9 مصاحف

9 و 12 مصحف

 

Translate

الثلاثاء، 5 أبريل 2022

كتاب المنتقى من كتاب الروح لابن القيم جمع فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

المنتقى من كتاب الروح لابن القيم جمع فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
حقوق الطبع والنشر لكل مسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين..أما بعد : فمن أشهر كتب العلامة ابن القيم رحمه الله كتابه الموسوم بـ " الروح " وقد ضمّ الكتاب بين جوانبه فوائد متنوعة في فنون متعددة, لعل من أهمها ما كتبه عن الفروق بين الخصال المحمودة والمذمومة, وقد أثنى العلامة ابن القيم على ما كتبه حولها بقوله: " ولا تستطل هذا الفصل, فلعله أنفع فصول الكتاب, والحاجةُ إليه شديدة.
وقد يسّر الله الكريم لي فقمتُ بانتقاء فوائد من هذا الفصل, ومن غيره من الفصول التي كتبها العلامة ابن القيم في كتابه, وجعلتها في فصول, أسأل الله أن ينفع بها, ويبارك فيها.
ــــ(3)
فصل: عذاب القبر ونعيمه
عذاب القبر ونعيمه:
لتعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها: أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب, وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه, وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن مُنعَّمة أو مُعذبة, وأنها تتصل بالبدن أحياناً فيحصل له معها النعيم أو العذاب, ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أُعيدت الأرواح إلى الأجساد, وقاموا من قبورهم لرب العالمين. ومعادُ الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى.
الأسباب المنجية من عذاب القبر:
من أنفعها: أن يجلس الإنسان عندما يريد النوم لله ساعةً, يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه, ثم يجدد له توبة نصوحاً بينه وبين الله, فينام على تلك التوبة, ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ, ويفعل هذا كل ليلة, فإن مات من ليلته مات على توبة, وإن استيقظ استيقظ مستقبلاً للعمل, مسروراً بتأخير أجله حتى يستقيل ربه, ويستدرك ما فاته.
وليس للعبد أنفعُ من هذه التوبة ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النوم, حتى يغلبه النوم, فمن أراد الله به خيراً وفقه لذلك, ولا قوة إلا بالله.








ــــ(4)
أكثر أصحاب القبور معذبين:
أكثر أصحاب القبور معذبين, والفائز منهم قليل, فظواهر القبور تراب, وبواطنها حسرات وعذاب, ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبينات, وفي باطنها الدواهي والبِليَّات تغلي بالحسرات, كما تغلي القدور بما فيها, ويحقّ لها, وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها.
تالله لقد وعظت, فما تركت لواعظ مقالاً, ونادت: يا عمار الدنيا لقد أعمرتم داراً موشكة بكم زوالاً, وخربتم داراً أنتم مسرعون إليها انتقالاً, عمرتم بيوتاً لغيركم منافعها وسكناها, خربتم بيوتاً ليس لكم مساكن سواها.
عذاب القبر دائم ومنقطع:
عذاب القبر...نوعان:
نوع دائم, سوى ما ورد في بعض الحديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين, فإذا قاموا من قبورهم قالوا: ] ياويلنا من بعثنا من مرقدنا [ [يس:52]
ويدل على دوامه قوله تعالى: ] النارُ يعرضون عليها غدواً وعشياً [ [غافر:46]
ويدلُّ عليه ما تقدم في حديث سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ( فهو يفعل به بذلك إلى يوم القيامة )
النوع الثاني: إلى مدةٍ, ثم ينقطع, وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم, فيعذب بحسب جُرمه, ثم يخفَّفُ عنه, كما يعذب في النار مدة, ثم يزول عنه العذاب
وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار, أو ثواب حج....




ــــ(5)
فصل: النفس
النفس الأمارة:
النفس الأمارة فهي المذمومة, فإنها تأمر بكل سوء. وهذا من طبيعتها إلا من وفقها الله, وثبتها, وأعانها. فما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق الله له, كما قال تعالى حاكياً عن امرأة العزيز: ] وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي إن ربي غفور رحيم [ [يوسف:53]
وقال تعالى: ] ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد [ [النور:21]
وقال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليهم: ] ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركنُ إليهم شيئاً قليلاً [ [الإسراء:74]
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم خطبة الحاجة: ( إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له) فالشر كامن في النفس, وهو موجب سيئات الأعمال, فإن خلى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرها وما تقتضيه من سيئات الأعمال, وإن وفقه وأعانه نجاه من ذلك كله. فنسأل الله العظيم أن يعذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.








ــــ(6)
النفس اللوامة:
اللوامة, هي التي أقسم بها سبحانه في قوله: ] ولا أقسم بالنفسِ اللوامة [ [القيامة:2] فاختلف فيها, فقالت طائفة: هي التي لا تثبتُ على حال واحدة. أخذوا اللفظة من التلوم, وهو التردد, فهي كثيرة التقلب والتلون, وهي من أعظم آيات الله, فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب وتتلون في الساعة الواحدة – فضلاً عن اليوم والشهر والعام والعمر – ألواناً متلونةً, فتذكُر وتغفل, وتقبل وتُعرض, وتلطف وتكثف, وتنيب وتجفو, وتحب وتبغض, وتفرح وتحزن, وترضى وتغضب, وتطيع وتعصي, وتتقي وتفجر, إلى أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها.فهذا قول.
وقالت طائفة: اللفظة مأخوذة من اللوم...فإن كل أحد يلوم نفسه, براً كان أو فاجراً, فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته, والشقي لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها...وقالت فرقة أخرى: هذا اللومُ يوم القيامة, فإن كل أحد يلوم نفسه: إن كان مسيئاً على إساءته, وإن كان محسناً على تقصيره.
وهذه الأقوال كلها حق, ولا تنافي بينها, فإن النفس موصوفة بهذا كلِّه, وباعتباره سميت لوامة, ولكن اللوامة نوعان:
لوَّامة ملُومة: وهي النفس الجاهلة الظالمة التي يلومها الله وملائكته.
ولوَّامة غيرُ ملومة: وهي التي لا تزال تلومُ صاحبها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده, فهذه غير ملومة.
وأشرف النفوس من لامت نفسها في طاعة الله, واحتملت ملائم اللائمين في مرضاته فلا تأخذها فيه لومة لائم فهذه قد تخلصت من لوم الله لها, وأما من رضيت بأعمالها..ولم تحتمل في الله ملام اللُّوام, فهي التي يلومها الله عز وجل.
ــــ(7)
النفس المطمئنة:
النفس المطمئنة هي أقلُّ النفوس البشرية عدداً, وأعظمها عند الله قدراً, وهي التي يقال لها : ] ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً * فادخلي عبادي * وادخلي جنتي [ [الفجر:28-30]
والله سبحانه المسؤول المرجو الإجابة, أن يجعلنا نفوسنا مطمئنةً إليه, عاكفةً بهمتها عليه, راهبةً منه, راغبةً فيما لديه, وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, وأن لا يجعلنا ممن أغفل قلبه عن ذكره, واتبع هواه, وكان أمره فرطاً.
تأثير النفس في غيرها:
تأثيرات النفوس بعضها في بعض أمر لا ينكره ذو حسٍّ سليم ولا عقل مستقيم. ولاسيما عند تجردها نوع تجرد عن العلائق والعوائق البدنية, فإن قواها تتضاعف وتتزايد بحسب ذلك, ولاسيما عند مخالفة هواها وحملها على الأخلاق العالية...وتجنبها سفساف الأخلاق ورذائلها وسافلها, فإن تأثيرها في العالم يقوي جداً تأثيراً يعجز عنه البدن, وأعراضه: أن تنظر إلى حجر عظيم فتشُقَّه, أو حيوان كبير فتتُلفه, أو نعمة فتزيلها, وهذا أمر قد شاهده الأمم على اختلاف أجنساها وأديانها, وهو الذي يسمى: إصابة العين, فيضيفون الأثر إلى العين, وليس لها في الحقيقة وإنما هو للنفس المتكيفية بكيفية رديَّة سُمِّيَّة, وقد يكون بواسطة العين, وقد لا يكون, بل يوصف له الشيء من بعيد, فتتكيف عليه نفسه بتلك الكيفية فتفسده.




ــــ(8)
فصل: القلوب
فرح القلب وابتهاجه:
ابتهاج القلب وسروره وفرحه بالله وأسمائه وصفاته وكلامه ورسوله ولقائه أفضلُ ما يعطاه, بل هو أجل عطاياه, والفرح في الآخرة بالله ولقائه بحسب الفرح به ومحبته في الدنيا. فالفرح بالوصول إلى المحبوب يكون على حسب قوة المحبة وضعفها, فهذا شأن فرح القلب.
وله فرح آخر, وهو فرحه بما منَّ الله به عليه من معاملته والإخلاص له والتوكل عليه والثقة به وخوفه ورجائه. وكلما تمكن في ذلك قوي فرحُه وابتهاجه.
أبغض القلوب إلى الله:
أبغض القلوب إلى الله: القلب القاسي, قال تعالى: ] فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله [ [الزمر:22] وقال: ] ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة [ [البقرة:74]
قلب العاصي:
لو فتش العاصي عن قلبه لوجد حشوه المخاوف والانزعاج والقلق والاضطراب. وإنما يواري عنه شهود ذلك سُكرُ الغفلة والشهوة, فإن للشهوة سُكراً يزيد على سكر الخمر, وكذلك الغضب له سكر أعظم من سكر الشراب, ولهذا ترى العاشق والغضبان يفعل ما لا يفعله شارب الخمر.






ــــ(9)
القلب المطمئن:
قال تعالى: ] الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله إلا بذكر الله تطمئن القلوب [ [الرعد:28] فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج والاضطراب عنه, وهذا لا يتأتي بشيء سوى ذكر الله البتة, وأما ما عداه فالطمأنينة إليه وبه غرور, والثقة به عجز.
قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً لا مرد له: أن من اطمأن إلى شيء سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته, كائناً من كان, بل لو اطمأن العبد إلى علمه وحاله وعمله سُلِبه وزايَلَه.
وقد جعل الله سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضاً لسهام البلاء, ليعلم عباده وأولياءه أن المتعلق بغيره مقطوع, والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع.
وهاهنا سر لطيف يجب النبيه عليه والتنبيه له, والتوفيق له بيد من أزِمَّة التوفيق بيديه, وهو أن الله سبحانه جعل لكل عضو من أعضاء الإنسان كمالاً إن لم يحصل له وإلا فهو في قلق واضطراب وانزعاج بسبب فقد كماله الذي جُعل له.مثاله...جَعَلَ كمال القلب ونعيمه وسروره ولذته وابتهاجه في معرفته سبحانه, وإرادته, ومحبته, والإنابة, والإقبال عليه, والشوق إليه, والأنس به, فإذا عدم القلبُ ذلك كان أشد عذاباً واضطراباً من العين التي فقدت النور الباصر, ومن اللسان الذي فقد قوة الكلام والذوق, ولا سبيل له إلى الطمأنينة بوجه من الوجوه, ولو نال من الدنيا وأسبابها ومن العلوم ما نال, إلا بأن يكون الله وحده هو محبوبه وإلهه ومعبوده وغاية مطلوبة, ويكون هو وحده مستعانه على تحصيل ذلك.
ــــ(10)
القلب الزجاجي:
وأصحُّ القلوب: القلب الرقيق الصافي الصلب, فهو يرى الحقّ من الباطل بصفائه, ويقبله ويؤثره برقته, ويحفظه ويحارب عدوه بصلابته.
وهذا القلب الزجاجي, فإن الزجاجة جمعت بين الأوصاف الثلاثة.
القلب السليم:
قال تعالى: ] يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم [ [الشعراء:88-89] فهذا هو السليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة, من مرض الشبهة التي تُوجب اتباع الظن, ومرض الشهوة التي توجب اتباع ما تهوى الأنفس, فالقلب السليم: الذي سَلِم من هذا وهذا.
القلب الرقيق:
رقَّة القلب...ناشئة من صفة الرحمة التي هي كمال, والله إنما يرحم من عباده الرحماء, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرقَّ الناس قلباً,...فرقة القلب رحمة ورأفة.
والقلب...إذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد, وامتلأ من محبة الله وإجلاله رقَّ وصارت فيه الرأفةُ والرحمة, فتراه رقيقاً رحيماً رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم, يرحم النملة في جُحرها, والطير في وكرها, فضلاً عن بني جنسه, فهذا أقرب القلوب من الله تعالى.
قال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالعيال.
والله سبحانه إذا أراد أن يرحم عبداً أسكن في قلبه الرأفة والرحمة, وإذا أراد أن يعذبه نزع من قلبه الرحمة والرأفة, وأبدله بهما الغلظة والقسوة.
ــــ(11)
فصل: مواعظ ورقائق
اليقظة أولُ مفاتيح الخير:
اليقظة أولُ مفاتيح الخير, فإن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بمنزلة النائم, بل أسوأُ حالاً منه فإن الغافل يعلم وعد الله ووعيده وما تتقاضاه أوامر الرب تعالى ونواهيه وأحكامه من الحقوق, ولكن يحجبه عن حقيقة الإدراك ويُقعده...سنةُ القلب وهي غفلته التي رقد فيها فطال رقوده وركد وأخلد إلى نوازع الشهوات. فاشتدَّ إخلاده وركوده وانغمس في غمار الشهوات واستولت عليه العادات ومخالطة أهل البطالات...فهو في رقاده مع النائمين, وفي سكرته مع المخمورين. فمتى انكشفت عن قلبه سنة هذه الغفلة بزجرةٍ من زواجر الحق في قلبه, استجاب فيها لواعظ الله في قلب عبده المؤمن, أو هِمَّة عليَّةٍ أثارها معمول الفكر في المحل القابل, فضرب بمعمول فكره, وكبَّر تكبيرة أضاءت له منها قصورُ الجنة.
فأنارت له تلك الفكرة نوراً رأى في ضوئه ما خُلِق له وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إلى دخول دار القرار ورأى سرعة انقضاء الدنيا, وعدم وفائها لبنيها, وقتلها لعُشَّاقها وفعلها بهم أنواع المثلات فنهض في ذلك الضوء على ساق عزمه قائلاً ] يا حسرتى على ما فرطتُ في جنبِ الله[[الزمر:56] فاستقبل بقية عمره التي لا قيمة لها مستدركاً ما فات, محيياً ما أمات, مستقيلاً بها ما تقدم له من العثرات, منتهزاً فرصةَ الإمكان التي إن فاتت فته جميع الخيرات.ثم يلحظ في نور تلك اليقظة نعمة ربه عليه من حين استقر في الرحم إلى وقته وهو يتقلب فيها ظاهراً وباطناً ليلاً ونهاراً يقظةً ومناماً سراً وعلانيةً فلو اجتهد على إحصاء أنواعها لما قدر ويكفى أن أدناها نعمة النفس ولله عليه في كل يوم أربعة وعشرون ألف نعمة فما ظنُّك بغيرها
ــــ(12)
ثم يرى في ضوء ذلك النور أنه آيس من حصرها وإحصائها, عاجز عن أداء حقِّها, وأن المنعم بها إن طالبه بحقوقها استوعب جميع أعماله حقَُّ نعمةٍ واحدة منها, فيتيقن حينئذ أنه لا مطمع له في النجاة إلا بعفو الله ورحمته وفضله.
ثم يرى في ضوء تلك اليقظة أنه لو عمل أعمال الثقلين من البرِّ لاحتقرها إلى جنب عظمة الرب تعالى وما يستحقه بجلال وجهه وعظيم سلطانه. هذا لو كانت أعمالُه منه, فكيف وهي مجرد فضل الله ومنته وإحسانه, حيث يسرها له, وأعانه عليها.
ثم تبرقُ له في نور تلك اليقظة بارقة أخرى, يرى في ضوئها عيوب نفسه وآفات عمله, وما تقدم له من الجنايات والإساءات وهتك الحرمات, والتقاعد عن كثير من الحقوق والواجبات.فإذا انضم ذلك إلى شهود نعم الله عليه وأياديه لديه رأى أن حقَّ المنعم عليه في نعمه وأوامره لم يُبقِ له حسنة واحدةً يرفع بها رأسه. فتطامن قلبه, وانكسرت نفسه, وخشعت جوارحه, وسار إلى الله ناكس الرأس بين مشاهدة نعمه, ومطالعة جناياته وعيوب نفسه وآفات عمله.
ثم تبرق له بارقة أخرى, يرى في ضوئها عزة وقته, وخطره وشرفه, وأنه رأس مال سعادته, فيبخل به أن يضيعه فيما لا يقربه إلى ربه, فإن في إضاعته الخسران والحسرة والندامة, وفي حفظه وعمارته الربح والسعادة, فيشحُّ بأنفاسه أن يضيعها فيما لا ينفعه يوم معاده.
ثم يلحظ في ضوء تلك البارقة ما تقتضيه يقظته من سنةِ غفلته: من التوبة والمحاسبة والمراقبة, والغيرة لربه أن يؤثر عليه غيره, وعلى حظه من رضاه وقربه وكرامته أن يبيعه بثمن بخس في دار سريعة الزوال, وعلى نفسه أن يُملك رقَّها لمعشوق لو فكر في منتهى حسنه ورأى أخره بعين بصيرته لأنِفَ لها من محبته.
ــــ(13)
فرح التائب بتوبته فرحة عجيبة, لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة:
الفرحة التي تحصل..بالتوبة,..فرحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة. فلو علم العاصي أن لذة التوبة وفرحتها تزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافاً مضاعفة لبادر إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية.
وهاهنا فرحة أعظم من هذا كله, وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله, إذا أرسل إليه الملائكة فبشروه بلقائه, وقال له ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب, أبشري بروح وريحان وربٍّ غير غضبان, اخرجي راضية مرضية عنك: ] يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضيةً * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي [ [الفجر:27-30]ولكن هاهنا أمر يجب التنبيه عليه, وهو أنه لا يصل إلى ذلك إلا بعد ترحاتٍ ومضض ومِحَن لا تثبتُ لها الجبال, فإن صبر لها ظفر بلذة الفرح, وإن ضعُف عن حملها ولم يصبر لها لم يظفر بشيء.
فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها لكان العقل يأمره بإيثارها, فكيف ومن بعدها أنواع من الفرح منها: صلاة الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه, ومنها: فتح أبواب السماء له, ومنها: وصلاة ملائكة السماء عليها, وتشيع مقربيها لها إلى السماء الثانية فتفتح لها, ويصلي عليها أهلها, ويشيٍّعُها مقرَّبوها هكذا إلى السماء السابعة, فكيف يقدر فرحها وقد استؤذن لها على ربها ووليها وحبيبها, فوقفت بين يديه وأذن لها بالسجود فسجدت ثم سمعته سبحانه وتعالى يقول اكتبوا كتابه في علِّين , ثم يُذهب به, فيرى الجنة ومقعده فيها وما أعده الله له ويلقى أصحابه وأهله فيستبشرون به ويفرحون به ويفرح بهم فرح الغائب يقدم على أهله, فيجدهم على أحسن حال, ويقدم عليهم بخير ما قدم به مسافر.
ــــ(14)
هذا كله قبل الفرح الأكبر يوم حشر الأجساد, بجلوسه في ظل العرش, وشُربه من الحوض, وأخذه كتابه بيمينه, وثقل ميزانه, وبياض وجهه, وإعطائه النور التام, والناس في الظلمة, وقطعه جسر جهنم بلا تعويق, وانتهائه إلى باب الجنة, وقد أُزلفت له في الموقف, وتلقى خزنتها له بالترحيب والسلام والبشارة, وقدومه على منازله وقصوره وأزواجه وسراريه.
وبعد ذلك فرح آخر لا يُقدَّر ولا يُعبَّر عنه, تتلاشي هذه الأفراح كلُّها عند, وإنما يكون لأهل السنة المصدقين برؤية وجه ربهم تبارك وتعالى من فوقهم, وسلامه عليهم, وتكليمه إياهم ومحاضرته لهم.
أفضل ما يهدي للميت:
الأفضل ما كان أنفع في نفسه, فالعتق عنه والصدقة أفضل من الصيام عنه, وأفضل الصدقة ما صادفت حاجة من المتصدق عليه, وكانت دائمة مستمرة, ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أفضلُ الصدقة سقيُ الماء ) وهذا في موضع يقلُّ فيه الماء, ويكثرُ فيه العطش, وكذلك الدعاء والاستغفار له إذا كان بصدق من الداعي وإخلاص وتضرع....وبالجملة فأفضلُ ما يُهدي إلى الميت: العتق, والصدقة, والاستغفار له, والدعاء له, والحج عنه.










ــــ(15)
فصل: فروق بين خصال محمودة وخصال مذمومة
الفرق بين الفراسة والظنِّ:
الفرق بين الفراسة والظن: أن الظن يخطئ ويصيب, وهو يكون مع ظلمة القلب ونوره وطهارته ونجاسته, ولهذا أمر تعالى باجتناب كثير منه وأخبر أن بعضه إثم.
وأما الفراسة فأثنى على أهلها ومدحهم في قوله: ] إن في ذلك لآيات للمتوسمين [ [الحجر:75] قال ابن عباس وغيره: أي: المتفرسين.
فالفراسة الصادقة لقلب قد تطهر وتصفَّى, وتنزَّه من الأدناس, وقرب من الله, فهو ينظر بنور الله الذي جعله في قلبه,...وإذا غلب على القلب النور فاض على الأركان, وبادر من القلب إلى العين, فيكشف بعين بصره بحسب ذلك النور.
وكان شاه الكرماني جيد الفراسة لا تُخطئ فراسته, وكان يقول: من غضّ بصره عن المحارم, وأمسك نفسه عن الشهوات, وعمر باطنه بدوام المراقبة, وظاهره باتباع السنة, وتعود أكل الحلال, لم تُخطئ فراسته.
الفرق بين خشوع النفاق وخشوع الإيمان:
الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق أن خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء, فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء, وشهود نعم الله, وجناياته هو, فيخشع القلب لا محالة, فيتبعه خشوعُ الجوارح.
وأما خشوع النفاق, فيبدو على الجوارح تصنُّعاً وتكلُّفاً, والقلب غير خاشع. وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق. قيل له: وما خشوع النفاق ؟ قال: أن يُرى الجسد خاشعاً, والقلب غير خاشع.
ــــ(16)
الفرق بين الجود والسرف:
الفرق بين الجُود والسّّرف: أن الجواد حكيم يضع العطاء مواضعه, والمسرف مبذر, قد يصادف عطاؤه موضعه, وكثيراً لا يصادفه.
وإيضاح ذلك أن الله سبحانه بحكمته جعل في المال حقوقاً....فالجواد يتوخي بماله أداء هذه الحقوق على وجه الكمال, طيبةً بذلك نفسه, راضيةً مؤملةً للخلف في الدنيا والثواب في العُقبى. فهو يخرج ذلك بسماحة قلب, وسخاوة نفس, وانشراح صدر, بخلاف المبذر, فإنه يبسط في ماله بكم هواه وشهوته جزافاً, لا على تقدير ولا مراعاة مصلحة, وإن اتفقت له.
الفرق بين المهابة والكِبر:
الفرقُ بين المهابة والكِبر: أن المهابة أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الله ومحبته وإجلاله, فإذا امتلأ القلبُ بذلك حلَّ فيه النور, ونزلت عليه السكينة, وأُلبس رداء الهيبة, فاكتسى وجهُه الحلاوة والمهابة, فأخذ بمجامع القلوب محبةً ومهابةً, فحنَّت إليه الأفئدة, وقرَّت به العيون, وأنِست به القلوب, فكلامه نور, ومدخله نور, ومخرجه نور وعمله نور, وإن سكت علاه الوقار وإن تكلم أخذ بالقلوب والأسماع
وأما الكبر فأثر من آثار العجب والغي من قلبٍ قد امتلأ بالجهل والظلم, ترحلت منه العبودية ونزل عليه المقت فنظرُه إلى الناس شرز, ومشيه بينهم تبختر, ومعاملتُه لهم معاملةُ الاستئثار, لا الإيثار ولا الإنصاف, ذاهب بنفسه تيهاً, لا يبدأ من لقيه بالسلام وإن ردَّ عليه رأى أنه قد بالغ في الإنعام عليه لا ينطلق لهم وجهه, ولا يسعهم خلقه لا يرى لأحد عليه حقاً ويرى حقوقه على الناس ولا يرى فضلهم عليه ويرى فضله عليهم لا يزداد من الله إلا بعداً, ولا من الناس إلا صغاراً وبغضاً.
ــــ(17)
الفرق بين الرجاء والتمني:
الفرق بين الرجاء والتمني: أن الرجاء يكون مع بذل الجهد واستفراغ الطاقة في الإتيان بأسباب الظفر والفوز, والتمني: حديث النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه.
الفرق بين المدارة والمداهنة:
المدارة صفة مدح, والمداهنة صفة ذم, والفرق بينهما: أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق و يرده عن الباطل, والمداهن يتلطف به ليُقرَّه على باطله ويتركه على هواه, فالمدارة لأهل الإيمان, والمداهنة لأهل النفاق.
الفرق بين الشجاعة والجراءة:
الفرق بين الشجاعة والجراءة, أنُّ الشجاعة من القلب, وهي ثباته واستقراره عند المخاوف,..أما الجراءة, فهي إقدام سببه قلة المبالاة وعدم النظر في العاقبة, بل تقدُّم النفس في غير موضع الإقدام, مُعرِضةً عن ملاحظة المعارض فإما عليها وإما لها.
الفرق بين النصيحة والغيبة:
الفرق بين النصيحة والغيبة: أن النصيحة يكون القصدُ فيها تحذير المسلم من مبتدع أو فتان أو غاش أو مفسد, فتذكر ما فيه إذا استشارك في صحبته ومعاملته والتعلق به,
فإذا وقعت الغيبة على وجه النصيحة لله ورسوله وعباده المسلمين, فهي قربة إلى الله, من جملة الحسنات, وإذا وقعت على وجه ذم أخيك, وتمزيق عرضه, والتفكه بلحمه, والغضِّ منه, لتضع منزلته من قلوب الناس, فهي الداء العضال, ونارُ الحسنات التي تأكلها كما تأكل النارُ الحطب.
ــــ(18)
الفرق بين العفو والذلِّ:
الفرق بين العفو والذلِّ: أن العفوَ إسقاط حقِّك جُوداً وكرماً وإحساناً, مع قدرتك على الانتقام, فتؤثر الترك رغبةً في الإحسان ومكارم الأخلاق, بخلاف الذل, فإن صاحبه يترك الانتقام عجزاً وخوفاً ومهانة نفس, فهذا مذموم غير محمود, ولعل المنتقم بالحق أحسنُ حالاً منه.
العفو من المخلوق ظاهره ضيم وذل, وباطنه عز ومهابة, والانتقام ظاهره عز, وباطنه ذل, فما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً, ولا انتقم أحد لنفسه إلا ذل, ولو لم يكن إلا بفوات عز العفو, ولهذا ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط
الفرق بين الثقة والغرة:
الفرق بين الثقة والغرَّة: أن الثقة سكون يستند إلى أدلَّة وأمارات يسكنُ القلب إليها, فكلما قويت تلك الأمارات قويت الثقة واستحكمت, ولا سيما على كثرة التجارب وصدق الفراسة.
وأما الغرة فهي حال المغتر الذي غرته نفسه, وشيطانه, وهواه, وأمله الخائب الكاذب بربِّه, حتى أتبع نفسه هواها, وتمنى على الله الأماني. والغرور ثقتك بمن لا يوثق به, وسكونك إلى من لا يُسكن إليه, ورجاؤك النفع من المحلِّ الذي لا يأتي بخير كحال المغترِّ بالسراب..قال تعالى في وصف المغترين: ]قُل هل ننبئكم بالأخسرين أعملاً * الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً [ [الكهف:103,104]
فهؤلاء إذا انكشف الغطاء وثبتت حقائق الأمور علموا أنهم لم يكونوا على شيء, ] وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون [ [الزمر:47]
ــــ(19)
الفرق بين التواضع والمهانة:
الفرق بين التواضع والمهانة أن التواضع يتولد من بين العلم بالله سبحانه, ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله, وتعظيمه ومحبته وإجلاله, ومن معرفته بنفسه ونقائصها وعيوب عمله وآفاتها. فيتولد من بين ذلك كله خُلق هو التواضع, وهو انكسار القلب لله, وخفضُ جناح الذلَّ والرحمة لعباده, فلا يرى له على أحداً فضلاً, ولا يرى له عند أحد حقاً, بل يرى الفضل للناس عليه والحقوق لهم قبله, وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يُحبه ويُكرمه ويُقربه.
أما المهانة فهي الدناءة والخسة, وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها, كتواضع السُفَّل في نيل شهواتهم.
الفرق بين الصبر والقسوة:
الفرق بين الصبر والقسوة: أن الصبر خلق كسبي يتخلق به العبد, وهو حبس النفس عن الجزع والهلع والتشكي,
وأما القسوة فيُبس في القلب يمنعه من الانفعال, وغلظة تمنعه من التأثر بالنوازل, فلا يتأثر بها لغلظته وقساوته لا لصبره واحتماله.
الفرق بين الموجدة والحقد:
الفرق بين الموجِدة والحقد: أن الوجد الإحساس بالمؤلم, والعلم به, وتحرُّك النفس في دفعه, فهو كمال, أما الحقد فهو إضمار الشرِّ, وتوقعه كلّ وقت فيمن وجدت عليه, فلا يزال القلب أثرُه.
فالموجدة سريعة الزوال, والحقد بطيء الزوال, والحقد يجيء مع ضيق القلب واستيلاء ظلمه النفس..بخلاف الموجدة فإنها تكون مع قوته وصلابته وقوة نوره.
ــــ(20)
الفرق بين المنافسة والحسد:
الفرق بين المنافسة والحسد: أن المنافسة المبادرةُ إلى الكمال الذي تشاهده من غيرك, فتنافسه فيه, حتى تلحقه أو تجاوزه, فهي من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر, قال تعالى: ] وفي ذلك فليتنافس المتنافسون [ [المطففين:26]
وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفوس طلباً ورغبةً, فتنافس فيه كل من النفسين الأخرى, وربما فرحت إذا شاركتها فيه, كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافسون في الخير, ويفرحُ بعضهم ببعض باشتراكهم فيه, بل يحضُّ بعضهم بعضاً عليه مع تنافسهم فيه. وهي نوع من المسابقة, وقد قال تعالى: ] فاستبقوا الخيرات [ [الحديد:21]
والحسدُ خلُقُ نفس ذميمةٍ وضيعةٍ ساقطةٍ, ليس فيها حرص على الخير, فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد ويفوز بها دونها, وتتمنى أن لو فاته كسبها حتى يساويها في العدم, كما قال تعالى: ] ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء [ [النساء:89] وقال تعالى: ] ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يرُدُونكم من بعد إيمانكم كُفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ [البقرة:109] فالحسود عدو النعمة, متمن زوالها عن المحسود, كما زالت عنه هو, والمنافسُ سابقُ النعمة, متمنِّ تمامها عليه وعلى من ينافسه.
وقد يطلق اسم الحسد على المنافسة المحمود, كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن, فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار, ورجل آتاه الله مالاً, فسلطه على هلكته في الحق) فهذا حسد منافسه وغبطة يدل على علو همة صاحبه وكبر نفسه وطلبها للتشبه بأهل الفضل.
ــــ(21)
الفرق بين الحبِّ في الله والحبِّ مع الله:
الفرق بين الحبِّ في الله والحب مع الله. وهذا من أهم الفروق, وكلُّ محتاج بل مضطر إلى الفرق بين هذا وهذا. فالحبُّ في الله هو من كمال الإيمان, والحبُّ مع الله هو عين الشرك.
والفرق بينهما: أن الحبَّ في الله تابع لمحبة الله, فإذا تمكنت محبته من قلب العبد أوجبت تلك المحبة أن يحب ما يحبه الله, فإذا أحبَّ ما أحبَّه ربُّه ووليُّه كان ذلك الحب له وفيه, كما يحب رسله وأنبياءه وملائكته وأولياءه لكونه تعالى يحبهم, ويُبغض من يُبغضه لكونه تعالى يبغضه.
وعلامة هذا الحب والبغض في الله: أنه لا ينقلب بغضُه لبغيض الله حباً لإحسانه إليه, وخدمته له, وقضاء حوائجه, ولا ينقلب حبُّه لحبيب الله بغضاً إذا وصل إليه من جهته ما يكرههُ ويُؤلمه, إما خطأً وإما عمداً, مطيعاً لله فيه, أو متاولاً ومجتهداً, أو باغياً نازعاً تائباً.
والدين كلُّه يدور على أربع قواعد: حب وبغض, ويترتب عليهما فعل وترك, فمن كان حبُّه وبغضُه, وفعله وتركُه لله فقد استكمل الإيمان.
وهذا بخلاف الحب مع الله, فهو نوعان:
نوع يقدح في أصل التوحيد, وهو شرك.
ونوع يقدح في كمال الإخلاص ومحبة الله, ولا يخرج من الإسلام.
فالأول كمحبة المشركين لأوثانهم وأندادهم
والنوع الثاني: محبة ما زينه الله سبحانه للنفوس من النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسمومة والأنعام والحرث, فيحبها محبة شهوة,...فهذه المحبة ثلاثة أنواع:
ــــ(22)
فإن أحبها لله توصلاً بها إليه, واستعانةً على مرضاته وطاعته, أُثيب عليها وكانت من قسم الحب, فيثاب عليها, ويلتذُّ بالتمتع بها, وهذا حال أكمل الخلق الذي حُبِّب إليه من الدنيا: النساءُ والطيب, وكانت محبته لهما عوناً على محبة الله وتبليغ رسالاته والقيام بأمره.
وإن أحبها لموافقة طبعه وهواه وإرادته, ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه, بل نالها بحكم الميل الطبيعي, كانت من قسم المباحات, ولم يعاقب على ذلك, ولكن ينقص من كمال محبته لله والمحبة فيه.
وإن كانت هي مقصوده ومراده, وسعيهُ في تحصيلها والظفر بها, وقدَّمها على ما يحبه الله ويرضاه منه كان ظالماً لنفسه متبعاً لهواه.
فالأولى: محبة السابقين.
والثاني: محبة المقتصدين.
والثالثة: محبة الظالمين.
فتأمل هذا الموضع وما فيه من الجمع والفرق, فإنه معترك النفس الأمارة والمطمئنة, والمهديُّ من هداه الله.


الفرق بين القوة في أمر الله والعلو في الأرض:
القوة في أمر الله هي من تعظيمه وتعظيم أوامره وحقوقه حتى يقيمها لله. والعلو في الأرض هو من تعظيم نفسه وطلب تفردها بالرياسة ونفاذ الكلمة سواءً عزَّ أمر الله أو هان. بل إذا عارضه أمر الله وحقوقه ومرضاته في طلب عُلوه لم يلتفت إلى ذلك, وأهدره, وأماته في تحصيل علوه.
ــــ(23)
الفرق بين التوكل والعجز:
الفرق بين التوكّل والعجز: أن التوكل عملُ القلب وعبوديته اعتماداً على الله, وثقةً به والتجاءً إليه وتفويضاً إليه ورضا بما يقضيه له لعلمه بكفايته سبحانه وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور بها واجتهاده في تحصيلها
أما العجز, فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما, فإما أن يعطل السبب عجزاً عنه, ويزعم أن ذلك توكل, ولعمر الله إنه لعجز وتفريط, وإما أن يقوم بالسبب ناظراً إليه معتمداً عليه, غافلاً عن المسبب معرضاً عنه. وإن خطر بباله لم يثبُت معه ذلك الخاطر, ولم يعلق قلبه به تعلقاً تاماً بحيث يكون قلبه مع الله, وبدنه مع السبب, فهذا توكُّلُه عجز, وعجزُه توكل.
الفرق بين الاحتياط والوسوسة:
الفرق بين الاحتياط والوسوسة: أن الاحتياط الاستقصاء والمبالغةُ في اتباع السنة وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, من غير غلو ومجاوزة, ولا تقصير ولا تفريط, فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله.
وأما الوسوسة, فهي ابتداع ما لم تأت به السنة ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه, زاعماً أنه يصلُ بذلك إلى تحصيل المشروع وضبطه, كمن يحتاط – بزعمه – ويغسل أعضاءه في الوضوء فوق ثلاث, فيُسرف في صبِّ الماء في وضوئه وغسله, ويصرِّح بالتلفظ بنية الصلاة مراراً أو مرة واحدةً, ويغسل ثيابه مما لا يتيقن نجاسته احتياطاً, ويرغب عن الصلاة في نعليه احتياطاً, إلى أضعاف أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون ديناه, وزعموا أنه احتياط, وقد كان اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أولى بهم.
ــــ(24)
الفرق بين حب الرياسة, وحب الإمامة للدعوة إلى الله:
الفرق بين حب الرياسة, وحب الإمامة للدعوة إلى الله, هو الفرق بين تعظيم أمر الله والنصح له, وتعظيم النفس والسعي في حظها.
فإن الناصح لله المعظم له المحب له يحب أن يُطاع ربه فلا يعصى, وأن تكون كلمته العليا, وأن يكون الدين كله لله, وأن يكون العباد ممتثلين أوامره مجتنبين نواهيه.
وهذا بخلاف طلب الرياسة, فإن طلابها يسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرض, وتعبُّد القلوب لهم, وميلهم إليهم, ومساعدتهم لهم على جميع أغراضهم, مع كونهم قاهرين عليهم قاهرين لهم. فترتب على هذا الطلب من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله, من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة, والحمية للنفس دون حق الله, وتعظيم من حقره الله, واحتقار من أكرمه الله, ولا تتم الرياسة الدنيوية إلا بذلك, ولا تُنال إلا به وبأضعافه من المفاسد.
والرؤساء في عمي عن هذا, فإذا كُشف الغطاء تبين لهم فساد ما كانوا عليه, ولا سيما إذا حشروا في صور الذرِّ يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم إهانةً لهم وتحقيراً وتصغيراً , كما صغروا أمر الله وحقروا عباده.
الفرق بين المبادرة والعجلة:
الفرق بين المبادرة والعجلة: ن المبادرة انتهاز الفرصة في وقتها, ولا يتركها حتى إذا فات طلبها, فهو لا يطلب الأمور في أدبارها ولا قبل وقتها, بل إذا حضر وقتها بادر إليها, ووثب عليه وثوب الأسد على فربسته.
والعجلة: طلب أخذ الشيء قبل وقته..ولهذا كانت من الشيطان, فإنها خفة وحدَّة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم...وقلَّ من استعجل إلا ندم.
ــــ(25)
الفرق بين النصيحة والتأنيب:
الفرق بين النصيحة والتأنيب: أن النصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة له, والشفقة عليه, والغيرة له وعليه...مُرادُ الناصح بها وجه الله ورضاه, والإحسان إلى خلقه, فيتلطف في بذلها غاية التلطف, ويتحمل أذى المنصوح ولائمته.
وأما المؤنِّبُ , فهو رجل قصده التعيير والإهانة, وذمُّ من يؤنبه, وشتمه في صورة النصح,...وعلامة هذا أنه لو رأى من يحبُّه ويحسن إليه على مثل هذا عمل هذا, أو شرٍّ منه لم يعرض له, ولم يقل له شيئاً, ويطلب له وجوه المعاذير
ومن الفروق بين الناصح والمؤنب: أن الناصح لا يُعاديك إذا لم تقبل نصيحته, وقال: قد وقع أجري على الله, قبلت أو لم تقبل, ويدعو لك بظهر الغيب, ولا يذكر عيوبك ويبثها في الناس, والمؤنِّبُ بضدِّ ذلك.
الفرق بين الإخبار بالحال وبين الشكوى:
الفرق بين الإخبار بالحال والشكوى وإن اشتبهت صورتهما: أن الإخبار بالحال يقصد المخبر به قصداً صحيحاً من علمِ سببِ إزالته, أو الاعتذار لأخيه من أمر طلبه منه, أو يحذره من الوقوع في مثل ما وقع فيه, فيكون ناصحاً بإخباره له, أو حمله على الصبر بالتأسي به...وأما الشكوى, فالإخبار العاري عن القصد الصحيح, بل يكون مصدره السخط, وشكايةُ المُبتلي إلى غيره, فإن شكا إليه لم يكن ذلك شكوى, بل استعطاف وتملق واسترحام له, كقول أيوب: ] أني مسَّني الضُّرُّ وأنت أرحم الراحمين [ [الأنبياء:82] فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر بوجه, فإن الله تعالى قل عن أيوب: ] إنا وجدناه صابراً نعم العبد [ [ص:44] مع إخباره عنه بالشكوى إليه في قوله: ] مسَّني الضُّرُّ [
ــــ(26)
الفرق بين إلهام الملك و إلقاء الشيطان:
الفرق بين إلهام الملك و إلقاء الشيطان من وجوه:
منها: أن ما كان لله موافقاً لمرضاته وما جاء به رسوله, فهو من الملك, وما كان لغيره غير موافق لمرضاته, فهو من إلقاء الشيطان.
ومنها: أن ما أثمر إقبالاً على الله, وإنابةً إليه, وذكراً له, وهمةً صاعدةً إليه فهو من إلقاء الملك. وما أثمر ضد ذلك فهو من الشيطان.
ومنها: أن ما أورث أنساً ونوراً في القلب وانشراحاً في الصدر فهو من الملك, وما أورث ضد ذلك فهو من الشيطان.
ومنها: أن ما أورث سكينه وطمأنينةً فهو من الملك, وما أورث قلقاً وانزعاجاً واضطراباً فهو من الشيطان.
فالإلهام الملكيُّ يكثر في القلوب الطاهرة النقية التي قد استنارت بنور الله, فللملك بها اتصال, وبينه وبينها مناسبة, فإنه طيب طاهر لا يجاور إلا قلبه يناسبه, فتكون لمة الملك بهذا القلب أكثر من لمة الشيطان, وأما القلب المظلم الذي قد اسود بدخان الشهوات والشبهات فإلقاء الشيطان ولمته به أكثر من لمة الملك.
وهذا باب من الفروق يطول, ولعل إن ساعد القدر أن نُفرد فيه كتاباً كبيراً, وإنما نبهنا بما ذكرنا على أصوله, واللبيب يكتفي ببعض ذلك.
والدينُ كله فرق, وكتاب الله فرقان, ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس, ومن اتقى الله جعل له فرقاناً, ] يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فُرقاناً [ [الأنفال:29] وسمى يوم بدرٍ يوم الفرقان لأنه فرق بين أولياء الله وأعدائه فالهدى كله فرقان.
ــــ(27)
فصل: فوائد متفرقة
* ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: فإما إلى غلو ومجاوزة, وإما إلى تفريط وتقصير, وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به, لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم.
* الجزع ضعف في النفس وخوف في القلب يمدُّه شدة الطمع والحرص, ويتولد من ضعف الإيمان بالقدر, وإلا فمتى علم أن المقدر كائن ولا بدَّ كان الجزع عناءً محضاً ومصيبة ثانية.
* أعظم الناس فرقاناً بين المشتبهات أعظم الناس بصيرة....ولا يحصل الفرقان إلا بنور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده, يرى في ضوئه حقائق الأمور, ويميز بين حقها وباطلها, وصحيحها وسقيمها, ] ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نورٍ [ [النور:40]...فمن عدم الفرقان وقع ولا بد في أشراك الشيطان, فالله المستعان وعليه التكلان.
* أولياء الرحمن هم: المخلصون لربهم, المحكِّمون لرسوله في الدِّقِّ والجل, الذين يخالفون غيره لسنته, ولا يخالفون سنته لغيرها, فلا يبتدعون, ولا يدعون إلى بدعة, ولا يتحيزون إلى فئة غير الله ورسوله وأصحابه, ولا يتخذون دينهم لهواً ولعباً, ولا يستحبون سماع الشيطان على سماع القرآن.
فأولياء الرحمن: المتلبسون بما يُحبُّه وليهم, الداعون إليه, المحاربون لمن خرج عنه, وأولياء الشيطان المتلبسون بما يُحبُّه وليهم قولاً وعملاً, يدعون إليه, ويحاربون من نهاهم عنه.
ــــ(28)
* النفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والأنس به والتقرب إليه, بل هي أرضية سفلية لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك, كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة الله وذكره والتقرب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها, فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم القيامة.






























ــــ(29)
الفهرس

الموضوع

الصفحة

المقدمة

   3

فصل: عذاب القبر ونعيمه

   4

عذاب القبر ونعيمه

   4

الأسباب المنجية من عذاب القبر

   4

أكثر أصحاب القبور معذبين

   5

عذاب القبر دائم ومنقطع

   5

فصل: النفس

   6

النفس الأمارة

   6

النفس اللوامة

   7

النفس المطمئنة

   8

تأثير النفس في غيرها

   8

فصل: القلوب

   9

فرح القلب وابتهاجه

   9

أبغض القلوب إلى الله

   9

القلب العاصي

   9

القلب المطمئن

   10

القلب الزجاجي

   11

ــــ(30)

القلب السليم

   11 

القلب الرقيق

   11

فصل: مواعظ ورقائق

   12

اليقظة أولُ مفاتيح الخير

   12

فرح التائب بتوبته فرحة عجيبة, لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة

   14

أفضل ما يهدي للميت

   15

فصل: فروق بين خصال محمودة وخصال مذمومة

   16

الفرق بين الفراسة والظنِّ

   16

الفرق بين خشوع النفاق وخشوع الإيمان

   16

الفرق بين الجود والسرف

   17

الفرق بين المهابة والكِبر

   17

الفرق بين الرجاء والتمني

   18

الفرق بين المدارة والمداهنة

   18

الفرق بين الشجاعة والجراءة

   18

الفرق بين النصيحة والغيبة

   18

الفرق بين العفو والذلِّ

   19

الفرق بين الثقة والغرة

   19

الفرق بين التواضع والمهانة

   20

الفرق بين الصبر والقسوة

   20

ــــ(31)

الفرق بين الموجدة والحقد

   20

الفرق بين المنافسة والحسد

   21

الفرق بين الحبِّ في الله والحبِّ مع الله

   22

الفرق بين القوة في أمر الله والعلو في الأرض

   23

الفرق بين التوكل والعجز

   24

الفرق بين الاحتياط والوسوسة

   24

الفرق بين حب الرياسة, وحب الإمامة للدعوة إلى الله

   25

الفرق بين المبادرة والعجلة

   25

الفرق بين النصيحة والتأنيب

   26

الفرق بين الإخبار بالحال وبين الشكوى

   26

الفرق بين إلهام الملك و إلقاء الشيطان

   27

فصل: فوائد متنوعة

   28

الفهرس

   30

========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق