فوجدوا بلا خالق ، وذلك ما لا يجوز أن يكون ، لأنّ تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الأمر ، فلا بدّ له من خالق ، فإذ قد أنكروا الإله الخالق ، ولم يجز أن يوجدوا بلا خالق خلقهم ، أفهم الخالقون لأنفسهم ؟ وذلك في الفساد أكثر ، وفي الباطل أشد ، لأنّ ما لا وجود له كيف يجوز أن يكون موصوفاً بالقدرة ، وكيف يخلق ؟ وكيف يتأتى منه الفعل ، وإذا بطل الوجهان معاً قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً ، فليؤمنوا به .

ثم قال : ( أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ) [ الطور : 36 ] وذلك شيء لا يمكنهم أن يدّعوه بوجه ، فهم منقطعون والحجة قائمة عليهم " .

وهذا الذي قرر الخطابي أن الكفار لا يمكن أن يدعوه فائدة ذكره والسؤال عنه قطع الحجاج والخصام ؛ إذ قد يوجد جاحد مكابر يقول : " أنا خلقت نفسي " كما زعم مثيل له من قبل بأنه يحي ويميت ( ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتَاهُ الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أُحْيِي وأميت ) [ البقرة : 258 ] .فماذا كان الجواب ؟ سؤال آخر أبان عجزه وأكذبه في زعمه الأول ( قال إبراهيم فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ) [ البقرة : 258 ] فكانت النتيجة : ( فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظَّالمين ) [ البقرة : 258 ] .

وهنا هَبْ شخصاً قال : " أنا خلقت نفسي " فهل يستطيع أن يزعم أنّه خلق السماوات والأرض ؟! فإذا كان العدم لا يُوجِد سماء ولا أرضاً ، وإذا كانت السماء والأرض لم توجدا نفسيهما ، وإذا كان هؤلاء لا يستطيعون الادعاء بأنّهم أوجدوا ذلك كله ، فإنّه لا بدّ لهذا كله من موجد ، وهذا الموجد هو الله سبحانه وتعالى .

موقف العلوم التجريبية من هذا القانون :

إنّ طاقة البشر وطبيعة المخلوق ، أعجز من أن تحصي مراحل الأسباب مرحلة مرحلة ، وتتابع سلسلتها حلقة حلقة ، حتى تشهد بداية العالم ، ولذلك يئست العلوم التجريبية من معرفة أصول الأشياء ، وأعلنت عدولها عن هذه المحاولة ، وكان قصاراها أن تخطو خطوات معدودة إلى الوراء ، تاركة ما بعد ذلك إلى ساحة الغيب التي يستوي في الوقوف دونها العلماء والجهلاء .

لا بدّ للعقل من الاعتراف

ولكنّ هذا اليأس الإنساني من معرفة أطوار الكائنات تفصيلاً في ماضيها ومستقبلها ، يقابله يقين إجمالي ينطوي كلّ عقل على الاعتراف به طوعاً أو كرهاً ، وهو أنّه مهما طالت الأسباب الممكنة ، وسواء أفرضت متناهية أو غير متناهية ، فلا بدّ لتفسيرها وفهمها ومعقولية وجودها من إثبات شيء آخر يحمل في نفسه سبب وجوده وبقائه ، بحيث يكون هو الأول الحقيقي الذي ليس قبله شيء ، وإلا لبقيت كلّ هذه الممكنات في طيّ الكتمان ( إن لم يكن لها مبدأ ذو وجود مستقل ) .

=========الايات الكونية==============

يأخذنا القرآن في جولات وجولات نرتاد آفاق السماء ، ونجول في جنبات الأرض ، ويقف بنا عند زهرات الحقول ، ويصعد بنا إلى النجوم في مداراتها ، وهو في كلّ ذلك يفتح أبصارنا وبصائرنا ، فيرينا كيف تعمل قدرة الله وتقديره في المخلوقات ، ويكشف لنا أسرار الخلق والتكوين ، ويهدينا إلى الحكمة من الخلق والإيجاد والإنشاء ، ويبين عظيم النعم التي حبانا بها في ذوات أنفسنا وفي الكون من حولنا .

إنه حديث طويل في كتاب الله يطالعك في طوال سوره وقصارها ، وهو حديث مشوق تنصت إليه النفس ، ويلذه السمع ، ويستثير المشاعر والأحاسيس .

ولقد طالعت الكثير مما توصل إليه العلم والعلماء في شتى جوانب الحياة يبينون أسرار الخلق ، ودلالة الخلق على الخالق ، فما وجدت في شيء من ذلك كلّه ما وجدته في القرآن من جمال وصف ، ووفرة علم ، واستثارة مشاعر ، وحسن توجيه ، ودقة استنتاج ، وكيف لا يكون كذلك وهو تنزيل الحكيم الحميد !!

فعل الله في الكون :

تعال معي لنقوم بجولة مع الآيات القرآنية ؛ نرتاد هذا الكون ليرينا كيف تعمل قدرة الله في مختلف أرجاء الكون : في الحبّة تلقى في التربة فتنفلق ، وتضرب بجذورها في التربة ، فيخرج من الحبّة الجامدة حياة تتمثل في سوق ، وأوراق ، وأزهار تفوح بالشذى ، وثمار يتغذى بها الإنسان والحيوان . وفي الإصباح وهو ينبلج ... وفي سكون اليل ... ومسير الشمس والقمر .. ( إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنَّى تؤفكون – فالق الإصباح وجعل اليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم ) [ الأنعام : 95-96 ] .

وانظر إلى مشهد السحاب كيف يصنعه الله ، والبرد كيف يكوّنه ويصرفه ( ألم تر أن الله يُزجى سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله رُكاماً فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبالٍ فيها من بردٍ فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) [ النور : 43 ] .

ويحدثنا الله عن فعله في الظلّ : ( ألم تر إلى ربك كيف مدَّ الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً – ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً ) [ الفرقان : 45-46 ]

وانظر إلى تصريفه شؤون الحياة والأحياء والليل والنهار : ( قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزُّ من تشاء وتذلُّ من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيٍ قديرٌ – تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب ) [ آل عمران : 26-27 ] .

لا يكتفي القرآن بأن يرينا قدرة الله وهي تعمل في الكون ، وعلمه يحيط بالمخلوقات ، وتصريفه للشؤون المختلفة ... ولكنّه – مع ذلك – يعرفنا بالغاية التي خلق الكون من أجلها .

خلق الله هذه الأرض من أجل الإنسان ( هو الذي خلق لكم مَّا في الأرض جميعاً ) [البقرة : 29] خلقها لنا على نحو يتوافق مع طبيعتنا وتكويننا ويحقق لنا الصلاح ، وهذا ما سماه القرآن بالتسخير .وهو لا يخبرنا بذلك مجرد إخبار ، وإنّما يوقفنا على هذا التسخير الذي جعله الله في الكون ، ( ألم تروا أنَّ الله سخَّر لكم ما في السَّماوات وما في الأرض ) [ لقمان : 20] فالنجوم خلقت لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر : ( وهو الذَّي جعل لكم النُّجوم لتهتدوا بها في ظلمات البّرِ والبحرِ قد فصِّلنا الآيات لقومٍ يعلمون ) [ الأنعام : 97 ] .

والأرض والسماء ، وإنزال الماء من السماء ، والسفن السابحة في البحر ، والأنهار الجارية في جنبات الأرض ، والشمس والقمر ، وتعاقب الليل والنهار ... كلّ ذلك مخلوق لنا ولخيرنا ولصلاحنا ( الله الذي خلق السَّماوات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخِّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخَّر لكم الأنهار – وسخَّر لكم الشمس والقمر دائِبين وسخِّر لكم الليل والنَّهار – وَآتَاكُم من كلّ ما سألتموه ) [ إبراهيم : 32-34 ] . ======دليل نعم الله علي المخلوقات خاصة الانسان ======

عرّفنا القرآن بأنّ الله خلق هذا الكون وسخّره لنا ، فجعله متوافقاً مع جبلتنا ، وقدّره تقديراً تصلح به حياة الإنسان ، والقرآن يتخذ من هذا الحديث والبيان سبيلاً ليشكر الإنسان ربّه ، إذ الإنسان مفطور على حب من أحسن إليه ( هل جزاء الإحسان إلاَّ الإحسان ) [ الرحمن : 60 ] .

ولذلك فقد أفاض القرآن في ذكر النعم التي حباها الله عباده في ذوات أنفسهم ( قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون ) [الملك : 23] ، وفي الكون من حولهم : ( الذي جعل لكم الأرض مهداً وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون – والذي نزَّل من السماءِ ماء بقدرٍ فأنشرنا به بلدةً مَّيتاً كذلك تخرجون – والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون – لتستووا على ظهوره ثمَّ تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ) [ الزخرف : 10-13 ] .

وخلق لنا الشمس والقمر على نحو يحقق النفع والصلاح ( هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدَّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ) [ يونس : 5 ] .

والأنعام من الجمال والأبقار والأغنام ، وكذلك الخيل والبغال والحمير خلقها لنا على نحو يفيدنا ويتناسب مع طبائعنا وتكويننا ( والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ ومنافع ومنها تأكلون – ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون – وتحمل أثقالكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إنَّ ربَّكم لرءوفٌ رحيمٌ – والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينةً ويخلق ما لا تعلمون ) [ النحل : 5-8 ] .

والبحر مخلوق لنا أيضاً ، وفي خلقه على ما هو عليه ما يحقق لنا الشيء الكثير ( وهو الذَّي سخَّر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حليةً تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلَّكم تشكرون ) [ النحل : 14] .

والنحل خلقه الله ليقوم بذلك العمل الرائع ، لينتج لنا ذلك الشراب المختلف الألوان ، ليتغذى به البشر ، ويكون لهم شفاء ( وأوحى ربُّك إلى النَّحل أن اتَّخذي من الجبال بيوتاً ومن الشَّجر وممَّا يعرشون – ثمَّ كلى من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانه فيه شفاءٌ للنَّاس إنَّ في ذلك لأيةً لقومٍ يتفكرون ) [النحل : 68-69] .

التعرف على الله من خلال آياته الكونية سبيلٌ حثَّ عليه القرآن :

حث القرآن عباد الله على النظر في آيات الله الكونية : الأرض ، والسماء ، وما فيهما وما بينهما ، وجعل النظر والتأمل في ذلك من الذكرى التي تنفع المؤمنين .

وقد أعجبني تسمية بعض المعاصرين لهذا المنهج ( بقانون السير والنظر ) لكثرة حث الآيات القرآنية على ذلك ، وقد يكون السير والنظر حسيّان ، فيسير المرء بقدميه ، وينتقل من بلد لآخر ، كما قد يكون النظر بالبصر ، وقد يكونان بالفكر والعقل .

وقد جاء الأمر في القرآن أمراً عاماً ( قل انظروا ماذا في السَّماوات والأرض ) [ يونس : 101] . وقد يأتي أمراً خاصاً ( فلينظر الإنسان ممَّ خلق ) [ الطارق : 5] ، ( فلينظر الإنسان إلى طعامه ) [ عبس : 24 ] . =================

استدلال القران بالايات الكونية

يتخذ القرآن من الآيات الكونية مادة يناقش بها المشركين ، ويقيم بها الحجة عليهم ( أولم ير الذين كفروا أنَّ السَّماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كلَّ شيٍ حىٍ أفلا يؤمنون – وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً لعلَّهم يهتدون – وجعلنا السَّماء سقفاً مَّحفوظاً وهم عن آياتها معرضون – وهو الذي خلق الليل والنَّهار والشَّمس والقمر كلٌ في فلكٍ يسبحون ) [ الأنبياء : 30-32 ] .

ويبين لهم فساد معتقداتهم في معبوداتهم ، فهي لا تملك صفات الربوبية والألوهية التي تستحق أن تعبد بها ، وتتخذ آلهة من دون الله : ( قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آللَّهُ خير أمَّا يشركون – أمَّن خلق السَّماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائِق ذات بهجةٍ مَّا كان لكم أن تنبتوا شجرها أَإِلَهٌ مع الله بل هم قومٌ يعدلون – أمَّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أَإِلَهٌ مع الله بل أكثرهم لا يعلمون – أمَّن يجيب المضطرَّ إذا دعاه ويكشف السُّوء ويجعلكم خلفاء الأرض أَإِلَهٌ مع الله قليلاً ما تذكَّرون – أمَّن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أَإِلَهٌ مع الله تعالى الله عمَّا يشركون – أمَّن يَبْدَأُ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السَّماء والأرض أَإِلَهٌ مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) [ النمل : 59-64 ] .

إنّ الآيات تبين عدم صلاحية الآلهة المدعاة للعبادة ، فالله وحده الخالق للسماء والأرض ، المنزل للماء من السماء ، والمنبت به الحدائق التي تسرّ النفس ، وتبهج النظر ، وهو الذي جعل الأرض قراراً وسيّر خلالها الأنهار ، وثبتها بالجبال ... ، فهو المعبود الحق ، وغيره لم يفعل شيئاً ، فلا يستحق أن يعبد من دون الله .

وعلينا أن نستخدم هذا النوع من الاستدلال في مواجهة الكفرة والملحدين ، فقد استخدمه الرسل من قبل ، وأكثروا من الاحتجاج به ، فهذا إبراهيم خليل الرحمن يناقش الملحد ، ويقيم عليه الحجة بهذا النوع من الاستدلال بحيث يخرس لسانه ويدهش فكره( ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتَاهُ الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يُحيي ويميت قال أنا أُحْيِي وأُميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشَّمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظَّالمين ) [ البقرة : 258 ] .

وهذا موسى كليم الله يستخدم الاستدلال نفسه في مواجهة طاغية عصره فرعون ، ولا يزال يأتيه بالدليل في إثر الدليل حتى يعجزه ، فيلجأ إلى التهديد والوعيد : ( قال فرعون وما ربُّ العالمين – قال ربُّ السَّماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين – قال لمن حوله ألا تستمعون – قال ربكم وربُّ آبَائِكُمُ الأوَّلين – قال إنَّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنونٌ – قال ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون – قال لئِن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنَّك من المسجونين ) [ الشعراء : 23-29 ] .

بل إن هذا النوع من الاستدلال طريقة جميع الرسل ، ارجع إلى سورة إبراهيم (آية 9 ، 10 ) واقرأ ما قالته الأقوام المكذبة قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، ثم إجابة الرسل حيث قالوا : ( أفي الله شكٌ فاطر السَّماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم ) [إبراهيم : 10] .فاستدلوا على صدق دعوتهم بأن الله – سبحانه – فاطر السَّماوات والأرض أي موجدهما وخالقهما .

الكفر مُستَنكَر مستعجب مع وضوح الأدلة :

ولذلك يسأل القرآن سؤالاً يشي بالعجب من كفر الكافرين مع وضوح الأدلة والبراهين ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يحييكم ثُمَّ إليه ترجعون ) [ البقرة : 28 ] .

ويسأل في آية أخرى ( يا أيها الإنسان ما غرَّك بربك الكريم – الذي خلقك فسوَّاك فعدلك – في أي صورة ما شاء ركَّبك ) [ الانفطار : 6-8 ] .

إن مقتضى نظر الإنسان في نفسه وفي الكون من حوله يوجب عليه التوجه إلى خالقه وتعظيمه ، ولذلك كان غريباً كفر الكافرين وجحد الجاحدين ( مَّا لكم لا ترجون لله وقاراً – وقد خلقكم أطواراً – ألم تروا كيف خلق الله سبع سمواتٍ طباقاً – وجعل القمر فيهنَّ نوراً وجعل الشَّمس سراجاً – والله أنبتكم من الأرض نباتاً – ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً ) [ نوح : 13-18 ]

======

دلالة الموجود علي وجود الواجد

وهو حكيم : فالنظر في هذا الكون يشي بأنّه محكم متقن قد وضع كلّ شيء منه في موضعه المناسب ، وخُلق بالمقدار المناسب ، في غاية الجودة والإتقان ( وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمرُّ مرَّ السَّحاب صنع الله الذي أتقن كل شيءٍ ) [ النمل : 88 ] ، ( الذي أحسن كلَّ شيءٍ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طينٍ ) [ السجدة : 7 ] .ولذلك فإن الناظر المتبصر في خلق الله لا يرى إلا الكمال والإتقان ، ولو بحث عن عيب في الخلق لأعجزه ( الذي خلق سبع سماواتٍ طباقاً مَّا ترى في خلق الرحمن من تفاوتٍ فارجع البصر هل ترى من فطورٍ – ثم ارجع البصر كرَّتين ينقلب إليك البصر خاسِئاً وهو حسيرٌ ) [ الملك : 3-4 ] .

صفات أُخرى : ما ذكرناه من دلالة الخلق على بعض صفات خالقه أردنا به التمثيل ، لا الحصر والاستقصاء ، وهو تمثيل يفتح الباب للاستدلال والبحث ، وإلا ففي الكون الكثير من الآيات الدالة على عظمة الله وعزته ولطفه ، واستمع إلى الصفات الإلهية التي ذكرها الله في ختام كلّ آية من الآيات التالية ( ألم تر أنَّ الله أنزل من السَّماء ماءً فتصبح الأرض مخضرَّةً إنَّ الله لطيف خبيرٌ – له ما في السَّماوات وما في الأرض وإنَّ الله لهو الغنيُّ الحميد – ألم تر أنَّ الله سخَّر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السَّماء أن تقع على الأرض إلاَّ بإذنه إنَّ الله بالنَّاس لَرَؤُوفٌ رحيمٌ ) [ الحج : 63-65 ].

إذا نظرنا إلى آلة دقيقة الصنع ، بديعة التكوين ، غاية في القوة والمتانة ، تقوم بعملها على خير وجه ، فلا بدّ أن ندرك بلا كثير تفكير أن صانعها يتصف بصفة الحياة والعلم ولديه قدرة وإرادة ... إلى آخر تلك الصفات التي تنبئنا عنها الآلة .وهذا الكون يشي ويعرّف بكثير من صفات الخالق ، فمن ذلك :

قدرته وعلمه : هذا الكون الهائل الضخم الشاسع الواسع السائر وفق نظام دقيق لا بدّ أن يكون صانعه قديراً عليماً ، والله خلق الخلق بهذا التكوين الهائل وهذا النظام الكامل ليعرفنا بقدرته وعلمه ( الله الذي خلق سبع سماواتٍ ومن الأرض مثلهنَّ يتنزَّلُ الأمر بينهنَّ لتعلموا أنَّ الله على كل شيءٍ قديرٌ وأنَّ الله قد أحاط بكل شيءٍ علما ) [الطلاق :12] .ولا بد أن يكون العلم الذي يحكم هذا الكون شاملاً كاملاً ( ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها ولا حبَّةٍ في ظُلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلاَّ في كتابٍ مبينٍ ) [ الأنعام : 59 ] . =========== مقاومة الاحياء لعوامل الفناء

وكان العلماء ولا يزالون يبينون عجائب صنع الله في خلقه ، ويعظون أنفسهم بذلك ، كما يعظون غيرهم ، وسننقل طرفاً مما توصل إليه العلماء في هذا المجال في القديم والحديث .

وأحب أن يضع القارئ نصب عينيه وهو يقرأ هذه المقتطفات قول موسى لفرعون : ( قال ربُّنا الذي أعطى كلَّ شيءٍ خلقه ُثمَّ هدى ) [ طه : 50 ] . فالله أعطى كل شيء خلقه الذي يناسبه ، وهداه لما فيه صلاحه .. ، وسنرى نماذج من هذا الإعطاء وتلك الهداية .

1- تكون الأجسام من الخلايا وانقسامها

أ- مم تتكون أجسام الأحياء وكيف ؟

يقول باحث معاصر هو الدكتور يوسف عز الدين مجلياً هذا الموضوع : " معظم الحيوانات والنباتات تتكون من عدد هائل من تلك الوحدات الدقيقة الحجم التي نسميها (الخلايا) ، كما يتكون المبنى من مجموعة من الأحجار المرصوصة " .

ب- لماذا تنقسم الخلايا دائماً ؟

ويتابع الدكتور يوسف عز الدين كلامه مبيناً السر في انقسام الخلايا فيقول : " وخلايا أجسامنا وأجسام غيرنا من الحيوانات دائمة الانقسام ، وذلك الانقسام قد يكون لنمو الجسم ، أو لتعويض ما يفقد أو يموت من الخلايا لأسباب عديدة . وكلّ خلية من هذه الخلايا تتكون أساساً من مادة عجيبة نطلق عليها اسم(( البروتوبلازم )) .وتوجد بداخل كل خلية محتويات عديدة ذات وظائف محددة ، ومن هذه المحتويات أجسام دقيقة تحمل عوامل وراثية هي التي نطلق عليها اسم ((الكروموسومات)) .

وعدد هذه ((الكروموسومات)) ثابت في خلايا كلّ نوع من أنواع الحيوانات والنباتات المختلفة ، فعددها في خلايا القط – مثلاً – يختلف عن عددها في خلايا الكلب أو الفيل أو نبات الجزر أو الفول .

وفي كل خليّة من الخلايا التي يتكون منها جسم الإنسان يوجد ستة وأربعون من هذه (الكروموسومات) .

وعندما تنقسم الخلية إلى خليتين داخل أجسامنا فإنّ كلّ خلية جديدة لا بدّ أن تحتوي على العدد نفسه من (الكروموسومات) ، وهي ستة وأربعون ، إذ لو اختل هذا العدد لما أصبح الإنسان إنساناً . والخلايا كما ذكرت دائمة الانقسام ، يحدث هذا في جميع ساعات اليوم حتى في أثناء نومنا ، ونحن حتى الآن لا ندرك حقيقة القوى المهيمنة على هذه العملية المذهلة : عملية انقسام الخلايا ، بل يكتفي العلم بوصف الخطوات العملية التي يمكن ملاحظتها تحت عدسات (الميكروسكوب) العادي أو عن طريق (الميكروسكوب الإلكتروني) الذي يكبر الأشياء تكبيراً أكثر بكثير من تكبير الميكروسكوب العادي " .

جـ - لماذا تختلف الخلايا التناسلية عن غيرها ؟

وذكر الدكتور يوسف : " أن جميع الخلايا الناتجة عن عمليات الانقسام في جسم الإنسان لا بدّ أن تحتوي على ستة وأربعين (كروموسوماً) فيما عدا نوعين من الخلايا ، هما الخلايا التناسلية ، أي الحيوان المنوي في الذكر والبويضة في الأنثى ، وعندما تنقسم خلايا الأنسجة لتكوين هذه الخلايا التناسلية فإنها تنتج خلايا لا تحتوي على الستة والأربعين (كروموسوماً) ، بل تحتوي على نصف هذا العدد ، أي يصبح في كل خلية تناسلية ذكرية أو أنثوية ثلاثة وعشرون (كروموسوماً) فقط " .

ثم بين لماذا يحدث ذلك ، فقال : " يحدث هذا لحكمة بالغة ولهدف عظيم ، إذ إنّ الخلية الذكرية (الحيوان المنوي) لا بدّ أن تندمج مع الخلية الأنثوية (البويضة) لتكوين أول خلية في جسم الجنين ، وهي التي نطلق عليها اسم (الخلية الملقحة) ، حيث ينضم الثلاثة والعشرون (كروموسوماً) التي في الخلية الذكرية إلى الثلاثة والعشرين (كروموسوماً) التي في الخلية الأنثوية لكي يعود عدد (الكروموسومات) في الخلية الجديدة إلى العدد الأصلي ، وهو ستة وأربعون (كروموسوماً) .

وهذه الخلية الملقحة التي أصبحت تحتوي على ستة وأربعين (كروموسوماً) توالي انقسامها ، فتصبح خليتين ، ثم أربع خلايا ، ثم ثماني خلايا وهكذا ، حتى يتم تكوين الجنين الذي يخرج من رحم أمه ، ويستمر نموه عن طريق انقسام الخلايا حتى يصبح إنساناً كامل النمو في كلّ خلية من خلاياه ستة وأربعون (كروموسوماً) كما هو الحال في خلايا جسد أبيه وأمه وأجداده وجميع أفراد الجنس البشري " .

" إنَّ اختزال عدد (الكروموسومات) إلى النصف عند تكوين الخلايا التناسلية بالذات لكي تندمج فيعود العدد الأصلي (للكروموسومات) في الخلايا لا يمكن مطلقاً أن يكون نتيجة مصادفة عمياء ، بل لا بدّ أن يكون نتيجة تقدير دقيق من قوة عليا تعلم ماذا تفعل .وهي في الوقت نفسه لا يمكن أن تخضع للتجربة واحتمال الخطأ ، إذ لو حدث خطأ مرة واحدة عند بدء الخلق لقضي على الكائن الحي قبل تكوين الجيل الثاني . أي أنّ هذا الترتيب لا بد أن يكون قد تم منذ تكوين أول جنين ظهر في الوجود ، ألا يكفي هذا وحده دليلاً على وجود قوة عليا مدبرة مقدرة حكيمة ؟ " .

د- لماذا لا تنقسم خلايا المخ ؟

أما النوع الآخر من الخلايا التي تخالف بقية خلايا الجسم فهي خلايا الدماغ ، وهي تخالف بقية الخلايا في كونها لا تنقسم ، وعن السر في عدم انقسامها يقول الدكتور يوسف عز الدين :" لا يمكن أن يكون عن طريق التجربة واحتمال الخطأ والصواب أن الخلايا الوحيدة التي لا تنقسم هي الخلايا العصبية التي يتكون منها المخ وباقي الجهاز العصبي ، لو انقسمت كما يحدث لباقي الخلايا لحدثت كارثة مروعة ، إنّ خلايا المخ في هذه الحالة لن يمكنها الاحتفاظ بشخصية الإنسان ، وسوف تتلاشى جميع معالم الذاكرة في خلال ساعات قلائل .إنَّ عدد خلايا المخ عند ولادة الإنسان أو أي حيوان آخر لا تزيد عليها خلية واحدة حتى وفاته ، بينما نجد أنّ الكرات الدموية الحمراء التي تسبح في الدم ، ما هي إلا خلايا تموت ، ويحلّ محلها خلايا جديدة كلّ نحو مائة يوم . وتتكون الخلايا الحمراء (الكرات الحمراء) في نخاع العظام ، ثم تنطلق لكي تسبح في تيار الدم ؛ لتحل محل الخلايا التي استهلكت " .

هـ- السر في تفاوت قوة عضلات الجسم :

ويتحدث الدكتور عن هذا الموضوع فيقول : " أقوى عضلات في جسم الإنسان أو الحيوانات الثديية هي عضلات الرحم عند الأنثى ، تلك هي التي تدفع الجنين ليخرج من بطن أمه ، إذ لو لم تكن هذه العضلات بهذه القوة منذ بدء خلق الإنسان أو غيره من الحيوانات لما خرج إلى الوجود أول جنين من بطن أمه .

وتلي عضلات الرحم في القوة عضلات القلب والفكين ، فعضلات القلب لا بد أن تكون قوية لتصمد للعمل ليلاً ونهاراً لدفع الدم إلى الأوعية الدموية لمدة قد تطول لأكثر من مائة عام ، وكذلك الحال في عضلات الفكين التي ينبغي أن تظلّ قادرة على دفع الأسنان لينطبق بعضها على بعض لكي تمضغ أطناناً من الطعام طوال حياة الإنسان "

================

والعظام في أجسامنا وأجسام عديد من الحيوانات نحركها عند المفاصل ، فتنقبض عضلات معينة وتنبسط عضلات أخرى في الوقت نفسه في توافق عجيب ، فتتحرك اليد أو الساق أو الإصبع وغيرها في الاتجاه الذي يرغب فيه الإنسان أو الحيوان ، وتركيب المفاصل مصمم بشكل يسمح بالانزلاق ، فلا يشعر الحيوان بأي احتكاك .

كما أن تصميم الفقرات في العمود الفقري من شأنه تحمل الضغط ، وتجنب الاحتكاك ، وترابط الفقرات مع بعضها ، فهو مصمم تصميماً مذهلاً ، ويحيط العمود الفقري بالحبل العصبي لحمايته ، كما تحمي الجمجمة المخ الذي بداخلها ، وتنفذ الأعصاب من الحبل العصبي من خلال ثقوب بالفقرات ، وجميع هذه التصميمات لا بدّ أن تكون قد تكونت في وقت واحد ، إذ لو اختل جانب منها لأصبحت حركة الحيوان غير ممكنة ، فهل من المعقول أن تحدث كل هذه الترتيبات في وقت واحد نتيجة مصادفة ؟

============

ومن المعروف أنّه إذا حدث جرح في أجسامنا فإنّ الدم الذي يخرج من الأوعية الدموية المجروحة لا يلبث أن يتجلط عند مكان الجرح ، وهذا تصميم مقصود له حكمته إذ إنّ الدم المتجمد يقفل الوعاء الدموي المجروح ، فيوقف بذلك استمرار تدفق الدم من الجرح ، ولو لم يحدث هذا التجلط لظلّ الدّم ينزف حتى الموت .

وممّا يدل على أنّ هذا التدبير مقصود من الخالق لحفظ الكائن الحي أنّنا نجده يحدث بطرق متباينة في الحيوانات المختلفة ، ولكنّ النتيجة في جميع الحالات واحدة ، ففي معظم الحشرات إذا جرح جسم حشرة كالصرصار مثلاً ، فإنّ عدداً من الخلايا يتجمع ، ويكون سدادة تقفل الجرح حتى لا ينزف الدم ، بينما نجد أنّ الدم يتجلط في بعض الحشرات كما يتجلط دمنا .

والوصول إلى هدف معين بطرق مختلفة .. كما سبق أن ذكرت ... دليل قاطع على وجود خالق يدبر ويقدر بشتى الطرق للتوصل إلى نتيجة معينة يكون من شأنها حفظ الكائن الحي . ========

لهداية التي يجلبها النظر والتفكر في الآيات الكونية توجه إلى عبادة الله وحده ، فالله وحده هو الخالق المدبر المقيم للسماوات والأرض الرازق المحيي المميت ... ؛ لذلك فهو المستحق للعبادة دون سواه :

( يا أيَّها النَّاس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلَّكم تتَّقون – الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسَّماء بناءً وأنزل من السَّماء ماءً فأخرج به من الثَّمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ) [ البقرة : 21-22] .

( يا أيَّها النَّاس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السَّماء والأرض لا إله إلاَّ هو فأنَّى تؤفكون ) [ فاطر: 3 ] .

وبهذا الطريق – كما سبق – أثبت القرآن بطلان الآلهة المدعاة وعدم استحقاقها شيئاً من العبادة ( خلق السَّماوات بغير عمدٍ ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبثَّ فيها من كل دابةٍ وأنزلنا من السَّماء ماءً فأنبتنا فيها من كلّ زوجٍ كريم ٍ – هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظَّالمون في ضلالٍ مبينٍ ) [ لقمان : 10-11 ] .

ولذلك فإنّه يذكّر خلقه بالآيات الكونية وتصريفه الأمور وتدبيره الشؤون ثم يعقب على ذلك في كثير من آي القرآن بقوله : ( ذلكم الله ربُّكم ) [ الزمر : 6 ] أي ذلكم الإله الذي يستحق العبادة دون سواه .

استمع إلى هذه الآيات وتأمل التعقيب عليها : ( خلق السَّماوات والأرض بالحقَّ يكور الليل على النَّهار ويكور النَّهار على الليل وسخَّر الشمس والقمر كلٌ يجري لأجلٍ مسمى ألا هو العزيز الغفَّار – خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلقٍ في ظُلماتٍ ثلاثٍ ذلكم الله ربُّكم له الملك لا إله إلا هو فأنَّى تُصرفون ) [ الزمر : 5-6 ] . =========

ثمرات معرفة أسماء الله الحسنى

دراسة أسماء الله الحسنى تجدد الإيمان في القلوب وتعلقها بالله جل وعلا بعد أن غلبت المادية على عقول وقلوب الكثير منا فأنستنا حلاوة الإيمان بالله

والذي أبغيه في هذه الدراسة أن نبتعد عن المسائل الخلافية وفلسفات علماء الكلام لأني أؤمن أن العقيدة يقين يحرك وليست جدالا يؤرق ، فنتناول كل اسم تناولا إيمانيا ليكون لكل اسم في القلب أثرا كبيرا يحركه ويوقظ إيمانه المخدر ليصير إيمانا يقظا متحركا ، أسأل الله أن يرزقنا شرف التعرف عليه ، وحلاوة الأنس به .

وقبل البدء في شرح أسماء الله الحسنى نتكلم عن ثمرات معرفة أسماء الله الحسنى

الثمرة الأولى /الإيمان بالله العظيم

يقول الشيخ محمد النابلسي : الإيمان بالله شيء ، والإيمان به عظيماً شيء آخر ، قال تعالى في شأن مًن استحق دخول النار : ﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾ سورة الحاقة

( العظيم ) ركز على هذه الكلمة

للتقريب : الله عز وجل يقول :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾ الأحزاب

الأمر ينصب على الكثرة لا على الذكر ، لماذا ؟

لأن المنافقين يذكرون الله ، قال تعالى :﴿ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ النساء

المنافق يذكر الله ، لكنه يذكره الذكر القليل ، لذلك حينما قال الله عز وجل :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾الأمر منصب على الكثرة لا على الذكر .

إذن ﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾الأمر منصب على العظيم لأن إبليس آمن بالله :﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ﴾آمن به رباً وعزيزاً وخالقاً :﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾

وآمن باليوم الآخر ، ومع ذلك هو إبليس ، فالذي يؤمن دون أن يستقيم يمكن أن نسمي إيمانه إيماناً إبليسياً ، الذي يؤمن دون أن يلتزم ، الذي يؤمن دون أن يقف موقفاً يؤكد إيمانه ، لأن الإيمان ما وقر في القلب ، وأقر به اللسان ، وأكده العمل

فأول شيء من آثار الإيمان بأسماء الله الحسنى تعظيم الله ، ويجب أن تؤمن أن هناك علاقة مطردة بين تعظيم الله و طاعته .

كلما تعمقت في أسماء الله الحسنى كان تعظيمك لله أكبر ، وكانت طاعتك أكثر ، وكانت مسارعتك إلى رضوانه أكثر ، فأصل الدين معرفة الله .

مقارنة بين يونس وهو في بطن الحوت وفرعون وهو يغرق :

إذن فالطاعة مرتبطة بالتعظيم والتعظيم مرتبط بأسماء الله الحسنى ، فمعرفة الله والإيمان به وتعظيمه ليس شيئا طارئا لينقذ الإنسان نفسه من الهلكة كما فعل عدو الله فرعون حينما أدركه الغرق لجأ إلى الله وقال : (آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) يونس

فيجيبه الله (آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢)يونس

ومن الملفت للنظر أن المد في ( آلآن ) في قراءة حفص مد لازم ست حركات

(آلآن) لم تتذكر أن لك إلها تؤمن به إلا الآن

أمَّا سيدنا يونس حينما ابتلعَهُ الحوت ( فنادى في الظلمات أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) الأنبياء

لماذا قُبِلَت هذه الكلمة من يونس ولم تُقبل من فرعون ؟ كلاهما في المحنة قال : لا إله إلا الله ؟

فرعون ما عَرَفَ الله قبل المحنة لذلك ما نفعته عند المحنة

سيدنا يونس عَرَفَ الله قبل المحنة فلما جاءت المحنة نفعته هذه الكلمة هذا أول فرق فرعون الذي قال بكل كبر وغرور (أنا ربكم الأعلى ) النازعات24

أما يونس نادى وهو مكظوم ( لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )(٨٧) الأنبياء

هناك شيءٌ آخر : وهو أنَّ سيدنا يونس قال " لا إله إلا أنت سبحانك" كلمة (أنت) يخاطبه وجهاً لوجهٍ .

أما فرعون فماذا قال؟ قال " لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل "

سيدنا يونس قال : "لا إله إلا أنت" وكأنه يرى الله معه

أما فرعون سمع أنه يوجد إله لموسى بيده كل شيء فلما شرع في الغرق شعَر أن إله موسى هو الذي أغرقه فقال " آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل " ، فذِكرُ ضمير الغائب دليل على أنه غير مُتحقق .

قُبلتْ (لا إله إلا الله) من سيدنا يونس لأنه كان من المُسبحين ولم تُقبل من فرعون لأنه لم يكن من المُسبحين .

ففِرعون حينما قال :لا إله إلا الله قبل أن يغرق قالها ليتخلّص من الغرق

الثمرة الثانية / تحقيق شرف العلم بالله

فالإنسان يشرف بقدر ما يعلم وهل هناك أشرف من العلم بالله فهو أشرف معلوم كما قال الإمام الغزالي .

ومن أعجب الأمور أن الإنسان الغربي بلغ ما بلغ من العلم وعلى الرغم من ذلك تجده إنسان جاهل بالله الذي خلقه ، فهذه مصيبة الحضارة المادية التي علقت الناس بالمادة وأنستهم الله الذي خلقهم .

يذكر الدكتور عبد المجيد الزنداني في إحدى محاضراته :

جرت مجادلة بيني وبين أحد علماء بريطانيا: البروفسور كروستوفر بالس ، وهو طبيب من مشاهير علماء بريطانيا في الطب ، فقلت له : هل وُجِدَت عينك لحكمة ؟

قال : نعم .

قلت : وهل وُجِدَ أنفك لحكمة ؟

قال : نعم.

وأخذت أعدد أعضاء الجسم .

فقال لي : هذه مواضيع أبحاث علمٍ يسمى علم وظائف الأعضاء لا يتخرج الطبيب من أي كلية في الطب إلا إذا درسه .

فقلت له : هل الحكمة من هذا العضو خاصة بالعضو نفسه ، أم أنها من أجل الكل؟

(أردت أن يعترف أن الحكمة من الأجزاء ليست من أجل الأجزاء نفسها وإنما من أجل الكل).

فقال: أرأيت لو جئت بالجهاز الهضمي وحده من دون الجسم أله قيمة؟

قلت: لا .

قال: كيف تقول: إن الأعضاء والأجهزة أحكمت من أجل نفسها ولم تحكم من أجل الكل؟

قلت له: أنا كنت أسأل وأنت قد أجبتني .

فما الحكمة من هذا الكل؟ (يقصد الإنسان )

فبهت وأطرق برهةً وأدرك أنه وقع في الفخ!!

وقال: هذه فلسفة !

قلت له: قبل قليل كان علماً (علم وظائف الأعضاء)!! لقد هربت ، وكنت أعلم أنك ستهرب ، وأنا أعلم لماذا ستهرب. ولكن قبل ذلك عندي سؤال .. أفي استعمال حذائك حكمة ؟

قال: نعم لها فائدة: فهي تقيني الأذى، فهي تحمي قدمي من الاصطدام بالأجسام الثقيلة ومن الخدش بالأجسام الحادة ، ومن التضرر بالسوائل الضارة ، ومن تقلبات الجو ، ومن اختراق بعض الكائنات وغير ذلك .

فقلت له: ألوجودك حكمة ؟

فبهت مرة ثانية !

فقلت له: والله أني لأعجب يا برفسور من حضارتكم التي تقول لكم: إن الإنسان أحقر من نعله !! فلاستعمال الحذاء حكمة، ولابسها لا حكمة من وجوده!!

أما لماذا لم تعرفوا الحكمة ولماذا هربت فذلك لأن الحكمة من خلقك لا تعرف إلا بتعليم من الخالق ، وأنتم لا تعرفون الخالق ، فكيف ستعرفون حكمة وجودكم؟! لذلك سيبقى الإنسان في نظركم أقل شأناً من الحذاء.

ولا طريق للتخلص من هذا إلا أن تعرف ربك لكي تعرف لماذا خلقك. وقلت له: يا دكتور سأضرب لك مثالاً: لو أن لدينا جهازا إلكترونيا معقدا غاليا ونريد أن نعرف الحكمة منه فليس هناك إلا طريق واحد وهو أن نتصل بالذي صنعه ؛ لأن الحكمة من هذا الجهاز مختفية في نفس الصانع .

فأضاف قائلاً: أو نتصل بمندوبه .

قلت : صدقت. فإذا أردت أن تعرف الحكمة من خلقك فليس لك إلا أن تتصل بمندوبي الذي خلقك، وهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام .

وسيبقى الإنسان أحقر من حذائه ما لم يؤمن بالله ورسوله! لا يعرف الحكمة من وجوده، ولا يعرف ربه ، ولا يعرف لماذا دخل إلى هذه الدنيا ولماذا يخرج منها!

وهذا التخبط والحيرة والتيه الذي يعيشه هؤلاء عبر عنه أحد الشعراء في قصيدة سماها "الطلاسم" والتي تدل على عمق حيرتهم، بقوله:

جئت لا أعلـم مـن أيــن ولكنـي أتيت

ولقد أبصرت قدامــي طريقـا فمشيــت

كيف جئت ؟ كيـف أبصــرت طريقي ؟!

وسأبقـــى سائـراً إن شئت هذا أم أبيت

لســـت أدري !! .....الخ هذا الضلال

وهذا يدفعنا إلى معرفة الثمرة الثالثة

الثمرة الثالثة / السعادة في توافق الحركة مع الهدف

فالإنسان إذا عرف الله عرف نفسه والغاية التي من أجلها خلق (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )

يقول الشيخ النابلسي : عبادةُ الله علّةُ وجود الإنسان و السعادة في توافق الحركة مع الهدف .

وضرب لذلك مثالا للتوضيح :ذهب رجلٌ إلى باريس ، ونام في الفندق ، واستيقظ في صبيحة اليوم الأول ، وسأل : إلى أين أذهب ؟ ما هذا السؤال ؟ نسأله نحن : لماذا أتيت إلى هنا ؟ إن أتيت طالباً فاذهب إلى المعاهد والجامعات ، وإن أتيت تاجراً فاذهب إلى المعامل والمؤسسات ، وإن أتيت سائحاً فاذهب إلى المتاحف والمتنزهات ، متى يصح عملك في مكان ما ؟ إذا عرفت سر وجودك ، وغاية وجودك ، لذلك لا شيء يعلو في حياة الإنسان على معرفة سر وجوده ، وغاية وجوده ، وقد تجد إنسانا في أعلى درجات العقل يطلب العلم ، يبحث عن عمل صالح يرقى به عند الله ، يربي أولاده تربية صحيحة ، يتعامل مع الناس وفق منهج الله ، هذا عرف سر وجوده ، وغاية وجوده

إن طالبًا عنده امتحان في آخر سنة ، مادة أساسية أخيرة ، وأصعب مادة ، والامتحان بعد أيام ، ما الحركة المناسبة له ؟ أن يقبع في البيت ، وأن يقرأ الكتاب المقرر، لو أن أصدقائه الخلَّص أخذوه إلى مكان جميل مطلٍّ على البحر ، والجبل فيه نبات أخضر ، والطعام نفيس جداً ، وهو يحبهم ، جالس مع أصدقاء يحبهم ، والمكان جميل ، والطعام طيب ، لماذا يشعر بانقباض شديد ؟ لأن هذه الحركة لا تتناسب مع الهدف القريب .

إذاً أنت متى تسعد ؟ تسعد إذا جاءت حركتك متوافقة مع هدفك .اسأل تاجرا لا بيع ولا شراء عنده ، وهو جالس طول النهار في المحل ، هاتوا شاي ، هاتوا قهوة ، هاتوا مجلة ، هاتوا جريدة ، تجده مسموم البدن ، مع أنه مرتاح ، الراحة لا تتناسب مع هدف المحل التجاري ، أما لما ينسى أن يتغدى من كثرة البيع فهو أسعد إنسان ، ما يجلس دقيقة ، من محل لمحل ، فلما يكون البيع شديدا يكون معه تعب شديد ، ويكون التاجر في أسعد لحظاته ، ولما يكون في راحة تامة واسترخاء ، وضيافة مستمرة ، وأصدقاء وصحف ومجلات ، تجده في أتعس حالاته .

متى تسعد ؟ إذا جاءت حركتك موافقة لهدفك

ومتى تشقى ؟ إذا جاءت الحركة ليست موافقة لهدفك .

فعلة وجودنا في الأرض أن نعبده و السعادة في توافق الحركة مع الهدف .

قال تعالى : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ... (١٢٤) طه

الثمرة الرابعة / (فَادْعُوهُ بِهَا )

قال تعالى (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) الأعراف:180.

(فَادْعُوهُ بِهَا ) فاسألوه بها من أجل أن يكون الدعاء مستجاباً

وقد جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اللّهم إنّي أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك....)

و: (يا حيُّ يا قيّوم، برحمتك أستغيث.)

و ( اللهم اذهب البأس ربالناس اشف وأنت الشافي ........)

وينبغي أن يستحضر من أسماء الله ما يناسب مطلبه فيراعى فيها التناسب ، كما تقول: يا غفور اغفر لي، ويا رزاق ارزقني، ويا منان منّ عليَّ .

ولا يقبل أن يقول اللهم عليك بمن ظلمني يا أرحم الراحمين ، أو يا شديد العقاب اغفر لي !!!

قال الأصمعي: كنت أقرأ" َوالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

وكان بجانبي أعرابي فقال: كلام مَن هذا ؟؟

فقلت: كلام الله

قال: أعِد

فأعدت؛فقال: ليس هذا كلام الله

فانتبهتُ فقرأت: )وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيم)

فقال: أصبت

فقلت: أتقرأ القرآن؟؟

قال: لا

قلت: فمن أين علمت؟؟

فقال: يا هذا،

عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لماقطع

ففهم الرجل بفطرته أن القطع لاتناسبه الرحمة

ولهذا السبب نجد أن سورة التوبة لم تفتتح بالبسملة خلافا لسور القرآن لأنها افتتحت بالبراءة من المشركين (براءة من الله ورسوله) فلم يناسب لفظا ومعنى أن تفتتح بالبسملة المتضمنة لمعاني الرحمة (بسم الله الرحمن الرحيم) ، إذ لا يتفق معنى أن تفتتح خطابك بالرحمة ثم مباشرة تخبر المخاطب بالبراءة منه ، فبين المعنيين تفاوت كبير .

الثمرة الخامسة / إحصاء أسماء الله الحسنى باب من أبواب الجنة

ورد في الصحيحين عن أبي هريرة (إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة )

ومعنى أحصاها ليس حفظها ؛ فالحفظ وحده غير مراد إنما على الراجح من تفسيرات العلماء أن معنى أحصاها أن يعرف الاسم ويفهم معناه وأن يتعبد لله بمقتضاه

وهذا سيكون منهجنا في شرحنا للأسماء أن نتناول الاسم ونتعرف على معناه من خلال تأملات في القرآن والسنة وكلام السلف الصالح ، ثم نختم بالحديث عن ثمرات الإيمان بهذا الاسم .

وهذه الثمرات الخمس ليست هي كل ثمرات معرفة أسماء الله الحسني ؛و إلا فكل اسم سنتناوله إن شاء الله على حدة له ثمرات سنتكلم عنها

نسأل الله أن ييسر ذلك وأن يوفقنا إلى مايحبه ويرضاه اللهم آمين 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق